مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٥

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي

مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٥

المؤلف:

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٦٦

تقليد الحي أو جواز البقاء على تقليد الميت فلا يكون البحث عن الأدلة النقليّة بدون الثمرة.

فرجوع العامي إلى المجتهد في أصل التقليد بالفطرة وفي شئونه لا بد له من تقليده حتى بالنسبة إلى نفس وجوب التقليد أو جوازه في الأحكام واما أصل وجوب التقليد فلا يكاد يمكن ان يكون بالتقليد لأنه يلزم منه الدور أو التسلسل ثم تقريب الاستدلال بآية النفر هو ان الحذر بقبول قول الفقيه واجب سواء حصل القطع أم لا فيجب على العامي قبول قوله تعبدا ولا يكون له إجراء البراءة عما لا يعلمه مستندا إلى قبح العقاب بلا بيان فان هذا الدليل حاكم عليها والمراد بالتفقه هو الرّأي والنّظر فإذا بلغ المتفقه إلى هذه الدرجة يجب قبول قوله ولكن عن بعض الأعيان (الشيخ العلامة محمد حسين الأصفهاني) في رسالته المؤلفة في الاجتهاد والتقليد ص ١٣ خلاف ذلك فانه يقول ومن الواضح صدق التفقه في الصدر الأول بتحصيل العلم بالاحكام بالسماع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام فلا دلالة لها حينئذ الأعلى حجية الخبر فقط والإنذار بحكاية ما سمعوه من المعصوم من ترتب العقاب على شيء فعلا أو تركا لا ينبغي الريب فيه بل الإفتاء والقضاء أيضا كان في الصدر الأول بنقل الخبر فتدبر انتهى وحاصل مراده قده كما ترى هو عدم دلالة الآية على وجوب الرجوع إلى المجتهد بل دالة على حجية خبر الواحد ولكن يرد عليه ان الناقل للخبر في صدر الإسلام أيضا لم يكن بحيث لا يفهم معناه بل كان يفهم ما أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الإمام عليه‌السلام فيخبر ولم يكن صرف النقل فقط على ان مثل زرارة ومحمد بن مسلم وأبان أيضا كانوا في صدر الإسلام من الرّواة ومن الفقهاء ولا يمكن ان يقال ان المجرى للأحكام يكون الناقل للخبر فقط بل من فهم الخبر مع تعمل ونظر ورأى فدلالة الآية على وجوب التقليد تامة واما آية السؤال فمعناها ان السؤال

٤١

يجب العمل بجوابه إذا كان عن أهل الخبرة وليس معناها هو السؤال لحصول العلم فقط والمراد بأهل الذّكر هو الفقيه لا العرب الّذي لا يفهم معنى الرواية وقد سمعها من المعصوم عليه‌السلام وينقلها وهكذا معنى التقليد في رواية التقليد هو العمل برأيه لا التعلم منه والمراد بأخذ معالم الدين ليس التعلم فقط بل العمل فتحصل ان الأدلة النقليّة لوجوب التقليد أيضا تامة.

تذييل

في ان وجوب التقليد على أي تقدير هل يكون مقدميا أو نفسيا أو طريقيا أو شرطيا شرعيا نظير وجوب الوضوء للصلاة والمنسوب إلى الشيخ الأنصاري قده هو الأول لأنه مقدمة للامتثال الظاهري للأحكام الواقعية ولا ينوط الواقع به ان كان حصوله بالاحتياط ممكنا فيكون مقدميته للامتثال فقط بحيث يسقط التكليف لا بحيث يحصل الواقع ويؤيد هذا الوجه ما هو المعروف من بطلان عمل تاركي طريق الاجتهاد والتقليد بعد كون التقليد هو العمل لعدم حصول الامتثال ما لم يكن العمل مستندا إلى المجتهد ولكن يرد عليه بان العمل صحيح ولو لم يكن مستندا إلى الفتوى إذا طابق الواقع أو رأى من يجب عليه تقليده في الواقع إذا جاء له قصد القربة مثل ما أتى به رجاء للوصول إلى الواقع ووجه كون الوجوب نفسيا لا مقدميا فهو ان التقليد بعد كونه هو العمل مثل الصلاة والصوم فيكون ملاكه هو ملاك نفس العمل لأن الأمارات على الطريقية لا تكون الا لحفظ الواقع وهو تارة يحفظ بالعلم الوجداني به والعمل على طبقه وتارة يحفظ بالأمارة والتقليد يكون لحفظ الواقع وهو أمارة عليه فوجوب التقليد يكون معناه وجوب الصلاة ووجوب الركوع ووجوب السجود والصلاة تقليد بعنوان وصلاة بعنوان خاص وهو الصلاتية فكما ان وجوب

٤٢

الصلاة نفسي فكذلك وجوب التقليد.

ولكن يرد عليه ان وجوب تصديق العادل ووجوب التقليد الّذي هو مثله يكون للمصلحة الطريقية إلى الواقع فان أصاب فهو وإلّا فهو معذور ويشترك مع الوجوب النفسيّ من جهة كون المصلحة والملاك لحفظ الواقع ولكن المصلحة في إتيان الصلاة تكون لذاتها محضا ومصلحة تصديق العادل أو تقليد المجتهد يكون لحفظ الواقع في الدرجة الثانية.

ومن هنا ظهر عدم كون الوجوب في التقليد نفسيا ولا مقدميا بل وجوبه وجوب طريقي لحفظ الواقع واما الوجوب الشرطي الشرعي مثل وجوب الوضوء للصلاة فلم يثبت من دليل.

نعم الفرق بين الفتوى وبين الأمارة مثل الخبر هو ان الأمارة تكون طريقا للواقع بنفسه ولكن الفتوى تكون طريقا إلى الطريق الّذي هو رأي المجتهد فان رأيه طريق الواقع لا فتواه ولذا يكون رأيه حجة ولو لم يكن له الفتوى فمن علم من دأب مجتهد ان مسلكه ان الأمر بالشيء يقتضى النهي عن ضده خلافا لمن يقول بان الأمر بالشيء لا يقتضى النهي عن ضده فمر بمسألة تتوقف على هذا المبنى يمكنه العمل على طبق هذا المبنى لأنه أحرز رأيه وان لم يفت في المسألة الفلانية (١)

مسألة

هل يجوز لمن له قوة الاستنباط والاجتهاد التقليد أو يجب عليه الاستنباط فيما هو مبتلى به من الأحكام فيه خلاف والمشهور هو وجوب الاستنباط وعدم جواز

__________________

(١) أقول هذا مشكل جدا لأنه من المحتمل هو كون فتواه في خصوص المسألة مستندا إلى دليل آخر لا يعلمه منه فلا بد من أخذ فتواه ولو فرض انه يعلم انه لا دليل له الا المبنى في الباب الفلاني فهو علم بفتواه من هذا الطريق ولا بحث فيه واما كشف رأيه بالطرق الغير المعتبرة شرعا نظير الرمل فخارج عن محل الكلام.

٤٣

التقليد وخالفهم السيد في المناهل على ما نسب إليه لعدم فعلية الحكم عليه قبل الاستنباط.

ولكن الحق مع المشهور كما مرت الإشارة إليه فيما سبق فان مقتضى دليل التقليد هو ان الجاهل ومن ليس له الحجة يرجع إلى العالم ومن له الحجة ومن له قوة الاستنباط لا يكون جاهلا وله الحجة إذا رجع إليها وليس المراد هو الجهل بالفعل كذلك حتى يقال يصدق بالنسبة إليه الجاهل فعلا لأن العقل بعد تحيره في الحكم يحكم بالرجوع إلى الغير ومن له القوة لا يكون متحيرا.

وهكذا الأدلة اللفظية فان من هو متفقه في الدين ويكون من أهل الذّكر لا يكون مشمولا لدليل الرجوع إلى الفقيه وأهل الذّكر لأن هذا الدليل يكون لمن لا يعلم ولا يتفقه لا لمن يكون فقيها وعالما فيجب الاستنباط لمن له القوة فيما هو مبتلى به.

مسألة في تقليد الأعلم

وفيها صور : الصورة الأولى تقليد الأعلم مع العلم بالأعلمية ومع اختلاف فتواه مع فتوى غيره والمتعين هو وجوبه وهو المشهور بل المجمع عليه وعليه القدماء وعن بعض متأخري المتأخرين جواز تقليد المفضول أيضا.

وكيف كان فلا بد لنا من البحث في مرحلتين المرحلة الأولى في مقتضى الأصل والمرحلة الثانية في مقتضى الدليل الاجتهادي : والأصل يكون البحث فيه في مقامين المقام الأول في حكمه بالنسبة إلى العامي الّذي ليس له دليل الا الفطرة والثاني في حكمه بالنسبة إلى المجتهد الّذي يريد استنباط هذا الحكم من الأصل.

فنقول اما المقام الأول فالحق فيه هو أن العامي إذا رجع إلى فطرته يرى بالفطرة أن الأمر يدور بين التعيين والتخيير لأن العمل بفتوى الأعلم يكون هو الواقع إن أصاب وعذر عند الخطأ قطعا وأما غيره فلا يكون كذلك قطعا للشك في حجية فتواه وإن كان احتمال التخيير فيه أيضا ولكن الاحتمال لا يفيد كما أن

٤٤

المريض يرجع إلى الطبيب الّذي يرى فيه اجتماع جميع الصفات التي لها دخل في علاج المرض وهكذا غيره من أصناف الخبراء وأنواعهم إذا أمكنه ذلك.

فان قلت ان وجوب تقليد الأعلم بواسطة الحكم بالتعيين في المقام مرفوع بالأصل لأن التعيين كلفة زائدة فهو مخير في الرجوع إلى الأفضل والمفضول سيما في صورة العسر في الرجوع إلى الأفضل قلت القول بالتعيين لا يكون من جهة كون الأفضل له الموضوعية حتى ينفى بالأصل بل من باب ان المكلف اشتغال ذمته بالتكليف في البين مسلم ولا بد له من تحصيل البراءة عن الواقع الّذي هو مكلف بإتيانه وامتثاله.

وهو لا يمكن إلّا في صورة الرجوع إلى الأعلم لأنه ان تبع غير الأعلم ولم يصب فتواه إلى الواقع يكون مذموما عند العقلاء بخلاف متابعة الأفضل فانه معذور وان لم يصب فتواه إلى الواقع.

وبعبارة أخرى يطلب الشارع من المكلف الواقع ان علم به وعلى فرض عدم العلم به يتنزل بإتيانه على طبق رأي المجتهد الأعلم فما في ذمته هو الواقع ولا يكون مجرى للبراءة بعد اشتغال ذمته به وليس الرجوع إلى الأفضل من باب الموضوعية حتى يكون وجوبه مشكوكا فيه ابتداء لتجري البراءة العقلية بالنسبة إلى العامي.

فتحصل ان العامي دليله على أصل التقليد وعلى الرجوع إلى الأعلم هو الفطرة ثم الظاهر ان الفطرة حاكمة بالرجوع إلى الأعلم في جميع الفروع لا في أصل التقليد وان كان من الممكن بعد رجوعه إليه إرجاعه في غير هذه المسألة إلى المفضول أيضا هذا كله في حكم الأصل للعامي.

المقام الثاني في مقتضى الأصل عند المجتهد حسب الأدلة الشرعية وثمرة البحث في هذا الأصل بعد كون الأصل عند العامي الرجوع إلى الأعلم هي تنقيح الحكم للمقلد الّذي يرجع إلى الأعلم والفتوى بوجوب تقليده فقط أو كفاية تقليد المفضول أيضا.

٤٥

فنقول يختلف الحكم حسب اختلاف المباني في رأي المجتهد فان رأيه اما ان يكون طريقا محضا للواقع وجهة تعليلية فقط بمعنى كونه عذرا عند الخطاء وهو حجة لكونه طريقا إلى الواقع فلا موضوعية له.

واما ان يكون حجة من باب جعل مماثل الواقع في ظرفه بحيث يكون وجوده موجد مصلحة فيه تقتضي العمل على طبقه ولذلك يقال بالتخيير عند التعارض وإلّا فالأصل هو التساقط حينئذ كما ان الأصل الأولى في الاخبار عند التعارض هو التساقط واما ان تكون الحجية من باب الطريقي الجزء الموضوعي ومعناه هو ان الواقع منجز عليه لكونه مطابقا لرأي المجتهد بحيث ان الطريق لا بد ان يكون هذا لا غيره.

ولتوضيحه نقول ان أخبر مخبر في السوق بان دهن الزيت يفيد لمن هو مبتلى بمرض الكلية ويضره الدهن الحيواني وأخبر الطبيب أيضا بذلك ولكن لا من باب الاخبار فقط بل بعنوان الدستور العلاجي والرّأي بالعمل على طبقه فنرى أن رأي الطبيب يكون له موضوعية عند العقلاء للعمل على طبقه ولو كان طريقا إلى الواقع الكذائي ولا يكون كذلك عندهم اخبار المخبر مع انه طريق إلى الواقع أيضا (١) فإذا عرفت ذلك فندعي مثله في رأي المجتهد ونقول ان الطريق الّذي هو هكذا يكون حجة لا غيره فتحصل ان حجية الرّأي على ثلاثة أنحاء الطريقية المحضة والموضوعية المحضة والطريقي الجزء الموضوعي.

فإذا عرفت المباني فنقول على مبنى الطريقية فيدور الأمر بين التعيين التخيير

__________________

(١) أقول عدم اعتمادهم على اخبار المخبر يكون من باب عدم خبرويته فان الخبروية تكون في تطبيق الكبرى على المصداق بحسب حال كل مريض فرأيه يكون طريقا إلى الواقع ولا مصلحة في رأيه أيضا لو لم يصبه فرأي الطبيب يكون في الواقع اخبارا عن خاصية الدواء وعن كونه مفيدا بحال هذا المريض الخاصّ ولا موضوعية له.

٤٦

في المقام لأن المدار على الواقع والأخذ برأي الأعلم في كونه مصابا أو عذرا لا إشكال فيه عند العقلاء بالنسبة إلى الواقع المنجز في البين بخلاف رأي المفضول فالعقل حاكم بالتعيين وان لم نقل في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الفروع الفقهية بوجوب الأخذ بالمعين وقلنا بأنه كلفة زائدة تجري البراءة بالنسبة إليها لأن المقام من الدوران بين التعيين والتخيير في مسألة أصولية فان الشك في الحجية مساوق للقطع بعدمها لأن الحجة هي التي يمكن ان يحتج بها وما هو مشكوك لا يمكن الاحتجاج به فلا بد من الأخذ بفتوى الأعلم لذلك فان قلت على فرض إطلاق الأدلة اللفظية في التقليد يصير هذا الأصل محكوما قلت ليس لنا دليل لفظي ليمكن أخذ الإطلاق منه كما سيجيء في البحث عن الدليل الاجتهادي لوجوب تقليد الأعلم.

واما على مبنى الموضوعية فحيث يكون الرّأي له الملاك في نفسه ويكون ذلك في رأي الأفضل والمفضول ففي دوران الأمر بين كونه من باب التعيين والتخيير أو من باب المتزاحمين أو الدوران بين المحذورين في بعض الأحيان كما إذا كان اختلاف الفتوى من جهة وجوب شيء وحرمته وجوه وأقوال على ما ذكره بعض الأعيان في حاشيته على الكفاية المسماة بنهاية الدراية في هذا المقام في ص ٢١١ واختار الثاني أي كونه من باب التزاحم من جهة ان احتمال التعيين والتخيير غير وجيه لكونه في صورة العلم بوجود المصلحة في أحدهما واحتمالها في الآخر والمفروض على الموضوعية هو العلم بوجودها فيهما فلا بد من ملاحظة ما هو أقوى ملاكا للتزاحم (١) وهو الأهم مع عدم لزوم الجمع بينهما إذا كانا متضادين مثل

__________________

(١) أقول ولا يخفى ان الملاك في باب التزاحم هو ان يكون المانع في ناحية الامتثال من جهة عدم قدرة العبد عليه كما في إنقاذ الغريقين اما في صورة عدم التكليف بهما فيكون من باب التعارض للعلم الإجمالي بحجية أحد الرأيين ووجوب العمل على وفقه فيدور الأمر بين تعيين العمل بهذا أو التخيير بينه وبين غيره ـ

٤٧

كون رأي أحدهما وجوب هذا ورأي الآخر وجوب غيره ومع عدم احتمال الأهمية فلا بد من القول بالتخيير برأي من شاء منهما.

وأقول ان المبنى فاسد وعلى فرض صحته فلا بد من القول بالتخيير للتضاد أو لعدم إمكان الجمع كما في دوران الأمر بين المحذورين.

واما على الطريقي الجزء الموضوعي فيكون من دوران الأمر بين التعيين والتخيير لأن إتيان الواقع على هذا الفرض أيضا هو الملاك والاشتغال يكون به كما في الطريقية المحضة فلا بد من الأخذ برأي الأعلم ليحصل الفراغ اليقينيّ فتحصل ان الأعلم هو المعين على الطريقية المحضة وعلى الطريقي الجزء الموضوعي ويكون الحكم هو التخيير على الموضوعية المحضة.

فالحق ان المقلد يجب ان يقلد الأعلم بعد عدم الأساس للموضوعية في الرّأي والإنصاف ان حجية رأيه يكون من القسم الثالث وهو الطريقي الجزء الموضوعي فالواقع بقيد كونه عن رأي المجتهد الأعلم هو المكلف به كما مر.

فتحصل ان مقتضى الأصل عند المقلد والمجتهد هو الرجوع إلى الأعلم لا غير ولكن يجب التنبيه في المقام على ان الحق عندنا هو التعيين لا من جهة دوران الأمر بين التعيين والتخيير على ما هو ظاهر ما مر من كلماتهم وظاهر بياننا لها لأن هذا الكلام يكون في المسألة الفرعية واما مقامنا هذا فلا يكون من دوران الأمر بينهما بل فتوى الأعلم بالاخذ تصير حجة كما في الخبرين المتعارضين ولا حجية لفتوى غيره من بدو الأمر فلا يكون الباب من دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجة كما توهم لأن الفتويين المتعارضتين كالخبرين المتعارضين في كون

__________________

ـ فيكون من باب التعيين والتخيير في باب الحجة فلا بد من القول بالتعيين فيه. ووجود المصلحة في الرّأي لا يرفع هذه الغائلة لأن الكلام ليس في وجود المصلحة وعدمها بل في تعيين أحدهما على المكلف فالأعلم هو المتعين على جميع المباني وعلى فرض هذا الباب باب التزاحم أيضا لأنه أهم أو محتمل الأهمية.

٤٨

مقتضى الأصل الأولى هو التساقط فيها لتكذيب كل واحد منهما الآخر بمدلوله الالتزامي والتعيين والتخيير المصطلح يكون في صورة إحراز إطلاق أحد الدليلين دون الآخر بعد إحراز حجيتهما وفي المقام لا حجية لأحدهما قبل الأخذ ولكن يكون حكم العقل المستقل بأخذ رأي الأعلم وعدم الأخذ بما هو مشكوك الحجية وهو رأي المفضول فان كان في كلامنا ما يظهر منه كون تعيين الأعلم من باب دوران الأمر بين الحجة واللاحجة أو بين التعيين والتخيير فهو ليس بمراد لنا بل يكون مشيا على طبق ما مشى إليه القائل بكون المقام من هذا الباب والحاصل دليلنا ان الاشتغال اليقينيّ لا بد فيه من الفراغ يقينا وهو لا يحصل إلّا بما ذكر هذا كله بيان الأصل في الرجوع إلى الأعلم (١)

__________________

(١) أقول اما على فرض القول بان الأخذ لا تأثير له في الحجية بل ما هو الحجة بطبعه يؤخذ به لأنه حجة فيكون المقام من دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحجة ولا يرد الإشكال بان ما لا حجية له لا نأخذ به ليصير حجة على هذا المعنى وعلى فرض دخل الأخذ في الحجية أيضا لا بد من دليل على وجوب الأخذ بالأعلم.

فلا بد من القول بان العلم الإجمالي بحجية أحد الرأيين مع العلم باشتغال الذّمّة بأحد التكليفين يكون لازمه الأخذ بما يحصل العلم بالفراغ منه وهو فتوى الأعلم وهذا روحه يرجع إلى ان الأخذ لا دخل له في الحجية.

والظاهر من الدليل في الخبرين المتعارضين هو ان الأخذ بأحدهما على التخيير يكون من باب الأخذ بما هو حجة لو لا غيره فما أفاده مد ظله لا يخلو عن النّظر فإدخال المقام في دوران الأمر بين التعيين والتخيير أو بين الحجة واللاحجة كما يكون في طي مباحثه أوفق بالقبول.

٤٩

المرحلة الثانية في الدليل الاجتهادي

على الرجوع إلى الأعلم

فنقول قد استدل لوجوب تقليد الأعلم بوجهين الأول الأقربية إلى الواقع والثاني الروايات اما تقريب الوجه الأول فهو ان الأعلم لكونه أعرف وأبصر بكيفية الاستنباط يكون رأيه اقرب إلى الواقع والعقل مستقل بوجوب الأخذ بما هو الأقرب وقد أشكل على هذا بان الصغرى والكبرى لا تتمان اما الصغرى فلمنع كون رأيه اقرب إلى الواقع فربما يكون رأي المفضول موافقا لرأي الاعلام ممن سبق كالشيخ الطوسي والمفيد والأنصاري رضوان الله تعالى عليهم فانهم مهرة الفن فإذا كان رأي المفضول موافقا معهم يحصل الظن القوى بالواقع كما حصل الظن من فتوى الأعلم فالأقربية غير مسلمة أو يكون رأيه موافقا لرأي جملة من المجتهدين غير الأعلم فهذا أيضا يوجب القرب إلى الواقع.

وفيه ان هذا غير تام لأن المدار على الظن النوعيّ الحاصل من نفس الأمارة لا على الظن الحاصل من الخارج (١) وما ذكر يكون من الظن الحاصل من الخارج

__________________

(١) أقول هذا مما لا شاهد له بل يمكن الشاهد على خلافه لأن الخبرين المتعارضين يكون من مرجحات أحدهما الشهرة التي هي من المرجحات الخارجية التي توجب الظن كما هو المحرر في باب التعادل والترجيح لقوله عليه‌السلام خذ بما اشتهر بين أصحابك.

والواقع بعد عدم كونه معلوما بالوجدان يكون الأقربية إليه بجميع ما يوجب قوة الظن كما أشار إليه المحقق الخراسانيّ قده في الكفاية بل السيرة بين الفقهاء هي استناد ما أفتوا به إلى علم من الاعلام مثل المفيد والطوسي والأنصاري تقوية لحجية فتواهم وقربهم إلى الواقع وهذا مما لا ينكر حتى انه مد ظله يكون كذلك عملا وعدم حجية فتوى الميت للحي لا ربط له بتقوية الحجة به فانهم حيث كانوا مهرة الفن يوجب رأيهم قوة الظن بالواقع.

٥٠

مضافا بان المجتهد الأعلم الميت لو فرض كذلك وجوزنا تقليد الميت ابتداء يجب الرجوع إليه لا إلى الحي وعلى فرض عدم الجواز فليس حجة وضم غير الحجة بفتوى المفضول لا يوجب تقوية فتواه وصيرورته اقرب إلى الواقع وهكذا إذا كان فتواه موافقا لرأي المجتهدين الذين هم في رتبته فان ضم الضعيف بالضعيف لا يوجب القوة في مقابل الأعلم الّذي يكون فتواه اقرب إلى الواقع بالنسبة أي كل واحد منهم فلا وجه للإشكال الصغروي.

واما الكبرى فقد أشكل فيها من جهة ان الرجوع إلى الأعلم لا يتم من جهة الأقربية إلى الواقع بل يمكن ان يكون لجهة أخرى لأن غير الأعلم اما ان يكون في الاستدلال مثله بان يجيب عن كل كلام يكون لغيره من الإشكال على رأيه واما ان يتوقف بإشكالات الأعلم عليه فعلى الثاني ليس رأيه حجة أصلا فيكون من دوران الأمر بين الحجة واللاحجة فيؤخذ برأي الأعلم لأنه حجة ولا يؤخذ برأي غيره لأنه ليس بحجة لا من باب عدم كونه اعلم.

واما غير قوة الاستدلال في الحكم من العناوين الطارية على المجتهد الأعلم مثل كبر السن فيكون كالحجر بجنب الإنسان ولا ربط له بالواقع وكون الفتوى اقرب إليه ففي الواقع يدور الأمر بين الرجوع إلى الجاهل وهو المفضول على فرض عدم تمامية دليله والعالم وهو الأعلم الّذي يتم دليله وليس مثل البصر في القاضي الّذي لا دخل له في القضاء وان كان البصير أعرف بوجوه الموضوع دون الأعمي.

ويمكن الجواب عنه بان المراد بالأعلم هو الّذي يكون له مهارة تامة في استنباط الحكم وغيره هو من لم يكن كذلك ودخل الأعلمية يكون من جهة التقليد لا من جهة حجية رأيه لنفسه كما ان الأعلم (١) في ساير الأصناف من البناء والنجار

__________________

(١) أقول هذا يفيد على فرض كون المدار على الأعلمية من حيث المجموع لا في كل مسألة فان إثبات ذلك مشكل جدا لأن الأعلم في مجموع المسائل من حيث المجموع يكون معلوما في الجملة ولكن إثباته في كل فرد من المسائل فهو غير ثابت ـ

٥١

والحدّاد والخطّاط معلوم عند العرف فمن له شدة قوة الاجتهاد هو الأعلم وغيره ليس بأعلم لا ان فتواه ليس بحجة نعم يختلف الأعلمية في المجتهدين في بعض الأوقات فان بعض المجتهدين يكون اعلم في تنقيح الكبريات كما نسب ذلك إلى المحقق الخراسانيّ (قده) وبعضهم في تطبيقها على الفروع كما نسب إلى السيد صاحب العروة الوثقى (قده) وربما يحصل الأعلمية بكثرة استنباط الفروع لحصول العرفان بما هو دخيل في حكم هذه المسألة من استنباط ساير المسائل كما ان سيدنا الأستاذ الأصفهاني قده كان كذلك فانه أجاب باعترافه خمسة ملايين من الاستفتاءات نعم كثرة الاستنباط مع قصور الباع في الكبريات بحيث يسقط فروع كثيرة من استنباطاته بإشكال من هو أعلم فيها لا تفيد فتحصل ان الإشكال كبرويا أيضا غير وارد فان رأي الأعلم اقرب إلى الواقع والعقل مستقل بوجوب متابعته الوجه الثاني من الدليل الاجتهادي وهو الروايات فمنها مقبولة عمر بن حنظلة (١) وفيها الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما في الحديث وأورعهما وما عن داود بن الحصين وفيه ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وما عن موسى بن أكيل وفيه ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضى حكمه وهذه الروايات وان كانت في صورة المنازعة في الحكم والقضاء ولكن القدماء بتنقيح المناط قد استدلوا بها لوجوب الأعلمية في بيان الأحكام ولا تختص بالموضوعات لأن السر في الرجوع إلى الأعلم في ذلك الباب هو كون نظره اقرب إلى الواقع لأنه أفقه خصوصا بملاحظة الإرجاع إلى سنده في الرواية كما ترى تفصيله في مقبولة ابن حنظلة فان الإرجاع إلى سند الحاكم يكون من جهة دخل الأفقهية فلا فرق بين الفتوى والحكم في ذلك.

__________________

(١) أقول ان الروايات الثلاثة في باب ٩ من أبواب صفات القاضي في الوسائل ج ١٨ ح ١ و ٢٠ و ٤٥.

٥٢

وقد أشكل عليه المتأخرون أولا بان ما ذكر من الروايات يكون في مقام بيان حكم صورة بروز المخالفة بين المترافعين ويكون الإرجاع إلى الأعلم من جهة رفع غائلة الترافع ولذا يكون حكم القاضي نافذا في حق غيره من المجتهدين والمفضول في المقام لا يبرز الاختلاف مع الأفضل فلا اختلاف ليشمله الحكم وثانيا ان حملة الاخبار في صدر الإسلام كانوا هم الفقهاء بنقل الاخبار ولم يكن الفقيه في الصدر الأول ما هو المصطلح في هذا الزمان من صدقه على من له نظر ورأي كالشيخ الأنصاري قده فلا يشمل الأفقه في الرواية الأفقه بهذا المعنى.

والجواب اما عن الإشكال الأول فهو ان الحكم كما ذكر يكون في مورد بروز الاختلاف ولكن بروزه لا يختص بالاختلاف بين الشخصين في امر دنيوي بل العامي إذا رأى اختلاف فتاوى المجتهدين في مسألة أيضا يريد رفع الاختلاف بالنسبة إلى دينه فان قطع النّظر عن المال سهل بخلاف قطع النّظر عن الدين فلا بد له من رفع هذا الاختلاف بالرجوع إلى الأعلم.

وما توهم من كون رفع الغائلة في المترافعين في الموضوع يختص بالرجوع إلى الأعلم لعدم رضائهما الا به لا في الحكم لأنه يؤخذ من أحد المجتهدين بلا تفاوت بين الفاضل والمفضول مندفع بعدم الفرق فان العامي في الحكم أيضا يسكن نفسه برجوعه إلى اعلم الزمان ولا ترفع غائلته بغير الأعلمية من العناوين الطارية على المجتهدين.

واما ما ذكر من الفقاهة في صدر الإسلام فقد مر ما فيه فان الفقهاء في الصدر أيضا كانوا صاحب رأي ونظر في فهم الروايات فان مثل زرارة وحمران ومحمد ابن مسلم لم يكونوا راو الخبر فقط ولم يكن إرجاعهم عليهم‌السلام إلى من يتلفظ بالخبر وان كان أعرابيا لا يفهم المعنى.

ثم يمكن ان يقال ان الروايات شاملة للمقام بالأولوية لأن رفع النزاع في

٥٣

الموضوع ربما يكون بالرجوع إلى شيخ القوم ولو لم يكن فقيها ومع ذلك يكون الإرجاع إلى الأفقه فكيف لا يقال به في رفع الاختلاف في الحكم الّذي لا بد من رفعه بالأفقهية فتحصل ان المترافعين في الشبهة الحكمية أيضا داخلان في الروايات فيجب تقليد الأعلم بمقتضاها.

وقد استدل للتخيير بين الأخذ بفتوى الأعلم وغيره بالروايات المطلقة مثل قوله فانهم حجتي عليكم وقوله عليه‌السلام اصمدا في دينكما على كل مسنّ في حبنا وكل كثير القدم في أمرنا وقوله عليه‌السلام ينظر ان من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا (١) وقوله عليه‌السلام من كان من الفقهاء صائنا لنفسه إلى قوله عليه‌السلام فللعوام ان يقلدوه (٢) وغير ذلك من الاخبار.

وتقريب الاستدلال هو انه مع بعد تساوى جميع رواة الأحاديث وأهل الفتوى ومع بعد اتفاقهم في النّظر والرواية يكون الأمر بالرجوع إليهم مطلقا ولا يكون فيها قيد الأعلمية بل لا بد ان تكون شاملة بإطلاقها للخبرين المتعارضين وإلّا فلا دليل على حجية المتعارضين فلو لا الإطلاق لا وجه للأمر بالتخيير بقوله عليه‌السلام اذن فتخير والأمر بالتخيير بعد كون مقتضى المدلول الالتزامي في كل واحد من المتعارضين تكذيب الآخر يكشف منه حجية المدلول المطابقي وسقوط الالتزامي في نظر الشرع عن الاعتبار فالدليل على أصل حجية المتعارضين هذه الإطلاقات والدليل على التخيير أمرهم عليهم‌السلام به في مقبولة عمر بن حنظلة.

ولو لا هذا الأمر كان مقتضى الأصل الأولى التكاذب والتساقط ولكن التكاذب ينشأ من إطلاق الدليلين لا ذاتهما فلذا يمكن الأمر بالتخيير وإلّا فما يحكم بمنعه

__________________

(١) أقول إن الروايات الثلاثة في الوسائل ج ١٨ باب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ٩ وح ٤٥ وح ١.

(٢) هذه الرواية في باب ١٠ من أبواب صفات القاضي عن أبي محمد العسكري عليه‌السلام ح ٢٠ والروايات الأخرى أيضا توجد في البابين فارجع إليهما.

٥٤

العقل من التساقط على فرض كون التكاذب في الذات لا يمكن التعبد من الشرع بالتخيير فيه فمن امره بالتخيير نفهم عدم التكاذب في الذات والرّأي مثل الرواية في صورة التكاذب ولا بد لنا من دليل خارج على التخيير بعد أصل الحجية بمقتضى هذه الإطلاقات غاية الأمر لا دليل لنا على التخيير في الفتوى لو لم يشمل الأمر بالتخيير في الروايتين بتنقيح المناط للفتويين.

ولذا قال به القائل من جهة الإجماع على عدم إهمال المكلف في صورة اختلاف المجتهدين فلا بد له من الأخذ بأحدهما من هذا الوجه ولكن الإجماع المحصل هنا ممنوع إلّا ان يقال ان حجية الرّأي تكون من باب الموضوعية وان كانت حجية الرواية من باب الطريقية فعليه يكون العقل حاكما بالتخيير لأن التكاذب يكون بالنسبة إلى الواقع لا بالنسبة إلى المصلحة في أصل الرّأي فيمكن القول بالتخيير عقلا.

وعلى الموضوعية قيل بعدم جواز البقاء على تقليد الميت لعدم الرّأي له فالإشكال يكون من جهة الطريقية ونحن حيث اخترنا ان الرّأي له جهة موضوعية وان لم تكن حجيته من باب الموضوعية المحضة بل له الطريقية من وجه والموضوعية من وجه آخر فيكون لنا القول بالتخيير عقلا ولكن حيث يكون البحث في التخيير في المسألة الأصولية لا الفرعية وتكون الحجية فيها بالأخذ ولا حجية قبله فيؤخذ برأي الأعلم لاحتمال تعيينه فهو حجة لا غيره.

ونمنع إطلاق الروايات من هذه الجهة لأن إطلاقها يشمل الحجية في كل واحد من الرأيين بالطبع لا في صورة انضمام جهة أخرى توجب تعيين الأعلم ولو سلم الإطلاق فالروايات السابقة الدالة على وجوب تقليد الأعلم مقيدة لها واما ما عن بعض الأعيان من عدم شمول هذه الروايات للرأي بل مصداقها نقل الروايات في الصدر الأول فممنوع كما مر لأن الرّأي بهذا النحو أيضا كان في ذلك الزمان لمثل زرارة ومحمد بن مسلم وأبان بن تغلب وغيرهم فلا وجه لمنع الإطلاق من هذا الوجه.

٥٥

ثم قد يستدل لجواز الرجوع إلى غير الأعلم بالسيرة من المتشرعين وعدم توقفهم في سؤال مسائلهم عن غيره وفيه ان الفطرة بعد ما تقضى من العامي بالرجوع إلى الأعلم يتفحص عنه ولا نجد سيرته على خلاف ذلك والمجتهد لا يكون مقلدا ليلاحظ السيرة بالنسبة إليه فهذا الدليل سخيف جدا في صورة العلم بالمخالفة بين الرأيين واما عدم الفحص في بعض الموارد فيكون من باب عدم العلم بالمخالفة بين الفتويين هذا كله في صورة العلم بالاختلاف مع العلم التفصيلي بالأعلم

وينبغي التنبيه على أمور

الأمر الأول في حكم صورة عدم العلم بالاختلاف تفصيلا ولها صور الصورة الأولى ان يكون مورد العلم الإجمالي بالاختلاف مع العلم الإجمالي بوجود الأعلم في ما بين العشرة من المجتهدين أو يكون الاختلاف فقط مورد العلم الإجمالي مع العلم بشخص الأعلم ففي هذه الصورة لا بد من القول بالتعيين أيضا بمقتضى الفطرة لأنه يدور الأمر بين الحجة واللاحجة فلا بد من الأخذ بفتوى الأعلم لأن فتوى غيره مشكوك الحجية والاشتغال اليقينيّ بالتكليف لا بد له من البراءة اليقينية وهكذا يكون مقتضى الدليل الاجتهادي من دوران الأمر بين التعيين والتخيير ولزوم الأخذ بالمعين وعليه فيجب الفحص عن الأعلم وعن فتواه ليظهر الحال من باب المقدمة العلمية وبعد اليأس عن وجدانه فلا بد من الأخذ بأحوط القولين.

ولا يقال انه من الممكن هنا التخيير بين الأخذ بأحوط القولين أو الفحص لوجدان الأعلم وفتواه لأنا نقول الأخذ بالأحوط يكون في صورة عدم إمكان وجدان ما هو التكليف في الواقع واما مع إمكانه فلا بد منه لأن الحجة هي رأي الأعلم والظن الخاصّ الّذي يحصل بالواقع من جهة رأيه هو الملاك لا أصل الظن وان كان من باب أحوط القولين.

ثم إذا تفحص ولم يجد الأعلم فهل هو مخير في الأخذ بأيهما شاء أو يجب الأخذ بالأحوط فيه خلاف والحق هو الأخذ بالأحوط لأنه متيقن الحجية وغيره

٥٦

ليس كذلك ولا يوجب براءة الذّمّة فتحصل ان الأخذ بفتوى الأعلم والفحص عنه واجب ولا تحصل البراءة بالعمل بفتوى غيره.

الصورة الثانية إذا شك في الاختلاف مع العلم بشخص الأعلم فقيل بالتخيير بين الأخذ بفتوى الأعلم وبين الأخذ بغيره ونحن تارة نبحث عن الدليل عند العامي وتارة عن الدليل عند المجتهد فنقول ان العامي بالفطرة في هذه الصورة أيضا يحكم بوجوب الأخذ بالأعلم لأن رأي غيره مشكوك الحجية عنده وكذلك الانسداد الصغير الّذي هو في ارتكازه من عدم كونه مهملا ولا بد له من الأخذ بأحدهما لوجوب البراءة اليقينية عما اشتغلت به ذمته وهي لا تحصل إلّا بالاخذ بفتوى الأعلم.

وقد قال الشيخ الأعظم الأنصاري قده بالتخيير في رسالته في الاجتهاد والتقليد وأظن انه لا يريد به التخيير بحكم الفطرة بل التخيير حسب الدليل الاجتهادي.

واما الأصل عند المجتهد فربما يقال انه التخيير في هذه الصورة والاستدلال عليه بوجوه الأول ان الدليل الدال على وجوب الرجوع إلى المجتهدين بإطلاقه يشمل الأعلم وغيره غاية الأمر انه خصص بصورة العلم بالمخالفة عقلا لا قربية فتواه إلى الواقع ولدوران الأمر بين الحجة واللاحجة ويكون الباقي تحت الإطلاق غيره وهو صورة العلم بالموافقة والشك في المخالفة.

فان قلت ان المقام يكون من الشبهة المصداقية للعام لأنه خصص بالمخالفة وفي صورة الشك لا نعلم المخالفة فيكون الشك في مصداقه ولا يجوز التمسك به في الشبهة المصداقية قلت انه يقول ان المخصص هنا لبي لأن العقل حكم بالتخصيص من باب الشك في حجية فتوى غيره في صورة العلم بالمخالفة والتمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصص اللبي لا إشكال فيه لأنه بنفسه متكفل لدفع الشك عن مورد الشك في المصداق لأنه دليل لفظي ومثبته حجة فنستكشف منه عدم المخالفة

٥٧

وقد احتمل جملة من الاعلام منهم صاحب الحدائق والجواهر بان دليل الحجية حيث يشمل بإطلاقه فتوى الأعلم وغيره يكون القول بحجية فتوى الأعلم فقط في صورة الشك في المخالفة موجبا لإسقاط حجية قول غير الأعلم بدون الدليل وهو ممنوع والجواب عن هذه المقالة هو ان الفطرة بعد قضائها بوجوب الرجوع إلى ما هو المتيقن الحجية في صورة العلم بالمخالفة وهكذا في صورة الشك فيها لا يكون لنا الحكم بالتخيير الا بعد إحراز عدم المخالفة فما لم يحرز فلا بد من الأخذ بفتوى الأعلم إلّا ان يتمسك في الإحراز بأصالة عدم المخالفة فيدور الأمر في المقام بين إنكار إطلاق أدلة حجية فتوى المجتهد وان كان هو المفضول وبين إحراز ان التخصيص في صورة العلم بالمخالفة لا غير وجريان أصالة عدم المخالفة في صورة الشك كما سيجيء.

وللشيخ الأعظم قده في المقام بيان لعدم وجوب الفحص من جهة عدم تعيين الرجوع إلى الأعلم بوجوه الأول ان الرجوع إليه إذا كان دليله أقربية فتواه إلى الواقع فهو يكون في صورة إحراز المخالفة ليمكن تصوير الأقرب والقريب فمع عدم إحرازها لا معنى للأقربية لأن الواحد الّذي ليس له ثان لا يصير وصفا في مقابل غيره وقد أجاب عنه بعض الأعيان قده بان المدار على الأقربية الواقعية ذاتا فلو فرض المخالفة في الواقع يكون فتوى الأعلم اقرب إليه وفيه ان هذا الكلام غير تام بهذا الوجه لأن الأقرب كما ذكره الشيخ لا بد له من قريب مخالف له ولكن ما يرد عليه هو ان العامي في نفسه إذا تدبر يرى انسداد باب العلم بالنسبة إليه في المسألة ولا يكون عليه العمل بالاحتياط فيرى العمل على طبق فتوى الأعلم حجة عند الإصابة وعذرا عند الخطاء فيعمل على طبقه لأنه لو عمل بفتوى غيره وظهر الخلاف في الواقع لا يكون معذورا لقصوره في الامتثال الوجه الثاني ان المطلقات في الرجوع إلى العارف بأحكامهم تكون شاملة

٥٨

للمقام وهكذا بناء العقلاء وقد خصص عن ذلك صورة العلم بمخالفة غير الأعلم معه في الفتوى لا صورة الشك فيه فهو مخير في الأخذ بأحدهم وفيه ان المدار يكون على واقع المخالفة لا المخالفة المعلومة فإذا خصص المطلق بمخصص وهو في المقام صورة المخالفة ولا نعلم انها متحققة ليكون المصداق مصداق المخصص أو غير متحققة ليكون المصداق مصداق المطلق أو العام فيكون من الشبهة المصداقية ولا يمكن التمسك بالعامّ أو المطلق فيها فيتمسك بأصالة عدم جواز الرجوع إلى غير الأعلم فيجب الفحص عنه وعن فتواه على فرض تسليم الإطلاق وإلّا فعدم التخيير واضح.

الوجه الثالث له قده هو ان الفحص يكون في صورة معرضية الدليل للمعارضة كالخبرين المتعارضين واما صورة عدم المعرضية كما في الفتويين فلا يجب وفيه ان الفتوى إذا كانت كالرواية في الطريقية إلى الواقع فتكون في معرض المعارضة فلا بد من الفحص ليؤخذ بما هو المعين كما يؤخذ بالرواية التي لها المرجح فان كان المراد ان العلم بالمخالفة هنا شرط وجوب الفحص فنقول قد مر الجواب عنه آنفا بان المدار على واقعها لا على العلم بها إلّا ان يكون الدليل لوجوب الرجوع إلى الأعلم هو الإجماع فالمتيقن منه صورة العلم بالمخالفة لا صورة الجهل بها.

الوجه الرابع هو ان بناء العقلاء على عدم الفحص في صورة الشك في المخالفة بين أهل الخبرة والوجه الخامس هو ان السيرة في المتشرعين أيضا عدم الفحص في هذه الصورة.

ويرد على الوجهين ان العقلاء والمتشرعين نراهم بالوجدان يتفحصون عن الأعلم من الخبراء إذا كان احتمال اختلاف النّظر بين آرائهم ألا ترى انهم في المراجعة إلى الطبيب كيف يتفحصون مع احتمال عقلائي لاختلاف النّظر في تشخيص المرض الكذائي فلا يتم أدلته قده ولا بد من الفحص ومع اليأس يجب الأخذ بأحوط الأقوال.

٥٩

الصورة الثالثة وهي مورد العلم بالاختلاف مع الشك في التفاضل والحق هنا أيضا وجوب الفحص لإحراز الأعلم والقول بالتخيير هنا شاذ حتى ان الشيخ الأعظم القائل به في الفرع السابق لا يقول به هنا واستدل القائل بالتخيير في الأخذ بأحد الفتاوى أولا بالبراءة للشك في وجوب الفحص وثانيا بان مقتضى الجمع بين روايات الرجوع إلى العارف بأحكامهم عليهم‌السلام وما دل على وجوب تقليد الأعلم هو القول بوجوبه في صورة العلم بالأعلمية لا صورة الشك فيها واما في صورة الشك فيؤخذ بإطلاقات التخيير ولا وجه لطرحها للعلم الإجمالي بحجية إحدى الفتاوى ولا سبيل إلى القول بتعيين الرجوع إلى المعين فلا بد من القول بالتخيير حفظا لإطلاق الدليل بعد عدم الوجه للتعيين.

وفيه ان الرجوع إلى المفضول يكون فيه الخطر ولا بد من إتيان الواقع بقدر الإمكان فيجب الفحص لأن فتوى الأعلم اقرب إلى الواقع ان أصاب ويكون عذرا عند الخطاء بخلاف فتوى غيره وهذا الحكم من المستقلات العقلية والحكم من الشرع في جميع موارد المقام يكون إرشادا إلى حكم العقل ففي المقام يجب الفحص حتى يظهر الأعلم ومع عدم ظهوره فلا بد من الأخذ بأحوط الأقوال ولا يقاس المقام بالخبرين المتعارضين من جهة الحكم بالتخيير فيهما لأن الحكم بالتخيير ابتداء فيهما يكون في صورة كون الحجية من باب الموضوعية واما على الطريقية فالأصل الأولى فيهما التساقط والأصل الثانوي هو التخيير بعد عدم المرجح لأحدهما لما ورد في الرواية في ذاك الباب الأمر بالتخيير بعد التساوي واما في المقام فليس لنا دليل على التخيير الا الإجماع والمتيقن منه صورة عدم العلم بالاختلاف في الفتوى لا صورة العلم به كما هو المفروض في هذه الصورة وقال الشيخ الأعظم بما حاصله هو ان القول بالتعيين هنا يدل عليه الأدلة الأربعة والمراد بها كما هو مذكور في كلامه هو الإجماع والأصل والروايات من المقبولة ونحوها وبناء العقلاء ويمكن الجواب عنه بان المتيقن من الإجماع على تعيين الأعلم

٦٠