الموسوعة القرآنيّة - ج ٢

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ٢

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦

فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر منى ، ولا برجزه ، ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذى تقول شيئا من هذا ، وو الله إن لقوله الذى يقول حلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه ، وإنه ليحطم ما تحته ، قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول ففيه ، قال : فدعنى حتى أفكر ، فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره.

ولقد بعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر ما كانت العرب شاعرا وخطيبا ، وأحكم ما كانت لغة ، وأشدّ ما كانت عدة ، فدعا أقصاها وأدناها إلى توحيد الله ، وتصديق رسالته ، فدعاهم بالحجة ، فلما قطع العذر وأزال الشبهة وصار الذى يمنعهم من الإقرار الهوى والحمية دون الجهل والحيرة ، حملهم على حظهم بالسيف ، فنصب لهم الحرب ونصبوا له ، وقتل عليتهم وأعلامهم وأعمامهم وبنى أعمامهم ، وهو فى ذلك يحتج عليهم بالقرآن ، ويدعوهم صباحا ومساء إلى أن يعارضوه إن كان كاذبا بسورة واحدة ، أو بآيات يسيرة ، فكلما ازداد تحدّيا لهم بها ، وتقريعا لعجزهم عنها ، تكشف عن نقصهم ما كان مستورا ، وظهر منه ما كان خفيّا ، فحين لم يجدوا حيلة ولا حجة قالوا له : أنت تعرف من أخبار الأمم ما لا نعرف ، فلذلك يمكنك ما لا يمكننا ، قال : فهاتوها مفتريات ، فلم يرم ذلك خطيب ، ولا طمع فيه شاعر ، ولا طبع فيه لتكلفه ، ولو تكلفه لظهر ذلك ، ولو ظهر لوجد من يستجيده ويحامى عليه ، ويكابر فيه ، ويزعم أنه قد عارض وقابل وناقض ، فدل ذلك العاقل على عجز القوم مع كثرة كلامهم ، واستحالة لغتهم ، وسهولة ذلك عليهم ، وكثرة شعرائهم ، وكثرة من هجاه منهم ، وعارض شعراء أصحابه وخطباء أمته ، لأن سورة واحدة وآيات يسيرة كانت أنقض لقوله ، وأفسد لأمره ، وأبلغ فى تكذيبه ، وأسرع فى تفريق أتباعه ، من بذل النفوس ، والخروج من الأوطان ، وإنفاق الأموال ، وهذا من جليل التدبر الذى لا يخفى على من هو دون قريش ، والعرب فى الرأى والعقل بطبقات ، ولهم القصيد العجيب ، والرجز الفاخر ، والخطب الطوال البليغة والقاصر الموجزة ، ولهم الأسجاع والمزدوج واللفظ المنثور ، ثم يتحدى به أقصاهم بعد أن أظهر عجز أدناهم ، فمحال أن يجتمع هؤلاء كلهم على الغلط فى الامر الظاهر ، والخطا

(م ٢١ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ٢)

٣٢١

المكشوف البين ، مع التقريع بالنقص ، والتوقيف على العجز ، وهم أشدّ الخلق أنفة وأكثرهم مفاخرة ، والكلام سيد عملهم ، وقد احتاجوا إليه ، والحاجة تبعث على الحيلة فى الأمر الغامض ، فكيف بالظاهر الجليل المنفعة ، وكما أنه محال أن يطيقونه ثلاثا وعشرين سنة على الغلط فى الأمر الجليل المنفعة ، فكذلك محال أن يتركوه وهم يعرفونه ويجدون السبيل إليه وهم يبذلون أكثر منه.

ولما ثبت كون القرآن معجزة نبينا ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجب الاهتمام بمعرفة وجه الإعجاز ، وقد خاض الناس فى ذلك كثيرا ، فبين محسن ومسىء.

فزعم قوم أن التحدّي وقع بالكلام القديم الذى هو صفة الذات ، وأن العرب كلفت فى ذلك ما لا يطاق وبه وقع عجزها ، وهو مردود لأن ما لا يمكن الوقوف عليه لا يتصوّر التحدى به.

والصواب ما قاله الجمهور أنه وقع بالدالّ على القديم وهو الألفاظ ، وقد زعم بعضهم أن إعجازه بالصرفة ، أى إن الله صرف العرب عن معارضته ، وسلب عقولهم ، وكان مقدورا لهم ، لكن عاقهم أمر خارجى فصار كسائر المعجزات.

وهذا قول فاسد بدليل : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) الآية ، فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ، ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم لمنزلته منزلة اجتماع الموتى ، وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره.

هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن ، فكيف يكون معجزا وليس فيه صفة إعجاز؟ بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم القدرة على الإتيان بمثله.

وأيضا فيلزم من القول بالصرفة زوال الإعجاز بزوال زمان التحدّى ، وخلوّ القرآن من الإعجاز ، وفى ذلك خرق لإجماع الأمة أن معجزة الرسول العظمى باقية ، ولا معجزة له باقية سوى القرآن.

ومما يبطل القول بالصرفة أيضا أنه لو كانت المعارضة ممكنة ، وإنما منع منها

٣٢٢

الصرفة لم يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون بالمنع معجزا فى يتضمن الكلام فضيلة على غيره فى نفسه.

وليس هذا بأعجب من قول فريق منهم إن الكل قادرون على الإتيان بمثله ، وإنما تأخروا عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به.

ولا بأعجب من قول آخرين : إن العجز وقع منهم ، وأما من بعدهم ففي قدرته الإتيان بمثله.

وكل هذا لا يعتدّ به.

وقال قوم : وجه إعجازه ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة ، ولم يكن ذلك من شأن العرب.

وقال آخرون : ما تضمنه من الإخبار عن قصص الأولين ، وسائر المتقدمين ، حكاية من شاهدها وحضرها.

وقال آخرون : ما تضمنه من الإخبار عن الضمائر من غير أن يظهر ذلك بقول أو فعل كقوله : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) ، (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ).

وقيل : وجه إعجازه ما فيه من النظم والتأليف والترصيف ، وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد فى كلام العرب ، ومباين لأساليب خطاباتهم. ولهذا لم يمكنهم معارضته.

ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التى أودعوها فى الشعر ، لأنه ليس مما يخرق العادة ، بل يمكن استدراكه بالعلم والتدريب والتصنع به كقوله الشعر ، ووصف الخطب ، وصناعة الرسالة ، والحذق فى البلاغة ، وله طريق تسلك ، فأما شأو ونظم القرآن فليس له مثال يحتذى ، ولا إمام يقتدى به ، ولا يصح وقوع مثله اتفاقا.

ونحن نعتقد أن الإعجاز فى بعض القرآن أظهر وفى بعضه أدقّ وأغمض.

وقيل : وجه الإعجاز الفصاحة وغرابة الأسلوب ، والسلامة من جميع العيوب.

٣٢٣

وقيل : وجه الإعجاز راجع إلى التأليف الخاص به لا مطلق التأليف ، بأن اعتدلت مفرداته تركيبا وزنة ، وعلة مركباته معنى بأن يوقع كل فن فى مرتبته العليا فى اللفظ والمعنى.

وقيل : الصحيح والذى عليه الجمهور والحذّاق فى وجه إعجازه ، أنه بنظمه وصحة معانيه ، وتوالى فصاحة ألفاظه ، وذلك أن الله أحاط بكل شىء علما ، وأحاط بالكلام كله ، فإذا ترتيب اللفظة من القرآن علم بإحاطته أى لفظة تصلح أن تلا الأولى وتبين المعنى بعد المعنى ، ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره ، والبشر يعمهم الجهل والنسيان والذهول. ومعلوم ضرورة أن أحدا من البشر لا يحيط بذلك ، فبهذا جاء نظم القرآن فى الغاية القصوى من الفصاحة ، وبهذا يبطل قول من قال : إن العرب كان فى قدرتها الإتيان بمثله فصرفوا عن ذلك. والصحيح أنه لم يكن فى قدرة أحد قط ، ولهذا ترى البليغ ينقح القصيدة أو الخطبة حولا ، ثم ينظر فيها فيغير فيها وهلم جرّا ، وكتاب الله تعالى لو نزعت منه لفظة ، ثم أدير لسان العرب على لفظة أحسن منها لم يوجد ، ونحن يتبين لنا البراعة فى أكثر ويخفى علينا وجهها فى مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ فى سلامة الذوق وجودة القريحة ، وقامت الحجة على العالم بالعرب إذا كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة ، كما قامت الحجة فى معجزة موسى بالسحرة ، وفى معجزة عيسى بالأطباء ، فإن الله إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبدع ما يكون فى زمن النبى الذى أراد إظهاره ، فكان السحر قد انتهى فى مدة موسى إلى غايته ، وكذلك الطب فى زمن عيسى ، والفصاحة فى زمن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : وجه الإعجاز فى القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها فى جميعه استمرارا لا يوجد له فترة ، ولا يقدر عليه أحد من البشر ، وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة فى جميع أنحائها فى العالى منه إلا فى الشيء اليسير المعدود ، ثم تعرض الفترات الإنسانية فينقطع طيب الكلام ورونقه ، فلا تستمر لذلك الفصاحة فى جميعه ، بل توجد فى تفاريق وأجزاء منه.

وقيل : الجهة المعجزة فى القرآن تعرف بالتفكير فى علم البيان ، وهو كما اختاره جماعة فى تعريفه : ما يحترز به عن الخطأ فى تأدية المعنى وعن تعقيده ،

٣٢٤

ويعرف به وجوه تحسين الكلام بعد رعاية تطبيقه لمقتضى الحال ، لأن جهة إعجازه ليس مفردات ألفاظه ، وإلا لكانت قبل نزوله معجزة ، ولا مجرد تأليفها ، وإلا لكان كل تأليف معجزا ، ولا إعرابها وإلا لكان كل كلام معرب معجزا ، ولا مجرد أسلوبه وإلا لكان الابتداء بأسلوب الشعر معجزا. والأسلوب : الطريق ، ولكان هذيان مسيلمة معجزا ، ولأن الإعجاز يوجد دونه ، أى الأسلوب فى نحو : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) ، (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ولا بالصرف عن معارضتهم لأن تعجبهم كان من فصاحته ، ولأن مسيلمة وابن المقفع والمعرى وغيرهم قد تعاطوها فلم يأتوا إلا بما تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع ، ويضحك منه فى أحوال تركيبه ، وبها ، أى بتلك الأحوال ، أعجز البلغاء وأخرص الفصحاء ، فعلى إعجازه دليل إجمالى ، وهو أن العرب عجزت عنه وهو بلسانها فغيرها أحرى ، ودليل تفصيلى مقدمته التفكر فى خواصّ تركيبه ، ونتيجته العلم بأنه تنزيل من المحيط بكل شىء علما.

وقيل : إن إعجاز القرآن ذكر من وجهين :

أحدهما إعجاز متعلق بنفسه.

والثانى بصرف الناس عن معارضته.

فالأول إما أن يتعلق بفصاحته وبلاغته أو بمعناه.

أما الإعجاز المتعلق بفصاحته وبلاغته فلا يتعلق بعنصره الذى هو اللفظ والمعنى ، فإن ألفاظه ألفاظهم ، قال تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) ، (بِلِسانٍ عَرَبِيٍ)

ولا بمعانيه فإن كثيرا منها موجود فى الكتب المتقدمة ، قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ).

وما هو فى القرآن من المعارف الإلهية وبيان المبدأ والمعاد والإخبار بالغيب.

فإعجازه ليس براجع إلى القرآن من حيث هو قرآن ، بل لكونها حاصلة من غير سبق تعليم وتعلم ، ويكون الإخبار بالغيب إخبارا بالغيب سواء كان بهذا النظم أو بغيره ، مؤدى بالعربية أو بلغة أخرى بعبارة أو إشارة ، فإذن النظم المخصوص صورة القرآن ، واللفظ والمعنى عنصره ، وباختلاف الصور يختلف حكم الشيء واسمه لا بعنصره ، كالخاتم والقرط والسوار ، فإنه باختلاف صورها

٣٢٥

اختلفت أسماؤها لا بعنصرها الذى هو الذهب والفضة والحديد. فإن الخاتم المتخذ من الفضة ومن الذهب ومن الحديد يسمى خاتما وإن كان العنصر مختلفا. وإن اتخذ خاتم وقرط وسوار من ذهب اختلفت أسماؤها باختلاف صورها وإن كان العنصر واحدا.

فظهر من هذا أن الإعجاز المختص بالقرآن يتعلق بالنظم المخصوص ، وبيان كون النظم معجزا يتوقف على بيان نظم الكلام ، ثم بيان أن هذا النظم مخالف لنظم ما عداه.

ومراتب تأليف الكلام خمس :

الأولى : ضم الحروف المبسوطة بعضها إلى بعض لتحصل الكلمات الثلاث : الاسم والفعل والحرف.

والثانية : تأليف هذه الكلمات بعضها إلى بعض لتحصل الجمل المفيدة ، وهو النوع الذى يتداوله الناس جميعا فى مخاطباتهم وقضاء حوائجهم ، ويقال له المنثور من الكلام.

والثالثة : يضم بعض ذلك إلى بعض ضما له مباد ومقاطع ومداخل ومخارج ، ويقال له المنظوم.

والرابعة : أن يعتبر فى أواخر الكلام مع ذلك تسجيع ، ويقال له المسجع.

والخامسة : أن يجعل مع ذلك وزن ، ويقال له : الشعر والمنظوم ، إما محاورة ويقال له الخطابة ، وإما مكاتبة ويقال له الرسالة.

فأنواع الكلام لا تخرج عن هذه الأقسام ، ولكل من ذلك نظم مخصوص.

والقرآن جامع لمحاسن الجميع على نظم غير نظم شىء منها يدل على ذلك ، لأنه لا يصح أن يقال له رسالة أو خطابة أو شعر ، أو سجع ، كما يصح أن يقال هو كلام ، والبليغ إذا قرع سمعه فصل بينه وبين ما عداه من النظم ، ولهذا قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) تنبيها على أن تأليفه ليس على هيئة نظم يتعاطاه البشر فيمكن أن يغير بالزيادة والنقصان كحالة الكتب الآخر.

٣٢٦

وأما الإعجاز المتعلق بصرف الناس عن معارضته فظاهر أيضا إذا اعتبر ، وذلك أنه ما من صناعة محمودة كانت أو مذمومة إلا وبينها وبين قوم مناسبات

واتفاقات جميلة ، بدليل أن الواحد يؤثر حرفة من الحرف فينشرح صدره بملابستها وتطيعه قواه فى مباشرتها ، فيقبلها بانشراح صدره ويزاولها باتساع قلبه ، فلما دعا الله أهل البلاغة والخطابة الذين يهيمون فى كل واد من المعانى بسلاطة لسانهم إلى معارضة القرآن وعجزهم عن الإتيان بمثله ، ولم يتصدّوا لمعارضته ، لم يخف على أولى الألباب أن صارفا إليها صرفهم عن ذلك ، وأىّ إعجاز أعظم من أن يكون كافة البلغاء عجزت فى الظاهر عن معارضته مصروفة فى الباطن عنها.

وإعجاز القرآن يدرك ولا يمكن وصفه ، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها ، وكالملاحة كما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت ولا يدرك تحصيله لغير ذوى الفطرة السليمة إلا بإتقان علمى المعانى والبيان والتمرين فيهما.

ولقد سئل بندار الفارسى عن موضع الإعجاز من القرآن فقال : هذه مسألة فيها حيف على المعنى ، وذلك أنه شبيه بقولك : ما موضع الإنسان من الإنسان؟ فليس للإنسان موضع من الإنسان ، بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته ، كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شىء منه إلا وكان ذلك المعنى آية فى نفسه ومعجزة لمحاوله وهدى لقائله ، وليس فى طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله فى كلامه وأسراره فى كتابه ، فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده. وذهب الأكثرون من علماء النظر إلى وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة ، لكن صعب عليهم تفصيلها وصغوا فيه إلى حكم الذوق.

والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها فى درجات البيان متفاوتة.

وفمنها : التبليغ الرصين الجزل.

ومنها : الفصيح القريب السهل.

ومنها : الجائز المنطلق الرسل. وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود.

فالأول أعلاها ، والثانى أوسطها ، والثالث أدناها وأقربها.

فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة ، وأخذت

٣٢٧

من كل نوع شعبة ، فانتظم لها بانتظام هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتى الفخامة والعذوبة ، وهما على الانفراد فى نعومتهما كالمتضادين ، لأن العذوبة نتاج السهولة ، والجزالة والمتانة يعالجان نوعا من الذعورة ، فكان اجتماع الأمرين فى نظمه مع نبوّ كل واحد منهما على الآخر فضيلة خص بها القرآن ليكون آية بينة لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإنما تعذر عن البشر الإتيان بمثله لأمور :

منها : أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التى هى ظروف المعانى ، ولا تدرك أفهامهم جميع معانى الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ، ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التى بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض ، فيتواصلوا باختيار الأفضل من الأحسن من وجوهها إلى أن يأتوا بكلام مثله ، وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة : لفظ حاصل ، ومعنى به قائم ، ورباط لهما ناظم.

وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه فى غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى شيئا من الألفاظ ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ، ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشدّ تلاوة وتشاكلا من نظمه.

وأما معانيه فكل ذى لبّ يشهد له بالتقدم فى أبوابه ، والترقى إلى أعلى درجاته ، وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على الفرق فى أنواع الكلام : فأما أن توجد مجموعة فى نوع واحد منه ، فلم توجد إلا فى كلام العليم القدير.

نخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ فى أحسن نظوم التألف مضمنا أصح المعانى من توحيد الله تعالى ، وتنزيهه فى صفاته ، ودعائه إلى طاعته ، وبيان لطريق عبادته ، من تحليل وتحريم وحظر وإباحة ، ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهى عن منكر ، وإرشاد إلى محاسن الأخلاق ، وزجر عن مساويها ، واضعا كل شىء منها موضعه الذى لا يرى شىء أولى منه ولا يتوهم فى صورة العقل أمر أليق به منه ، مودعا أخبار القرون الماضية ، وما نزل من مثلات الله بمن مضى ، وعائد منهم منبئا عن الكوائن المستقبلة فى الأعصار الآتية من الزمان ، جامعا فى ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ، ليكون ذلك آكد للزوم ما دعا عليه وأداء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه.

٣٢٨

ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتنسق أمر يعجز عنه قوى البشر ، ولا تبلغه قدرتهم ، فانقطع الخلق دونه ، وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته فى شكله.

ثم صار المعاندون له يقولون مرة : إنه شعر لما رأوه منظوما او مرة إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه ، وقد كانوا يجدون له وقعا فى القلوب ، وقلاعا فى النفوس يرهبهم ويحيرهم ، فلم يتمالكوا ان يعترفوا به نوعا من الاعتراف ولذلك قالوا : إن له لحلاوة ، وإن عليه لطوة ، وكانوا مرة بجهلهم يقولون : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ، مع علمهم أن صاحبهم أمىّ وليس بحضرته من يملى أو يكتب فى نحو ذلك من الأمور التى أوجبها العناد والجهل والعجز.

وثمة فى إعجاز القرآن وجه ذهب عنه الناس ، وهو صنيعه فى القلوب وتأثيره فى النفوس ، فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة فى حال ذوى الروعة والمهابة فى حال آخر ما يخلص منه إليه ، قال تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ، وقال الله : (نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ).

وقد اختلف أهل العلم فى وجه إعجاز القرآن ، فذكروا فى ذلك وجوها كثيرة كلها حكمة وصوابا ، وما بلغوا فى وجوه إعجازه جزءا واحدا من عشر معشاره.

فقال قوم : هو الإيجاز مع البلاغة.

وقال آخرون : هو البيان والفصاحة.

وقال آخرون : هو الوصف والنظم.

وقال آخرون : هو كونه خارجا عن جنس كلام العرب من النظم والنثر والخطب والشعر مع كونه حروفه فى كلامهم ومعانيه فى خطابهم وألفاظه من جنس كلماتهم ، وهو بذاته قبيل غير قبيل كلامهم وجنس آخر متميز عن أجناس خطابهم ، حتى إن من اقتصر على معانيه وغير حروفه أذهب رونقه ، ومن اقتصر على حروفه وغير معانيه أبطل فائدته ، فكان فى ذلك أبلغ دلالة على إعجازه.

٣٢٩

وقال آخرون : هو كون قارئه لا يكلّ وسامعه لا يمل ، وإن تكررت عليه تلاوته.

وقال آخرون : هو ما فيه من الإخبار عن الأمور الماضية.

وقال آخرون : هو ما فيه من علم الغيب والحكم على الأمور بالقطع.

وقال آخرون : هو كونه جامعا لعلوم يطول شرحها ويشقّ حصرها.

وأهل التحقيق على أن الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال لا بكل واحد على انفراده ، فإنه جمع ذلك كله فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع ، بل غير ذلك مما لم يسبق.

فمنها : الروعة التى له فى قلوب السامعين وأسماعهم سواء المقرّ والجاحد.

ومنها : أنه لم يزل ولا يزال غضّا طريّا فى أسماع السامعين وعلى ألسنة القارئين.

ومنها : جمعه بين صفتى الجزالة والعذوبة ، وهما كالمتضادين لا يجتمعان غالبا فى كلام البشر.

ومنها : جعله آخر الكتب غنيّا عن غيره ، وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد تحتاج إلى بيان يرجع فيه إليه كما قال تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ). وقيل : وجوه إعجاز القرآن تظهر من جهات ترك المعارضة مع توفر الدواعى وشدة الحاجة والتحدى للكافة والصرفة والبلاغة والإخبار عن الأمور المستقبلة ونقض العادة وقياسه بكل معجزة.

ونقض العادة هو أن العادة كانت جارية بضروب من أنواع الكلام معروفة :

منها : الشعر.

ومنها : السجع.

ومنها : الخطب.

ومنها : الرسائل.

٣٣٠

ومنها : المنثور الذى يدور بين الناس فى الحديث.

فأتى القرآن بطريقة مفردة خارجة عن العادة لها منزلة فى الحسن تفوق به كل طريقة ، ويفوق الموزون الذى هو أحسن الكلام.

وأما قياسه بكل معجزة فإنه يظهر إعجازه من هذه الجهة إذا كان سبيل فلق البحر وقلب العصا حية ، وما جرى هذا المجرى فى ذلك سبيلا واحدا فى الإعجاز ، إذ خرج عن العادة فصدّ الخلق عن المعارضة.

والقرآن منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة ، وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها فى أربعة وجوه :

أولها : حسن تأليفه والتئام كلمه وفصاحته ، ووجوه إيجازه وبلاغته الخارقة عادة العرب الذين هم فرسان الكلام وأرباب هذا الشأن.

والثانى : صورة نظمه العجيب والأسلوب الغريب المخالف لأساليب كلام العرب.

ومنها : نظمها ونثرها الذى جاء عليه ووقفت عليه مقاطع آياته ، وانتهت إليه فواصل كلماته ، ولم يوجد قبله ولا بعده نظير له.

وكل واحد من هذين النوعين الإيجاز والبلاغة بذاتها ، والأسلوب الغريب بذاته نوع إعجاز على التحقيق لم تقدر العرب على الإتيان بواحد منهما ، إذ كل واحد خارج عن قدرتها مباين لفصاحتها وكلامها ، خلافا لمن زعم أن الإعجاز فى مجموع البلاغة والأسلوب.

الوجه الثالث : ما انطوى عليه من الإخبار بالمغيبات وما لم يكن ، فوجد كما ورد.

الرابع : ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الدائرة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذّ من أخبار أهل الكتاب الذى قطع عمره فى تعلم ذلك ، فيورده صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجهه ويأتى به على نصه ، وهو أمّى لا يقرأ ولا يكتب.

٣٣١

فهذه الوجوه الأربعة من إعجازه بينة لا نزاع فيها.

ومن الوجوه فى إعجازه غير ذلك ، أى وردت بتعجيز قوم فى قضايا وإعلامهم أنهم لا يفعلونها فما فعلوا ولا قدروا على ذلك كقوله لليهود : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) فما تمناه أحد منهم ، وهذا الوجه داخل فى الوجه الثالث.

ومنها : الروعة التى تلحق قلوب سامعيه عند سماعهم ، والهيبة التى تعتريهم عند تلاوته ، وقد أسلم جماعة عند سماع آياته منه كما وقع لجبير بن مطعم أنه سمع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ فى المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآية : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) إلى قوله : (الْمُصَيْطِرُونَ) كاد قلبه أن يطير. وذلك أول ما وقر الإسلام فى قلبه.

وقد مات جماعة عند سماع آيات منه.

ومن وجوه إعجازه كونه آية باقية لا يعدم ما بقيت الدنيا مع ما تكفل الله بحفظه.

ومنها : أن قارئه لا يمله وسامعه لا يمجه ، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة وترديده يوجب له محبة ، وغيره من الكلام يعادى إذا أعيد ويملّ مع الترديد ، ولهذا وصف صلى‌الله‌عليه‌وسلم القرآن بأنه لا يخلق على كثرة الردّ.

ومنها : جمعه لعلوم ومعارف لم يجمعها كتاب من الكتب ولا أحاط بعلمها أحد فى كلمات قليلة وأحرف معدودة.

٣٣٢

٢

القرآن معجزة

القرآن الذى هو متلوّ محفوظ مرسوم فى المصاحف هو الذى جاء به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنه هو الذى تلاه على من فى عصره ثلاثا وعشرين سنة ، والطريق إلى معرفة ذلك هو النقل المتواتر الذى يقع عنده العلم الضرورى به ، وذلك أنه قام به فى الموقف ، وكتب به إلى البلاد ، وتحمله عنه إليها من تابعه ، وأورده على غيره من لم يتابعه ، حتى ظهر فيهم الظهور الذى لا يشتبه على أحد ، ولا يحتمل أنه قد خرج من أتى بقرآن يتلوه ويأخذه على غيره ، ويأخذه غيره على الناس ، حتى انتشر ذلك فى أرض العرب كلها ، وتعدّى إلى الملوك المعاقبة ، كملك الروم والعجم القبط والحبش وغيرهم من ملوك الأطراف.

ولما ورد ذلك مضادّا لأديان أهل ذلك العصر كلهم ، ومخالفا لوجوه اعتقاداتهم المختلفة فى الكفر ، وقف جميع أهل الخلاف على جملته ، ووقف أهل دينه الذين أكرمهم الله بالإيمان على جملته وتفاصيله ، وتظاهر بينهم حتى حفظه الرجال ، وتنقلت به الرحال ، وتعلمه الكبير والصغير ، إذ كان عمدة دينهم وعلما عليه ، والمفروض تلاوته فى صلواتهم ، والواجب استعماله فى أحكامهم.

ثم تناقله خلف عن سلف ، ثم مثلهم فى كثرتهم ، وتوفر دواعيهم عى نقله حتى انتهى إلينا ما وصفناه من حاله.

فلن يتشكك أحد ، ولا يجوز أن يتشكك مع وجود هذه الأسباب فى أنه أتى بهذا القرآن من عند الله ، فهذا أصل.

وإذا ثبت هذا الأصل وجودا ، ولقد تحداهم إلى أن يأتوا بمثله ، وقرعهم على ترك الإتيان به طول السنين التى وصفناها فلم يأتوا بذلك ، والذى يدل على هذا الأصل أنا قد علمنا أن ذلك مذكور فى القرآن فى المواضع الكثيرة ، كقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ

٣٣٣

وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) وكقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

فجعل عجزهم عن الإتيان بمثله دليلا على أنه منه ، ودليلا على وحدانيته.

وذلك يدل على بطلان قول من زعم أنه لا يمكن أن يعلم بالقرآن الوحدانية ، وزعم أن ذلك مما لا سبيل إليه إلا من جهة العقل ، لأن القرآن كلام الله عزوجل ، ولا يصح أن يعلم الكلام حتى يعلم المتكلم أولا ، وإذا ثبت بما تبين إعجازه ، وأن الخلق لا يقدرون عليه ، ثبت أن الذى أتى به غيرهم ، وأنه إنما يختص بالقدرة عليه من يختص بالقدرة عليهم وأنه صدق ، وإذا كان كذلك كان ما يتضمنه صدقا.

ومن ذلك قوله عزوجل : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) وقوله (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ).

فقد ثبت بما تبين أنه تحدّاهم إليه ولم يأتوا بمثله.

وفى هذا أمران :

أحدهما التحدّى إليه.

والآخر أنه لم يأتوا له بمثل.

والذى يدل على ذلك النقل المتواتر الذى يقع به العلم الضرورى ، فلا يمكن جحود واحد من هذين الأمرين.

وإن قال قائل : لعله لم يقرأ عليهم الآيات التى فيها ذكر التحدى ، وإنما قرأ عليهم ما سوى ذلك من القرآن.

كان كذلك قولا باطلا يعلم بطلانه مثل ما يعلم به بطلان قول من زعم أن القرآن أضعاف هذا ، وهو يبلغ حمل جمل ، وأنه كتم وسيظهره المهدى.

ويدعى أن هذا القرآن ليس هو الذى جاء به النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما هو شىء وضعه عمر أو عثمان رضى الله عنهما حيث وضع المصحف.

٣٣٤

أو يدعى فيه زيادة أو نقصانا.

وقد ضمن الله حفظ كتابه أن يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه ، ووعده الحق. ومعروف أن العدد الذين أخذوا القرآن فى الأمصار وفى البوادى وفى الأسفار والحضر وضبطوه حفظا من بين صغير وكبير ، وعرفوه حتى صار لا يشتبه على أحد منهم حرف ، لا يجوز عليهم السهو والنسيان ولا التخليط فيه والكتمان ، ولو زادوا ونقصوا أو غيروا لظهر.

وقد علمت أن شعر امرئ القيس وغيره لا يجوز أن يظهر ظهور القرآن ولا أن يحفظ كحفظه ولا أن يضبط كضبطه ، ولا أن تمس الحاجة إليه مساسها إلى القرآن ، لو زيد فيه بيت أو نقص منه بيت ، لا بل لو غير فيه لفظ ، لتبرأ منه أصحابه وأنكره أربابه ، فإذا كان كذلك مما لا يمكن فى شعر امرئ القيس ونظائره ، مع أن الحاجة إليه تقطع لحفظ العربية ، فكيف يجوز أو يمكن ما ذكروه فى القرآن مع شدة الحاجة إليه فى أصل الدين ، ثم فى الأحكام والشرائع واشتمال الهمم المختلفة على ضبطه.

فمنهم من يضبطه لإحكام قراءته ومعرفة وجوهها وصحة أدائها.

ومنهم : من يحفظه للشرائع والفقه.

ومنهم من يضبطه ليعرف تفسيره ومعانيه. ومنهم من يقصد بحفظه الفصاحة والبلاغة.

ومن الملحدين من يحصله لينظر فى عجيب شأنه.

وكيف يجوز على أهل هذه الهمم المختلفة والآراء المتباينة ، على كثرة أعدادهم ، واختلاف بلادهم ، وتفاوت أغراضهم ، أن يجتمعوا على التغيير والتبديل والكتمان.

وإنك إذا تأملت ما ذكر فى أكثر السور فى ردّ قومه عليه وردّ غيرهم وقولهم : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) وقول بعضهم : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) إلى الوجوه التى يصرف إليها قولهم فى الطعن عليه.

فمنهم من يستهين بها ، ويجعل ذلك سببا لتركه الإتيان بمثله.

٣٣٥

ومنهم من يزعم أنه مفترى فلذلك لا يأتى بمثله.

ومنهم من يزعم أنه دارس وأنه أساطير الأولين.

ولو جاز أن يكون بعضه مكتوما جاز على كله.

ولو جاز أن يكون بعضه موضوعا جاز ذلك فى كله ، فثبت من هذا أنه تحدى إليه ، وأنهم لم يأتوا له بمثل.

فإذا ثبت هذا وجب أن يعلم أن تركهم للإتيان بمثله كان لعجزهم عنه.

والذى يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن أنه تحداهم إليه حتى طال التحدى ، وجعله دلالة على صدقه وثبوته. وتضمن أحكامه استباحة دمائهم وأموالهم وسبى ذريتهم ، فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا وتوصلوا إلى تخليص أنفسهم وأهليهم وأموالهم من حكمه بأمر قريب هو عادتهم فى لسانهم ، ومألوف من خطابهم ، وكان ذلك يغنيهم عن تكلف القتال وإكثار المراء والجدال ، وعن الجلاء عن الأوطان ، وعن تسليم الأهل والذرية للسبى.

فلما لم يحصل هناك معارضة منهم على أنهم عاجزون عنها.

ومعلوم أنهم لو عارضوه بم تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره ، وتكذيب قوله ، وتفريق جمعه ، وتشتيت أسبابه ، وكان من صدق به يرجع على أعقابه ، ويعود فى مذهب أصحابه.

فلما لم يفعلوا شيئا من ذلك مع طول المدة ، ووقوع الفسحة ، وكان أمره يتزايد حالا فحالا ، ويعلو شيئا فشيئا ، وهم على العجز عن القدح فى آيته ، والطعن فى دلالته ، علم أنهم كانوا لا يقدرون على معارضته ولا على توهين حجته.

وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قوم خصمون وقال : (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) وقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) وعلم أيضا أن ما كانوا يقولونه من وجوه اعتراضهم على القرآن مما حكى الله عزوجل عنهم من قولهم : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وقولهم : (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) وقالوا : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ

٣٣٦

عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) وقالوا : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) وقالوا : (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً). (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) وقوله : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) إلى آيات كثيرة فى نحو هذا تدل على أنهم كانوا متحيرين فى أمرهم متعجبين من عجزهم ، يفزعون إلى نحو هذه الأمور من تعليل وتعذير ومدافعة بما وقع التحدّى إليه وعرف الحث عليه.

وقد علم منهم أنهم ناصبوه الحرب وجاهروه ونابذوه ، وقطعوا الأرحام وأخطروا بأنفسهم ، وطالبوه بالآيات والإتيان بغير ذلك من المعجزات يريدون تعجيزه ليظهروا عليه بوجه من الوجوه ، فكيف يجوز أن يقدروا على معارضته القريبة السهلة عليهم ، وذلك يدحض حجته ويفسد دلالته ويبطل أمره ، فيعدلون عن ذلك إلى سائر ما صاروا إليه من الأمور التى ليس عليها مزيد فى المنابذة والمعاداة ، ويتركون الأمر الخفيف هذا مما يمتنع وقوعه فى العادات ، ولا يجوز إتقانه من العقلاء.

ويمكن أن يقال إنهم لو كانوا قادرين على معارضته والإتيان بمثل ما أتى به لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة ، وهم على ما هم عليه من الذرابة والسلاقة والمعرفة بوجوه الفصاحة ، وهو يستطيل عليهم بأنهم عاجزون عن مباراته ، وأنهم يضعفون عن مجاراته ، ويكرر فيما جاء به ذكر عجزهم عن مثل ما يأتى به ويقرعهم ويؤنبهم عليه ، ويدرك آماله فيهم ، وينجح ما يسعى له بتركهم المعارضة ، وهو يذكر فيما يتلوه تعظيم شأنه وتفخيم أمره حتى يتلوا قوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) وقوله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) وقوله ، (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) وقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) وقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ) وقوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وقوله : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ)

(م ٢٢ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ٢)

٣٣٧

جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) إلى غير ذلك من الآيات التى تتضمن تعظيم شأن القرآن.

فمنها ما يتكرّر فى السورة فى مواضع منها.

ومنها ما ينفرد فيها.

وذلك مما يدعوهم إلى المباراة ، ويحضهم على المعارضة وإن لم يكن متحديا إليه. ألا ترى أنهم قد كان ينافر شعراؤهم بعضهم بعضا؟ ولهم فى ذلك مواقف معروفة وأخبار مشهورة وأيام منقولة.

وكانوا يتنافسون على الفصاحة والخطابة والذلاقة ، ويتبجحون بذلك ويتفاخرون بينهم.

فلن يجوز والحالة هذه أن يتغافلوا عن معارضته لو كانوا قادرين عليها تحدّاهم إليها أو لم يتحداهم.

ولو كان هذا القبيل مما يقدر عليه البشر لوجب فى ذلك أمر آخر ، وهو أنه لو كان مقدورا للعباد لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا القبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به ، وكانوا لا يفتقرون إلى تكلف وضعه وتعمل نظمه فى الحال.

فلما لم نرهم احتجوا عليه بكلام سابق وخطبة متقدمة ورسالة سالفة ونظم بديع ، ولا عارضوه به فقالوا هذا أفصح مما جئت به ، وأغرب منه أو هو مثله ، علم أنه لم يكن إلى ذلك سبيل ، وأنه لم يوجد له نظير ، ولو كان وجد له مثل لكان ينقل إلينا ولعرفناه كما نقل إلينا أشعار أهل الجاهلية ، وكلام الفصحاء والحكماء من العرب ، وأدى إلينا كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد ، وغير ذلك من أنواع بلاغتهم ، وصنوف فصاحاتهم.

فإن قيل : الذى بنى على الأمر فى تثبيت معجزة القرآن أنه وقع التحدى إلى الإتيان بمثله وأنهم عجزوا عنه بعد التحدى إليه ، ومما يؤكد هذا أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد دعا الآحاد إلى الإسلام محتجاّ عليهم بالقرآن ، لأنا نعلم أنه لم يلزمهم تصديقه تقليدا ، ونعلم أن السابقون الأولين إلى الإسلام لم يقلدوه ، وإنما دخلوا على

٣٣٨

بصيرة ، ولم نعلمه قال لهم : ارجعوا إلى جميع الفصحاء ، فإن عجزوا عن الإتيان بمثله فقد ثبتت حجتى ، بل لما رآهم يعلمون إعجازه ، ألزمهم حكمه فقبلوه وتابعوا الحق وبادروا إليه مستسلمين ، ولم يشكوا فى صدقه ولم يرتابوا فى وجه دلالته ، فمن كانت بصيرته أقوى ومعرفته أبلغ كان إلى القبول منه أسبق ، ومن اشتبه عليه وجه الإعجاز ، واشتبه عليه بعض شروط المعجزات ، وأدلة النبوات ، كان أبطأ إلى القبول ، حتى تكاملت أسبابه واجتمعت له بصيرته وترادفت عليه مواده. ونحن نعلم تفاوت الناس فى إدراكه ومعرفة وجه دلالته ، لأن الأعجمى لا يعلم أنه معجزا إلا بأن يعلم عجز العرب عنه ، وهو يحتاج فى معرفة ذلك إلى أمور لا يحتاج إليها من كان من أهل صنعة الفصاحة. فإذا عرف عجز أهل الصنعة حل محلهم وجرى مجراهم فى توجه الحجة عليه.

وكذلك لا يعرف المتوسط من أهل اللسان من هذا الشأن ما يعرفه العالى فى هذه الصنعة ، فربما حلّ فى ذلك محل الأعجمىّ فى أن لا يتوجه عليه الحجة حتى يعرف عجز المتناهى فى الصنعة عنه.

وكذلك لا يعرف المتناهى فى معرفة الشعر وحده أو الغاية فى معرفة الخطب أو الرسائل وحدهما غور هذا الشأن ما يعرف من استكمل معرفة جميع تصاريف الخطاب ، ووجوه الكلام وطرق البراعة ، فلا تكون الحجة قائمة على المختص ببعض هذه العلوم بانفرادها دون تحققه بعجز البارع فى هذه العلوم كلها عنه.

فأما من كان متناهيا فى معرفة وجوه الخطاب وطرق البلاغة والفنون التى يمكن فيها إظهار الفصاحة فهو متى سمع القرآن عرف إعجازه ، لأنه يعرف من حال نفسه أنه لا يقدر عليه ، ويعرف من حال غيره مثل ما يعرف من حال نفسه ، ومتى علم البليغ المتناهى فى صنوف البلاغات عجزه عن القرآن علم عجز غيره ، لأنه كهو لأنه يعلم أن حاله وحال غيره فى هذا الباب سواء.

فالبليغ المتناهى فى وجوه الفصاحة يعرف إعجاز القرآن وتكون معرفته حجة عليه إذا تحدّى إلى وعجز عن مثله وإن لم ينتظر وقوع التحدى فى غيره وما الذى يصنع ذلك الغير.

٣٣٩

فلو قيل : لو كان هذا لوجب أن يكون حال الفصحاء الذين كانوا فى عصر النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طريقة واحدة فى إسلامهم عند سماعه.

قيل : لا يجب ذلك ، لأن صوارفهم كانت كثيرة :

منها أنهم كانوا يشكّون.

ومنهم من يشك فى إثبات الصانع.

وفيهم من يشك فى التوحيد.

وفيهم من يشك فى النبوة. ألا ترى أن أبا سفيان بن حرب لما جاء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسلم عام الفتح قال له النبى عليه الصلاة والسلام : «أما آن لك أن تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال : بلى ، فشهد ، قال : أما آن لك أن تشهد أنى رسول الله ، قال : أما هذه ففي النفس منها شىء».

فكانت وجوه شكوكهم مختلفة ، وطرق شبههم متباينة.

فمنهم من قلت شبهه وتأمل الحجة حق تأملها ولم يستكبر فأسلم.

ومنهم من كبرت شبهه وأعرض عن تأمل الحجة حتى تأملها أو لم يكن فى البلاغة على حدود النهاية ، فتطاول عليه الزمان إلى أن نظر واستبصر وراعى واعتبر ، واحتاج إلى أن يتأمل عجز غيره عن الإتيان بمثله فلذلك وقف أمره.

ولو كانوا فى الفصاحة على مرتبة واحدة ، وكانت صوارفهم وأسبابهم متفقة ، لتوافقوا إلى القبول جملة واحدة.

٣٤٠