موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٢

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٢

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٣٢

عبل الذّراعين شديد القسورة

كليث غابات كريه المنظرة (١)

أضرب بالسّيف رقاب الكفرة

أكيلهم بالسّيف كيل السّندره » (٢)

ولم يختلف الرواة في أنّ هذا الشعر للإمام (٣) ، وقد حكى هذا الشعر قوّة بأس الإمام عليه‌السلام وشجاعته ، وتقدّم إليه الإمام فبادره بضربة قدّت البيضة والمغفر ورأسه ، وسقط إلى الأرض صريعا يتخبّط بدمه ، فأجهز عليه وتركه جثّة هامدة ، وبذلك فقد كتب الله النصر للإسلام ، وفتحت حصون خيبر ، وأذلّ اليهود ولقّنهم درسا قاسيا يذكرونه بأسى ولوعة على امتداد التاريخ.

وسرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سرورا بالغا بهذا النصر المبين الذي أعزّ الله به المسلمين وقهر أعداءهم اليهود ، وصادف في ذلك اليوم رجوع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما أدري بأيّهما أنا أسرّ أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر » (٤)؟

غزوة بني قريظة :

وبنو قريظة من شرائح اليهود الذين يشكّلون خطرا على المسلمين ويكيدونهم في وضح النهار وغلس الليل ، وقد هبط جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من الله تعالى أن ينازلهم الحرب ويستأصل شأفتهم (٥) ، وخفّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لحربهم ، وقدّم الإمام أمير المؤمنين أمامه وهو يحمل رايته ، فسار لهم ، فلمّا دنا من

__________________

(١) العبل : الضخم.

(٢) السندرة : اختلف في معناها ، فقال ابن الاعرابي : هي المكيال ، والمعنى : أنّي أقتلكم قتلا واسعا كثيرا ، وقال غيره : هي امرأة كانت توفي الكيل ، أي أقتلكم قتلا وافيا.

(٣) خزانة الأدب ٦ : ٦٥.

(٤) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٤ : ١٢٨.

(٥) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٣٣٣.

٤١

حصونهم سمع منهم مقالة قبيحة في النبيّ ، فرجع حتى التقى به وقال له : « يا رسول الله ، لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخباث » ، فقال له : « لم أظنّك سمعت منهم لي أذى؟ » ، قال : « نعم » ، فقال النبي :

« لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا » ... وحاصرهم النبيّ خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب.

نصيحة كعب لبني قريظة :

وأيقنت بنو قريظة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم الحرب فتقدّم إليهم كعب بن أسد بنصيحة لهم قائلا :

يا معشر اليهود ، قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإنّي عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيّها شئتم؟

وهتفوا جميعا ما هي؟

عرض عليهم نصيحته قائلا :

نتابع هذا الرجل ونصدّقه ، فو الله! لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل ، وأنّه للذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ..

وأشار عليهم بنجاتهم وسلامتهم ، إلاّ أنّهم لم يستجيبوا له وردّوا عليه قائلين :

لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره ..

وأشار عليهم ثانيا :

فإذا أبيتم عليّ هذه فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثمّ نخرج إلى محمّد وأصحابه مصلتين السيوف ، لم نترك وراءنا ثقلا حتى يحكم الله بيننا وبين محمّد ، فإن نهلك فهلك ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمري لنجدن النساء والأبناء ...

٤٢

ورفضوا هذا المقترح قائلين :

ونقتل هؤلاء المساكين فما خير للعيش بعدهم ..

واقترح عليهم ثالثا : فإن أبيتم عليّ هذه فإنّ الليلة ليلة السبت ، وأنّه عسى أن يكون محمّد وأصحابه قد امنونا فيها ، فانزلوا لعلّنا نصيب من محمّد وأصحابه غرّة ..

ورفضوا ذلك وقالوا : نفسد سبتنا علينا ، ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلاّ من قد علمت فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ.

ولم ينصاعوا لرأيه وأصرّوا على جهلهم (١).

نزولهم على حكم الرسول :

وضاق بنو قريظة ذرعا وسدّت عليهم جميع النوافذ فنزلوا على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يراه فيهم.

تحكيم سعد :

وأوكل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرهم إلى سعد بن معاذ ، وكان من أجلاّء الصحابة ، لا تأخذه في الله لومة لائم وكان جريحا ، فحمل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقام إليه وسائر الصحابة تكريما وقالوا له :

يا أبا عمرو ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر مواليك لتحكم فيهم ..

فقال سعد : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ، إنّ الحكم فيهم لما حكمت ...

نعم.

وحكم سعد فيهم بقتل رجالهم وتقسيم أموالهم وسبي نسائهم وذراريهم.

وهو حكم عادل في هؤلاء اليهود الذين هم مصدر فتنة وفساد في الأرض.

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٢٣٥ ـ ٢٣٦.

٤٣

وأقرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم سعد ، وقال له :

« لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة ... » (١).

ونفّذ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام حكم الاعدام في هؤلاء الأشرار ، فقد حصد رءوسهم بسيفه.

غزوة بني النضير :

وبنو النضير من فصائل اليهود الذين أترعت نفوسهم بالبغض والعداء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد سار إليهم في جماعة من أصحابه ، في طليعتهم الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وذلك لأخذ دية منهم كانت قد اتّفق معهم عليها ، وجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جانب جدار من بيوتهم ، فخلا بعضهم ببعض وتآمروا على أن يلقي بعضهم صخرة من السطح على رأس النبيّ ، واستجاب عمرو بن جحاش لذلك ، وأخذ معه الصخرة ، فنزل الوحي من السماء على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره بذلك ، فسارع قائما وترك أصحابه في مجالسهم وقفل راجعا إلى المدينة ، وفي ذلك يقول السبكي :

وجاءك الوحي بالذي أضمرت بنو

النضيرة وقد همّوا بإلقاء صخرة (٢)

وسارع الإمام عليه‌السلام إلى اليهودي الذي حاول اغتيال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقتله ، وهربت العصابة التي معه ، فطلب الامام من الرسول ملاحقتهم فأذن له ، وزوّده بكوكبة من جيشه فلحقوهم قبل دخول حصنهم وقتلوهم ، وكان ذلك السبب في فتح حصونهم ، وانبرى جماعة من الشعراء كان منهم حسّان بن ثابت فنظّموا في

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠.

(٢) إنسان العين ٢ : ١٧٦.

٤٤

شعرهم الحادثة ، وأثنوا على الإمام عليه‌السلام على ما بذله من جهد شاقّ في فتح حصون بني النضير.

غزوة وادي القرى :

ولمّا فتح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حصون خيبر أتى وادي القرى ، وقد سكنه اليهود ، فعرض عليهم الإسلام فأبوا ... واختاروا قتاله ، فقاتلهم المسلمون ، وقتل منهم أحد عشر رجلا قد قتل الإمام بعضهم ، وفتح الله للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ديارهم ، وغنم المسلمون أموالهم ، وترك لهم ما في أيديهم من الأرض والنخيل ، وعاملهم بها مثل معاملته لأهل الخيبر (١).

الإمام وفتح اليمن :

وأرسل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام عليه‌السلام مع كتيبة عسكرية إلى اليمن يدعوهم إلى الإسلام أو الحرب ، وأخذ الإمام يجدّ في السير لا يلوي على شيء لينفّذ رسالة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

دعاء الإمام :

وكان الإمام عليه‌السلام قد دعا بهذا الدعاء الشريف حين توجّهه إلى اليمن ، وهذا نصّه :

« اللهمّ إنّي أتوجّه إليك بلا ثقة منّي بغيرك ، ولا رجاء يأوي بي إلاّ إليك ، ولا قوّة أتّكل عليها ، ولا حيلة ألجأ إليها إلاّ طلب فضلك ، والتّعرّض لرحمتك ، والسّكون إلى أحسن عادتك ، وأنت أعلم بما سبق لي في وجهي هذا ممّا أحبّ وأكره ، فأيّما أوقعت عليّ فيه قدرتك ، فمحمود فيه بلاؤك متّضح فيه قضاؤك ، وأنت تمحو ما

__________________

(١) إنسان العين ٣ : ٦٨ ـ ٦٩.

٤٥

تشاء وتثبت وعندك أمّ الكتاب.

اللهمّ فاصرف عنّي مقادير كلّ بلاء ، ومقاصر كلّ لأواء ، وأبسط عليّ كنفا من رحمتك وسعة من فضلك ، ولطفا من عفوك حتّى لا أحبّ تعجيل ما أخّرت ولا تأخير ما عجّلت ، وذلك مع ما أسألك أن تخلفني في أهلي وولدي ، وصروف حزانتي بأحسن ما خلفت به غائبا من المؤمنين في تحصين كلّ عورة وستر كلّ سيّئة ، وحطّ كلّ معصية ، وكفاية كلّ مكروه ، وارزقني على ذلك شكرك وذكرك ، وحسن عبادتك ، والرّضا بقضائك ، يا وليّ المؤمنين ، واجعلني وما خوّلتني وولدي ، ورزقتني من المؤمنين والمؤمنات في حماك الّذي لا يستباح ، وذمّتك التي لا تخفر ، وجوارك الّذي لا يرام ، وأمانك الّذي لا ينقض ، وسترك الّذي لا يهتك ، فإنّه من كان في حماك وذمّتك وجوارك وأمانك وسترك كان آمنا محفوظا ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ » (١).

وحكى هذا الدعاء مدى اعتصام الإمام عليه‌السلام بالله تعالى والتجائه إليه وانقطاعه الكامل لإرادته ومشيئته.

إسلام همدان :

وانتهى الإمام مع الوفد العسكري إلى اليمن والتقى بزعماء اليمانيّين ووجوههم ، وعرض عليهم دعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وشرح لهم محاسن الإسلام وما تنشده مبادئه من القيم الكريمة والمثل العليا ، وقد بهر اليمانيّون بكمال الإمام وفضله وأدبه فاستجابوا لدعوته ، وأعلنت همدان بأسرها الإسلام والتمسّك بقيمه ، وبذلك فقد كان الإمام رسول السلام الذي نجح في فتح اليمن بلا حرب (٢).

__________________

(١) مهج الدعوات : ٩٤.

(٢) أمالي المرتضى ١ : ٢٩٢.

٤٦

فتح مكّة :

وكتب الله تعالى النصر المبين لعبده ورسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد أذلّ القوى المعادية من القرشيّين واليهود ، وامتدّت دولته على كثير من مناطق الجزيرة العربية ، فقد سادت فيها كلمة الإسلام ورفعت عليها راية التوحيد.

وقد رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه لا يتحقّق له النصر الحاسم والفتح المبين إلاّ بفتح مكّة التي هي قلعة الشرك والإلحاد والتي حاربته حينما كان فيها وحينما نزح عليها.

وسار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجيش مكثّف قوامه عشرة آلاف جندي مسلّح أو يزيد على ذلك ، وهو مزوّد بجميع آلات الحرب ، وقد أحاط اتّجاهه إلى مكّة بكثير من الكتمان ، فلم تعلم القطعات من جيشه اتّجاهها ، فقد خاف النبيّ أن تستعد قريش لمحاربته إن علمت بمسيرة جيوشه لاحتلال بلدهم فتراق الدماء في البلد الحرام ، فأخفى ذلك عليهم حتى يفاجئهم بجيشه فلا يتمكّنوا على مناهضته.

رسالة حاطب لقريش :

وكتب حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم فيه بتوجّه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاحتلال بلدهم ، وأعطى الكتاب إلى امرأة وأوصاها بالكتمان الشديد ، وجعل لها جعلا إن هي أوصلت الرسالة إلى القرشيّين ، فجعلت الكتاب في شعر رأسها وأخفته حتى لا يعلم به أحد ، ونزل الوحي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحاطه علما بالكتاب ، فاستدعى أخاه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام والزبير بن العوّام وأمرهما بالقبض على المرأة وأخذ الكتاب منها ، وسارع الإمام مع الزبير في السير حتى أدركا المرأة ، فسألاها عن الكتاب ، فأنكرت ذلك ، فصاح بها الإمام وزجرها قائلا :

« إنّي أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا كذّبنا ، لتخرجنّ الكتاب أو لنكشفنّك » ، فاستولى عليها الرعب وخافت فأخرجت الكتاب من شعر رأسها

٤٧

وأعطته للإمام ، وخفّ الإمام مع الزبير مسرعين إلى النبيّ فسلّماه الكتاب ، فدعا بحاطب ، فلمّا مثل عنده قال له :

« ما حملك على هذا؟ ».

وأبدى حاطب معاذيره للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : يا رسول الله ، إنّي مؤمن بالله ورسوله ، ما غيّرت ولا بدّلت ، ولكن ليس لي في قريش أصل ولا عشيرة ، فصانعتهم عليه ».

وقبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاذيره ، ونزلت الآية الكريمة في حقّه : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) الآية (١) » (٢).

في رحاب مكّة :

وسارعت الجيوش الإسلامية لا تلوي على شيء حتى انتهت إلى مشارف مكّة وأهلها غافلون لا يعلمون شيئا ، فقد أحاط النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسيرته بكثير من التعتيم حفظا على السلام وعدم إراقة الدماء ، وأمر النبيّ جيشه بجمع الحطب ، فجمعت كميات هائلة ، فلمّا اختلط الظلام أمر بإشعال النار فيه ، فكان لهبها يرى في مكّة ، وفزع أبو سفيان وأوجس في نفسه خيفة منها ، فقال لبديل بن ورقاء ـ وكان إلى جانبه ـ :

ما رأيت كالليلة نيرانا قطّ؟

وبادر بديل قائلا :

وهذه والله! خزاعة حمشتها الحرب ..

وسخر أبو سفيان منه وراح يقول له :

__________________

(١) التحريم : ١.

(٢) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٣٩٨.

٤٨

خزاعة أذلّ وأقلّ من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها .. واستولى عليه الفزع والخوف ، واطمأنت نفسه أنّها جيوش المسلمين جاءت لاحتلال مكّة.

العباس وأبو سفيان :

ولمّا علم العباس بقدوم الجيوش الإسلامية لاحتلال مكّة ، أوجس في نفسه خيفة على قومه القرشيّين ، وأخذ يحدّث نفسه قائلا : واصباح قريش ، والله! لئن دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه أنّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر .. وجهد على أن يجد شخصا فيأتي إلى مكّة فيخبر أهلها بمكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيخفّوا إليه ليطلبوا منه الأمن ، وبينما هو غارق في تيار من الهواجس والخوف على قومه إذ بصر بأبي سفيان فهتف به :

يا أبا حنظلة ...

وعرفه أبو سفيان فسارع قائلا :

أبو الفضل ..

نعم ..

فداك أبي وأمّي.

ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله في الناس واصباح قريش ...

وذعر أبو سفيان وجمد دمه ، وخاف على نفسه وقومه فبادر قائلا :

ما الحيلة فداك أبي وأمّي؟

وسارع العباس يدلّه على الطريق الذي يحافظ به على دمه قائلا له : والله! لئن ظفر بك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليضربنّ عنقك ، فاركب على عجز هذه البغلة حتى آتي بك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأستأمنه لك.

فأردفه خلفه ، فكان كلّما مرّ على نار من نيران المسلمين قالوا : من هذا؟ فإذا

٤٩

رأوا بغلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قالوا : عمّ رسول الله ، وبصر به عمر بن الخطّاب فعرفه ، فصاح :

هذا أبو سفيان عدوّ الله ...

ثمّ صاح ثانيا :

الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ... ، ووجم أبو سفيان واضطربت خلجات قلبه وهام في تيارات من الهواجس ، وخاف على نفسه وقومه الذين لم يبقوا في قاموس الإساءة والمكروه شيئا إلاّ صبّوه على النبيّ وأصحابه.

وجرت مناوشات كلامية بين العباس وعمر في شأن أبي سفيان ، وبادر العباس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأحاطه علما بأسر أبي سفيان ، فأمره النبيّ أن يذهب به إلى رحله ويأتي به عند الصباح ، وبات أبو سفيان ليلته مع العباس وهو وجل مضطرب قد أنفق ليله ساهرا.

أبو سفيان بين يدي النبيّ :

ولمّا اندلع نور الصبح أقبل العباس ومعه أبو سفيان ، فلمّا مثلا أمام النبيّ التفت إلى أبي سفيان فقال له :

« ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أنّه لا إله إلاّ الله ...؟ ».

ولم يعرض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ما عاناه من صنوف التنكيل والاضطهاد من أبي سفيان وقومه ، فقد أسدل الستار على ذلك لنشر الوئام وإفهامه بروح الإسلام التي لا تعرف الانتقام من الأعداء ... وراح أبو سفيان يتضرّع إلى النبيّ ويطلب منه العفو قائلا :

بأبي أنت وأمّي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ، والله! لقد ظننت أنّه لو كان مع الله إله غيره لأغنى عنّي ..

٥٠

والتفت إليه النبيّ بلطف ورفق قائلا :

« ويحك يا أبا سفيان ، ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول الله؟ ».

ولم يستطع أن يقرّ أبو سفيان بذلك ، فقد أترعت نفسه بالكفر والالحاد والنفاق ، فلم يستطع أن يخفي ما انطوى عليه ضميره وراح يقول :

بأبي أنت وأمّي ، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك ، أمّا هذه فإنّ في النفس منها شيئا حتى الآن ...

وانبرى العباس لأبي سفيان ينذره ويتهدّده إن لم يستجب لدعوة الرسول قائلا : ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك ..

ولم يجد الخبيث بدّا فأعلن الإسلام بلسانه على كره خوفا من حدّ السيف ، وانطوى قلبه على الكفر والنفاق.

ألطاف النبيّ على أبي سفيان :

ووسعت رحمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا سفيان الذي هو ألدّ أعدائه وخصومه ، والذي أثار عليه الأحزاب وقاد الجيوش لحربه ، فقبل إسلامه المزيّف ، ولم يقابله بالمثل ، وقد أعطى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك مثلا لرحمة الإسلام وإيثاره للسلم.

والتفت العباس إلى النبيّ فطلب منه أن يسدي يدا على أبي سفيان قائلا :

يا رسول الله ، إنّ أبا سفيان رجل يحبّ الفخر فاجعل له شيئا؟

واستجاب الرسول لدعوة العبّاس ، وقال :

« نعم ، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ... ».

٥١

وربح أبو سفيان هذه الكرامة كما ربح لقومه العفو العامّ الذي لم يحدث له مثيل في جميع فترات التاريخ ، فقد غمرهم الرسول بألطافه وهم الذين جرّعوه ألوانا قاسية من المحن والخطوب.

أبو سفيان في مضيق الوادي :

وأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العباس بحبس أبي سفيان في مضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمرّ عليه جنود الله فيراها حتى يحذّر قريشا من مناهضة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحبسه العباس في المضيق ، واجتازت عليه الكتائب وهي تحمل رايات النصر ، وكلّما مرّت عليه كتيبة سأل عنها فيعرّفه العباس بها ، واجتازت عليه كتيبة مدجّجة بالسلاح فقال للعباس :

يا عباس ، من هذه؟

سليم ..

ما لي ولسليم.

واجتازت عليه كتيبة أخرى فقال للعباس :

يا عباس ، ما هذه؟

مزينة ..

ما لي ولمزينة ..

ولمّا انتهت الكتائب مرّ عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتيبة خضراء ، وهي في منتهى القوّة ، فقد شهرت السيوف على رأس الرسول ، وأحاطت به صناديد أصحابه ، فبهر أبو سفيان وقال للعباس :

من هذه الكتيبة؟

هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار ...

٥٢

ولم يملك أبو سفيان إعجابه وراح يقول للعباس :

ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ... لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما ...

فردّ عليه العبّاس قائلا :

يا أبا سفيان ، إنّها النبوّة ...

فهزّ أبو سفيان رأسه العفن وقال بسخرية :

نعم إذن (١).

وما كان هذا الجاهلي ليفقه الإسلام ، وإنّما كان يفقه الملك والسلطان ، ثمّ أمر النبيّ بإطلاق سراح أبي سفيان ، فأطلق ، وولّى إلى مكّة.

نداء أبي سفيان :

وانطلق أبو سفيان مسرعا يسبق الجيش إلى مكّة وهو رافع عقيرته ينادي بأعلى صوته :

يا معشر قريش ، هذا محمّد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ..

فهبّت قريش قائلة :

وما تغني عنّا دارك؟

وهتف فيهم ثانيا :

من أغلق عليه بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ..

فسكن روع القرشيّين وسارعوا إلى دورهم وإلى المسجد.

معارضة هند :

وانبرت هند زوج أبي سفيان وهي مذعورة قد ملأت نفسها بالألم والحزن ،

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

٥٣

فجعلت تثير عواطف القرشيّين وتستهين بزوجها قائلة : اقتلوا الحميت (١) الدنس قبّح من طليعة قوم.

وراح أبو سفيان يحذّر قريشا من مغبّة عصيانه ويحذّرهم من بطش المسلمين.

دخول النبي مكّة :

وسارعت جيوش المسلمين لدخول مكّة وهي فرحة مستبشرة بهذا النصر ، فإنّها لم تلق أيّة مقاومة من قريش ، وقد حمل الراية سعد بن عبادة ، وهو يلوّح بها في الفضاء ويهتف : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحلّ الحرمة ..

فسمعها عمر بن الخطّاب ـ كما يقول ابن هشام ـ فسارع إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا :

يا رسول الله ، اسمع ما قال سعد؟

فأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأخذ اللواء من سعد وإعطائه إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فأخذه وأدخله إدخالا رقيقا ، ورفع صوته قائلا :

« اليوم يوم المرحمة ، اليوم تصان الحرمة ... ».

وعمّت الفرحة الكبرى جميع أوساط القرشيّين ، وأيقنوا أنّ النبيّ لا يؤاخذهم بما اقترفوه تجاهه من التنكيل والاعتداء.

النبي في الكعبة :

وسارع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد دخوله مكّة إلى بيت الله الحرام ، فأغلق بوجهه عثمان ابن طلحة باب الكعبة وصعد على سطحها ، وأبى أن يدفع إليه المفتاح ، وبادر إليه الإمام عليه‌السلام فلوى يده وأخذ المفتاح منه وفتحها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فصلّى فيها ركعتين (٢) ثمّ

__________________

(١) الحميت : الشديد الدناسة.

(٢) صبح الأعشى ٤ : ٢٦٩.

٥٤

سلّم المفتاح له ، وقال له : « يا عثمان ، اليوم يوم برّ ووفاء » (١).

تطهير البيت من الأصنام :

ولمّا دخل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيت الحرام كان أوّل عمل قام به تحطيمه وإزالته للأصنام والأوثان التي اتّخذها القرشيّون آلهة يعبدونها من دون الله تعالى ، والتي تنمّ عن جهلهم وانحطاطهم الفكري ، وقد كانت الأصنام المعلّقة على الكعبة ثلاثمائة وستين صنما ، ولكلّ حيّ من العرب صنم خاصّ بهم.

وكان على جهة باب البيت المعظّم الصنم الأعلى لقريش وهو هبل ، فجعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطعن بقوسه في عينه ، وهو يقول : « جاء الحقّ وزهق الباطل ، إنّ الباطل كان زهوقا » ثمّ أمر بتحطيمه وتطهير البيت منه ، وقد شقّ ذلك على أبي سفيان وغيره من عتاة القرشيّين ، ثمّ اعتلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على منكب الإمام عليه‌السلام لتكسير الأصنام ، فعجز الإمام عن النهوض به ، فقال له الرسول :

« إنّك لا تستطيع حمل ثقل النّبوّة ، فاصعد أنت » ، فاعتلى الإمام على كاهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال الإمام : « لو شئت لنلت افق السّماء » ، وأقبل على الأصنام فجعل يقلعها ويرمي بها إلى الأرض ، ولم يبق إلاّ صنم خزاعة وكان موتدا بأوتاد من حديد ، فقال له الرسول : « عالجه » ، فعالجه الإمام وهو يقول :

« جاء الحقّ وزهق الباطل ، إنّ الباطل كان زهوقا » ، فعالجه حتى تمكّن منه فقذفه حتى تكسّر (٢) ، وبذلك فقد تطهّر البيت الحرام من أصنام قريش على يد بطل الإسلام وقائد مسيرته الظافرة ... لقد حطّم الإمام الأصنام كما حطّمها جدّه إبراهيم خليل الله ، وقد نظم الشاعر الملهم محمّد بن أحمد الكتاب المعروف بـ « المفجع »

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٤١٢.

(٢) إنسان العين ٣ : ٩٩ ـ ١٠٠.

٥٥

هذه المأثرة للإمام عليه‌السلام بقوله :

وله من أبيه ذي الأيد اسما

عيل شبه ما كان عنّي خفيّا

إنّه عاون الخليل على الكعب

ة إذ شاد ركنها المبنيّا

ولقد عاون الوصيّ حبيب الل

ه إذ يغسلان منها الصفيّا

رام حمل النبيّ كي يقطع الأصنا

م من سطحها المثول الحبيّا (١)

فحناه ثقل النبوّة حتّى كاد

يناد تحته منئيّا (٢)

فارتقى منكب النبيّ علي

صنوه ما أجلّ ذا المرتقيّا

فأماط الأوثان عن ظاهر الكعب

ة ينفي الأرجاس عنها نفيّا

ولو أنّ الوصيّ حاول مسّ النجم

بالكفّ لم تجده قصيّا (٣)

إنّ تحطيم الأصنام وتطهير الكعبة منها أقسى ضربة موجعة للقرشيّين الذين تفانوا في عبادة الأوثان ، كما كان أعظم انتصار رائع للإسلام الذي جاء لتحرير العقول ونشر الوعي بين الناس ، فقد باءت بالفشل والخزي جميع المقاومات والاعتداءات على الإسلام ، وها هو يرفع رايته وينشر مبادئه العملاقة في ديارهم.

خطاب النبيّ :

وأحاطت جماهير أهالي مكّة بالرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي تنتظر بفارغ الصبر ما يواجهونه منه ، فهل ينزل بهم العقاب الصارم ويقابلهم بالانتقام من جرّاء ما صبّوه عليه وعلى أتباعه المستضعفين من صنوف الخطوب والكوارث ، أو إنّه سيعفو عنهم ويقابلهم بالصفح الجميل؟ واعتلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منصّة الخطابة واستمال الجمع إلى

__________________

(١) المثول : جمع ماثل ، أي المنتصب. الحبي : جمع حاب ، أي المرتفع.

(٢) منئيا : أي مثقلا.

(٣) معجم الأدباء ١٧ : ٢٠٢.

٥٦

أذن صاغية ، فعرض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطابه إلى توحيد الله والثناء عليه وإلى نصره لدينه وهزيمته للمشركين ثمّ قال :

« يا معشر قريش ، إنّ الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهليّة وتعظيمها بالآباء. النّاس من آدم ، وآدم من تراب » ، ثمّ تلا قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) (١).

« يا معشر قريش ، ما ترون أنّي فاعل بكم؟ ».

فهتفوا جميعا بلسان واحد :

خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ...

فأصدر رسول الرحمة العفو عنهم قائلا : « اذهبوا فأنتم الطّلقاء ... » (٢).

وتمثّلت الرحمة والشرف والكرامة بجميع ما تحمل هذه الألفاظ من معنى في هذا العفو ، فلم يقابل أولئك الجفاة الجناة بالمثل وأعرض عمّا لاقاه منهم من صنوف الإساءة والأذى ، ولم يؤاخذهم بجرائمهم وآثامهم التي تقتضي أن يعدم رجالهم ويستصفي أموالهم ، ولا يترك لهم أي أثر أو وجود على الأرض.

غزوة حنين :

وفزعت هوازن كأشدّ ما يكون الفزع حينما وافتهم الأنباء بفتح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكّة ، وخضوع القبائل القرشية لحكم الإسلام ، فانبرى مالك بن عوف وهو زعيم هوازن فجمع قبيلته ، واستنجد ببعض القبائل العربية الاخرى وفي طليعتها ثقيف ،

__________________

(١) الحجرات : ١٣.

(٢) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٤١٢.

٥٧

فعرض عليهم الأخطار الهائلة التي ستواجههم من اتّساع الإسلام ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيزحف بجيوشه لاحتلالهم ، فآمن الجميع بدعوته واستجابوا لقوله ، وزحفت هوازن ومن تابعهم من القبائل لحرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأوصاهم مالك بن عوف وهو القائد العامّ لجيوشهم فقال لهم : إذا رأيتموهم ـ أي المسلمين ـ فاكسروا جفون سيوفكم ، ثمّ شدّوا شدّة رجل واحد (١).

ولمّا انتهت أنباؤهم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوفد للقياهم عبد الله الأسلمي ، وأمره بالتعرّف على أنبائهم ، فمضى ، وعلم أنّهم مصمّمون على حرب النبيّ ، فقفل راجعا إلى مكّة ، وأخبر النبيّ بذلك ، فزحف بجيشه البالغ عدده اثني عشر ألفا ، وكان فيهم من لم يخاط الإسلام قلبه كأبي سفيان بن حرب وأمثاله من المنافقين والطامعين في الغنائم والأسلاب.

وتحرّك جيش النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة وقد وزّع الرايات على قادة جيشه ، وأعطى لواء المهاجرين إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وسارعت جيوش المسلمين تطوي البيداء لا تلوي على شيء ، فانتهت إلى وادي حنين (٢).

فرار المسلمين :

وكانت هوازن قد أعدّت خطّة رهيبة ومحكمة للايقاع بالمسلمين ، فقد احتلّت وادي حنين وكمنت في شعابه ومضايقه ، فلمّا اجتازت عليهم جيوش المسلمين ، ولم يكونوا على علم بما دبّر لهم ، وثبت عليهم هوازن من كلّ زاوية في الوادي ، فجفل المسلمون وانهزموا هزيمة منكرة لا يلوي أحد منهم على أحد ،

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٤٣٩.

(٢) وادي حنين : موضع قريب من مكّة ، وقيل : هو واد قبل الطائف بجنب ذي المجاز ، وقال الواقدي : بينه وبين مكّة ثلاث ليالي ، جاء ذلك في معجم البلدان ٢ : ٣١٣.

٥٨

وانحاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات اليمين ، وجعل يدعو المسلمين إلى الثبات والصبر على الجهاد وعدم الفرار قائلا :

« أيّها النّاس ، إليّ أنا رسول الله محمّد بن عبد الله » (١).

بسالة الإمام :

وأبدى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من البسالة ما لا يوصف ، فقد أخذ يجول في الميدان يجندل الأبطال ، وينزل بهم أفدح الخسائر ، وقد أجمع الرواة أنّه كان من أصلب المدافعين عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، وناول الإمام عليه‌السلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبضة من التراب ، فرمى بها وجوه المشركين من هوازن وغيرهم (٣) ، والتحم الإمام مع المشركين التحاما شديدا ، وقد التحق به مائة رجل من فرسان المسلمين فقاتلوا قتالا أهونه الشديد ، ولمّا رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك قال :

« أنا النّبي لا كذب

أنا ابن عبد المطّلب »

الآن حمى الوطيس (٤) ، واشتدّ الحرب ، فسقطت الرءوس والأيدي.

شماتة أبي سفيان وصفوان :

وسرّ المنافقون بهزيمة المسلمين وطاروا فرحا ، وأبدى أبو سفيان رأس المنافقين شماتته بذلك فقال : لا تنتهي هزيمتهم ـ أي هزيمة المسلمين ـ دون البحر.

كما أبدى المنافق صفوان بن أميّة شماتته بانهيار جيش المسلمين قائلا :

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ١٧٨.

(٢) مجمع الزوائد ٦ : ١٨٠.

(٣) تاريخ بغداد ٤ : ٣٣٤. مجمع الزوائد ٦ : ١٨٢.

(٤) الوطيس : هو التنّور ، وقيل : هي الحجارة التي يوقد عليها النار ، وهو كناية عن اشتداد الحرب.

٥٩

الآن بطل السحر .. (١).

هزيمة المشركين :

ولمّا بلغت قلوب المسلمين الحناجر وزلزلوا زلزالا شديدا وساد عليهم الجزع والخوف نصر الله تعالى رسوله الكريم فقتل من المشركين سبعون رجلا من أبطالهم وانهزم الباقون شرّ هزيمة ، ولاحقتهم جيوش المسلمين فأشاعت فيهم القتل وأسرت جماعة منهم (٢) ، وكان النصر المؤزّر على يد بطل الإسلام وحامي حوزته الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وبذلك فقد انتهت هذه المعركة التي كانت من أعنف المعارك ومن أشدّها هولا وقسوة ، وبها قد انتصر الإسلام انتصارا حاسما وهابته جميع قبائل الشرك.

الغنائم :

وبعد ما وضعت الحرب أوزارها ارتحل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أرض المعركة إلى الجعرانة ، فأتته وفود هوازن طالبين منه أن يردّ عليهم ما أخذ منهم ، فخيّرهم بين أبنائهم ونسائهم وبين أموالهم ، فاختاروا أبناءهم ونساءهم ، وانبرى زهير أبو حرد من بني سعد فقال : يا رسول الله ، إنّما في الحظائر عمّاتك وخالاتك ، وحواضنك اللاّتي كنّ يكفلنك ، ولو أنّا أرضعنا الحارث بن أبي شمر الغسّاني أو النعمان بن المنذر لرجونا عطفه ، وأنت خير المكفولين ، ثمّ قال :

امنن علينا رسول الله في كرم

فإنّك المرء نرجوه وندّخر

امنن على نسوة قد عاقها قدر

ممزّق شملها في دهرها غير (٣)

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ١٧٨.

(٢) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٤ : ٦٦.

(٣) الكامل في التاريخ ٢ : ١٨٢.

٦٠