تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

تفسير الشريف المرتضى - ج ٣

المؤلف:


المحقق: لجنة من العلماء المحققين بإشراف السيّد مجتبى أحمد الموسوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: شركة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٠

سورة الأنبياء

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء : ٢].

[هذه الآية صريحة في حدوث كلامه ومثله قوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥)) (١) وذلك بعد أن بيّن تعالى أن الذكر هو «القرآن» في قوله جلّ اسمه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)) (٢) و (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) (٣)].

وليس لأحد أن يقول : إنّما أراد به هاهنا الرسول لا القرآن ، مستشهدا بقوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) (٤).

وذلك أنّ «الذكر» لا يعرف استعماله في الرسول ، والآية التي تلاها (٥) أكثر المفسّرين على أنّ «الذكر» فيها إنّما أراد به القرآن ، وإنّما نصب رسولا بإضمار فعل ، فكأنّه قال : وأرسل رسولا ، ولا يقوّي ذلك أنّه قال : (أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً) ، والإنزال لا يوصف به الرسول وإنّما هو من أوصاف القرآن ، وكيف يحمل ذلك على غير القرآن مع قوله تعالى : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) وظاهر قوله تعالى : (وَما يَأْتِيهِمْ) لا يستعمل إلّا فيما يتكرّر إيتانه ، والرسول إلى أمّتنا واحد ، فلا يليق معنى «الذكر» في الآية إلّا بالقرآن.

وبعد ، فلو سلم أنّ «الذكر» ممّا يعبّر به من الرسول في بعض المواضع ، كان من المعلوم أنّه مجاز وتوسّع والأصل أن يكون عبارة عن الكلام.

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية : ٥.

(٢) سورة الحجر ، الآية : ٩.

(٣) سورة الأنبياء ، الآية : ٥٠.

(٤) سورة الطلاق ، الآيتان : ١٠ ـ ١١.

(٥) في الأصل : تلوها.

١٠١

فإن قالوا : الإتيان لا يليق بالكلام وإنّما يليق بالرسول.

قلنا : قد يستعمل ذلك في الكلام أيضا بالعرف ، وإذا سلّمنا أنّه مجاز كان حمل الآية عليه أولى من العدول فيها إلى ضروب من المجازات (١).

أنظر أيضا البقرة ٢٦ و ٢٧ من الرسائل ٢ : ١٧٧ إلى ٢٤٧.

ـ (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣]

أنظر البقرة : ٢١٢ من الأمالي ، ١ : ٣٧٦.

ـ (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨]

أنظر فاطر : ٣٢ من الأمالي ، ٢ : ٣٠٣ والزخرف : ٨٦ من الأمالي ، ٢ : ٣٠٦ وغافر : ١٨ من الذخيرة : ٥٠٤.

ـ (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢].

أنظر المؤمنون : ١٧ من الرسائل ، ٣ : ١٤٠.

ـ (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء : ٣٥]

أنظر البقرة : ٤٩ من الأمالي ، ٢ : ٩٤.

ـ (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) [الأنبياء : ٣٧].

[إن سأل السائل عن تأويل هذه الآية :]

قيل له : قد ذكر في هذه الآية وجوه من التأويل نحن نذكرها ، ونرجّح الأرجح منها :

أوّلها : أن يكون معنى القول المبالغة في وصف الإنسان بكثرة العجلة ، وأنّه شديد الاستعجال لما يؤثره من الأمور ، لهج باستدناء ما يجلب إليه نفعا ، أو يدفع عنه ضررا ؛ ولهم عادة في استعمال مثل هذه اللفظة عند المبالغة ؛ كقولهم لمن يصفونه بكثرة النوم : «ما خلقت إلّا من نوم» و «ما خلق فلان إلّا من شرّ» ؛ إذ أرادوا كثرة وقوع الشرّ منه ؛ وربّما قالوا : ما أنت إلّا أكل وشرب ، وما أشبه ذلك ، قالت الخنساء تصف بقرة :

__________________

(١) الملخص ، ٢ : ٤٢٣.

١٠٢

ترتع ما غفلت حتّى إذا ادكّرت

فإنّما هي إقبال وإدبار (١)

وإنّما أرادت ما ذكرناه من كثرة وقوع الإقبال والإدبار منها.

ويشهد لهذا التأويل قوله تعالى في موضع آخر : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) (٢) ، ويطابقه أيضا قوله تعالى : (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) ؛ لأنّه وصفهم بكثرة العجلة وأنّ من شأنهم فعلها ، توبيخا لهم وتقريعا ، ثمّ نهاهم عن الاستعجال باستدعاء الآيات من حيث كانوا متمكّنين من مفارقة طريقتهم في الاستعجال ، وقادرين على التثّبت والتأيّد.

وثانيها : ما أجاب به أبو عبيدة وقطرب بن المستنير وغيرهما من أنّ في الكلام قلبا ، والمعنى : خلق العجل من الإنسان ، واستشهد على ذلك بقوله تعالى : (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) (٣) ، أي قد بلغت الكبر ، وبقوله تعالى : (ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) (٤) ؛ والمعنى : إنّ العصبة تنوء بها ، وتقول العرب : «عرضت الناقة على الحوض» ، وإنّما هو عرضت الحوض على الناقة ، وقولهم : «إذا طلعت الشّعرى استوى العود على الحرباء» ؛ يريدون استوى الحرباء على العود ؛ وبقول الأعشى :

لمحقوقة أن تستجيبي لصوته

وأن تعلمي أنّ المعان موفّق (٥)

يريد أن الموفّق لمعان.

وبقول الآخر :

على العيارات هدّاجون قد بلغت

نجران ، أو بلغت سوءاتهم هجر (٦)

والمعنى : أنّ السوءات هي التي بلغت هجر.

__________________

(١) ديوانها : ٣٨ ، واللسان (سوا) ؛ وفي ف ، وحاشية بعض النسخ (من نسخة) : «ما رتعت» ؛ وهي رواية الديوان.

(٢) سورة الإسراء ، الآية : ١١.

(٣) سورة آل عمران ، الآية : ٤٠.

(٤) سورة القصص ، الآية : ٧٦.

(٥) ديوانه : ١٤٩.

(٦) البيت للأخطل ، ديوانه : ١٠ ، والهدج : مشى في ارتعاش.

١٠٣

وبقول خداش بن زهير :

ونركب خيلا لا هوادة بينها

وتشقى الرّماح بالظياطرة الحمر (١)

يريد تشقى الضّياطرة بالرماح.

وبقول الآخر :

تمشي به عوذ النّعاج كأنّها

عذارى ملوك في بياض ثياب

يريد في ثياب بيض.

وبقول الآخر :

حسرت كفّي عن السربال آخذه

فردا يحزّ علي أيدي المفيضينا (٢)

يريد حسرت السّربال عن كفّي.

وبقول ابن أحمر :

وجرد طار باطلها نسيلا

وأحدث قمؤها شعرا قصارا (٣)

أراد طار نسيلها باطلا.

وبقول الآخر :

وقسورة أكتافهم في قسّيهم

إذا ما مشوا لا يغمزون من النّسا

أي قسيّهم في أكتافهم.

وبقول الآخر :

وهنّ من الإخلاف والولعان (٤)

أي الإخلاف والولعان منهن.

__________________

(١) جمهرة الأشعار : ١٩٣ ، واللسان (ضطر).

(٢) البيت لابن مقبل في الميسر والقداح : ١٤١.

(٣) اللسان (قمأ). النسيل : ما ينسل من شعرها وقمؤها : سمنها.

(٤) البيت في اللسان (ولع) ، وصدره :

لخلّابة العينين كذّابة المنى

قال في اللسان : «أي من أهل الخلف والكذب ، وجعلهن من الأخلاف لملازمتهن له».

١٠٤

ويبقى على صاحب هذا الجواب مع التغاضي له عن حمل كلامه تعالى على القلب أن يقال له : وما المعنى والفائدة في قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ)؟ أتريدون بذلك أنّ الله تعالى خلق في إنسان العجلة؟ وهذا لا يجوز ؛ لأن العجلة فعل من أفعال الإنسان ، فكيف يكون مخلوقة فيه لغيره! ولو كان كذلك ما جاز أن ينهاهم عن الاستعجال في الآية فيقول : (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) ، لأنّه لا ينهاهم عمّا خلقه فيهم.

فإن قالوا : لم يرد أنّه تعالى خلقها ؛ لكنّه أراد كثرة فعل الإنسان لها ؛ وأنّه لا يزال يستعملها.

قيل لهم : هذا هو الجواب الذي قدّمناه من غير حاجة إلى القلب والتقديم والتأخير ؛ وإذا كان هذا المعنى يتمّ وينتظم على ما ذكرناه من غير قلب فلا حاجة بنا إليه.

وقد ذكر أبو القاسم البلخيّ هذا الجواب في تفسيره ، واختاره وقوّاه ، وسأل نفسه عليه فقال : كيف جاز أن يقول : (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) ، وهو خلق العجلة فيهم! وأجاب بأنّه قد أعطاهم قدرة على مغالبة طباعهم وكفّها ، وقد يكون الإنسان مطبوعا عليها وهو مع ذلك مأمور بالتثبّت ، قادر على أن يجانب العجلة ، وذلك كخلقه في البشر شهوة النكاح ، وأمره في كثير من الأوقات بالامتناع منه.

وهذا الذي ذكره البلخيّ تصريح بأنّ المراد بالعجل غيره ، وهو الطبع الداعي إليه ، والشهوة المتناولة له ، ويجب أيضا أن يكون المراد ب «من» هاهنا «في» ؛ لأنّ شهوة العجل لا تكون مخلوقة من الإنسان ، وإنّما تكون فيه. وهذا تجوّز على تجوّز ، وتوسّع على توسّع ، لأنّ القلب أوّلا مجاز ، ثمّ هو من بعيد المجاز ؛ وذكر العجل والمراد به غيره مجاز آخر ، وإقامة «من» مقام «في» كذلك ؛ على أنّه تعالى إذا نهاهم عن العجلة بقوله : (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) أيّ معنى لتقديم قوله : إنّي خلقت شهوة العجلة فيهم ، أو الطبع الداعي إليها ؛ على ما عبّر

١٠٥

به البلخيّ. وهذا إلى أن يكون عذرا لهم أقرب منه إلى أن يكون حجّة عليم ؛ وأيسر الأحوال ألّا يكون عذرا ولا احتجاجا ، فلا يكون لتقديمه معنى.

وفي الجواب الأول حسن تقديم ذلك على طريق الذّم والتوبيخ والتقريع من غير إضافة إليه عزوجل ؛ والجواب الأول أوضح وأصحّ.

وثالثها : جواب روي عن الحسن ، قال : يعني بقوله : (مِنْ عَجَلٍ) ، أي من ضعف ، وهي النّطفة المهينة الضّعيفة ، وهذا قريب إن كان في اللغة شاهد على أن العجل عبارة عن الضّعف أو معناه.

ورابعها : ما حكي أنّ أبا الحسن الأخفش أجاب به ، وهو : أن يكون المراد أنّ الإنسان خلق من تعجيل من الأمر ؛ لأنّه تعالى قال : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

فإن قيل : كيف يطابق هذا الجواب قوله من بعد : (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ)؟

قلنا : يمكن أن يكون وجه المطابقة أنّهم لمّا استعجلوا بالآيات واستبطؤوها أعلمهم تعالى أنّه ممّن لا يعجزه شيء إذا أراده ، ولا يمتنع عليه ؛ وأنّ من خلق الإنسان بلا كلفة ولا مؤونة بأن قال له : كن فكان ، مع ما فيه من بدائع الصنعة ، وعجائب الحكمة التي يعجز عنها كلّ قادر ، ويحار فيها كلّ ناظر ، لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات.

وخامسها : ما أجاب به بعضهم من أنّ العجل الطين ، فكأنّه تعالى قال : خلق الإنسان من طين ، كما قال تعالى في موضع آخر : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) (٢) ، واستشهد بقول الشاعر :

والنّبع ينبت بين الصّخر ضاحية

والنخل ينبت بين الماء والعجل (٣)

ووجدنا قوما يطعنون في هذا الجواب ، ويقولون : ليس بمعروف أنّ العجل هو الطين ، وقد حكي صاحب كتاب «العين» عن بعضهم أنّ العجل الحمأة ، ولم

__________________

(١) سورة النحل ، الآية : ٤٠.

(٢) سورة السجدة ، الآية : ٧.

(٣) البيت في اللسان (عجل).

١٠٦

يستشهد عليه ، إلّا أنّ البيت الذي أوردناه يمكن أن يكون شاهدا له ، وقد رواه ثعلب عن ابن الأعرابيّ ، وخالف في شيء من ألفاظه فرواه :

والنّبع في الصّخرة الصّماء منبته

والنّخل ينبت بين الماء والعجل

وإذا صحّ هذا الجواب فوجه المطابقة بين ذلك وبين قوله تعالى : (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) على نحو ما ذكرناه ، وهو أنّ من خلق الإنسان ـ مع الحكمة الظاهرة فيه ـ من الطين ، لا يعجزه إظهار ما استعجلوه من الآيات ؛ أو يكون المعنى أنّه لا يجب لمن خلق من الطين المهين ، وكان أصله هذا الأصل الحقير الضعيف أن يهزأ برسل الله وآياته وشرائعه ؛ لأنّه تعالى قال قبل هذه الآية : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) (١).

وسادسها : أن يكون المراد بالإنسان آدم عليه‌السلام ، ومعنى «من عجل» أي من سرعة من خلقه ، لأنّه لم يخلقه من نطفة ، ثمّ من علقة ، ثمّ من مضغة كما خلق غيره ، وإنّما ابتدأه الله تعالى ابتداء ، وأنشأه إنشاء ، فكأنّه تعالى نبّه بذلك على الآية العجيبة في خلقه له ، وأنه عزوجل يرى عباده من آياته وبيناته أوّلا أولا ما تقتضيه مصالحهم وتستدعيه أحوالهم.

وسابعها : ما روي عن مجاهد وغيره أنّ الله تعالى خلق آدم بعد خلق كلّ شيء آخر ، نهار يوم الجمعة على سرعة ، معاجلا به غروب الشمس.

وروي أنّ آدم عليه‌السلام لما نفخت فيه الروح وبلغت إلى أعالي جسده ، ولم تبلغ أسافله قال : يا رب استعجل بخلقي قبل غروب الشمس.

وثامنها : ما روي عن ابن عباس والسّدّي أنّ آدم عليه‌السلام لمّا خلق وجعلت الروح في أكثر جسده وثب عجلان مبادرا إلى أثمار الجنّة ـ وقال قوم بل همّ بالوثوب ـ فهذا معنى قوله تعالى : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ).

وهذه الأجوبة المتأخّرة مبنيّة على أنّ المراد بالإنسان فيها آدم عليه‌السلام دون غيره (٢).

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٣٦.

(٢) الأمالي ، ١ : ١٤٤.

١٠٧

ـ (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنبياء : ٥٠].

أنظر الأنبياء : ٢ من الملخص ، ٢ : ٤٢٣.

ـ (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣)) [الأنبياء : ٦٢ ـ ٦٣].

[فإن قيل :] وإنّما عنى بالكبير الصنم الكبير. وهذا كذب لا شكّ فيه ؛ لأنّ إبراهيم عليه‌السلام هو الّذي كسّر الأصنام ، فإضافته تكسيرها إلى غيره ممّا لا يجوز أن يفعل شيئا لا يكون إلّا كذبا.

الجواب : قيل له : الخبر مشروط غير مطلق ؛ لأنّه قال : (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ومعلوم أنّ الأصنام لا تنطق ، وانّ النطق مستحيل عليها ، فما علّق بهذا المستحيل من الفعل أيضا مستحيل. وإنّما أراد إبراهيم بهذا القول تنبيه القوم وتوبيخهم وتعنيفهم بعبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يقدر أن يخبر عن نفسه بشيء. فقال : إن كانت هذه الأصنام تنطق فهي الفاعلة للتكسير ؛ لأنّ من يجوز أن ينطق يجوز أن يفعل. وإذا علم استحالة النطق عليها علم إستحالة الفعل عليها ، وعلم باستحالة الأمرين أنّها لا يجوز أن تكون آلهة معبودة ، وأنّ من عبدها ضالّ مضلّ ، ولا فرق بين قوله : إنّهم فعلوا ذلك ان كانوا ينطقون ، وبين قوله : انّهم ما فعلوا ذلك ولا غيره ؛ لأنهم لا ينطقون ولا يقدرون.

وأمّا قوله عليه‌السلام : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ، فإنّما هو أمر بسؤالهم أيضا على شرط ، والنطق منهم شرط في الأمرين ، فكأنّه قال : ان كانوا ينطقون فاسألوهم ؛ فإنّه لا يمتنع ان يكونوا فعلوه. وهذا يجري مجرى قول احدنا لغيره : «من فعل هذا الفعل»؟ فيقول : زيد إن كان فعل كذا وكذا» ويشير إلى فعل يضيفه السائل إلى زيد ، وليس في الحقيقة من فعله. ويكون غرض المسؤول نفي الأمرين جميعا عن زيد ، وتنبيه السائل على خطئه في إضافة ما أضافه إلى زيد ، وقد قرأ بعض القرّاء وهو محمد بن علي السميفع اليماني : فعلّه كبيرهم بتشديد

١٠٨

اللام ، والمعنى فلعلّه ، إي فلعلّ فاعل ذلك كبيرهم. وقد جرت عادة العرب بحذف اللّام الأولى من لعلّ فيقولون

علّ ، قال الشاعر (١) :

علّ صروف الدهر أو دولاتها

تديلنا اللمّة من لمّاتها

فتستريح النّفس من زفراتها

أي لعلّ صروف الدهر.

وقال الآخر (٢) :

[تقول بنتى قد أنى إناكا]

يا أبتا علّك أو عساكا

تسقيني الماء الّذي سقاكا

فإن قيل : فأيّ فايدة في أن يستفهم عن أمر يعلم إستحالته ، وأيّ فرق في المعنى بين القراءتين؟

قلنا : لم يستفهم ولا شكّ في الحقيقة ، وإنّما نبّههم بهذا القول على خطيئتهم في عبادة الأصنام ، فكأنّه قال لهم : إن كانت هذه الاصنام تضرّ وتنفع وتعطي وتمنع ، فلعلّها هي الفاعلة لذلك التكسير ؛ لأنّ من جاز منه ضرب من الأفعال جاز منه ضرب آخر ، وإذا كان ذلك الفعل الّذي هو التكسير لا يجوز على الأصنام عند القوم ، فما هو أعظم منه أولى بأن لا يجوز عليها وأن لا يضاف إليها ، والفرق بين القراءتين ظاهر ؛ لأنّ القراءة الأولى لها ظاهر الخبر ، فاحتجنا إلى تعليقه بالشرط ليخرج من أن يكون كذبا ، والقراءة الثانية تتضمّن حرف الشكّ والاستفهام ، فهما مختلفان على ما ترى.

فإن قيل : أليس قد روى بشر بن مفضّل ، عن عوف ، عن الحسن قال : «بلغني انّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : انّ إبراهيم عليه‌السلام ما كذب متعمدا قط إلّا ثلاث مرّات كلّهنّ يجادل بهنّ عن دينه ، قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) ، وإنما تمارض عليهم ؛

__________________

(١) لسان العرب ١٢ : ٥٤٧ وفيه أنشد الفراء.

(٢) وهو رؤبة بن العجاج ، راجع الكتاب ١ : ١٦٧ وقيل الشعر لأبيه ، راجع لسان العرب ١١ : ٤٦٧.

١٠٩

لأنّ القوم خرجوا من قريتهم لعيدهم وتخلف هو ليفعل بآلهتهم ما فعل ، وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) ، وقوله لسارة : «انها اختي» لجبّار من الجبابرة لمّا أراد اخذها».

قلنا : قد بيّنا بالأدلة العقلية التي لا يجوز فيها الاحتمال ولا خلاف الظاهر ، انّ الأنبياء عليهم‌السلام لا يجوز عليهم الكذب ، فما ورد بخلاف ذلك من الأخبار لا يلتفت إليه ، ويقطع على كذبه إن كان لا يحتمل تأويلا صحيحا لائقا بأدلّة العقل ، فإن احتمل تأويلا يطابقها تأوّلناه ووافقنا بينه وبينها ، وهكذا نفعل فيما يروى من الأخبار الّتي تتضمّن ظواهرها الجبر والتشبيه.

فأمّا قوله عليه‌السلام (إِنِّي سَقِيمٌ) ، فسنبيّن بعد هذه المسألة بلا فصل وجه ذلك ، وأنّه ليس بكذب (١) ، وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) قد بيّنا معناه وأوضحنا عنه.

وأمّا قوله عليه‌السلام لسارة : «أنّها أختي» فإن صحّ فمعناه انّها أختي في الدين ، ولم يرد أخوّة النسب.

وأمّا ادّعائهم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : ما كذب إبراهيم عليه‌السلام إلّا ثلاث مرات ، فالأولى ان يكون كذبا عليه ؛ لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أعرف بما يجوز على الأنبياء عليهم‌السلام وما لا يجوز عليهم ، ويحتمل ـ إن كان صحيحا ـ أن يريد : ما اخبر بما ظاهره الكذب إلّا ثلاث دفعات ، فأطلق عليه اسم الكذب لأجل الظاهر ، وإن لم يكن على الحقيقة كذلك (٢).

ـ (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) [الأنبياء : ٧٨].

أنظر البقرة : ٣٦ من الأمالي ، ٢ : ١٣٥ والبقرة : ٧٢ ، ٧٣ من الأمالي ، ٢ : ١٩٢.

ـ (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ

__________________

(١) يأتي في سورة «الصافات» ان شاء الله تعالى.

(٢) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ٤٢.

١١٠

فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤)) [الأنبياء : ٨٣ ـ ٨٤].

أنظر ص : ٤١ من التنزيه : ٩٠.

ـ (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : ٨٧].

[فان قيل :] وما معنى غضبه وعلى من كان غضبه وكيف ظنّ أنّ الله تعالى لا يقدر عليه؟ وذلك مما لا يظنّه مثله ، وكيف اعترف بأنّه من الظالمين والظلم قبيح؟

الجواب : قلنا : أمّا من [ظنّ أنّ] يونس عليه‌السلام خرج مغاضبا لربّه من حيث لم ينزل بقومه العذاب ، فقد خرج في الافتراء على الأنبياء عليهم‌السلام وسوء الظن بهم عن الحدّ ، وليس يجوز أن يغاضب ربّه إلّا من كان معاديا له وجاهلا بأنّ الحكمة في سائر أفعاله ، وهذا لا يليق بأتباع الأنبياء عليه‌السلام من المؤمنين فضلا عمّن عصمه الله تعالى ورفع درجته.

وأقبح من ذلك ظنّ الجهّال وإضافتهم إليه عليه‌السلام أنّه ظنّ أنّ ربّه لا يقدر عليه من جهة القدرة الّتي يصحّ بها الفعل ، ويكاد يخرج عندنا من ظنّ بالأنبياء عليهم‌السلام مثل ذلك عن باب التمييز والتكليف ؛ وإنّما كان غضبه عليه‌السلام على قومه لبقائهم على تكذيبه وإصرارهم على الكفر ويأسه من إقلاعهم وتوبتهم ، فخرج من بينهم خوفا من أن ينزل العذاب بهم وهو مقيم بينهم.

وأمّا قوله تعالى : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) ، فمعناه أن لا نضيق عليه المسلك ونشدّد عليه المحنة والتكليف ؛ لأنّ ذلك ممّا يجوز أن يظنّه النبيّ ، ولا شبهة في أن قول القائل قدرت وقدّرت ـ بالتخفيف والتشديد ـ معناه التضييق.

قال الله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) (١).

__________________

(١) سورة الطلاق ، الآية : ٧.

١١١

وقال تعالى : (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) (١). أي يوسّع ويضيّق.

وقال تعالى : (وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) (٢) أي ضيّق.

والتضييق الّذي قدره الله عليه هو ما لحقه من الحصول في بطن الحوت وما ناله في ذلك من المشقّة الشديدة إلى أن نجّاه الله تعالى منها.

وأمّا قوله تعالى : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فهو على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى والخشوع له والخضوع بين يديه ؛ لأنّه لما دعاه لكشف ما امتحنه به وسأله أن ينجّيه من الظلمات الّتي هي ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل ، فعل ما يفعله الخاضع الخاشع من الانقطاع والاعتراف بالتقصير.

وليس لأحد أن يقول : كيف يعترف بأنّه كان من الظالمين ولم يقع منه ظلم؟ وهل هذا إلّا الكذب بعينه؟ وليس يجوز أن يكذب النبي عليه‌السلام في حال خضوع ولا غيره ، وذلك أنّه يمكن أن يريد بقوله : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) أي من الجنس الّذي يقع منهم الظلم ، فيكون صدقا ، وإن ورد على سبيل الخضوع والخشوع ؛ لأنّ جنس البشر لا يمتنع منه وقوع الظلم.

فإن قيل : فأيّ فايدة في أن يضيف نفسه إلى الجنس الذي يقع منهم الظلم إذا كان الظلم منتفيا عنه في نفسه؟

قلنا : الفايدة في ذلك التطامن لله تعالى والتخاضع ونفي التكبر والتجبر ؛ لأنّ من كان مجتهدا في رغبة إلى مالك قدير ، فلا بدّ من أن يتطأطأ [له] ، ويجتهد في الخضوع بين يديه ، ومن أكبر الخضوع أن يضيف نفسه إلى القبيل الذين يخطئون ويصيبون كما يقول الإنسان ـ إذا أراد أن يكسر نفسه وينفي عنها دواعي الكبر والخيلاء ـ : إنّما أنا من البشر ولست من الملائكة ، وأنا ممّن يخطيء ويصيب. وهو لا يريد إضافة الخطأ إلى نفسه في الحال ، بل يكون الفايدة ما ذكرناها.

__________________

(١) سورة الرعد ، الآية : ٢٦.

(٢) سورة الفجر ، الآية : ١٦.

١١٢

ووجه آخر : وهو أنّا قد بيّنا في قصة آدم عليه‌السلام لمّا تأولنا قوله تعالى : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) (١) أنّ المراد بذلك أنّا نقّصناها الثواب وبخسناها حظّها منه ؛ لأنّ الظلم في أصل اللغة هو النقص والثلم ، ومن ترك المندوب إليه ـ وهو لو فعله لاستحقّ الثواب ـ يجوز أن يقال : إنّه ظلم نفسه من حيث نقّصها ذلك الثواب. وليس يمتنع أن يكون يونس عليه‌السلام أراد هذا المعنى ؛ لأنّه لا محالة قد ترك كثيرا من المندوب ، فإنّ استيفاء جميع الندب يتعذّر.

وهذا أولي ممّا ذكره من جوّز الصغائر على الأنبياء عليهم‌السلام ؛ لأنّهم يدّعون أنّ خروجه كان بغير إذن من الله تعالى له فكان قبيحا صغيرا وليس ذلك بواجب على ما ظنّوه ؛ لأنّ ظاهر القرآن لا يقتضيه. وإنّما أوقعهم في هذه الشبهة قوله : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وقد بيّنا وجه ذلك وأنّه ليس بواجب أن يكون خبرا عن المعصية.

وليس لهم أن يقولوا كيف يسمّى من ترك النفل بأنّه ظالم؟ وذلك أنا قد بيّنا وجه هذه التسمية في اللغة وإن كان إطلاق اللفظة في العرف لا يقتضيه.

وعلى من سأل عن ذلك مثله إذا قيل له كيف يسمّي كل من فعل معصية بأنّه ظالم ، وإنّما الظلم المعروف هو الضرر المحض الموصل إلى الغير؟ فإذا قالوا : إنّ في المعصية معنى الظلم وإن لم يكن ضررا يوصل إلى الغير ، من حيث نقصت ثواب فاعلها.

قلنا : وهذا المعنى يصحّ في الندب ، على أن يجري ما يستحق من الثواب مجرى المستحق.

وبعد فإنّ أبا علي الجبّائيّ وكلّ من وافقه في الامتناع من القول بالموازنة في الإحباط لا يمكنه أن يجيب بهذا الجواب ، فعلى أيّ وجه ـ يا ليت شعري ـ يجعل معصية يونس عليه‌السلام ظلما ، وليس فيها من معنى الظلم شيء؟

وأمّا قوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) (٢) فليس على ما

__________________

(١) سورة الأعراف ، الآية : ٢٣.

(٢) سورة القلم ، الآية : ٤٨.

١١٣

ظنّه الجهّال من أنّه عليه‌السلام ثقل عليه أعباء النبوّة لضيق خلقه فقذفها ، وإنّما الصحيح أنّ يونس لم يقو على الصبر على تلك المحنة الّتي ابتلاه الله تعالى بها وعرّضه لنزولها به لغاية الثواب ، فشكا إلى الله تعالى منها وسأله الفرج والخلاص ، ولو صبر لكان أفضل. فأراد الله تعالى لنبيّه عليه‌السلام أفضل المنازل وأعلاها (١).

ـ (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ ...) [الأنبياء : ١١٢]

أنظر البقرة : ٢٨٦ من الأمالي ، ٢ : ١١٤.

__________________

(١) تنزيه الأنبياء والأئمّة : ١٤١.

١١٤

سورة الحجّ

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ـ (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) [الحج : ٦].

ويوصف تعالى بأنه «حق» ، بمعنى أن عبادته حقّ ، فهو مجاز على كلّ حال (١).

ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج : ١٠].

أنظر ص : ٧٥ من الأمالي ، ١ : ٥٣٢.

ـ (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) [الحج : ١٥].

أنظر الملك : ١٥ من الأمالي ، ٢ : ١٤٦.

ـ (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧)) [الحج : ٢٦ ـ ٢٧].

[ان سأل سائل عن معنى هذه الآية فقال :] هل خصّ بالنداء أمّة دون أمّة ، أم عمّ الأمم كلّها؟ وهل بلغهم نداؤه ودخلت فيه أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

الجواب :

أمّا قوله تعالى : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) فمعناه جعلناه منزلا ووطئناه ومهّدناه ، والمباءة المنزل.

__________________

(١) الذخيرة : ٥٨٩.

١١٥

وقال قوم : إنّ أصل اشتقاق هذه الكلمة من الرجوع ، ومنه قوله تعالى : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) (١) أي رجعوا منه ، وقول الحارث بن جواد :

بوأ ... فعل كليب (٢)

أي أرجع بذلك.

فلمّا جعل الله تعالى البيت منزلا ومزيلا وملاذا ومرجعا لإبراهيم ، جاز أن يقول : «بوأه».

فأمّا قوله تعالى : (تُشْرِكْ بِي شَيْئاً) قال قوم : معناه وقلنا له لا تشرك بي شيئا ، وأجرى مجرى قوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)) (٣) والمعنى : قائلين سلام عليكم.

والكلام مفتقر بلا شكّ إلى محذوف ، وهذا الذي ذكرناه من حذف لفظة «وقلنا» يضعف من جهة أنّ ظاهر الاية تدلّ على تعلّق الكلام بعضه ببعض ، وأنّ الغرض في تبوئة إبراهيم البيت ألّا تشرك وأن تطهّر البيت للطائفين والقائمين.

وإذا كان هذا المعنى هو لم يطابقه أن يقدر لفظة «وقلنا» ثم يحذفها ؛ لأنّ هذا التقدير يقع (٤) الكلام الثاني عن حكم الأوّل ويجعله أجنبيا منه. والظاهر أنّه متعلّق به.

فالأولى أن يكون تقدير الكلام : وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ، لأن نقول له لا يشرك بي شيئا ، فيصحّ معنى البيت ومطابقة البيت فيه ، وهو تبوئة البيت.

فأمّا قوله تعالى : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) فقيل : إنّه أراد من عبادة الأوثان. وقيل : من ذبائح المشركين وسائر الادناس ، والكلام يحتمل لكلّ ذلك.

فأمّا قوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) فمعناه أعلمهم وأشعرهم بوجوبه وأعلمت وأذنت هاهنا بمعنى واحد ، والأذان بالصلاة هو الإعلام بدخول وقتها.

وقال قوم : إنّ أذان إبراهيم هو إذ وقف في المقام ، فنادى : أيّها الناس أجيبوا

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٦١.

(٢) كذا في المطبوعة.

(٣) سورة الرعد ، الآية : ٢٣.

(٤) كذا والظاهر : «يرفع».

١١٦

داعي الله يا عباد الله أطيعوا الله. فاستمع من بين السماء والارض ، فأجابه من في الاصلاب ، فمن كتب له الحجّ وكلّ من حجّ ، فهو من أجاب إبراهيم عليه‌السلام.

وقال قوم آخرون : إنّ المخاطب والمأمور به بقوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يلزمهم شريعة فكيف يدعوهم إلى الحجّ وهو غير مرسل إليهم؟

وأخبار الاحاد في هذا الباب غير معتمد ، فلا يجوز على هذا أن يحمل قوله تعالى : (فِي النَّاسِ) على كلّ من يأتي إلى يوم القيامة ؛ لأنّه عليه‌السلام [ما] كان مبعوثا إلى جميع الأمم المستقبلة ، فجعلناه متوجّها إلى أمته ومن تلزمهم شريعته.

فأمّا الوجه الثاني الذي حكيناه من توجّه تكليف الأذان بالحجّ إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجائز غير ممتنع ، ولا يضعفه أنّه معطوف على الأوامر المتوجّهة إلى إبراهيم عليه‌السلام من قوله : (أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) ؛ لأنّه غير ممتنع أن ينفصل هذا التكليف من الأوّل وإن كان له مجاورا ومقارنا ، ويتوجّه إلى غير من توجّه التكليف الأوّل إليه.

فأمّا قوله تعالى : (يَأْتُوكَ رِجالاً) فمعناه على أرجلهم ، وهو في مقابلة من يأتي راكبا على كلّ ضامر.

ومعنى (كُلِّ ضامِرٍ) أي على كلّ جمل ضامر أو ناقة ضامرة ، ولهذا قال تعالى : (يَأْتِينَ) ولم يقل يأتون ، كناية عن الركاب دون الركب. وقد قرئت : «يأتون» على أنّه كناية عن الركبان.

وهذا القدر كاف في الجواب عن المسألة (١).

ـ (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) [الحج : ٣٠].

أنظر الأنفال : ١١ من الانتصار : ١٥.

ـ (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) [الحجّ : ٤٠].

أنظر المائدة : ٢٨ ، ٢٩ من الأمالي ، ٢ : ٤٣.

__________________

(١) الرسائل ، ٣ : ١١٧.

١١٧

ـ (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦].

أنظر النحل : ٢٦ من الأمالي ، ١ : ٣٤٠.

ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحج : ٥٢].

[فإن قيل : ما معنى هذه الآية] أو ليس قد روي في ذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما رأى تولّي قومه عنه شقّ عليه ما هم عليه من المباعدة والمنافرة ، وتمنّى في نفسه أن يأتيه من الله تعالى ما يقارب بينه وبينهم ، وتمكّن حبّ ذلك في قلبه ، فلمّا أنزل الله تعالى عليه (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) وتلاها عليهم ، ألقى الشيطان على لسانه ـ لمّا كان تمكّن في نفسه من محبّة مقاربتهم ـ : «تلك الغرانيق العلى وإنّ شفاعتهنّ لترتجى» ، فلمّا سمعت قريش ذلك سرّت به وأعجبهم ما زكّى به آلهتهم ، حتّى انتهى إلى السجدة فسجد المؤمنون وسجد أيضا المشركون لمّا سمعوا من ذكر آلهتهم بما أعجبهم ، فلم يبق في المسجد مؤمن ولا مشرك إلّا سجد ، إلّا الوليد ابن المغيرة ؛ فإنّه كان شيخا كبيرا لا يستطيع السجود ، فأخذ بيده حفنة من البطحاء فسجد عليها ، ثمّ تفرّق الناس من المسجد وقريش مسرورة بما سمعت ، وأتى جبرائيل عليه‌السلام إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاتبا على ذلك ، فحزن له حزنا شديدا ، فأنزل الله تعالى عليه معزّيا له ومسليا (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) الآية.

الجواب : قلنا : أمّا الآية فلا دلالة في ظاهرها على هذه الخرافة الّتي قصّوها وليس يقتضي الظاهر إلّا أحد أمرين :

إمّا أن يريد بالتمنّي التلاوة كما قال حسّان بن ثابت :

تمنّى كتاب الله أوّل ليله

وآخره لاقى حمام المقادر

أو يريد بالتمنّي تمنّي القلب ، فإن أراد التلاوة ، كان المراد [أنّ] من أرسل قبلك من الرسل كان إذا تلا ما يؤدّيه إلى قومه حرّفوا عليه وزادوا فيما يقوله ونقصوا ، كما فعلت اليهود في الكذب على نبيّهم ، فأضاف ذلك إلى الشيطان ؛

١١٨

لأنّه يقع بوسوسته وغروره ، ثمّ بيّن أنّ الله تعالى يزيل ذلك ويدحضه بظهور حجّته وينسخه ويحسم مادّة الشبهة به. وإنّما خرجت الآية على هذا الوجه مخرج التسلية له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا كذب المشركون عليه ، وأضافوا إلى تلاوته مدح آلهتهم ما لم يكن فيها.

وإن كان المراد تمنّي القلب ، فالوجه في الآية أنّ الشيطان متى تمنّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقلبه بعض ما يتمّناه من الأمور ، يوسوس إليه بالباطل ويحدّثه بالمعاصي ويغريه بها ويدعوه إليها ، وأنّ الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان وعصيانه وترك إسماع غروره.

وأمّا الأحاديث المروية في هذا الباب فلا يلتفت إليها من حيث تضمنت ما قد نزهت العقول الرسل عليهم‌السلام عنه. هذا لو لم يكن في أنفسها مطعونة مضعفّه عند أصحاب الحديث بما يستغني عن ذكره. وكيف يجيز ذلك على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يسمع الله تعالى يقول : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) (١) يعني القرآن. وقوله تعالى :(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦)) (٢). وقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٣)؟ على أنّ من يجيز السهو على الأنبياء عليهم‌السلام يجب أن لا يجيز ما تضمنته هذه الرواية المنكرة لما فيها من غاية التنفير عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ لأنّ الله تعالى قد جنّب نبيه من الأمور الخارجة عن باب المعاصي ، كالغلظة والفظاظة وقول الشعر وغير ذلك مما هو دون مدح الأصنام المعبودة دون الله تعالى ، على أنّه لا يخلو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وحوشي ممّا قذف به ـ من أن يكون تعمّد ما حكوه وفعله قاصدا أو فعله ساهيا ، ولا حاجة بنا إلى إبطال القصد في هذا الباب والعمد لظهوره ، وإن كان فعله ساهيا فالساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة وطريقها ثمّ لمعنى ما تقدّمها من الكلام ؛ لأنّا نعلم ضرورة أن من كان ساهيا لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتّى يتفق منه بيت شعر

__________________

(١) سورة الفرقان ، الآية : ٢٢.

(٢) سورة الحاقّة ، الآيات : ٤٤ ـ ٤٧.

(٣) سورة الأعلى ، الآية : ٦.

١١٩

في وزنها وفي معنى البيت الّذي تقدّمه وعلى الوجه الّذي يقتضيه فائدته ، وهو مع ذلك يظنّ أنّه من القصيدة الّتي ينشدها. وهذا ظاهر في بطلان هذه الدعوى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أنّ الموحى إليه منس الله النازل بالوحي وتلاوة القرآن جبرائيل عليه‌السلام ، وكيف يجوز السهو عليه؟ على أنّ بعض أهل العلم قد قال : يمكن أن يكون وجه التباس الأمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا تلا هذه السورة في ناد غاص بأهله وكان أكثر الحاضرين من قريش المشركين ، فانتهى إلى قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (١) وعلم في قرب مكانه منه من قريش أنّه سيورد بعدها ما يسوأهم به فيهنّ ، قال كالمعارض له والرّادّ عليه : «تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى» فظنّ كثير ممّن حضر أنّ ذلك من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واشتبه عليهم الأمر ؛ لأنّهم كانوا يلغون عند قراءته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويكثر كلامهم وضجاجهم طلبا لتغليطه وإخفاء قراءته.

ويمكن أن يكون هذا أيضا في الصلاة ؛ لأنّهم كانوا يقربون منه في حال صلاته عند الكعبة ، ويسمعون قراءته ويلغون فيها.

وقيل أيضا : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا تلا القرآن على قريش توقّف في فصول الآيات وأتى بكلام على سبيل الحجاج لهم ، فلمّا تلا (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠)) قال : «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» على سبيل الانكار عليهم ، وأنّ الأمر بخلاف ما ظنّوه من ذلك.

وليس يمتنع ان يكون هذا في الصلاة ؛ لأنّ الكلام في الصلاة حينئذ كان مباحا ، وإنّما نسخ من بعد.

وقيل : إنّ المراد بالغرانيق الملائكة ، وقد جاء مثل ذلك في بعض الحديث فتوّهم المشركون أنّه يريد آلهتهم.

وقيل : إنّ ذلك كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة فتلاه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فلمّا ظنّ المشركون أنّ المراد به آلهتهم نسخت تلاوته.

وكلّ هذا يطابق ما ذكرناه من تأويل قوله : (إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي

__________________

(١) سورة النجم ، الآية : ١٩.

١٢٠