أدب الطّف أو شعراء الحسين عليه السلام - ج ٨

جواد شبّر

أدب الطّف أو شعراء الحسين عليه السلام - ج ٨

المؤلف:

جواد شبّر


الموضوع : الشعر والأدب
الناشر: دار المرتضى
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥١

وكرّ ففرّت منه عدواً جموعهم

فرار بغاث الطير أبصرن قشعما

تقاسم منه الطرف والقلب فاغتدى

يكافح أعداءاً ويرعى مخيّما

تناهب مبيض الضبا فكأنما

غدا لحدود البيض فيئاً مقسّما

ولما جرى أمر القضاء بما جرى

وقد كان أمر الله قدراً محتما

هوى فهوى الطود الأشم فزلزلت

له الأرضون السبع واغبرت السما

وأعولت الأملاك نادبة وقد

أقامت له فوق السماوات مأتما

فأضحى لقى في عرصة الطف شلوه

ترضّ العوادي منه صدراً معظما

ويهدى على عالي السنان برأسه

لأنذل رجس في امية منتما

وينكته بالخيزران شماتة

يزيد ويغدو ناشداً مترنما

( نفلّق هاماً من رجال أعزةٍ

علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما )

فشلّت يداه حين ينكت مرشفاً

لمرشف خير الرسل قد كان ملثما

ولهفي لآل الله بعد حماتها

وقد أصبحت بين المضلين مغنما

إذا استنجدت فتيانها الصيد لم تجد

برغم العلى غير العليل لها حمى

تجوم بها أجواز كل تنوفةٍ

وتسبى على عجف المصاعب كالإما

حواسر من بعد التخدّر لا ترى

لها ساتراً إلا ذراعاً ومعصما

وزينب تدعو والشجا يستفزها

أخاها ودمع العين ينهلّ عندما

أخي يا حمى عزي إذا الدهر سامني

هواناً ولم يترك لي الدهر من حمى

لقد كان دهري فيك بالأمس مشرقا

فهاهو أمسى اليوم بعدك مظلما

وقد كنت لي طوداً ألوذ بظله

وكهفاً متى خطب ألمّ فألما

أدير بطرفي لا أرى غير أيّمٍ

تجاوب ثكلى في النياحة أيّما

رحلت وقد خلفتني بين صبية

خماص الحشى حرّى القلوب من الظما

عدمت حياتي بعد فقدك إنني

أرى بعدك العيش الرغيد مذمما

أرى كل رزء دون رزئك في الورى

فلله رزء ما أجلّ واعظما

١٦١

السيد ابراهيم الطباطبائي

المتوفى ١٣١٩

في رثاء الحسين :

قطعتُ سهول يثرب والهضابا

على شدنيّة تطوي الشعابا

سرت تطوي الفدافد والروابي

وتجتاز المفاوز والرحابا

إذا انبعثتَ يثور لها قتام

لوجه الشمس تنسجه نقابا

يجشمها المهالك مشمعلٌ

يخوض من الردى بحراً عبابا

هزبر من بنى الكرار أضحى

يؤلّب للوغى أُسداً غضابا

غداة تألبت أرجاس حرب

لتدرك بالطفوف لها طلابا

فكّر عليهم بليوث غاب

لها اتخذت قنا الخطي غابا

إذا انتدبت وجردت المواضي

تضيّق في بني حرب الرحابا

وهبّ بها لحرب بني زياد

لدى الهيجا قساورة صلابا

فبين مشمرٍ للموت يصبو

صبوّ متيم ولها تصابى

وآخر في العدى يعدو فيغدو

يكسّر في صدورهم الحرابا

إلى أن غودرت منهم جسوم

ترى قاني الدماء لها خضابا

وضلّ يدير فرد الدهر طرفا

ينادي بالنصير فلن يجابا

يصول بأسمر طوراً وطورا

بأبيض صارم يفري الرقابا

وأروع لم تُروّعه المنايا

إذا ازدلفت تجاذبه جذابا

يهزّ مثقفاً ويسلّ عضبا

كومضِ البرق يلتهب التهابا

١٦٢

نضا للضرب قرضابا صنيعا

أبى إلا الرقاب له قرابا

رمى ورموا سهام الحتف حتى

إذا ما أخطأوا مرمىً أصابا

إلى أن خرّ منعفراً كسته

سوافي الريح غادية ثيابا

فوافته الفواطم معولات

بندب منه صمّ الصخر ذابا

وزينب ثاكل تدعو بقلب

مصابٍ يملأ الدنيا مصابا

أيا غيث الورى إن عمّ جدب

وغوثهم إذا ما الدهر نابا

لقد سلب العدى بالرغم منا

رداء الصون قسراً والحجابا

على رغم العلى والدين أضحت

بنو حرب تجاذبها النقابا

بفرط حنينها والدمع أمست

تباري الرعد والغيث انسكابا

* * *

السيد ابراهيم ابن السيد حسين بن الرضا ابن السيد بحر العلوم. ولد قدس‌سره في النجف الأشرف سنة ١٢٤٨ وتلمذ على أبيه في عامة العلوم الإسلامية من التفسير والفقه والأصول والكلام كما أخذ الأدب والشعر عن أبيه أيضاً وحتى إذا اشتد شبابه وقارب أو تجاوز العشرين من سنّيه برع في العلوم الأدبية وتضلع بها وتعمق في اللغة والمعاني والبيان والشعر ، ذكره صاحب الحصون المنيعة في الجزء السابع وقال في جملة ما قال : وكان يحذو في شعره حذو السيد الرضي ، والأبيوردي. وفي كتاب ( حلى الزمن العاطل ) : هو من أشهر شعراء هذا العصر بل من أفراد الدهر ، وهو على ما خوّله الله من شرف الحسب والنسب الركن العراقي لكعبة الفضل والأدب ، وأبيات قصائده مقام ابراهيم الذي ينسلون إليه من كل حدب ، كان قويّ الحافظة جزل الاداء يرتجل الشعر وربما دعي لمناسبة مفاجأة فيقول القصيدة بطولها ويمليها بعد حين على كاتبه الخاص باسترسال ، ورد مدحه على ألسنة الشعراء المعاصرين له كالسيد جعفر ابن السيد أحمد الخرسان النجفي ، والشيخ محمد السماوي ، والشيخ ابراهيم

١٦٣

صادق العاملي ، والشيخ عبد الحسين الحويزي ، والسيد محمد سعيد الحبوبي ، والسيد جعفر الحلي ، والسيد موسى الطالقاني ، والشيخ محسن الخضري وغيرهم وديوانه المطبوع بمطبعة صيدا ـ لبنان يحتوي على مختلف فنون الشعر ، وعدة مراثي لشهداء كربلاء. توفي رحمه‌الله في النجف الأشرف يوم الثلاثاء ٦ محرم الحرام سنة ١٣١٩ ه‍.

فمن شعره قوله في العباس بن أمير المؤمنين عليهما‌السلام :

قف بالطفوف وسل بها أفواجها

وأثر أبا الفضل المثير عجاجها

إن أُرتجت باب تلاحك (١) بالقنا

بالسيف دون أخيه فكّ رتاجها

جلّى لها قمراً لهاشم سافراً

رد الكتائب كاشفاً إرهاجها

ومشى لهامشي السبنتى (٢) مخدراً

قد هاج من بعد الطوى فأهاجها

أو أظلمت بالنقع ضاحية الوغى

بالبارقات البيض شبّ سراجها

فاستامها ضرباً يكيل طفيفها

ولاجّ كل مضيقة فرّاجها

يلقى الوجوه الكالحات فينثني

يفري بحدّ صفيحة أوداجها

كم سوّرت علقاً أساريب الدما

فرقى بها علماً وخاض عجاجها

أسد يعدّ عداه ثلّة ربقة

فغدا ببرثنه يشلّ نعاجها

ومطحطح (٣) بالخيل في ملمومة

حرجت فوسّع بالحسام حراجها

ما زلت تلقح عقم كل كتيبة

حتى إذا نتجت أريت نتاجها

ولكم طغت غياً ولجّ بغيّها

فقطعت بالعضب الجراز لجاجها

ضجت من الضرب الدراك فألحقت

بعنان آفاق السماء ضجاجها

فإذا التوت عوجاً أنابيب القنا

بالطعن قام مقوّما إعواجها

ركب الجياد إذا الصريخ دعابه

معرية لم ينتظر إسراجها

__________________

١ ـ لا حك الشيء بالشيء الزقه.

٢ ـ السبنتي : النمر.

٣ ـ طحطح القوم : بددهم وأهلكهم.

١٦٤

الباسم العباس ما من خطة

إلا وكان نميرها واجاجها

ورد الفرات أخو الفرات بمهجة

رشفت بمعبوط الدما زجاجها

قد همّ منه بنهلة حتى إذا

ذكر الحسين رمى بها ثجّاجها

مزجت أحبته له بنفوسها

نفساً من الصهباء خلت مزاجها

ما ضرّ يا عباس جلواء السما

لو وشحت بك شهبها أبراجها

أبكيك منجدلاً بأرض قفرة

بك قد رفعت على السماء فجاجها

أبكيك مبكى الفاقدات جنينها

ذكرت فهاج رنينها من هاجها

أبكيك مقطوع اليدين بعلقم

أجرت يداك بعذبه أمواجها

وبرغم أنف الدين منك بموكب

تقضي سيوف بني امية حاجها

قد كنت درتها على إكليلها

قد زينت بك في المفارق تاجها

ولحاجتي يا أنس ناظرة العلى

لو قد جعلتك للعيون حجاجها

ومن شعره في رثاء جده الحسين :

أشجاك رسم الدار مالك مولع

أم هل شجاك بسفح رامة مربع

وأراك مهما جزت وادي المنحني

لك مقلة عبرى وقلب موجع

لا بل شجاك بيوم وقعة كربلا

رزء له السبع الشداد تزعزع

يوم به كرّ ابن حيدر في العدى

والبيض بالبيض القواضب تقرع

يعدو على الجيش اللهام بفتية

بالحزم للحرب العوان تدرعوا

يقتادهم عند الكريهة أغلب

ثبت الحشا من آل غالب أروع

من كل مرهوب اللقاء إذا انبرى

نحو الكتائب والذوابل شرع

يعدو فيغدو الرمح يرعف عندما

والسيف في علق الجماجم يكرع

حتى هووا صرعى ترضّ لهم قرى

بسنابك الجرد العتاق واضلع

وغدى ابن أمّ الموت فرداً لا يرى

عوناً يحامي عن حماه ويمنع

فغدا يصول بعزمة من بأسه

كادت له الشم الجبال تصدع

١٦٥

تلقاه إن حمي الوغى متهللا

يلقى الوغى بأغرّ وجه يسطع

يسطو فيختطف النفوس بصارم

كالبرق يقدح بالشرار فيلمع

وهوى برغم المكرمات فقل هوى

من شامخ العلياء طود أمنع

شلواً تناهبه الصوارم والقنا

والرأس منه على قناة يرفع

وابتزّ ضوء الشمس حزناً بعده

فالافق مغبرّ الجوانب أسفع

لهفي لزينب وهي تندب ندبها

وجفونها تهمي المدامع همع

تدعو من القلب الشجى بلهفة

شجواً سكاد لها الصفا يتصدع

تدعو أُخيّ حسين يا غوث الورى

في النائبات ومن اليه المفزع

أحسين من يحمي الفواطم حسراً

أمست ومَن للشمل بعدك يجمع

أسرى تقنّع بالسياط متونها

لهفي لآل الله حين تقنّع

سلبت براقعها العداة فعاذر

لو أصبحت بأكفها تتبرقع

وقال أيضاً رحمه‌الله في رثاء حبيب بن مظاهر ( رض ) :

أحبيبُ أنت إلى الحسين حبيبُ

ان لم ينط نسب فأنت نسيب

يا مرحباً بابن المظاهر بالولا

لو كان ينهض بالولا الترحيب

شأن يشق على الضراح مرامه

بعداً وقبرك والضريح قريب

قد أخلصت طرفي عُلاك نجيبة

من قومها وأبٌ أغرّ نجيب

بأبي المفدّي نفسه عن رغبة

لم يدعه الترهيب والترغيب

ما زاغ قلباً من صفوف امية

يوم استطارت للرجال قلوب

يا حاملاً ذاك اللواء مرفرفا

كيف التوى ذاك اللوى المضروب

لله من علم هوى وبكفه

علم الحسين الخافق المنصوب

أبني المواطر بالأسنة رعّفا

في حيث لا برق السيوف خلوب

غالبتم نفرا بضفة نينوى

فغلبتم والغالب المغلوب

كنتم قواعد للهدى ما هدّها

ليل الضلال الحالك الغريب

١٦٦

شاب وأشيب يستهل بوجهه

قمر السما والكوكب المشبوب

فزهيرها طلق الجبين ويعده

وهبٌ ولكن للحياة وهوب

وهلالها في الروع وابن شبيبها

وبريرها المتنمر المذروب

والليث مسلمها ابن عوسجة الذي

سلم الحتوف وللحروب حريب

آساد ملحمة وسمّ أساود

وشواظ برق صوارم ولهيب

الراكبين الهول لم ينكب بهم

وهنٌ ولا سأم ولا تنكيب

والمالكين على المكاشح نفسه

والعاتقين النفس حين تؤوب

قوم إذا سمعوا الصريخ تدفقوا

جرياً كما يتدفق الشؤبوب

وفوارس حشو الدروع كأنهم

تحت الجواشن يذبل وعسيب

أو أنهم في السابقات أراقم الـ

ـوادي يباكرها الندى فتسيب

ساموا العدى ضرباً وطعناً فيهما

غنّى الحسام وهلهل الانبوب

من كل وضاح الجبين مغامر

ضرباً وللبيض الرقاق ضريب

إن ضاق وافي الدرع منه بمنكب

ضخم فصدر العزم منه رحيب

مالان مغمز عوده ولربما

يتقصّف الخطيّ وهو صليب

ومعمم بالسيف معتصب به

واليوم يوم بالطفوف عصيب

ما زال منصلتا يذب بسيفه

نمراً وأين من الأزلّ الذيب (١)

تلقاه في أولى الجياد مغامراً

وسواه في اخرى الجياد هيوب

يلقى الكتيبة وهو طلق المجتلي

جذلان يبسم والحمام قطوب

طرب المسامع في الوغى لكنه

بصليل قرع المشرفيّ طروب

واهاً بني الكرم الاولى كم فيكم

ندب هوى وبصفحتيه ندوب

أبكيكم ولكم بقلبي قرحة

أبداً وجرح في الفؤاد رغيب

ومدامع فوق الخدود تذبذبت

أقراطها وحشاً تكاد تذوب

__________________

١ ـ الأزل : الذي يتولد بين الضبع والذئب.

١٦٧

حنّ الفؤاد اليكم فتعلمت

منه الحنين الرازحات النيب

تهفو القلوب صوادياً لقبوركم

فكأن هاتيك القبور قليب

قربت ضرائحكم على زوارها

ومزورها للزائرين مجيب

وزكت نفوسكم فطاب أريجها

في حيث نشر المسك فيه يطيب

جرّت عليكم عبرتي هدّابها

فجرى عليكم دمعيَ المسكوب

بكرت اليكم نفحة غروية

وسرت عليكم شمال وجنوب

حبيب بن مظاهر الأسدي زعيم بني أسد وصاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شهد معه حروبه وهو موضع أسراره قد أطلعه على علم كثير. وهو قائد ميسرة الحسين (ع) وأجل أصحابه من حيث العلم والعبادة وكفى في جلالته قول الحسين : رحمك الله يا حبيب كنت تختم القرآن في ليلة ، ولجلالته أفرد له الإمام السجاد قبراً مما يلي رأس الحسين عليه‌السلام.

تلك الصفوة من أصحاب الحسين أصبحوا مضرب المثل في الاخلاص والتفادي وفضّلوا على جميع من تقدمهم لأن غيرهم باشر الحرب وهو يأمل الحياة وهؤلاء كانوا آيسين من الحياة مصممين على الموت ، وكفى بجلالتهم قول الحسين : اللهم إني لا أجد أصحاباً أوفى من أصحابي ولا أهل بيت أبرّ وأتقى من أهل بيتي. ذكر ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة قال : قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد ، ويحكم أقتلتم ذرية نبيكم ، قال : عضضتَ بالجندل ، أما إنك لو شهدتَ ما شهدنا لفعلتَ ما فعلنا ، ثارت علينا عصابة أيديها في مقابض سيوفها تحطم الفرسان يميناً وشمالاً ، لا ترغب بالمال ولا تقبل بالأمان ، فلو كففنا عنها رويداً لأتت على نفوس العسكر بحذافيره ، فما كنا صانعين لا أُمّ لك.

عدد الشاعر من أصحاب الحسين عليه‌السلام ستة وهم : زهير ، وهب ، هلال ، عابس بن شبيب ، برير ، مسلم بن عوسجة وها نحن نورد تراجمهم باختصار :

١٦٨

١ ـ زهير بن القين البجلي من بجيلة ، شريفاً شجاعاً فاتكاً ، له في المغازي والحروب مواقف مشهورة مشهودة حدث جماعة من فزارة وبجيلة قالوا : كنا مع زهير بن القين عند رجوعه من الحج في السنة التي أقبل فيها الحسين إلى العراق فكنا نساير الحسين ، فلم يك شيء أبغض على زهير من أن ينزل مع الحسين في مكان واحد أو يسايره في طريق واحد ـ لأن زهير كان أولاً عثمانياً ـ فكان إذا نزل الحسين سار زهير ، وإذا سار نزل زهير ، فنزلنا في مكان لم يك لنا بدٌ من النزول به ، فكنا في جانب والحسين في جانب فبينا نحن نتغدى من طعام لنا إذ أقبل رسول الحسين ، فقال يا زهير إن الحسين يدعوك ، فطرح كل إنسان منا ما في يده كراهة أن يذهب زهير إلى الحسين ، فقالت زوجة زهير وهي ديلم بنت عمرو : يا سبحان الله أيبعث اليك الحسين بن فاطمة ثم لا تأتيه ، ما ضرك لو أتيته فسمعت كلامه ورجعت ، فذهب زهير على كره ، فما لبث أن عاد مستبشراً ضاحكاً سنّه ، فالتفت إلى أصحابه فقال : مَن شاء منكم أن يصحبني وإلا فهذا آخر العهد فإني قد عزمت على نصرة الحسين وأن أقيه بنفسي ، وقال لزوجته : الحقي بأهلك فإني لا احب أن يصيبك بسببي إلا خير. قالت خار الله لك اذكرني عند جدّ الحسين يوم القيامة. والتفت إلى أصحابه فقال احدثكم : إنا غزونا بلنجر (١) ـ وهي بلدة بالخزر ـ ففتح الله علينا وأصبنا غنائم كثيرة فقال لنا سلمان الفارسي : أفرحتم بما أصبتم فقلنا نعم ، قال إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم بين يديه.

ولازم نصرة الحسين ، ولشجاعته جعله الحسين على ميمنة أصحابه ولاخلاصه وإيمانه بالفكرة قوله للحسين لما أمر أصحابه بالتفرق عنه قال : والله يا أبا عبد الله لو علمتُ أني أقتل ثم أُحرق ثم أذر ، يُفعل بي هكذا سبعون مرة ما فارقتك ، وكيف لا أفعل وإنما هي قتلة واحدة ثم الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً. فجزاه الحسين خيراً ولما برز إلى القوم جعل يرتجز ويقول :

__________________

١ ـ تقع في منطقة أردبيل ، والوقعة سنة ٣٢ من الهجرة في زمن عثمان.

١٦٩

أنا زهير وأنا ابن القين

أذودكم بالسيف عن حسين

إن حسينا أحد السبطين

من عترة البرّ التقيّ الزين

٢ ـ وهب بن عبد الله الكلبي ، ويقال أنه كان نصرانياً فأسلم على يد الحسين برز للقتال وهو يرتجز :

إني زعيم لك امّ وهب

حسبي بيتي من عليم حسبي

وكانت زوجته تقول : لا تفجعني بنفسك يا وهب ، وامّه تقول : يا بني دع كلامها وانصر ابن بنت نبيك ، فقاتل حتى قطعت يده فقال : أرضيتِ يا اماه ، قالت لا والله حتى أراك مخضباً بدمك بين يدي الحسين ، فعاد إلى القتال وإذا بزوجته خلفه تنادي : قاتل يا وهب دون الطيبين آل رسول الله ، قال : الآن كنتِ تنهيني عن القتال ، قالت لا تلمني يا وهب ان واعية آل رسول الله صدعت كبدي وكسرت قلبي ، رأيت الحسين ينادي هل من ناصر. ولما قتل جاءت اليه زوجته في المعركة وجلست عنده تمسح الدم والتراب عن وجهه وتشكره ، فأمر الشمر بن ذي الجوشن غلامه قال له : ألحقها بزوجها فضربها بعمود على رأسها فماتت عند زوجها.

٣ ـ هلال بن نافع البجلي أو الجملي ، والمراد به نافع بن هلال ذكره الجزري في أسد الغابة قال : كان سيداً شريفاً سريّاً شجاعاً من حملة الحديث ومن أصحاب أمير المؤمنين وحضر معه في حروبه الثلاث في العراق ، ولما خطب الحسين أصحابه في ذي حسم وثب اليه نافع بن هلال الجملي فقال : يابن رسول الله والله ما كرهنا لقاء ربنا فإنا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك فسر بنا راشداً معافاً شرقاً إن شئت وإن شئت غرباً ، وفي يوم العاشر جعل يقاتل ويرتجز :

إن تنكروني فأنا ابن الجملي

ديني على دين حسين وعلي

٤ ـ عابس بن شبيب الشاكري بطل المغازي والحروب ، نشرت صحيفة من صحف العراق أن مندوبها سأل الوزير صادق البصام؟ لو كنت حاضراً

١٧٠

يوم كربلاء مع الحسين ما كنت تتمنى أن تصنع ، قال : أتمنى أن أكون مثل عابس بن شبيب الشاكري. قال عز الدين الجزري : هو عابس بن شبيب بن شاكر بن ربيعة بن مالك بن صعب. وبنو شاكر بطن من همدان.

في الحدائق : كان عابس من رجال الشيعة رئيساً شجاعاً خطيباً ناكساً متهجداً ، وكانت بنو شاكر من المخلصين بولاء أهل البيت. وفيهم قال أمير المؤمنين يوم صفين ـ على ما ذكره نصر بن مزاحم المنقري في كتابه ـ لو تمّت عدتهم ألفا لعبد الله حق عبادته ـ كانوا من شجعان العرب وحماتهم حتى لقبوا ب‍ ( فتيان الصباح ) ويتجلى لك اخلاص هذا البطل وصراحته في المبدأ والعقيدة أن مسلم بن عقيل لما دخل الكوفة وأقبلت عليه الشيعة وهو يقرء كتاب الحسين وهم يبكون ثم جعلوا يبايعونه عندها قام عابس خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فإني لا اخبرك عن الناس ولا أعلم ما في نفوسهم وما أغرك منهم ولكني والله اخبرك بما أنا موطن نفسي عليه ، والله لأجيبنكم إذا دعوتم ، ولاقاتلن معكم عدوكم ولأضربنّ بسيفي هذا دونكم حتى ألقى الله ولا اريد بذلك إلا ما عند الله ، ثم قام حبيب بن مظاهر وتكلم بنحو ذلك.

قال أرباب المقاتل : وتقدم عابس بن شبيب للقتال بين يدي الحسين وقال لمولاه شوذب (١) ما في نفسك أن تصنع اليوم ، قال اقاتل حتى أقتل ، قال ذلك الظن بك فتقدم بين يدي الحسين حتى يحتسبك كما احتسب غيرك ثم سلم على الحسين وقال : يا أبا عبد الله أما والله ما مشى على وجه الأرض قريب ولا

__________________

١ ـ يظن البعض أن شوذب مولى لعابس والحال أن مقامه أجل من عابس من حيث العلم والتقوى ، وكان شوذب صحابياً ـ كما يقو المامقاني في ( تنقيح المقال ) وحضر مع أمير المؤمنين في حروبه الثلاث وكان شجاعاً عابداً من اكابر الشيعة وحافظاً للحديث ، وأخذ أهل الكوفة العلم والحديث منه ، قال صاحب الحدائق الوردية : وكان شوذب يجلس للشيعة فيأتونه للحديث ، وكان وجهاً فيهم ، قال أبو مخنف : صحب شوذب عابساً مولاه في الكوفة إلى مكة بعد قدوم مسلم الكوفة وبعد بيعة الناس له.

١٧١

بعيد أعزّ علي ولأ احبّ إلي منك ، ولو قدرت على أن أدفع عنك الضيم أو القتل بشيء أعزّ عليّ من نفسي ودمي لفعلت ، السلام عليك يا أبا عبد الله أشهد أني على هداك وهدى أبيك.

ثم مضى بالسيف مصلتاً نحو القوم ـ وبه ضربة على جبينه من يوم صفين ـ فطلب البراز ، قال ربيع بن تميم لما رأيته مقبلاً عرفته ـ وكنت قد شاهدته في المغازي والحروب ـ فقلت أيها الناس هذا أسد الاسود ، هذا ابن شبيب لا يخرجنّ اليه أحد منكم فأخذ عابس ينادي : ألا رجل. فلم يتقدم اليه أحد ، فنادى عمر بن سعد : ويلكم ارضخوه بالحجارة من كل جانب ، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره فنودي : أجننت يا عابس. قال حب الحسين أجنني :

يلقى الرماح الشاجرات بنحره

ويقيم هامته مقام المغفر

ما إن يريد إذا الرماح شجرنه

درعاً سوى سربال طيب العنصر

ثم شدّ على الناس فو الله لقد رأيته يطرد أكثر من مائتين من عسكر ابن سعد ، ثم أنهم تعطفوا عليه من كل جانب فقتلوه واحتزوا رأسه ، فرأيت رأسه في أيدي رجال ذوي عدة هذا يقول : أنا قتلته ، وهذا يقول أنا قتلته ، فأتوا عمر بن سعد ، فقال لا تختصموا هذا لم يقتله إنسان واحد ، كلكم قتلتموه. ففرق بينهم بهذا القول.

٥ ـ برير بن خضير الهمداني ، شجاعاً ناسكاً قارئاً للقرآن ومن شيوخ القراء من أصحاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وكان من أشراف الكوفة ، قال للحسين : يابن رسول الله لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك تقطع فيك أعضاؤنا ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة. دخل الحسين خيمته ليطلّي ليلة العاشر من المحرم ، فوقف برير بن خضير وعبد الرحمن بن عبد ربه الانصاري على باب الفسطاط تختلف مناكبهما ، أيهما يطلّي على أثر الحسين تبركاً به ، فجعل برير يهازل عبد الرحمن ويضاحكه ، فقال عبد الرحمن : والله

١٧٢

ما هذه بساعة باطل ، فقال له برير : والله لقد علم قومي أني ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً ولكن والله إني لمستبشر بما نحن لاقون ، والله ما بيننا وبين الحور العين إلا أن يميل هؤلاء علينا بأسيفاهم ولوددت أنهم قد مالوا علينا بأسيافهم الساعة.

٦ ـ مسلم بن عوسجة الاسدي ، قال ابن سعد في ( الطبقات ) كان صحابياً ممن رأى النبي ، وهو رجل شريف عابد ناسك قال أهل السير : حملت ميمنة ابن سعد على ميسرة الحسين ، وكان في الميسرة مسلم بن عوسجة وكانت حملتهم من نحو الفرات فقاتل قتالاً شديداً لم يسمع بمثله ، فكان يحمل على القوم وسيفه مصلت بيمينه ويقول :

إن تسألوا عني فاني ذو لبد

وإن بيتي في ذرى بني أسد

ووقعت لشدة الجلاد غبرة شديدة فلما انجلت الغبرة وإذا بمسلم بن عوسجة صريع فتباشر أصحاب ابن سعد فمشى اليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر وإذا به رمق ، فقال الحسين : رحمك الله يا مسلم ، وتلى قوله تعالى « فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ». ودنا منه حبيب فقال : إبشر بالجنة قال بشرك الله بخير ثم قال : لو لم أعلم أني بالأثر لأحببت أن توصي إلي بكل ما أهمك ، قال : أوصيك بهذا ، وأشار إلى الحسين :

نصروه أحياءً وعند مماتهم

يوصي بنصرته الشفيق شفيقا

أوصى ابن عوسجة حبيباً قال

قاتل دونه حتى الحِمام نذوقا

١٧٣

الشيخ محمّد الملا

المتوفى ١٣٢٢

يرثي الحسين :

ومروعة تدعو ولا حام لها

والقلب محتدم وأدمعها دم

يا فارياً كبد الفلاة بهوجل

هيماء من طول السرى لا تسأم

قل عن لساني للنبي مبلّغاً

خبراً به أحشاؤه تتضرم

يا جد أسواط العدى قد ألّمت

متنى وشتمهم لحيدر أعظم

يا جد ما حال النسا لما دعى

الرجس ابن سعد على مخيمها اهجموا

يا جدنا قد أضرموا بخيامنا

ناراً ، وفي الأحشاء ناراً اضرموا

يا جدّ ما من مقلة دمعت لنا

إلا تقنعنا السياط ونُشتم

يا جدّ ذاب حشا الرضيع من الظما

وسقته عن ماء دماه الأسهم

يا جدّ حُرّمت المياه على أخي

وأُبيح قسراً للظبا منه الدم

يا جدّ خلّفنا حبيبك عارياً

والصدر منه مرضض ومهشم

يا جدّ غيرت الشموس وجوهنا

في السبي والأعداء ليست ترحم

يا جدنا طافوا بنا الأمصار

والأسواق فوق العيس فينا ترزم

يا جد إن يزيد يشتم والدي

يا جدنا هذا المصاب الأعظم

يا جد ينكث ثغر سبطك بالعصا

ثملاً يزيد شامت يترنم

او تصبرن وذي بنوك لحومها

للسمر والبيض القواضب مطعم (١)

__________________

١ ـ شعراء الحلة أو البابليات.

١٧٤

الشيخ محمد الملا ابن الشيخ حمزة بن حسين التستري الأهوازي الحلي المعروف بالملا ، ولد سنة ١٢٤٣ وتوفي سنة ١٣٢٢ وحمل إلى النجف الأشرف ودفن هناك. أخذ عن السيد مهدي ابن السيد داود والشيخ حمزة البصير والسيد حيدر والشيخ حمادي نوح وأكثر ما أخذ عن الشيخ الحمادي. كان وراقاً مليح الخط لبق اللسان كفّ بصره في أواخر أيامه ، وهو مكثر مجيد ، وجد من شعره خمس مجلدات بالحلة أكثرها بخطه وأكثر شعره في أهل البيت عليهم‌السلام.

قال الشيخ اغا بزرك في الذريعة ج ٩ قسم الديوان : هو الشيخ محمد بن حمزة بن الحسين بن نور علي التستري الأصل والحلي المولد والمسكن ولد بها سنة (١٢٤٥) وتوفي في جمادى الثانية سنة ١٣٢٢ ترجمه السماوي في الطليعة مفصلاً وذكر أن قصائده طويلة بين ثلثمائة بيتاً إلى المائة والسبعين ، وفي جملة منها ، الصدر تاريخ والعجز تاريخ ، وقد نظم ما يزيد على خمسين ألف بيتاً واستقصى حروف الهجاء مرتين أو ثلاثاً في رثاء الحسين. انتهى

وترجم له البحاثة المعاصر علي الخاقاني في شعراء الحلة وقال عنه : أديب كبير وخطيب مفوه ، طرق كافة النواحي بمحاضراته ومساجلاته ، وحصل على شهرة واسعة في الأوساط الأدبية عندما نظم رائعته في مدح الرسول الاعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أجاد بها إذ جارى بها بديعية الصفى الحلي والسيد علي خان الشيرازي ، ونوادره وملحة مشهورة مذكورة ، وكان الشيخ على المعروف بأبي شعابذ يثور غضباً إذا قيل له ( مرحبا ) فنظم شاعرنا :

قال قوم لعليٍّ مرحبا

فغدا يعرض عنهم مغضبا

قلت لما عجبوا لا تعجبوا

فمتى حبّ ( عليٌ ) ( مرحبا )

ومن نتفه قوله :

مشوقك يخفيك أشواقه

ويعلمهن اللطيف الخبير

فأجمل تفصيلهن اللسان

وفصّل إجمالهنّ الضمير

١٧٥

وقال :

إني لأعجب أن تسييء

وأنت بالاحسان أحرى

أحيا بقربك تارة

وأموت بالهجران اخرى

وقال في الوعظ :

يا من غدا الشيب له زاجراً

يذكره والجهل ينسيه

تطمع من عمرك في رجعة

وقد مضى أمس بما فيه

وله :

أخفيت هواك وعلمني

أن المخفيّ سيتضح

وأفاضت عيني أدمعها

ويفيض إذا امتلأ القدح

وقال يصف داره الواقعة بشارع المفتي بجوار مرقد ابن عرندس الشاعر :

قد حوى منزلي خصالاً ثلاثاً

حسنها فيه تعجب الأفكار

إنه ضيّق الفِناء ولكن

في الشتا بارد وفي الصيف حار

وله من قصيدة في معارضة ( يا ليل الصب متى غده ) لأبي الحسن علي بن عبد الغني الحصري الضرير ، وقد نشرت في مجلة الحريه البغدادية سنة ١٣٤٤.

الحب عظيم مقصده

مرٌ لا يحلو مورده

إني قد همت بحب رشاً

البدر النيّر يحسده

من بات الصبر يحاربه

أرأيت العاذل ينجده

قل لي حتى مَ تعذبه

وبنار الهجر تخلّده

قد صحّ حديث غرامي إذ

عن عدل قوامك أسنده

أنواع الحسن بك اجتمعت

ومحبك حزناً مفرده

أمن الانصاف يهيم هوى

ويموت ولا تتفقّده

ومن قوله :

لو لاح لي شخص الزمان جهرة

رويتُ منه ذابلي والمنصلا

لأنه يعطي العنان كل مَن

لم يدرِ أيّ طرفيه أطولا

١٧٦

وقال :

فتنت بها من عالم الذرّ فتنة

فأسكرني من قبل خلقي جامها

أشبهها بدراً وإني مخطيء

فمن أين للبدر المنير ابتسامها

فلا الورد ورداً إن تراءت خدودها

ولا الغصن غصناً إن تثنى قوامها

ولاغرو إما كنت مشتهراً بها

وعاث بقلبي حبها وغرامها

فمن أين لي صبر وصبري أسيرها

ومن أين لي عقل وعقلي غلامها

وذكره صاحب الحصون المنيعة وأطراه هذا الذي مرّ مقتطف منه. توفي بالحلة صباح يوم الخميس ١٣ جمادى الآخرة عام ١٣٢٢ ونقلت جنازته إلى الغري ودفن في وادي السلام ورثاه جماعة من الشعراء فأبدعوا وأجادوا منهم الشيخ حمادي نوح بقصيدة مطلعها :

اليوم مجد شموس العترة انهدما

فليستفض وكف دمع المشرقين دما

ومنها :

يا عترة المصطفى لم تبق جوهرة

محمد لم يصغها فيكم كلما

وديوانه كان يحتفظ به ولده الخطيب الشهير والشاعر البليغ الشيخ قاسم الملا ، ومن شعر الشيخ محمد قال يرثي الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام :

من ربع عزة قد نشقت شميما

فأعادني حياً وكنت رميما

وعلى فؤادي صبّ أي صبابة

هي صيرتني في الزمان عليما

ومرابع كانت مراتع للمها

راقت ورقّت في العيون أديما

أعلمن يوم رحيلهنّ عن اللوا

أن الهوى بالقلب بات مقيما

أسهرن طرفي بالجوى من بعدما

أرقدنه في وصلهن قديما

كم ليلة حتى الصباح قضيتها

معهن لا لغواً ولا تأثيما

فكأنني من وصلهنّ بجنة

فيها مقامي كان ثمّ كريما

ماذا لقيتُ من الغرام وإنما

فيه ارتكبت من الذنوب عظيما

١٧٧

خسرت لعمرك صفقه الدهر الذي

فيه السفيه غدا يُعدّ حليما

أتروم بدر نسيمه وابى على

الأحرار إلا أن يهبّ سموما

قد سلّ صارمه بأوجه هاشم

فانصاع فيه أنفها مهشوما

فمن الذي يهدي المضلّ إلى الهدى

من بعدهم أو ينصف المظلوما

وبسيبه يغنى الورى وبسيفه

يجلو عن الدين الحنيف هموما

هذا قضى قتلاً وذاك مغيباً

خوف الطغاة وذا قضى مسموما

من مبلغ الاسلام أنّ زعيمه

قد مات في سجن الرشيد سميما

فالغيّ بات بموته طرب الحشا

وغدا لمأتمه الرشاد مقيما

ملقى على جسر الرصافة نعشه

فيه الملائك أحدقوا تعظيما

فعليه روح الله أزهق روحه

وحشا كليم الله بات كليما

لا تألفي لمسرة فهرٌ فقد

أضحى سرورك هالكاً معدوما

منح القلوب مصابه سقماً كما

منع النواظر في الدجى التهويما

وقال في الحسين (ع) ولاول مرة تنشر هذه القصيدة :

كم ذا تحنّ لذلك السرب

في الحالتين البعد والقرب

والنفس إن علق الغرام بها

لا تنثني باللوم والعتب

أحسبت تنجو والهلاك بما

ألقتك فيه بوادر الحب

شرقت جفونك في مدامعها

وشرقت حين ظمأت بالعذب

فأنظر لنفسك نظرة ابن نهىً

ظهرت له من باطن الحجب

فالمرء مرتهن بما ربحت

حوباه في الدنيا من الكسب

واجزع لما نال ابن فاطمة

في كربلا من فادح الخطب

نكثت بنو الزرقاء بيعته

بعد العهود اليه والكتب

ولحربه زحفت فأرهبها

ما طار أعينها من الرعب

بفوارس أسيافهم جعلت

وحش الفلا والطير في خصب

١٧٨

ثبتوا ثبات عميدهم بوغىً

طحنت رحاها أرؤس الغلب

ووفت وفاءهم رماحهم

وسيوفهم بالطعن والضرب

بيض الوجوه تسل بيض ظباً

جليت بهنّ حوالك الكرب

شهدت لهن بوقعهن على

هامات حرب حومةُ الحرب

وتراكم النقع المثار وقد

لمعت بأفق سماه كالشهب

حتى إذا سئمت معيشتها

ما بين أهل الشرك والنصب

رامت لأنفسها بميتتها

عزّاً به تحيى مدى الحقب

فاستسلمت لقضاء خالقها

فهوت معفّرة على الترب

وسطا أبو الأشبال حين غدا

في الجمع فرداً فاقد الصحب

ذُعر الجحافل منه ليث شرى

يختال بين السمر والقضب

ذو عزمة إن ثار ثائرها

في الشرق دكّ الشرق بالغرب

عدم المغيث فلم يغثه سوى

أخوين : لدن الرمح والعضب

ملأى من القتلى الفضا ، فبهم

قد ضاق منها واسع الرحب

فأتاه أمر الله حين أتى

أدّيتَ ما حمّلت من صعب

فأجاب دعوة ربه فثوى

نحو الشريعة ظامي القلب

وغدت على جثمانه حنقا

تعدو بنو مروان بالقبّ

بسيوفهم أعضاؤه انتهبت

وبرحله عاثت يد النهب

يعزز عليه أن نسوته

تسري بها عَنقا بنو حرب

لا تنقع العبرات غلّتها

وإن استهلّ بها حيا السحب

فتجيبها الست الجهات إذا

ما أعولت بالنوح والندب

من خوفها تصفرّ أوجهها

ومتونها تسودّ بالضرب

إن حاولت كتمان ما لقيت

فالدمع عنه معلناً يُنبي

فالوجد منها قدّ أفئدة

بثت شكاية ظمّأ سغب

١٧٩

فنوائب الدنيا على مضر

دور الرحى دارت على القطب

عجباً لها بصفيحها احتجت

ونساؤها مهتوكة الحجب

صبرت ، ولا صبر على الجلل

جعل الأنام مطاشة اللب

وهذه الأخرى مما لم يسبق نشرها :

حتام قلبي يلقى في الهوى نصبا

ولم ينل بلقى أحبابه إربا

ظنوا فيا ليت لا ظنوا بقربهم

لما سرت ـ لا سرى أجمالها خببا

لم تنبعث سحب عيني في مدامعها

إلا وقلبي في نار الأسى التهبا

قد كان غصن شبابي يانعاً فذوى

والانس بعد شروق بدره غربا

ياجيرة الحيّ حيا الغيث معهدكم

فليس ينفك فيه وأكفا سربا

إن تسألوا الحب لا تلفوه منتسبا

إلا إليّ ، إذا حققتم النسبا

قلبتموني على جمر العباد وما

رأيت قلبي إلى السلوان منقلبا

في كل آنٍ إليّ الدهر مقتحما

من الخطوب يقود الجحفل اللجبا

فكيف اوليه حمداً في إسائته

لأحمد وبنيه السادة النجبا

رماهم بسهام الحتف عن حنق

وكلهن بقلب الدين قد نشبا

قاسى محمد من أعدائه كربا

معشارهن شجاه ينسف الهضبا

فبالوصية للكرار بلّغ في

خمٍّ وأسمع كل الناس مذ خطبا

فارتاب فيه الذي في قلبه مرض

وفيه آمن مَن لا يعرف الريبا

حتى إذا صادف الهادي منيّته

ونحو أكرم دار مسرعاً ذهبا

صدّت بنو قيلة عن نهجه حسداً

والكل منهم لغصب الآل قد وثبا

أضحت تقود عليا وهو سيدها

كرهاً لبيعة من غير الضلال أبى

ماذا الذي استسهلوا مما جنوه على

مَن بالمناقب ساد العجم والعربا

إسقاطهم لجنين الطهر فاطمة

أم وضعهم حول باب المنزل الحطبا

أم ضرب رأس علي بالحسام ومن

دمائه شيبه قد راح مختضبا

١٨٠