الموسوعة القرآنيّة - ج ٢

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ٢

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

٣

وجوه إعجاز القرآن

ثمة ثلاثة أوجه من الإعجاز :

أحدها : يتضمن الإخبار عن الغيوب ، وذلك مما لا يقدر عليه البشر ولا سبيل لهم إليه. فمن ذلك ما وعد الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أنه سيظهر دينه على الأديان بقوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ففعل ذلك.

وكان أبو بكر الصديق رضى الله عنه إذا أغزى جيوشه عرفهم ما وعدهم الله من إظهار دينه ليثقوا بالنصر ويستيقنوا بالنجح.

وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يفعل كذلك فى أيامه ، حتى وقف أصحاب جيوشه عليه ، فكان سعد بن أبى وقاص رحمه‌الله وغيره من أمراء الجيوش من جهته يذكر ذلك لأصحابه ، ويحرّضهم به ، ويوثق لهم ، وكانوا يلقون الظفر فى مواجهاتهم ، حتى فتح إلى آخر أيام عمر رضى الله عنه إلى بلخ وبلاد الهند ، وفتح فى أيامه مرو الشاهجان ومرو الروذ ، ومنعهم من العبور بجيحون ، وكذلك فتح فى أيامه فارس إلى إصطخر ، وكرمان ومكران وسجستان وجميع ما كان من مملكة كسرى ، وكل ما كان يملكه ملوك الفرس بين البحرين من الفرات إلى جيحون ، وأزال ملك ملوك الفرس ، إلى حدود أرمينية وإلى باب الأبواب ، وفتح أيضا ناحية الشام والأردنّ وفلسطين وفسطاط مصر ، وأزال ملك قيصر عنها ، وذلك من الفرات إلى بحر مصر وهو ملك قيصر ، وغزت الخيول فى أيامه إلى عمورية ، فأخذ الضواحى كلها ولم يبق دونها إلا ما حجز دونه بحر أو حال عنه جبل منيع أو أرض خشنة أو بادية غير مسلوكة. وقال الله عزوجل : (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) فصدق فيه.

٣٤١

وقال فى أهل بدر : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) ووفى لهم بما وعد.

وجميع الآيات التى يتضمنها القرآن من الإخبار عن الغيوب تكثر جدا.

والوجه الثانى : أنه كان معلوما من حال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان أميا لا يكتب ولا يحسن أن يقرأ وكذلك كان معروفا من حاله أنه لم يكن يعرف شيئا من كتب المتقدمين وأقاصيصهم وأنبائهم وسيرهم. ثم أتى بجملة ما وقع وحدث من عظيمات الأمور ، ومهمات السير من حين خلق الله آدم عليه‌السلام إلى حين مبعثه.

فذكر فى الكتاب الذى جاء به معجزة له قصة آدم عليه‌السلام ، وابتداء خلقه وما صار إليه أمره من الخروج من الجنة ، ثم جملا من أمر ولده وأحواله وتوبته.

ثم ذكر قصة نوح عليه‌السلام وما كان بينه وبين قومه وما انتهى إليه أمره.

وكذلك أمر إبراهيم عليه‌السلام إلى ذكر سائر الأنبياء المذكورين فى القرآن والملوك والفراعنة الذين كانوا فى أيام الأنبياء صلوات الله عليهم. وهذا مما لا سبيل إليه إلا عن تعلم ، وإذا كان معروفا أنه لم يكن ملابسا لأهل الآثار وحملة الأخبار ولا مترددا إلى التعلم منهم ، ولا كان ممن يقرأ فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه علم أنه لا يصل إلى علم ذلك إلا بتأييد من جهة الوحى ، ولذلك قال عزوجل : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) وقال : (وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ).

والوجه الثالث : أنه بديع النظم عجيب التأليف متناه فى البلاغة إلى الحدّ الذى يعلم عجز الخلق عنه ، والذى يشتمل عليه بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوه :

منها : ما يرجع إلى الجملة ، وذلك أن نظم القرآن على تصرّف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم ، وله أسلوب يختص به ويتميز فى تصرفه عن أساليب الكلام

٣٤٢

المعتاد ، وذلك أن الطرق التى يتقيد بها الكلام البديع المنظوم تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه ، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى ، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع ، ثم إلى معدل موزون غير مسجع ، ثم إلى ما يرسل إرسالا فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعانى المعترضة على وجه بديع ، وترتيب لطيف وإن لم يكن معتدلا فى وزنه ، وذلك شبيه بجملة الكلام الذى لا يتعمل ولا يتصنع له. وقد علمنا أن القرآن خارج من هذه الوجوه ومباين لهذه الطرق. ليس من باب السجع ولا فيه شىء منه ، وليس من قبيل الشعر ، لأن من الناس من زعم أنه كلام مسجع ، ومنهم من يدعى أن فيه شعرا كثيرا ، فهذا إذا تأمله المتأمل تبين بخروجه عن أصناف كلامهم وأساليب خطابهم أنه خارج عن العادة وأنه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن وتميز حاصل فى جميعه.

ومنها : أنه ليس للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة والتصرّف البديع والمعانى اللطيفة والفوائد الغزيرة والحكم الكثيرة والتناسب فى البلاغة ، والتشابه فى البراعة على هذا الطول وعلى هذا القدر ، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة وألفاظ قليلة ، وإلى شاعرهم قصائد محصورة يقع فيها ما نبينه بعد هذا من الاختلال ، ويعترضها ما نكشفه من الاختلاف ، ويقع فيها ما نبديه من التعمل والتكلف والتجوّز والتعسف ، وقد حصل القرآن على كثرته وطوله متناسبا فى الفصاحة على ما وصفه الله تعالى به فقال عزّ من قائل : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) ، (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) فأخبر أن كلام الآدمى إن امتدّ وقع فيه التفاوت وبان عليه الاختلال ، وفى ذلك معنى ثابت وهو أن عجيب نظمه وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التى يتصرف فيها ، من ذكر قصص ومواعظ واحتجاج وحكم وأحكام ، وإعذار وإنذار ، ووعد ووعيد ، وتبشير وتخويف ، وأوصاف وتعليم أخلاق كريمة وشيم رفيعة وسير مأثورة ، وغير ذلك من الوجوه التى يشتمل عليها. ونجد كلام البليغ الكامل والشاعر المفلق والخطيب المصقع يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور. فمن الشعراء من يجود فى المدح

٣٤٣

دون الهجو ، ومنهم من يبرز فى الهجو دون المدح ، ومنهم من يسبق فى التقريظ دون التأبين ، ومنهم من يجوز فى التأبين دون التقريظ ، ومنهم من يغرب فى وصف الإبل والخيل أو سير الليل ، أو وصف الروض. أو وصف الخمر أو الغزل أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعراء ويتداوله الكلام ، ولذلك ضرب المثل : بامرئ القيس إذا ركب ، والنابغة إذا رهب ، وبزهير إذا رغب ، ومثل ذلك يختلف فى الخطيب والرسائل وسائر أجناس الكلام. ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت فى شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها ، فيأتى بالغاية فى البراعة فى معنى ، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه ووقف دونه وبان الاختلاف على شعره.

ثم نجد فى الشعراء من يجود فى الرجز ولا يمكنه نظم القصيد أصلا ، ومنهم من ينظم القصيد ، ولكن يقصر فيه مهما تكلفه أو عمله ، ومن الناس من يجود فى الكلام المرسل ، فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصانا عجيبا ، ومنهم من يوجد بضد ذلك. وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التى قدمنا ذكرها على حدّ واحد فى حسن النظم وبديع التأليف والرصف ، لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا ، ولا إسفال فيه إلى الرتبة الدنيا. وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة ، فرأينا الإعجاز فى جميعه على حدّ واحد لا يختلف. وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت ، بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة ، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر ، لأن الذى يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير عند التكرار ، وعند تباين الوجوه واختلاف الأسباب التى يتضمن.

ومعنى رابع : وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بينا فى الفصل والوصل ، والعلوّ والنزال ، والتقريب والتبعيد ، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عن النظم ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع ، ألا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وصف بالنقص عن التنقل من معنى إلى غيره ، والخروج من باب إلى سواه ، حتى إن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحترى مع جودة نظمه

٣٤٤

وحسن وصفه فى الخروج من النسيب إلى المديح وأطبقوا على أنه لا يحسنه ولا يأتى فيه بشيء ، وإنما اتفق له فى مواضع معدودة خروج يرتضى وتنقل يستحسن ، وكذلك يختلف سبيل غيره عند الخروج من شىء إلى شىء والتحوّل من باب إلى باب ، كالمتناسب والمتنافر فى الإفراد إلى حد الآحاد ، ويخرج به الكلام إلى حدّ العادة ويتجاوز العرف.

ومعنى خامس : فنظم القرآن وقع موقعا فى البلاغة يخرج عن عادة كلام الإنس والجن ، فهم يعجزون عن الإتيان بمثله كعجزنا ويقصرون دونه كقصورنا ، وقد قال الله عزوجل : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

ومعنى سادس : وهو أن الذى ينقسم عليه الخطاب من البسيط والاختصار ، والجمع والتفريق ، والاستعارة والتصريح ، والتجوز والتحقيق ، ونحو ذلك من الوجوه التى توجد فى كلامهم موجودة فى القرآن ، وكل ذلك مما لا يتجاوز حدود كلامهم المعتاد بينهم فى الفصاحة والإبداع والبلاغة.

ومعنى سابع : وهو أن المعانى التى تتضمن فى أصل وضع الشريعة والأحكام والاحتجاجات فى أصل الدين والرد على الملحدين على تلك الألفاظ البديعة ، وموافقة بعضها بعضا فى اللطف والبراعة مما يتعذر على البشر ، ويمنع ذلك أنه قد علم أن تخير الألفاظ للمعانى المتداولة المألوفة والأسباب الدائرة بين الناس أسهل وأقرب من تخير الألفاظ لمعان مبتكرة ، وأسباب مؤسسة مستحدثة ، فلو أبرع اللفظ فى المعنى البارع كان ألطف وأعجب من أن يوجد اللفظ البارع فى المعنى المتداول المتكرّر والأمر المتقرّر المتصور. ثم إن انضاف إلى ذلك التصرّف البديع فى الوجوه التى تتضمن تأييد ما يبتدأ تأسيسه ويراد تحقيقه بأن التفاضل فى البراعة والفصاحة ، ثم إذا وجدت الألفاظ وفق المعنى والمعانى وفقها لا يفضل أحدهما على الآخر ، فالبراعة أظهر والفصاحة أتم.

ومعنى ثامن : وهو أن الكلام يبين فضله ورجحان فصاحته ، بأن نذكر منه الكلمة فى تضاعيف كلام أو نقذف ما بين شعر فتأخذه الأسماع وتتشوّق إليه

٣٤٥

النفوس ، ويرى وجه رونقه باديا غامرا سائر ما يقرن به ، كالدرّة التى ترى فى سلك من خرز وكالياقوتة فى واسطة العقد ، أنت ترى الكلمة من القرآن يتمثل بها فى تضاعيف كلام كثير ، وهى غرّة جميعه وواسطة عقده والمنادى على نفسه بتمييزه وتخصصه برونقه وجماله واعتراضه فى جنسه ومائه. وهذا الفصل أيضا مما يحتاج فيه إلى تفصيل وشرح ونص ليحقق ما ادّعيناه منه ، ولو لا هذه الوجوه التى بيناها لم يتحير فيه أهل الفصاحة ، ولكانوا يفزعون إلى التعمل للمقابلة والتصنع للمعارضة ، وكانوا ينظرون فى أمرهم ويراجعون أنفسهم ، أو كان يراجع بعضهم بعضا فى معارضته ويتوقفون لها ، فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك علم أن أهل المعرفة منهم بالصنعة إنما عدلوا عن هذه الأمور لعلمهم بعجزهم عنه ، وقصور فصاحتهم دونه ، ولا يمتنع أن يلتبس على من لم يكن بارعا فيهم ، ولا متقدما فى الفصاحة منهم هذه الحال حتى لا يعلم إلا بعد نظر وتأمل ، وحتى يعرف حال عجز غيره ، إلا أنا رأينا صناديدهم وأعيانهم ووجوههم سلموا ولم يشتغلوا بذلك تحققا بظهور العجز وتبينا له. وأما قوله تعالى حكاية عنهم : (قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) فقد يمكن أن يكونوا كاذبين فيما أخبروا به عن أنفسهم ، وقد يمكن أن يكون هذا الكلام إنما خرج منهم وهو يدل على عجزهم ، ولذلك أورده الله مورد تقريعهم ، لأنه لو كانوا على ما وصفوا به أنفسهم لكانوا يتجاوزون الوعد إلى الإنجاز ، والضمان إلى الوفاء ، فلما لم يستعملوا ذلك مع استمرار التحدّى ، وتطاول زمان الفسحة فى إقامة الحجة عليهم بعجزهم عنه علم عجزهم ، إذ لو كانوا قادرين على ذلك لم يقتصروا على الدعوى فقط ، ومعلوم من حالهم وحميتهم أن الواحد منهم يقول فى الحشرات والهوام والحيات وفى وصف الأزمة ، والاتساع والأمور التى لا تؤبه لها ولا يحتاج إليها ، ويتنافسون فى ذلك أشد التنافس ويتبجحون به أشدّ التبجح ، فكيف يجوز أن تمكنهم معارضته فى هذه المعانى الفسيحة العبارات الفصيحة مع تضمن المعارضة تكذيبه والذبّ عن أديانهم القديمة ، وإخراجهم أنفسهم من تسفيهه رأيهم وتضليله إياهم والتخلص من منازعته ثم من محاربته ومقارعته ثم لا يفعلون شيئا من ذلك ، وإنما يحيلون أنفسهم على التعاليل ويعللونها بالأباطيل.

٣٤٦

ومعنى تاسع : وهو أن الحروف التى بنى عليها كلام العرب ثمانية وعشرون حرفا ، وعدد السور التى افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة ، وجملة ما ذكر من هذه الحروف فى أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة وهو أربعة عشر حرفا ، ليدل بالمذكور على غيره ، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التى ينظمون بها كلامهم ، والذى ينقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية ، وبنوا عليها وجوهها أقسام ، هى :

فمن ذلك أنهم قسموها إلى حروف مهموسة وأخرى مجهورة.

فالمهموسة : منها عشرة وهى : الحاء والهاء والخاء والكاف والشين والثاء والفاء والتاء والصاد والسين.

وما سوى ذلك من الحروف فهى مجهورة.

وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة فى جملة الحروف المذكورة فى أوائل السور.

وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء لا زيادة ولا نقصان.

والمجهور : معناه أنه حرف أشبع الاعتماد فى موضعه ومنع أن يجرى معه حتى ينقضى الاعتماد ويجرى الصوت.

والمهموس : كل حرف ضعف الاعتماد فى موضعه حتى جرى معه النفس ، وذلك مما يحتاج إلى معرفته لتبتنى عليه أصول العربية.

وكذلك مما يقسمون إليه الحروف ، يقولون : إنها على ضربين.

أحدهما حروف الحلق ، وهى ستة أحرف : العين والحاء والهمزة والهاء والخاء والعين ، والنصف من هذه الحروف مذكور فى جملة الحروف التى تشتمل عليها الحروف المبينة فى أوائل السور.

وكذلك النصف من الحروف التى ليست بحروف الحلق.

وكذلك تنقسم هذه الحروف إلى قسمين آخرين :

أحدهما حروف غير شديدة.

٣٤٧

وإلى الحروف الشديدة ، وهى التى تمنع الصوت أن يجرى فيه ، وهى الهمزة والقاف والكاف والجيم والظاء والذال والطاء والباء.

وقد علمنا أن نصف هذه الحروف أيضا هى مذكورة فى جملة تلك الحروف التى بنى عليها تلك السور.

ومن ذلك الحروف المطبقة وهى أربعة أحرف ، وما سواها منفتحة.

فالمطبقة : الطاء والظاء والضاد والصاد.

وقد علمنا أن نصف هذه فى جملة الحروف المبدوء بها فى أوائل السور.

وكل ذلك يوجب إثبات الحكمة فى ذكر هذه الحروف على حدّ يتعلق به الإعجاز من وجه :

ومعنى عاشر : وهو أنه سهل سبيله فهو خارج عن الوحشى المستكره والغريب المستنكر وعن الصنعة المتكلفة ، وجعله قريبا إلى الأفهام ، يبادر معناه لفظه إلى القلب ، ويسابق المغزى من عبارته إلى النفس ، وهو مع ذلك ممتنع المطلب عسير المتناول ، غير مطمع مع قربه فى نفسه ولا موهم مع دنوه فى موقعه أن يقدر عليه أو يظفر به ، فأما الانحطاط عن هذه الرتبة إلى رتبة الكلام المبتذل والقول المسفسف ، فليس يصح أن تقع فيه فصاحة أو بلاغة ، فيطلب فيه الإعجاز ، ولكن لو وضع فى وحشى مستكره أو عمر بوجوه الصنعة ، وأطبق بأبواب التعسف والتكلف لكان لقائل أن يقول فيه ، ويعتذر ويعيب ويقرّع ، ولكنه أوضح مناره وقرب منهاجه وسهل سبيله وجعله متشابها متماثلا وبين مع ذلك إعجازهم فيه ، وقد علمت أن كلام فصحائهم وشعر بلغاتهم لا ينفك من تصرف فى غريب مستنكر أو وحشى مستكره ومعان مستبعدة ، ثم عدولهم إلى كلام مبتذل وضيع لا يوجد دونه فى الرتبة ، ثم تحوّلهم إلى كلام معتدل بين الأمرين متصرف بين المنزلين.

٣٤٨

٤

تعقيب على

وجوه إعجاز القرآن

من الإخبار عن الغيوب والصدق والإصابة فى ذلك كله فهو كقوله تعالى : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) فأغزاهم أبو بكر وعمر رضى الله عنهما إلى قتال العرب والفرس والروم.

وكقوله : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) وراهن أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه فى ذلك وصدق الله وعده.

وكقوله فى قصة أهل بدر : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ).

وكقوله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ).

وكقوله : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) فى قصة أهل بدر.

وكقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) فصدق الله تعالى وعده فى كل ذلك.

وقال فى قصة المتخلفين عنه فى غزوته : (لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) فحق ذلك كله وصدق ولم يخرج من المخالفين الذين خوطبوا بذلك معه أحد.

وكقوله : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ).

وكقوله : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا

٣٤٩

وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) فامتنعوا من المباهلة ولو أجابوا إليها اضطرمت عليهم الأودية نارا ما ذكر فى الخبر.

وكقوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ولو تمنوه لوقع بهم هذا وما أشبهه.

ومن إخباره عن قصص الأولين وسير المتقدمين ، فمن العجيب الممتع على من لم يقف على الأخبار ولم يشتغل بدرس الآثار ، وقد حكى فى القرآن تلك الأمور حكاية من شهدها وحضرها ، ولذلك قال الله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ).

وقال : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

وقال : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ).

فبين وجه دلالته من إخباره بهذه الأمور الغائبة السالفة.

وقال : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) الآية.

ومن الإعجاز الواقع فى النظم والتأليف والرصف ، فهو على وجوه :

منها : أنه نظم خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد فى كلامهم ومباين لأساليب خطابهم ، لم وهو ليس من قبيل الشعر ولا السجع ولا الكلام الموزون غير المقفى ، لأن قوما من كفار قريش ادّعوا أنه شعر.

ومن الملحدة من يزعم أن فيه شعرا.

ومن أهل الملة من يقول إنه كلام مسجع.

ومنهم من يدعى أنه كلام موزن.

فلا يخرج بذلك عن أصناف ما يتعارفونه من الخطاب.

٣٥٠

٥

نفى الشعر من القرآن

نحن نعلم أن الله تعالى نفى الشعر من القرآن.

ومن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) وقال فى ذم الشعراء : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ. أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) إلى آخر ما وصفهم به فى هذه الآيات ، فقال : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ).

وهذا يدل على أن ما حكاه عن الكفار من قولهم إنه شاعر ، وإن هذا شعر ، لا بد من أن يكون محمولا على أنهم نسبوه فى القرآن إلى أن الذى أتاهم به هو من قبيل الشعر ، الذى يتعارفونه على الأعاريض المحصورة المألوفة.

أو يكون محمولا على ما كان يطلق الفلاسفة على حكمائهم وأهل الفطنة منهم فى وصفهم إياهم بالشعر لدقة نظرهم فى وجوه الكلام وطرق لهم فى المنطق.

أو يكون محمولا على أنه أطلق من بعض الضعفاء منهم فى معرفة أوزان الشعر ، وهذا أبعد الاحتمالات. فإن حمل على الوجهين الأولين كان ما أطلقوه صحيحا ، وذلك أن الشاعر يفطن لما لا يفطن له غيره.

وإذا قدر على صنعة الشعر كان على ما دونه فى رأيهم وعندهم أقدر ، فنسبوه إلى ذلك لهذا السبب.

فإن زعم زاعم أنه قد وجد فى القرآن شعرا كثيرا ، فمن ذلك ما يزعمون أنه بيت تام أو أبيات تامة ، ومنه ما يزعمون أنه مصراع ، كقول القائل :

قد قلت لما حاولوا سلوتى

هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ



٣٥١

ومما يزعمون أنه بيت قوله :

وَجِفانٍ كَالْجَوابِ

وَقُدُورٍ راسِياتٍ

قالوا : هو من الرمل من البحر الذى قيل فيه :

مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما

يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ

وكقوله عزوجل :

وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً

وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ

قالوا : هو من المتقارب.

وكقوله :

وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها

وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً

ويشبعون حركة الميم فيزعمون أنه من الرجز.

وذكر عن أبى نواس أنه ضمن ذلك شعرا وهو قوله :

وفتية فى مجلس وجوههم

ريحانهم قد عدموا التثقيلا

دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها

وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً

وقوله عزوجل :

وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ

وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مؤمنينا

زعموا أنه من الوافر :

وكقوله عزوجل :

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ

فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ

ضمنه أبو نواس فى شعره ففصل وقال : فذاك الذى ، وشعره :

وقرا معلنا ليصدع قلبى

والهوى يصدع الفؤا السقيما

أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ

فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُ اليتيما

٣٥٢

وهذا من الخفيف لا يقع مقصودا إليه ، وإنما يقع مغمورا فى الخطاب.

فكذلك حال السجع الذى يزعمونه ويقدرونه ، ويقال لهم : لو كان وكما ضمنه فى شعره من قوله :

سبحان من سخر هذا لنا

حقّا وما كنا له مقرنين

فزاد فيه حتى انتظم له الشعر.

وكما يقولونه فى قوله عزوجل : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً).

ونحو ذلك فى القرآن كثير ، كقوله : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً. فَالْحامِلاتِ وِقْراً. فَالْجارِياتِ يُسْراً) وهو عندهم شعر من بحر البسيط.

والجواب عن هذه الدعوى التى ادّعوها من وجوه.

أولها : أن الفصحاء منهم حين أورد عليهم القرآن لو كانوا يعتقدونه شعرا ولم يروه خارجا عن أساليب كلامهم لبادروا إلى معارضته ، لأن الشعر مسخر لهم سهل عليهم فيه ما قد علمت من التصرّف العجيب والاقتدار اللطيف ، فلما لم نرهم اشتغلوا بذلك ولا عوّلوا عليه علم أنهم لم يعتقدوا فيه شيئا مما يقدره الضعفاء فى الصنعة والمرمدون فى هذا الشأن.

وإنّ استدراك من يجيء الآن على فصحاء قريش وشعراء العرب قاطبة فى ذلك الزمان وبلغائهم وخطبائهم وزعمه أنه قد ظفر بشعر فى القرآن ذهب أولئك النفر عنه ، وخفى عليهم شدة حاجاتهم إلى الطعن فى القرآن والغض عنه واتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه.

فلن يجوز أن يخفى على أولئك وأن يجهلوه ويعرفه من جاء الآن وهو بالجهل حقيق ، وإذا كان كذلك علم أن الذى أجاب به العلماء عن هذا السؤال شديد ، وهو أنهم قالوا : إن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعرا ، وأقل الشعر بيتان فصاعدا ، وإلى ذلك ذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام.

وقالوا أيضا : إن ما كان على وزن بيتين إلا أنه يختلف رويهما وقافيتهما فليس بشعر.

(ـ ٢٣ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ٢)

٣٥٣

ثم منهم من قال : إن الرجز ليس بشعر أصلا ، لا سيما إذا كان مشطورا أو منهوكا ، وكذلك ما كان يقارنه فى قلة الأجزاء.

ويقولون : إن الشعر إنما يطلق متى قصد القاصد إليه على الطريق الذى يتعمد ويسلك ، ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء دون ما يستوى فيه العامى والجاهل والعالم بالشعر واللسان وتصرفه ، وما يتفق من كل واحد فليس يكتسب اسم الشعر ولا صاحبه اسم شاعر ، لأنه لو صح أن يسمى كل من اعترض فى كلامه ألفاظ تتزن بوزن الشعر ، أو تنتظم انتظام بعض الأعاريض كان الناس كلهم شعراء ، لأن كل متكلم لا ينفك من أن يعرض فى جملة كلام كثير يقوله ما قد يتزن بوزن الشعر وينتظم انتظامه ؛ ألا ترى أن العامى قد يقول لصاحبه أغلق الباب وائتني بالطعام ، ويقول الرجل لأصحابه أكرموا من لقيتم من تميم ، ومتى تتبع الإنسان هذا عرف أن يكثر فى تضاعيف الكلام مثله وأكثر منه ، وهذا القدر الذى يصح فيه التوارد ليس يعده أهل الصناعة سرقة ، إذا لم تعلم فيه حقيقة الأخذ كقوله امرئ القيس :

وقوفا بهم صحبى على مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتحميل

وكقوله طرفة :

وقوفا بها صحبى على مطيهم

يقولون لا تهلك أسى وتجلد

ومثل هذا كثير ، فإذا صح مثل ذلك فى بعض البيت ولم يمتنع فيه فكذلك لا يمتنع وقوعه فى الكلام المنثور اتفاقا غير مقصود إليه ، فإذا اتفق لم يكن ذلك شعرا ، وكذلك يمتنع التوارد على بيتين ، وكذلك يمتنع فى الكلام المنثور وقوع البيتين ونحوهما ، فثبت بهذا أن ما وقع هذا الموقع لم يعدّ شعرا ، وإنما يعدّ شعرا ما إذا قصده صاحبه تأتى له ولم يمتنع عليه ، فإذا كان هو مع قصده لا يتأتى له وإنما يعرض فى كلامه عن غير قصد إليه لم يصح أن يقال إنه شعر ، ولا إن صاحبه شاعر ، ولا يصح أن يقال : إن هذا يوجب أن مثل هذا لو اتفق من شاعر فيجب أن يكون شعرا لأنه لو قصده لكان يتأتى منه ، وإنما لم يصح ذلك لأن ما ليس بشعر فلا يجوز أن يكون شعرا من أحد ، وما كان شعرا من أحد من الناس كان شعرا من كل أحد ؛ ألا ترى أن السوقى قد يقول اسقنى الماء يا غلام سريعا قد يتفق ذلك من الساهى ومن لا تقصد النظم ، فأما الشعر إذا بلغ الحدّ الذى بينا فلا يصح أن يقع إلا من قاصد إليه.

٣٥٤

فأما الرجز فإنه يعرض فى كلام العوامّ كثيرا ، فإذا كان بيتا واحدا فليس ذلك بشعر ، وقد قيل إن أقل ما يكون منه شعرا أربعة أبيات بعد أن تتفق قوافيها ، ولم يتفق ذلك فى القرآن بحال ، فأما دون أربعة أبيات منه أو ما يجرى مجراه فى قلة الكلمات فليس بشعر.

وما اتفق فى ذلك من القرآن مختلف الروىّ. ويقولون : إنه متى اختلف الروى خرج من أن يكون شعرا.

ولو كان ذلك شعرا لكانت النفوس تتشوف إلى معارضته ، لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد ، وأهله يتقاربون فيه أو يضربون فيه بسهم.

فإن قيل : فى القرآن كلام موزون كوزن الشعر وإن كان غير مقفى ، بل هو مزاوج متساوى الضروب ، وذلك آخر أقسام كلام العرب.

قيل : من سبيل الموزون من كلام أن يتساوى أجزاؤه فى الطول والقصر والسواكن والحركات ، فإن خرج عن ذلك لم يكن موزونا كقوله : ربّ أخ كنت به مغتبطا أشدّ كفى بعرى صحبته تمسكا منى بالود ، ولا أحسبه يزهد فى ذى أمل تمسكا منى بالود ، ولا أحسبه يغير العهد ولا يحول عنه أبدا فخاب فيه أملى.

وقد علمنا أن هذا القرآن ليس من هذا القبيل ، بل هذا قبيل غير ممدوح ولا مقصود من جملة الفصيح ، وربما كان عندهم مستنكرا ، بل أكثره على ذلك.

وكذلك ليس فى القرآن من الموزون الذى وصفناه أولا ، وهو الذى شرطنا فيه التعادل والتساوى فى الأجزاء غير الاختلاف الواقع فى التقفية ، ويبين ذلك أن القرآن خارج عن الوزن الذى بينا ، وتتم فائدته بالخروج منه. وأما الكلام الموزون فإنه فائدته تتم يوزنه.

٣٥٥

٦

نفى السجع من القرآن

الرأى المجمع عليه نفى السجع من القرآن. وذهب بعضهم إلى إثبات السجع فى القرآن ، وزعموا أن ذلك مما يبين به فضل الكلام ، وأنه من الأجناس التى يقع بها التفاضل فى البيان والفصاحة ، كالتجنيس والالتفات وما أشبه ذلك من الوجوه التى يعرف بها الفصاحة.

وأقوى ما يستدلون به عليه اتفاق الكل على أن موسى أفضل من هارون عليهما‌السلام ، ولمكان السجع قيل فى موضع : هارون وموسى.

ولما كانت الفواصل فى موضع آخر بالواو والنون قيل موسى وهارون ، قالوا : هذا يفارق أمر الشعر لأنه لا يجوز أن يقع فى الخطاب إلا مقصودا إليه ، وإذا وقع غير مقصود إليه كان دون القدر الذى يسمى شعرا ، وذلك القدر ما يتفق وجوده من المفحم كما يتفق وجوده من الشاعر.

وأما ما فى القرآن من السجع فهو كثير لا يصح أن يتفق كله غير مقصود إليه ، ولو كان القرآن سجعا لكان غير خارج عن أساليب كلامهم ، ولو كان داخلا فيها لم يقع بذلك إعجاز.

ولو جاز أن يقال هو سجع معجز لجاز لهم أن يقولوا شعر معجز ، وكيف والسجع مما كان يألفه الكهان من العرب ونفيه من القرآن أجدر بأن يكون حجة من نفى الشعر ، لأن الكهانة تنافى النبوات كذلك الشعر.

والذى يقدرونه أنه سجع فهو وهم ، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع وإن لم يكن سجعا ، لأن ما يكون به الكلام سجعا يختص ببعض الوجوه

٣٥٦

دون بعض ، لأن السجع من الكلام يتبع المعنى فيه اللفظ الذى يؤدى السجع ، وليس كذلك ما اتفق مما هو فى تقدير السجع من القرآن ، لأن اللفظ يقع فيه تابعا للمعنى ، وفصل بين أن ينتظم الكلام فى نفس بألفاظه التى تؤدى المعنى المقصود فيه ، وبين أن يكون المعنى منتظما دون اللفظ ، ومتى ارتبط المعنى بالسجع كانت إفادة السجع كإفادة غيره ، ومتى ارتبط المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلبا لتجنيس الكلام دون تصحيح المعنى.

وللسجع منهج مرتب محفوظ ، وطريق مضبوط متى أخلّ به المتكلم أوقع الخلل فى كلامه ونسب إلى الخروج عن الفصاحة ، كما أن الشاعر إذا خرج عن الوزن المعهود كان مخطئا وكان شعره مرذولا ، وربما أخرجه عن كونه شعرا.

وقد علمنا أن بعض ما يدعونه سجعا متقارب الفواصل متدانى المقاطع ، وبعضها مما يمتد حتى يتضاعف طوله عليه وترد الفاصلة على ذلك الوزن الأول بعد كلام كثير ، وهذا فى السجع غير مرضىّ ولا محمود.

فإن قيل : متى خرج السجع المعتدل إلى نحو ما ذكرتموه خرج من أن يكون سجعا ، وليس على المتكلم أن يلتزم أن يكون كلامه كله سجعا ، بل يأتى به طورا ، ثم يعدل عنه إلى غيره ، ثم قد يرجع إليه.

قيل : متى وقع أحد مصراعى البيت مخالفا للآخر كان تخليطا وخبطا ، وكذلك متى اضطرت أحد مصراعى الكلام المسجع وتفاوت كان خبطا.

وعلم أن فصاحة القرآن غير مذمومة فى الأصل فلا يجوز أن يقع فيها نحو هذا من الاضطراب ، ولو كان الكلام الذى هو فى صورة السجع منه لما تحيروا فيه وكانت الطباع تدعو إلى المعارضة ، لأن السجع غير ممتنع عليهم بل هو عادتهم ، فكيف تنقض العادة بما هو نفس العادة ، وهو غير خارج عنها ولا مميز منها.

ويزعم بعضهم أنه سجع متداخل ، ونظيره من القرآن قوله تعالى : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) وقوله : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها) وقوله : (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) وقوله : (التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) وقوله : (إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي).

٣٥٧

ولو كان ذلك عندهم سجعا لم يتحيروا فيه ذلك التحير حتى سماه بعضهم سحرا وتصرفوا فيما كانوا يسمونه به ، ويصرفونه إليه ، ويتوهمونه فيه ، وهم فى الجملة عارفون بعجزهم عن طريقه ، وليس القوم بعاجزين عن تلك الأساليب المعتادة عندهم المألوفة لديهم.

ومن جنس السجع المعتاد عندهم قول أبى طالب لسيف بن ذى يزن : أنبتك منبتا طابت أرومته ، وعزت جرثومته ، وثبت أصله وبسق فرعه ، ونبت زرعه ، فى أكرم موطن وأطيب معدن.

والقرآن مخالف لنحو هذه الطريقة مخالفته للشعر ، وسائر أصناف كلامهم الدائر بينهم.

وأما ما ذكروا من تقديم موسى على هارون عليهما‌السلام فى موضع ، وتأخيره عنه فى موضع لمكان السجع ، ولتساوى مقاطع الكلام ، فليس بصحيح ، لأن الفائدة غير ما ذكروه.

وهى أن إعادة ذكر القصة الواحدة بألفاظ مختلفة تؤدى معنى واحدا من الأمر الصعب الذى تظهر فيه الفصاحة ، ونتبين فيه البلاغة ، وأعيد كثير من القصص فى مواضع على ترتيبات متفاوتة ، ونبهوا بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله مبتدأ به ومكررا ، ولو كان فيهم تمكن من المعارضة لقصدوا تلك القصة فعبروا عنها بالفاظ لهم تؤدى معناها وتحويها ، وجعلوها بإزاء ما جاء به ، وتوصلوا بذلك إلى تكذيبه وإلى مساواته فيما جاء به ، كيف وقد قال لهم : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ).

فعلى هذا يكون المقصد بتقديم بعض الكلمات ، وتأخيرها إظهار الإعجاز على الطريقين جميعا دون التسجيع الذى توهموه.

٣٥٨

٧

الوقوف على إعجاز القرآن

لا يتهيأ لمن كان لسانه غير العربية من العجم والترك وغيرهم أن يعرفوا إعجاز القرآن إلا أن يعلموا أن العرب قد عجزوا عن ذلك ، فإن عرفوا هذا بأن علموا أنهم قد تحدّوا على أن يأتوا بمثله ، وقرّعوا على ترك الإتيان بمثله ، ولم يأتوا به ، تبينوا أنهم عاجزون عنه ، وإذا عجز أهل ذلك اللسان فهم عنه أعجز.

ثم إن من كان من أهل اللسان العربىّ إلا أنه ليس يبلغ فى الفصاحة الحدّ الذى يتناهى إلى معرفة أساليب الكلام ووجوه تصرف اللغة وما يعدونه فصيحا بليغا بارعا من غيره ، فهو كالأعجمىّ فى أنه لا يمكنه أن يعرف إعجاز القرآن إلا بمثل ما يعرف به الفارسى ، وهو من ليس من أهل اللسان سواء.

فأما من كان قد تناهى فى معرفة اللسان العربى ، ووقف على طرقها ومذاهبها ، فهو يعرف القدر الذى ينتهى إليه وسع المتكلم من الفصاحة ، ويعرف ما يخرج عن الوسع ويتجاوز حدود القدرة ، فليس يخفى عليه إعجاز القرآن كما يميز بين جنس الخطب والرسائل والشعر ، وكما يميز بين الشعر الجيد والردىء والفصيح والبديع والنادر والبارع والغريب ، وهذا كما يميز أهل كل صناعة صنعتهم.

وربما اختلفوا فيه لأن من أهل الصنعة من يختار الكلام المتين والقول الرصين.

ومنهم من يختار الكلام الذى يروق ماؤه وتروع بهجته ورواؤه ، ويسلس مأخذه ، ويسلم وجهه ومنفذه ، ويكون قريب المتناول غير عويص اللفظ ولا غامض المعنى.

٣٥٩

كما يختار قوم ما يغمض معناه ويغرب لفظه ، ولا يختار ما سهل على اللسان وسبق إلى البيان.

ومنهم من يختار الغلوّ فى قول الشعر والإفراط فيه ، حتى ربما قالوا : أحسن الشعر أكذبه.

وأكثرهم على مدح المتوسط بين المذهبين فى الغلوّ والاقتصاد وفى المتانة والسلامة.

ومنهم من رأى أن أحسن الشعر ما كان أكثر صنعة وألطف تعملا ، وأن يتخير الألفاظ الرشيقة للمعانى البديعة والقوافى الواقعة.

والكلام موضوع للإبانة عن الأغراض التى فى النفوس ، وإذا كان كذلك وجب أن يتخير من اللفظ ما كان أقرب إلى الدلالة على المراد ، وأوضح فى الإبانة عن المعنى المطلوب ، ولم يكن مستكره المطلع على الأذن ، ومستنكر المورود على النفس ، حتى يتأبى بغرابته فى اللفظ عن الأفهام ، أو يمتنع بتعويض معناه عن الإبانة ، ويجب أن

يتنكب ما كان عليه اللفظ مبتذل العبارة ، ركيك المعنى سفسافى الوضع ، مجتنب التأسيس ، على غير أصل ممهد ، ولا طريق موطد.

فأما نهج القرآن ونظمه وتأليفه ورصفه ، فإن العقول تتيه فى جهته وتحار فى بحره ونضل دون وصفه.

وقد ، سماه الله عز ذكره حكيما وعظيما ومجيدا وقال : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

وقال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).

وقال : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً).

وقال : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً).

٣٦٠