مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٥

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي

مجمع الأفكار ومطرح الأنظار - ج ٥

المؤلف:

محمد علي الإسماعيل پور الشهرضائي


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٦٦

له واقع في الخارج بل واقعه هو درك العقل مثل درك الحسن والقبح والملائم والمنافر فان العقل مما يدرك الحسن بالنسبة إلى شيء والقبح بالنسبة إلى شيء آخر كما ان بعض الأشياء يكون في طبع شخص قبيحا أو حسنا ولو لم يكن في الخارج كذلك فليس في الخارج شيء حتى يقال ان حكم العقل لم يوافقه أو وافقه فلا يتصور التخطئة في هذا القسم من العقليات فلا يتم القول بالتخطئة مطلقا في العقليات فما قال الأصولي بأنه اتفقت الكلمة على التخطئة فيها غير وجيه.

ثم ان التصويب الّذي نسب إلى العامة في الشرعيات قد يستند بطلانه إلى الإجماع وقد يستند إلى حكم العقل.

فإذا عرفت ذلك فنقول التصويب على ثلاثة معان الأول ان يكون المراد هو ان ما ادى إليه ظن المجتهد هو حكم الله الواقعي فيكون حكمه تعالى تابعا لآراء المجتهدين وهذا على معنيين الأول ان يكون مراد العامة ان الله ليس له حكم أصلا.

وهذا مع قطع النّظر عن الدور مما لا يعقل فانه لو لم يكن الحكم لله تعالى

__________________

ـ الخارج فلا بحث فيه أصلا.

فان الظلم في ذائقة بعض الافراد الخارجة عن طبع الإنسان حسن وإكرام اليتيم في ذائقة بعضهم قبيح وبعض الافراد يحب اللحم وبعضهم يبغضه وهكذا وهذا مما لا ينكر انه في نفسه هو هو ولا تخطئة بحسب هذا اللحاظ وانما التخطئة بلحاظ الخارج.

وبعبارة أخرى مع فرض عدم ملاحظة الخارج فبعض الأشياء يكون في عالم الذهن والفرض مما لا خطاء فيه وهو ما في قوة الخيال من تصور أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد فان هذا الفرض من دون ملاحظة الخارج لا تخطئة فيه مما هو مخلوق النفس مخلوق لها ولا كلام فيه أصلا.

واما بالنسبة إلى الخارج فالأحكام العقلية والخيالية ربما تكون موافقة مع الواقع فالحكم صواب وربما تكون مخالفة معه فهو خطاء وحيث لا أثر عملي للحكم العقلي حتى يجيء فيه بحث الاجزاء في الامتثال قالوا بالتخطئة مطلقا يعنى لا وجه لحكمه من حيث هو في مقابل ما توهم في الشرعيات.

٢١

فلأيّ وجه يتفحص المجتهد فهل يكون طالبا للمعدوم فمن له أدنى مهجة يفهم بطلان هذا ولا يقول به ومن نسب إليه القول يكون له هذا القدر من العقل لئلا يقول بأمثال هذا النحو من الكلام.

الثاني ان يكون المراد هو ان الحكم يكون لله تعالى ولكن من مقتضيات جعله يكون ظن المجتهد ففي المثل يظن ان النار مما يوجب اضمحلال المضرات في ماء العنب فيظن انه لا ينجس بالغليان ويرى ان حكم الله تعالى أيضا موافق لهذا الظن الفاسد كما يرى ان كشف المرأة وجهها مما هو مقوّ للنظام الاجتماعي فيظن انه جائز أو يرى ان المقعد يطهر بزوال العين فيظن ان كل نجس زالت عينه يطهر فيحكم بطهارته بزوالها.

ويرى ان الشارع يحكم بذلك حسب الاستحسانات العقلية عنده كما ان بعض القاصرين من غير العامة يظن ان المصلحة تقتضي ان يكون ذبح عيد الأضحى في البلاد لينتفع الناس باللحوم لا ان يضيع بمنى فيظن ان الله يحكم بذلك لأنه حصل له الظن كما انه يكون نظير ذلك ما إذا جعل الشارع القطع جزء الموضوع لحكمه مثل ان يقول إذا علمت بنجاسة شيء فالصلاة فيه باطلة فحكم الشرع يكون بعد علم المكلف فعلمه جزء من مقتضيات الحكم.

وهذا يكون له وجه وان كان هذا الزعم فاسدا في نفسه فما قيل (١) من انه

__________________

(١) أقول ان الكلام في التصويب غير الكلام في بطلان القياس والاستحسان الّذي هو لازم مقالته مد ظله على الظاهر بل الظاهر من العامة هو ان المجتهد إذا اجتهد في امر يكون معذورا وهذا وان كان قول الخاصة أيضا ولكنهم جرّوه في حق مثل خالد بن وليد الّذي فعل ما هو خلاف النص والكتاب وهذا امر ينكره الشيعة مع ما يرد على أصل اجتهاد مثل خالد وأمرائه. فالشيعة بعد الفحص التام يقول بمعذورية المجتهد إذا أخطأ والعامة بعضهم تمسكوا بعنوان الاجتهاد في كل ما فعله المجتهد فان شئت توضيحا للحال فارجع إلى كتاب الغدير ج ٧ تأليف العلامة المجاهد ـ

٢٢

يلزم من القول بالتصويب في هذا القسم الدور يلزم ان يكون في هذه الصورة.

ولكن لا يتم الإشكال بالدور فيه أيضا لأن تقريب الدور هو ان يقال ان حكم الله تابع لرأي المجتهد ورأيه تابع لحكم الله تعالى وهو دور ووجه الرد هو ان ظن المجتهد لا يتوقف على الحكم الواقعي بل يدور مدار مقدماته التي توجب الظن من صقع نفسه كما ان زعم وجود الحية يوجب الفرار عما تصوره حية ولو لم يكن في الخارج الا حبل ممدود فلا يلزم من هذا النحو من التصويب الدور المحال فلا إشكال عقلا فيه.

ولكن لا دليل على حجية هذا الظن فان الظن لا يغنى من الحق شيئا الا الظنون الخاصة التي قام الدليل على حجيتها كالظن الحاصل من الأمارات فانه إذا أخذ بنحو جزء الموضوع مثل العلم الّذي يكون جزء الموضوع في قولنا إذا علمت بغصبية شيء فهو حرام لا دليل عليه كما مر وان أخذ بنحو الطريقية إلى الواقع فهذا مع انه لا دليل عليه ربما يصيب في الواقع إلى الواقع وربما لا يصيب وهذا هو معنى التخطئة.

القسم الثاني من التصويب هو ان يكون المراد منه الالتزام بإنشاء أحكام في الواقع بعدد آراء المجتهدين فيكون ما ادى إليه الاجتهاد في الظاهر هو الحكم في الواقع بمعنى إيجاد مصلحة لحكم الشارع على طبق المظنون حين ظن المجتهد فيكون بنحو القضية الحينية ومن توارد الحكمين على موضوع واحد الواقعي والظاهري وهذا لا يلزم منه الدور على فرض تسليمه في القسم الأول ان الواقع لا يتوقف على هذا الحكم ولا يتوقف هذا على الواقع وان كان الحق عدم لزوم الدور

__________________

ـ في هذا الطريق الأميني قده في شرح حال خالد وغيره.

واما الإشكال على الدور فيكون من الخروج عن الفرض لأن الفرض عدم وجود واقع الا هذا الظن فكيف يمكن ان يكون الظن والمظنون والعلة والمعلول واحدا وما ينفك عنه الظن ولا يلزم الدور منه هو الواقع النّفس الأمري فتدبر فيه فان التذييل لا يناسب أزيد من هذا البيان.

٢٣

في القسمين كما مر.

واما إشكال الفحص عن المعدوم فائضا غير وارد لأن المتفحص يكون فحصه عن مقتضيات الحكم الظاهري الّذي يلزم منه حكم الشرع واقعا.

ولكن الإشكال فيه هو كونه خلاف الإجماع لعدم الدليل على ان الحكم الواقعي في مقام حكم المجتهد هو ما حكم به فان الظن بالحكم ببعض الملاكات لا يلزم منه وجود حكم الله في الواقع.

والقسم الثالث من التصويب هو ما ذكره المحقق الخراسانيّ قده وتبعه بعض تلامذته وهو انه قده يكون مبناه في جعل الأحكام هو وجود المراتب له : مرتبة المصلحة ومرتبة الإنشاء ومرتبة الفعلية ومرتبة التنجيز فعلى هذا القول الحكم الّذي يشترك فيه العالم والجاهل هو الإنشائي واما في مقام الفعلية فليس الحكم الا ما ادى إليه رأي المجتهد ففي هذا المقام يكون التصويب وليس الحكم الا هذا وفي مقام الإنشاء ربما يحصل الخطاء للمجتهد فلا يطابق رأيه مع الواقع.

وهذا مما لا محذور فيه بل على فرض حجية الأمارات من باب السببية والموضوعية لا بد من الالتزام به فهذا في الواقع يكون القول بالفصل وهو التخطئة من جهة والتصويب من جهة ، التخطئة في الإنشاء والتصويب في الفعلية هذا حاصل كلامه رفع مقامه.

ولكن يرد عليه ان المبنى في جعل الأحكام فاسد بل للحكم مرتبة واحدة وهي مرتبة الفعلية كما حررناه في محله واما حجية الأمارات فتكون من باب الطريقية أيضا كما حرر في محله فان أصابت الواقع فهو وإلّا فالمكلف معذور لسلوكه ما جعله الشارع طريقا إلى الواقع ولم يصل إليه.

واما ما صار سببا لمقالته قده من ان للحكم مراتب فهو امران الأول هو ان فعلية الحكم بفعلية الموضوع في الخارج كما عليه شيخنا النائيني أيضا والثاني ان الحكم الفعلي هو الّذي يوجب البعث والتحريك فما لا بعث فيه لا يكون حكما فعليا ومن الشواهد

٢٤

على وجود الأحكام الإنشائية في الشرع الأنور هو انه جعل البراءة بالنسبة إلى من لا يعلم الحكم فلو كان للحكم مرتبة واحدة فلا بد ان يكون المجعول هو الاحتياط فمن جعل البراءة نفهم ان وجود الحكم في مرتبة الإنشاء والجعل غير وجوده في مرتبة الفعلية وهي مرتبة وصوله بالطرق المجعولة إلى المكلف الّذي يكون في الخارج ولا يكون الحكم فعليا إلّا بصيرورته مكلفا وخروجه عن حالة الصباوة إلى حالة البلوغ.

فان قلت عليه ان هذا لا يوجب القول بالتصويب لأن ظن المجتهد بالاخرة يكون طريقا إلى الحكم الإنشائي من الشرع قلت له قده ان يقول ان ظن المجتهد يكون تمام الموضوع لفعلية الحكم وان كان طريقا بحيث لو لم يحصل هذا الظن بالحكم الإنشائي لا تحصل الفعلية هذا حاصل مرامه قده.

ولكن يمكن الجواب عنه بان فعلية الحكم ليس بفعلية الموضوع بل الحكم فعلى من أول الأمر بالنسبة إلى الموضوع على فرض وجوده مثل ما إذا قال المولى ان رزقت ولدا فاختنه فان الختان محبوب عنده على فرض وجود الولد ولا حالة منتظرة له واما جعل البراءة فليس كاشفا عن إنشائية الحكم بل الشارع بمقدار حبه لحفظ واقعه يحفظه.

فربما لا يكون حبه إليه إلّا بان يبينه بواسطة إنزال الكتب وإرسال الرسل وعلى فرض عدم المشافهة بواسطة جعل الحكم لقبول خبر العادل وان كان الدسّ في الاخبار أيضا ربما يوجب عدم وصوله واقعا إلى المكلف وعلى فرض عدم الوصول بأي طريق كان يجعل البراءة بقوله رفع ما لا يعلمون وليس له عشق بالنسبة إلى المطلوب أزيد من هذا المقدار.

وربما يكون حبه إلى الواقع بمقدار لا يحب فوته بأيّ وجه كان فيجعل الاحتياط إذا لم يصل الحكم بالطرق المجعولة كما في جعله في باب الفروج والدماء فليست البراءة كاشفة عن وجود الحكم الإنشائي واما التحريك والبعث فهو لا يكون

٢٥

لازم الحكم بحيث لا ينفك عنه بل الحكم مع العلم به وتهية مقدمات امتثاله يوجب التحريك.

ألا ترى ان الصلاة بعد دخول الوقت يكون فعليا على مبناه قده أيضا ولا يحصل التحريك الا بعد تحصيل الطهارة عن الحدث والخبث وغيرها من المقدمات فالتحريك خارج عن حاق فعلية الحكم ومن المقدمات هو العلم بالحكم فانه لو لم يحصل العلم لا يحصل التحريك.

ثم على فرض تسليم جميع ما ذكر لا يكون لازم هذا القول الحكم بالتصويب لعدم كون حكم الله تابعا لرأي المجتهد وإلّا يلزم ان لا يحتاج العمل إلى الإعادة بعد ظهور الخلاف في الأمارات هذا كله على مسلك الطريقية في الأمارات.

واما على الموضوعية فلا بد من ملاحظة أنحاء الموضوعية في الأمارات ليلاحظ مع المقام فان الموضوعية على أنحاء ثلاثة الأول ما عليه الأشاعرة من انه لا مصلحة للواقع أصلا ولكن عند قيام الأمارة يحصل مصلحة في مؤداها فيجب العمل بها وهذا هو التصويب المحال في المقام إلّا انه مختص بباب الأمارات.

الثاني هو ان يكون للواقع مصلحة أيضا في مقابل مؤدى الأمارة ولكن تكون مصلحة العمل بالأمارة غالبة وهذا لا يلزم منه محذور الدور كما في القسم الأول على ما قيل لعدم كون الواقع دائرا مدار قيام هذه الأمارة ولكن يكون خلاف ظاهر دليل حجية الأمارة لأن الظاهر منه هو حجيتها من باب الطريقية.

الثالث ان تكون المصلحة في التسلك بالأمارة بدون حصول مصلحة في مؤداها أصلا ففي تصديق قول العادل مصلحة لا في مؤدى قوله وهذا القسم لا محذور فيه أصلا لا عقلا ولا نقلا ولا يكون هو قول المتكلم بل يكون قول بعض علمائنا في باب الأمارات.

فصل في تبدل رأي المجتهد

أقول تبدل رأي المجتهد اما ان يكون بصرف احتمال تبدله واما ان يكون

٢٦

بواسطة القطع بالخطإ أو وجدان أمارة مخالفة لاجتهاده السابق كوجدان الخاصّ بعد العام والمقيد بعد المطلق.

فعلى الأول فيكون البحث في انه هل يجوز البقاء على الاجتهاد السابق أم لا بد من الاجتهاد ثانيا فان من اجتهد في أيام شبابه ثم صار كلامه في القواعد الممهدة في الفقه والأصول ثم احتمل انه ان اجتهد في المسائل الماضية يتبدل رأيه فهل يجب عليه أم لا؟ فربما نسب إلى الشيخ الأعظم الأنصاري قده انه لا بد في كل مسألة من استحضار الدليل وهذا امر صعب جدا وتكون السيرة على خلافه.

ثم على فرض الشك في صحة العمل بالرأي وعدمها فهل له استصحاب الرّأي السابق كما ان المقلد إذا شك في بقاء رأي مجتهده يستصحبه أم لا؟ فيه خلاف والحق عندنا عدم جريان الاستصحاب (١) لا في صورة شك المقلد في بقاء رأي مجتهده ولا في صورة شك المجتهد في بقاء رأيه بل لا بد من الفحص.

والسر في ذلك هو ان الاستصحاب لا بد له من أثر شرعي ليصح التعبد به

__________________

(١) لا يبعد صحة الاستصحاب في المقام لأن وجوب اتباع الرّأي ممن له الرأي مما قد تصرف فيه الشارع في الجملة وليس حكما عقليا عقلائيا محضا ولذا يشترط العدالة في المجتهد الّذي يجوز تقليده وهكذا الذكورة وغيرها من الشروط.

كما ان استصحاب اجتهاد المجتهد أيضا كذلك فان الشارع قد تصرف فيه بحيث يكون قابلا لأن يكون الحكم بجواز الرجوع من الأحكام الشرعية فيكون رأي المجتهد واجتهاده من الموضوعات التي يكون حكمها الشرعي هو جواز الرجوع إليه كما ان استصحاب العدالة يترتب عليه جواز الاقتداء فللشارع ان يتعبد ببقاء الرأي والاجتهاد لترتيب هذا الأثر وان كان هذا الحكم منه موافقا لما هو دأب العقلاء والحاصل لو لم يكن بيان الشرع من أين يصل عقل العرف بان تقليد المجتهد واجب بل بعد حكم الشرع ربما يعصى ولا يرجع وليس امر الدين عنده مثل ما يعقله من امر الدنيا والرجوع إلى الخبراء فيما هو صلاح هذا العالم الجسماني الّذي يدرك نواقصه حسب طبعه الحيواني.

٢٧

وترتب جواز التقليد لمن له الرّأي يكون من الآثار العقلية لوجوده وكذا العمل بما فهمه المجتهد واستنبطه من الدليل وصار رأيا له يكون من الآثار العقلية لوجوده فان العالم بالحكم لا يرجع إلى الجاهل عقلا فلا يصح التعبد بما يحكم العقل به بعد جواز العمل بالرأي وبعد جواز تقليد من له الرّأي حسب أدلة التقليد بعد كونها إرشادا إلى ما حكم به العقل والعقلاء هذا في استصحاب الرّأي.

واما استصحاب الحكم مثل وجوب شيء وحرمة آخر فانه أيضا غير جار على فرض كون وجود الرّأي جهة تقييدية لجواز العمل به أو لجواز التقليد أي يكون جوازهما في الحكم الفلاني مقيدا بوجود الرّأي فعلا فحيث لا يكون الرّأي محرزا لا يكون الحكم المقيد بالرأي محرزا بعد عدم إحراز جزئه الآخر.

نعم على فرض كون الرّأي طريقا لنفوذ الحكم إذا نشأ عنه وجهة تعليلية لا تقييدية يمكن استصحاب الحكم ولو لم يحرز الرّأي فعلا فان علة نفوذ الحكم هي كونه عن رأي مجتهد ولو لم يحرز فعلا والحاصل حيث نحتمل ان يكون الواقع منجزا من قبل الرأي وكونه قيدا له فيكون من الشبهة المصداقية لقوله عليه‌السلام لا تنقض اليقين بالشك بل انقضه بيقين آخر وعلى هذا فالبقاء على تقليد الميت مشكل لعدم فعلية رأيه.

ولا بد من القول بالتساقط على فرض التعارض بين رأيي المجتهدين إذا كان كالأمارة طريقا إلى تنجيز الواقع مع عدم قولهم به فانهم يقولون بالتخيير بين العمل بأحدهما وكيف كان فالحكم بعدم وجوب الاجتهاد ثانيا مشكل ولكن السيرة على خلافه وما نسب إلى الشيخ الأعظم من وجوب تجديد الاستنباط يكون من باب الاحتياط هذا حكم احتمال التبدل.

واما إذا علم التبدل فالبحث فيه في جهات الجهة الأولى فيما إذا كان ظهور الخلاف بالعلم الوجداني وحصول القطع به وعليه لا شبهة في وجوب إعادة العمل السابق بمقتضى القاعدة الأولية وسيجيء البحث عن القاعدة الثانوية لأن المأمور به لم يؤت به على وجهه فلا يجزى وعلى فرض الشك في الاجزاء فاستصحاب التكليف جار بلا كلام.

٢٨

وهكذا قاعدة الاشتغال حاكمة بذلك من غير فرق بين كون المستصحب هو الحكم الفعلي أو الحكم الإنشائي فان قلت الحكم الإنشائي في السابق لم يكن له الأثر على فرض تسليمه فكيف يؤثر في الحين قلت الاستصحاب جار بلحاظ الأثر بقاء فانه وان لم يكن له أثر بالنسبة إلى السابق ولكن بالنسبة إلى القضاء أو الإعادة يكون له الأثر.

والحاصل بعد كشف الملاك بواسطة الخطاب وعدم الخروج عن عهدته يلزم الخروج عنها بالقضاء أو الإعادة هذا بالنسبة إلى الأعمال السابقة واما الأعمال اللاحقة فلا كلام في وجوب كونها على طبق الدليل اللاحق.

الجهة الثانية فيما إذا كان كشف الخلاف بواسطة وجدان أمارة على خلاف ما وجده من الأمارة السابقة وهو اما ان يكون بتبدل الظهور مثل تبدل رأى من لا يرى البئر من العواصم إلى كونه عاصما بواسطة ملاحظته رواية إسماعيل بن بزيع من قوله عليه‌السلام ماء البئر واسع لا يفسده شيء لأن له المادة بعد عدم استظهاره كذلك قبله لما رأى من استظهار العلامة ذلك من الرواية خلافا لمن سبقه واما ان يكون بوجدان الخاصّ بعد العام واما ان يكون بوجدان معارض أقوى والحق عدم الاجزاء ووجوب إعادة العمل أو قضائه مطلقا.

اما في انقلاب الظهور فلان المتبع عند العقلاء هو الظهور الفعلي للكلام وعدم حجية ما سقط عن الظهور عندهم فعليه تكون الذّمّة مشغولة بما هو الواقع وهكذا الجمع بين العام والخاصّ والمطلق والمقيد وتقديم ما هو الأقوى عند التعارض فان ذلك كله يكون هو المتفاهم العرفي من الكلمات فالعمل على غير هذا الوجه عن جهل واشتباه لا يوجب الاجزاء لعدم مطابقة المأتي به مع المأمور به فالاشتغال بالتكليف السابق حاكم بعد كشف الخلاف.

فان قلت الأمارة التي كانت حجة وقد ظهر خلافها لا تخلو اما ان يكون المبنى فيها الطريقية أو الموضوعية أو يقال بالمصلحة السلوكية فعلى فرض الطريقية فمصلحة التسهيل كانت مانعة عن جعل الشارع الاحتياط في ظرفها وعلى الموضوعية

٢٩

فتكون المصلحة في نفس المؤدى وعلى المصلحة السلوكية تكون المصلحة في السلوك.

فعلى جميع التقادير نحتمل تكافؤ تلك المصلحة مع مصلحة الواقع الّذي ظهر خلافه فكيف يحكم بالاشتغال بعد ظهور الخلاف قلت المصلحة على الطريقية لا تكون في المؤدى لظهور خلافه على ما هو المفروض ومصلحة التسهيل يكون الأصل هو عدم تكافئها مع الواقع واما المصلحة على الموضوعية أو على نحو السلوكية فيمكن الالتزام بها ما دام عدم سقوط الأمارة واما مع سقوطها عن الحجية فمن أين يثبت مكافئتها مع مصلحة الواقع والحاصل كل تلك المصالح لا يكافئ مصلحة الواقع فلا بد من القول بعدم الاجزاء.

فان قلت ان كشف الخلاف بالأمارة لا يوجب القطع بمخالفة الأمارة السابقة مع الواقع وهكذا الأمارة المخالفة مع السابقة لا تكون موافقتها مع الواقع محرزة فلا فرق بين الأمارتين في الحجية وترتيب الأثر فأثر الأمارة السابقة اجزاء العمل السابق وأثر هذه الأمارة اجزاء موافقة العمل معها فعلا.

قلت بناء العقلاء على اتباع الظهورات مع كون الأمارة كاشفة عن الواقع فإذا ثبت سقوط أصالة الصدور أو الجهة أو الدلالة في الأمارة السابقة لا حجية لظهورها ولا كاشفية لها عن الواقع والأمارة المخالفة معها اللاحقة تكون واجبة الاتباع فعلا وكاشفة عن الواقع فإذا كان كذلك فلا فرق عندهم في ذلك بين هذا الزمان والزمان السابق فهي فعلا تحكم بعدم مطابقة المأتي به مع المأمور به فيجب القضاء أو الإعادة.

فان قلت إطلاق حجية الأمارة هو كونها حجة بالنسبة إلى صورة ظهور الخلاف أيضا وليست حجيتها مختصة بزمان دون زمان فالعمل على طبقها مجز اما بملاك تفويت مصلحة الواقع على فرض كون الموافق معه الثانية أو بملاك الوفاء بمصلحة الواقع إذا لم يكن كذلك واقعا فلا إعادة ولا قضاء.

٣٠

قلت ان الأمارة مفادها حجية ما أدت إليه وليس مفادها عدم حجية غيرها من الأمارات فمع كون الأحكام الواقعية مشتركة بين العالم والجاهل وظهور خلاف الأمارة السابقة وحجية هذه الأمارة فعلا لا وجه للقول بإطلاق حجية السابقة لعدم نفيها مفاد ما هو الحجية فعلا حتى بالنسبة إلى السابق وتنجيز مفاد السابقة قبل كشف الخلاف لا ينافى القول بوجوب القضاء أو الإعادة.

الجهة الثالثة في كشف خلاف الحكم الموافق للأصل المحرز كالاستصحاب أو غيره كالبراءة بواسطة وجدان أمارة مخالفة معه والحق هو وجوب القضاء أو الإعادة أيضا لأن الأصل وظيفة قررت للشاك والعمل على طبقه لا ينافى وجوب الإتيان ثانيا بعد كون التكليف مشتركا بين العالم والجاهل وعدم إتيان المأمور به على نحو ما أدت إليه الأمارة.

هذا حاصل ما اقتضته القاعدة الأولية في كشف خلاف الاجتهاد السابق وهو وجوب القضاء أو الإعادة.

في مقتضى القاعدة الثانوية في تبدل الرّأي

ثم ان بعض الأحكام مثل الصلاة يكون له قاعدة ثانوية لعدم وجوب الإعادة كما ورد من قوله عليه‌السلام لا تعاد الصلاة الا من خمسة (١) الحديث والخمس المستثنى مما لا خلاف فيه واما غيره فيكون مشمولا للحديث الشريف بعد ظهور الخلاف فان الحديث يشمل الجاهل بالموضوع والناسي للحكم والموضوع والجاهل البسيط بالحكم إذا كان جهله مع السند كما في المقام فان الشروع في الصلاة مع إحراز الاجزاء والشرائط تعبدا بالطرق المعتبرة لازمه عدم وجوب الإعادة وان كان المكلف جاهلا في الواقع ببعض الاجزاء واما الجاهل بالجهل البسيط إذا لم يكن عمله على طبق الطرق المعتبرة فيكون الحديث منصرفا عنه وكيف كان فلا إشكال في شمول الحديث للمقام.

وقد ادعى الإجماع على الاجزاء في العبادات مطلقا وقد يتمسك بالبراءة في

__________________

(١) في الوسائل باب ١٠ من أبواب الركوع ح ٥.

٣١

مورد عدم جريان استصحاب التكليف فانها حاكمة على الاشتغال وان كانت محكومة للاستصحاب.

وقد يستدل على عدم وجوب الإعادة بنفي الحرج والعسر في الشريعة المقدسة فإعادة المجتهد عمل نفسه حرج عليه والفتوى بها أيضا حرج على المقلدين وفيه أولا ان القضاء والإعادة ربما لا يلزم منهما الحرج والعسر لأن الأمارة السابقة أو غيرها ربما كان مفادها في السابق جزئية شيء أو شرطيته ويكون مفاد ما وجدناه من الدليل عدمها فلا يوجب وجدان المخالف القضاء أو الإعادة كما انه إذا كان الرّأي المسابق عدم كفاية العقد بالفارسية ورأيه الجديد هو الكفاية فان هذا النحو من كشف الخلاف لا يوجبهما فيما هو كذلك أو كان رأيه السابق وجوب الاحتياط ورأيه اللاحق عدم وجوبه وهكذا.

وثانيا ان موارد الابتلاء بالإعادة أو القضاء قليلة فان جميع الأحكام المستنبطة لا يكون مورد الابتلاء في العمل ليلزم العسر والحرج بها.

وثالثا ان الحرج الشخصي ربما يكون بالنسبة إلى شخص ولا يكون بالنسبة إلى شخص آخر فيدور مدار مورده ولا يمكن ان يقال بعدم وجوب الإعادة لكل مكلف وفي كل مورد من الموارد فان إعادة مقدار من الصلاة ربما لا يكون حرجا بالنسبة إلى بعض الأشخاص وربما يكون حرجا بالنسبة إلى البعض الآخر.

نعم في بعض الموارد يكون الحرج النوعيّ ملاكا لرفع الحكم في نظر الشرع مثل حكمه بطهارة الحديد من باب لزوم العسر والحرج للنوع من الحكم بنجاسته.

ورابعا ان تبدل رأي المجتهد في مثل الصلاة في الوقت نادر جدا فبالنسبة إلى الإعادة لا يلزم العسر والحرج واما القضاء فيمكن ان يقال مقتضى الدليل الدال عليه وهو ما ورد من قوله عليه‌السلام فاقضه كما هو أو الدليل الاصطيادي اقض ما فات كما فات فيمكن ادعاء عدم شموله لمثل صورة وجود الدليل للمكلف وتطبيق العمل

٣٢

على وفقه لعدم صدق الفوت فلا يجب القضاء خارج الوقت.

في التفصيل في حكم تبدل الرّأي

ثم هنا تفصيلات منها ما هو الشهور من الفرق بين كون السند في الاجتهاد السابق الأمارة على الموضوعية أو هي على الطريقية فعلى الموضوعية يجزى العمل السابق ولا إعادة ولا قضاء وعلى الطريقية فيجب القضاء والإعادة وهذا من جهة زعم ان المصلحة في الأمارة على الموضوعية تكافي مصلحة الواقع واما على الطريقية فلا مصلحة الا في الواقع وحيث لم تصب الأمارة معه فلا يجزى.

ولكنه مر ما فيه من عدم إحراز التكافؤ في المصلحة وعلى فرض الشك في ذلك فالأصل هو بقاء التكليف والاشتغال به.

ومنها ما عن المحقق الخراسانيّ قده وهو مؤسسه من ان السند للاجتهاد السابق ان كان الأمارة فحيث ظهر خلافها فلا يجزى العمل على طبقها واما ان كان السند هو الأصل مثل الاستصحاب أو البراءة فيجزي العمل السابق ولا إعادة ولذا يقول بعدم وجوب إعادة الصلاة التي ورد فيها تمسكا بقاعدة الطهارة أو استصحابها بعد ظهور خلافها خلافا للقوم.

والسر في ذلك هو ان الاستصحاب عنده يكون معناه جعل حكم مماثل للواقع في ظرفه فكأنّ فردا من الطهارة مجعول في ظرف استصحابها وهذا لا كشف خلاف له لأن الواقع كشف خلافه واما الفرد الجعلي الّذي هو مثله فلا كشف خلاف له أصلا فكما ان أمد الحكم بالتيمم ينتهى بواسطة رفع العذر كذلك ينتهى أمد هذه الطهارة بوجدان ما يخالفها.

واما القاعدة والبراءة الشرعية فهي وظيفة قررت للشاك والوظيفة لا كشف خلاف لها بل ينتهى أمدها بواسطة وجدان الحاكم عليها واما البراءة العقلية فليس حكمها ذلك من جهة عدم كون العقل مشرعا وما حكم به من جهة قبح العقاب بلا بيان

٣٣

قد ظهر خلافه بالبيان من الشرع على الفرض ولما ذكرنا يكون المجوز لدخول الصلاة هو استصحاب الطهارة أو البراءة في الشبهات البدوية مثل الشبهة في طهارة البدن أو اللباس أو نجاسته فلو لم تكن الطهارة المماثلة للواقع أو ما هو الوظيفة حاصلة فلما ذا يدخل في الصلاة : هذا حاصل كلامه في التفصيل.

ويرد عليه أولا ان المبنى في الاستصحاب باطل لأن جعل المماثل لا معنى له بل الحق هو تنزيل الشك فيه منزلة اليقين فالشاك في الواقع يكون كالمتيقن ويكون المدار على الواقع فهو مثل العلم فربما يكشف خلافه وربما يقوم مقام العلم الجزء الموضوعي من جهة كونه علما تعبديا وإلّا فلما ذا يقدم على البراءة.

فانه ان كان في مقام بيان الوظيفة فقط يلزم ان لا يقدم عليها لأنهما وظيفتان قررتا للشاك على فرضه قده وهكذا البراءة ليس معناها جعل حكم في مقابل الواقع بل هي حكم الشاك فان وافقت الواقع فهو وإلّا فلا بد من إتيان الواقع قضاء أو إعادة.

ولا يتوهم ان رفع الجزء أو الشرط بواسطة شمول حديث الرفع يكون معناه وجوب البقية لا هذا الجزء أو الشرط بواسطة شمول الرفع له بل معنى البراءة هو ان هذا الجزء أو الشرط غير واجب ظاهرا واما البقية فهي واجبة بنفس التكليف المنبسط على الاجزاء والشرائط فإذا ظهر ان الواقع لم يكن كذلك فلا بد من إتيان ما لم يوافقه فيكون معنى الرفع هو ان غير المرفوع واجب كما إذا قال المسافر للحمال احمل غير هذا الصندوق ، يعنى هذا لا يجب رفعه وحمله وغيره واجب بنفس هذا الأمر.

ومثلها قاعدة الطهارة والحلية فان الخلاف إذا كشف يجب القضاء أو الإعادة إذا كان الدخول في الصلاة بواسطة جريانهما في الثوب والبدن.

فان قلت انهما ليستا محرزتين بل هما وظيفتا الشاك قلت ليس كذلك بل هما أيضا جعلتا لحفظ الواقع ولهما أيضا نحو طريقية لحفظه فتحصل انه لا وجه لتفصيل المحقق الخراسانيّ قده بين ما كان سند الرّأي السابق أصلا أو أمارة.

٣٤

ومن التفاصيل تفصيل صاحب الفصول قده بين الموضوعات والأحكام بقوله بالاجزاء في الأولى دون الثانية بتوهم ان الموضوع الواحد لا يتحمل اجتهادين فمن رأي حرمة العصير العنبي ونجاسته إذا غلى بالنار ثم تبدل رأيه إلى ان مطلق الغليان بالنار أو بالهواء أو بالشمس موجب لذلك يجب عليه العمل على طبق الرّأي الثاني.

ومن بنى على طهارة العرق من الجنب بالحرام ثم تبدل رأيه فرأى نجاسته فان هذا وأمثاله من الموضوعات التي قد تبدل رأيه في حكمها واما الأحكام فيمكن تعدد الحكم بلحاظ الحالتين.

ولكن يرد عليه بان الحق واحد فيهما فإذا اشتبه في طريق الوصول إليه فلا بد من القول بعدم الاجزاء.

في وجوب إعلام المجتهد اضمحلال رأيه لمقلده

ثم ان المجتهد إذا اضمحل رأيه بالنسيان فهل يجب عليه إعلام مقلديه أو يكفى عمل المقلد على طبق الرّأي السابق له ما لم يظهر خلافه فيه خلاف فربما يقال انه مثل البقاء على تقليد الميت فكما انه جائز فكذلك هذا فان موت المجتهد يكون مثل اضمحلال رأيه.

ولكن يرد عليه ان البقاء على فرض جواز تقليد الميت يكون من باب ان الاجتهاد والرّأي قائمان بنفس المجتهد وهي لا تفنى بفناء البدن بل هي باقية ورأيها كذلك.

واما اضمحلال الرّأي فليس كذلك فالمجتهد الحي الناسي لما علمه أسوأ حالا من الميت من هذه الجهة ولذا نسب إلى بعض الاعلام من المجتهدين انه ارجع مقلديه إلى غيره لعروض النسيان له في أواخر عمره.

والتحقيق في المقام هو ان وجوب الاعلام وعدمه يدور مدار كون المقام من

٣٥

الشبهات (١) الموضوعية فلا يجب الاعلام كما لا يجب الفحص فيها أو من الشبهات الحكمية فيجب الاعلام كما يجب الفحص فيها.

ووجه كون الشبهة موضوعية هو ان المقلد إذا كان مقلدا لمجتهد يرى جواز استصحاب بقاء الرّأي لمقلده إذا شك في بقائه ففي المقام كلما شك المقلد في بقائه يستصحبه وحيث ان الاستصحاب حجة في حقه ويكون عمله مطابقا له ولا يكون عمله باطلا في نظره وان كان باطلا بنظر المجتهد فلا يجب عليه إعلامه كما ان مستصحب الطهارة إذا كان مشغولا بالصلاة مع علمنا بنجاسة ثوبه أو عدم صحة وضوئه لا يجب علينا الاعلام لأن عمله صحيح عنده وعدم كونه صحيحا عندنا لا يضر به والمقام كذلك فلا يجب على المجتهد الاعلام.

واما وجه كون الشبهة حكمية فهو ان المقلد إذا كان رأي مجتهده عدم جواز استصحاب الرّأي لما مر من شبهة كونه من الأصل المثبت فلا يكون له الاستصحاب فيكون المقلد جاهلا بالحكم فيجب على مجتهده إعلامه لأنه حينئذ لا حجة له بنظر المجتهد وحيث ان استصحاب بقاء الرأي لا يجري عندنا لما مر فيجب على المجتهد الاعلام.

ثم انه لا فرق بين المجتهد والمقلد من جهة الحكم بالإعادة أو القضاء وعدمه إذا تبدل رأي المجتهد وسره واضح لأن المجتهد كما ظهر له عدم صحة فتواه لنفسه ولمقلده يظهر للمقلد أيضا عدم السند لعلمه وعدم مطابقته للحكم في

__________________

(١) أقول ان استصحاب الرّأي سواء جرى في حق المقلد كما هو الحق أو لم يجر لا يكون هذا الحكم دائرا مداره لأن المقلد جاهل بالحكم في نظر المجتهد لأنه لا يعلم الحكم في الواقع وقد توهم وجود الحكم في حقه وهذا التوهم فاسد بنظر مجتهده.

فكما ان المقلد عند الشك في شيء لا يكون جريان البراءة في حقه ويجب على المجتهد إعلامه بالحكم من باب وجوب بيان الأحكام فكذلك في المقام يجب عليه بيان الحكم ونظيره ما يقال بوجوب إعلام من نقل المسألة اشتباها للعامي لرفع الاشتباه.

٣٦

الواقع نعم التفصيل الّذي أبدعه المحقق الخراسانيّ قده من ان سند الحكم ان كان أصلا من الأصول فلا تجب الإعادة والقضاء وان كان أمارة من الأمارات فتجب يأتي بالنسبة إلى المقلد أيضا على فرض صحته لأن وظيفته لم تتغير إذا كان سنده الأصل وما يكون له الخلاف على هذا التفصيل هو الأمارة.

ولا وجه لما قيل من ان رأي المجتهد أمارة دائما لمقلده لأن الرّأي طريق تارة إلى ما أدت إليه الأمارة وتارة إلى ما ادى إليه الأصل الّذي هو وظيفة للشاك هذا تمام الكلام في مباحث الاجتهاد.

فصل في مباحث التقليد

والبحث فيه في فصول : الفصل الأول في معناه لغة واصطلاحا اما في اللغة فهو جعل القلادة على العنق والمقلد حيث يجعل قلادة إطاعة المجتهد على عنقه يسمى بالمقلد.

ولا يخفى ان البحث عن معناه لغة واصطلاحا يكون لما ورد في بعض الروايات من التعبير به كما ورد من قوله عليه‌السلام اما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلدوه (١) : فالبحث يكون عن هذا المعنى وهكذا نحتاج إلى إحراز معناه في مثل البقاء على تقليد الميت والعدول عن الحي إلى الحي بعد تحقق تقليد الأول وهكذا ساير الموارد واما معناه اصطلاحا وهو العمدة ففيه خلاف ففي الكفاية قال المحقق الخراسانيّ قده انه أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيات أو للالتزام به في الاعتقاديات بلا مطالبة دليل على رأيه.

وقال سيدنا الأستاذ الأصفهاني في الوسيلة انه الالتزام بالعمل بفتوى مجتهد معين ويتحقق بأخذ المسائل منه للعمل بها وان لم يعمل بعد بها في غير مسألة جواز

__________________

(١) في الوسائل ج ١٨ باب ١٠ من أبواب صفات القاضي ح ٢٠

٣٧

البقاء على تقليد الميت ومسألة عدم جواز العدول من الحي إلى الحي فان العمل شرط فيهما وهكذا يقول الشيخ الأعظم في رسالته بأنه التزام بالعمل على رأي مجتهد معين وعليه السيد قده في العروة الوثقى فانه اكتفى بأخذ رسالته للعمل وان لم يعمل.

ولكن الحق عندنا هو ان التقليد لا يكون إلّا العمل المستند إلى فتوى المجتهد ولا يكفى الالتزام بدون العمل ولا أخذ الرسالة وليس مثل الاجتهاد الّذي هو سابق على العمل فان الشخص يقلد مجتهده لا انه يقلده ثم يعمل على طبق التقليد كما في ذهن الاعلام.

ولتوضيح المرام لا بد من الكلام في مقتضى الأدلة الواردة في وجوب التقليد ليتضح من جهة الحكم ان الموضوع له ما هو إذا لم يتضح من الخارج فان تناسب الحكم والموضوع يوجب زيادة الوضوح إذا لم يكن الموضوع محرزا من لسان الدليل كما في الأدلة اللبية التي لا لسان لها.

فنقول قال المحقق الخراسانيّ قده ان جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم يكون بديهيا جبليا فطريا وهو قده كما ترى ضم الجميع كدليل واحد ولكن الحق ان كل واحدة من الفطرة والجبلة والعقل وبناء العقلاء والسيرة يكون دليلا على حدة فنبحث عنه بالتفصيل فنقول ان كان الدليل عليه الفطرة فربما قيل ان فطرة الناس تقتضي بواسطة عشق ذاتي لهم ان يصيروا عالمين بما هم جهال بالنسبة إليه فيكون رجوعهم إلى العالم لتحصيل العلم وهو غير مربوط بالعمل بقول المجتهد تعبدا.

ولكن يرد عليه ان مرادهم من الفطرة هنا ليس هو العشق الغريزي في طلب العلم بل المراد هو الانسداد الصغير الّذي يكون مقدماته تامة عند المقلد فانه إذا رأى ان الشارع جعل له أحكاما ولا بد له اما من الاجتهاد فيها أو الاحتياط فيما لا يكون من الضروريات ولا يكون في وسعه الاجتهاد ويكون الاحتياط عسريا فيرى بالفطرة ان حكمه الرجوع إلى من يتبع رأيه ومعنى الاتباع هو العمل على طبقه مستندا

٣٨

إليه ولا يكون معناه تعلم الأحكام والالتزام به فقط فالعلم مقدمة هنا للعمل.

كما ان وجوب تصديق العادل في الأوامر الطرقية يكون معناه الجري العملي على طبق ما ادى إليه قول العادل وليس معناه الالتزام بقول العادل فانه لا ثمرة فيه مع قطع النّظر عن العمل فتصديق المجتهد في رأيه يكون مثل تصديق العادل في خبره وليس التقليد بحسب هذا الدليل الا العمل.

واما ان كان السند السيرة وبناء العقلاء فهو يقتضى أيضا ان يكون التقليد هو العمل لأن العقلاء والمتشرعين في أمور معاشهم يرجعون إلى الخبراء في الأمور التي هي خبروية بتطبيق عملهم على طبق رأى الخبرة كما نرى في رجوعهم إلى الطبيب والبنّاء وفي الأمور الخبري يعتمدون على اخبار المخبر في التطبيق العملي أيضا ولا وقع عندهم في الالتزام فقط والفقهاء خبرة فن الأحكام ويكون رجوع الناس إليهم في امر معادهم.

واما ان كان السند العقل أو الغريزة فكذلك لأن العقل بعد ما رأى الاشتغال اليقينيّ بالاحكام ولا بديته من الفراغ اليقينيّ منها ولا طريق له لتحصيل الفراغ إلّا الاحتياط إذا أمكنه فهم مورده ولم يكن عسريا أو التقليد بعد عدم إمكان الاجتهاد على المفروض فيختار رأي المجتهد للعمل ويأخذه حجة بينه وبين الله في إتيان العمل ومعنى أخذه هو العمل على طبق رأيه لا الالتزام فقط وهو الّذي يوجب الفراغ لا أخذ الرسالة أو الالتزام.

فالتحقيق عندنا هو ان التقليد ليس إلّا العمل المستند هذا كله في صورة كون المجتهد واحدا واما إذا كان متعددا مع التساوي في العلم فعلى فرض اتحادهم في الرّأي فلا شبهة في كون التقليد هو العمل مستندا إلى رأى أحدهما واما إذا كان الاختلاف في الآراء ففيه بحث.

وهو انه على فرض كون رأيي المجتهدين مثل الخبرين المتعارضين فالقاعدة الأولية تقتضي التساقط ولكن القاعدة الثانوية تقتضي التخيير فحينئذ يكون المقلد

٣٩

مخيرا في أخذ الرّأي من أيهما أراد ولكن لا بد له من الأخذ بأحدهما ثم العمل على طبقه فان الأخذ هنا مقدمة الحجية كما قلنا في الخبرين في باب التعادل والترجيح وليس التقليد هنا صرف العمل بل هو العمل بعد الأخذ والالتزام (١) هذا كله في الدليل الغير النقليّ.

اما الدليل النقليّ لوجوب التقليد فمنها آية النفر وهي قوله تعالى فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون (التوبة ١٢٢) ومنها آية السؤال وهي قوله تعالى فاسألوا أهل الذّكر ان كنتم لا تعلمون (النحل ٤٣) ومن السنة ما ورد من قوله عليه‌السلام اما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه إلى قوله فللعوام ان يقلدوه وما ورد من قوله عليه‌السلام بالنسبة إلى بعض الرّواة بقوله عليه‌السلام خذ معالم دينك منه وغير ذلك مما يجده المتفحص (٢).

ولا يخفى قبل تقريب الاستدلال ان العامي لا يمكنه الاستدلال بما ذكر بل من له درجة من الاجتهاد ولو في هذه المسألة يجتهد فيها ولكن ليس البحث بلا فائدة بل العامي بحسب الفطرة إذا شك في جواز التقليد وعدمه يرجع إلى المجتهد كما انه يرجع إليه إذا شك في حلية العصير العنبي وحرمته بالنش فهو يفتى بوجوب التقليد ويبين حدوده وقيوده من وجوب تقليد الأعلم أو جواز تقليد غيره ومن وجوب

__________________

(١) أقول مر منا فيما سبق ان الأخذ لا تأثير له في الحجية بل بعد العلم الإجمالي بحجية أحد الخبرين يؤخذ به لأنه حجة لا انه ليس بحجة وبالاخذ يصير حجة.

ولذا لا يكون في وسع المكلف عدم الأخذ به لئلا يصير حجة وفتوى المجتهدين أيضا كذلك على فرض شمول أدلة التخيير لغير الخبرين أو من باب الإجماع على عدم كون المكلف مهملا وفارغا عن الرجوع إلى أحدهما وعليه فإذا كان التقليد هو العمل المستند يكون في المقام أيضا كذلك ولا احتياج إلى الأخذ وعلى فرض كون المدار على الالتزام فهو لازم قبل العمل.

(٢) الروايات في الوسائل ج ١٨ في أبواب صفات القاضي في باب ١٠ و ١١

٤٠