موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٢

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٢

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٣٢

في كلّ مجمع غاية أخزاكم

جذع أبرّ على المذاكي القرح (١)

لله درّكم ألما تنكروا

قد يذكر الحرّ الكريم ويستحي

هذا ابن فاطمة (٢) الذي أفناكم

ذبحا وبقتلة بعضه لم يذبح

أعطوه خرجا واتّقوا تضريبه

فعل الذليل وبيعة لم تربح

أين الكهول وأين كلّ دعامة

في المعضلات وأين زين الأبطح

أفناهم قصعا (٣) وضربا يفتري

بالسيف يعمل حدّه لم يصفح

لقد سقا الإمام بطل الإسلام القرشيّين أخزاهم الله كأسا مصبرة ، وأشاع في بيوتهم الثكل والحزن والحداد ، وأورثهم الذلّ والعار لأنّهم أعداء الإسلام وخصومه الذين جهدوا على لفّ لواء الإسلام وإطفاء كلمة التوحيد.

انتصار الإسلام :

وانتصر الإسلام انتصارا رائعا في واقعة بدر وقويت شوكة المسلمين وأكسبتهم قوّة هائلة ، فهي أمّ الفتوح ، كما شجّعتهم على الخوض في المعارك التي يشنّها عليهم أعداء الإسلام ..

لقد انتهت معركة بدر وكان البطل البارز فيها أسد الله الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقد كان سيفه منجل الموت الذي أرهفه على رقاب القرشيّين الذين ما آمنوا بالله طرفة عين حتى بعد إعلانهم المزيّف للإسلام ، فقد أخذوا يكيدون له في وضح النهار وفي غلس الليل ، وجميع ما عاناه المسلمون وابتلوا به من الأزمات كانت من صنع القرشيّين وتدبيرهم ، ومن الجدير بالذكر أنّ اقتران الإمام عليه‌السلام بسيّدة نساء

__________________

(١) الجذع : الشاب الحدث ، يعني به الإمام ، فقد حصد رءوس القرشيّين وهو في روعة الشباب. الابر : الغالب والمنتصر. المذاكي : الخيل.

(٢) فاطمة : هي السيّدة الجليلة أمّ الإمام أمير المؤمنين.

(٣) القصع : الدفع والكسر ، والقصعة المرّة منه.

٢١

العالمين زهراء الرسول عليها‌السلام كانت بعد واقعة بدر المجيدة ، وقد عرضنا لها فصلا خاصّا.

واقعة أحد :

واستقبلت قريش نبأ هزيمتهم المنكرة وخسائرهم الفادحة في معركة بدر بمزيد من الأسى واللوعة ، وساد في أوساطهم حزن عميق وأسى مرير ، وقد حرّمت هند أمّ معاوية على القرشيّين نساء ورجالا البكاء على قتلاهم حتى يظلّ الحزن كامنا في نفوسهم لا يطفئه إلاّ طلب الثأر لقتلاهم والانتقام من المسلمين.

وكان أبو سفيان قائد قريش في واقعة أحد والزعيم الأوّل في هذه المعركة ، إنّ أبا سفيان جاهلي بجميع معاني هذه الكلمة ، لا يحمل في أعماق نفسه أي معنى من القيم الإنسانية ولم يؤمن بالله طرفة عين ، فأخذ يؤلّب الجماهير ويحرّض القبائل على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويجمع الأموال فيشتري بها السلاح والعتاد لحرب المسلمين ، وقد استجابت له جماهير القرشيّين الذين أترعت نفوسهم بالحقد والعداء للرسول ، فقد خرجوا بحدّهم وجدّهم وحديدهم وأحابيشهم ومن تابعهم لحرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحبوا معهم نساءهم حتى يخلصوا في الحرب ، وقد قادت النساء هند أمّ معاوية ، وكنّ يضربن بالدفوف ويبعثن الحماس في نفوس أزواجهنّ وأبنائهن وهن ينشدن :

ويها بني عبد الدار

ويها حماة الأديار

ضربا بكل بتّار

وكان صوت هند يعلو أصواتهن ، وأخذت تخاطب قومها :

إن تقبلوا نعانق

ونفرش النمارق

أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

٢٢

لقد قادت أمّ معاوية النساء وقاد زوجها الرجال لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهما يحملان أرجاس المردة والطغاة والممسوخين من القبائل القرشية التي جهدت على إطفاء نور الله وإقصاء الخير عن الناس.

الحرب :

وكانت جيوش المشركين ثلاثة آلاف ، وجيوش المسلمين سبعمائة مقاتل ، ويتقدّم جيوش المشركين طلحة بن أبي طلحة وبيده اللواء ، وقد رفع عقيرته قائلا : يا أصحاب محمّد ، تزعمون أنّ الله يعجّلنا بأسيافكم إلى النار ، ويعجّلكم بأسيافنا إلى الجنّة ، فأيّكم يبرز لي؟ فبرز إليه بطل الإسلام وأسد الله الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قائلا :

« والله! لا افارقك حتّى اعجّلك بسيفي إلى النّار ».

وبادره الإمام بضربة فبرى بها رجله ، فسقط إلى الأرض يتخبّط بدمه ، وأراد الإمام أن يجهز عليه ، فناشده الله والرحم أن يتركه ، فتركه ، ولم يلبث إلاّ ساعة حتى هلك ، وفرح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهلاكه ، كما عمّت الفرحة جميع المسلمين (١) ، فقد كان من أبطال القرشيّين ، وكان يسمّى كبش الكتيبة لشجاعته ، وقد انخذل المشركون ووهنوا لقتله وبانت الهزيمة في صفوفهم ، وأخذ اللواء من بعده أبطال القرشيّين فأرداهم الإمام قتلى ، وكانت هند في وسط المعسكر وهي تلهب في نفوس الجيش العزيمة لمحاربة المسلمين ، وإذا انهزم رجل من قريش دفعت له ميلا ومكحلة وقالت له : إنّما أنت امرأة فاكتحل بهذا ... (٢).

ومن صور تلك المعركة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منح أبا دجانة ، وهو من خيار الصحابة

__________________

(١) نور الأبصار : ٧٨.

(٢) الميزان في تفسير القرآن ٤ : ١٢.

٢٣

سيفا ولم يعطه للزبير ، وقد ضاق الزبير ذرعا من ذلك ، وراح ينظر ما يصنع به أبو دجانة ، فقد أخرج عصابة حمراء فتعصّب بها ، فقالت الأنصار : أخرج أبو دجانة عصابة الموت وبرز إلى ميدان الحرب وهو يقول :

أنا الذي عاهدني خليلي

ونحن بالسفح لدى النخيل

ألاّ أقوم الدهر في الكسول

أفرّ بسيف الله والرسول (١)

وأعرب بهذا الشعر عن بسالته وصلابة عزمه في الذبّ عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجعل أبو دجانة ينشر الموت بين صفوف القرشيّين ، وحمل على هند أمّ معاوية حتى بلغ سيفه مفرق رأسها إلاّ أنّه عدل عن ذلك ترفّعا منه ، ولمّا نظر الزبير إلى شجاعة أبي دجانة استصوب رأي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هزيمة المسلمين :

من المؤسف حقّا أنّ المسلمين منوا بهزيمة ساحقة وخسائر فادحة كادت تلفّ لواء الإسلام ، وذلك من جرّاء مخالفة فرقة في الجيش الإسلامي للمخطّطات الحربية التي وضعها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وألزمهم بتنفيذها ، فقد وضع كتيبة من الرماة على جبل بقيادة عبد الله بن جبير (٢) لتحمي المسلمين من خلفهم ، وشدّد عليها أن لا تتخلّف عن مواقعها ، وقد وجّه الرماة سهامهم ونبالهم صوب معسكر قريش فأنزلوا بها خسائر فادحة في الأرواح ، وانهزمت قريش تاركة وراءها أمتعتها وسلاحها ، وأقبل المسلمون على نهبها ، فلمّا رأى الرماة ذلك ترك بعضهم مكانه وانسابوا ينهبون الأمتعة مخالفين الأوامر المشدّدة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في لزوم الإقامة بمواضعهم.

وبصر خالد بن الوليد ذلك فحمل على من بقي في الجبل من الرماة فقتلهم

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٦٨.

(٢) عيون الأثر ٢ : ٥. الكامل في التاريخ ٢ : ١٠٥.

٢٤

وحمل على أصحاب النبيّ من خلفهم فهزمهم وقتل جماعة منهم .. وأباد جيش المشركين معظم قادة الجيش الإسلامي ، واستهدف المشركون بصورة خاصّة حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد أصيب بجروح بالغة ، فكسرت رباعيّته وشقّت شفته ، وجعل الدم يسيل على وجه الشريف وهو يمسحه ويقول :

« كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم وهو يدعوهم إلى الله » (١)!

وأحاط اللئام الحقراء من القرشيّين بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريدون الإجهاز عليه ، وكان على رأسهم أبو سفيان وهو يحرّضهم على قتل الرسول ، وأمر شخصا فنادى أنّ محمّدا قد قتل ، ففرّ المسلمون ، وحاول بعض كبار الصحابة من الفارّين أن يكتب لأبي سفيان طالبين منه الأمان.

مصرع الشهيد حمزة :

وأبدى الشهيد الخالد حمزة بن عبد المطّلب من البسالة ما لا يوصف ، فقد وقف كالجبل الأشمّ محاميا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو يجندل الأبطال ويروي الأرض من دماء الكفرة الملحدين ، قد سخر من الموت ووهب حياته لله ربّ العالمين.

ونظر إليه الوغد الأثيم وحشي وهو يهدّ الناس بسيفه فهزّ حربته ووجّهها صوبه فأصابته في لبته وخرجت من بين رجليه ، ووقع البطل العظيم على الأرض صريعا يتخبّط بدمه ، ولم يلبث قليلا حتى فارق الحياة (٢) ، وخسر المسلمون ألمع قائد لهم ، وكانت شهادته من أفدح النكبات التي واجهها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسلام الله عليه من شهيد محتسب ، وسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيّا.

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ١٠٨.

(٢) تاريخ الطبري ٢ : ١٩٩.

٢٥

مصرع الشهيد مصعب :

وكان مصعب فتى قريش آمن بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيمانا نفذ إلى أعماق قلبه ودخائل نفسه ، وتعرّض إلى أعنف ألوان التعذيب ، وقد بعثه النبيّ إلى يثرب مبشّرا بالدين الإسلامي وداعيا إلى الله ، وقد أسلم الكثيرون من المدنيّين على يده .. وكان أحد القادة في جيش الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة أحد ، وقد قتله ابن قمنة ظانّا أنّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد رفع عقيرته قائلا : قتلت محمّدا ، وقد خسرت القيادة الإسلامية في جيش الرسول أنبل قائد فيها ، رحمه‌الله وأجزل له المزيد من الأجر ، فما أعظم عائدته على الإسلام (١)!

حماية الإمام للنبيّ :

وتوالت الهزائم المنكرة في جيش المسلمين ، وفرّ معظمهم يطاردهم الفزع والخوف ، وزاد في رعبهم نداء أبي سفيان أنّ محمّدا قد قتل .. وتركوا النبيّ وقد أحاط به أعداء الله ، وقد اصيب بجروح بالغة وقد وقع في حفرة عملها أبو عامر وأخفاها ليسقط فيها المسلمون من حيث لا يعلمون ، وكان الإمام إلى جانبه فأخذ بيده ورفعه طلحة بن عبيد الله حتى استوى قائما (٢) ، ولم يبق مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ نفر قليل في طليعتهم الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فالتفت إليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له :

« يا عليّ ، ما فعل النّاس؟ ».

فأجابه بأسى ومرارة :

« نقضوا العهد وولّوا الدّبر ... ».

وحملت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عصابة مجرمة من القرشيّين ، فضاق منهم ذرعا فقال

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٧٣.

(٢) أعيان الشيعة ٣ : ١١١.

٢٦

لعلي : « اكفني هؤلاء » ، فحمل عليهم الإمام فكشفهم عنه ، وحملت عليه كتيبة اخرى تقارب خمسين فارسا ، فقال لعليّ : « اكفني هؤلاء » فحمل عليهم الإمام وكان راجلا فقتل أربعة من أبناء سفيان بن عويف ، وستّة من تلك الكتيبة ، وقد ذادها عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد جهد شاق.

وحملت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتيبة فيها هشام بن أميّة ، فقتله الإمام ، ففرت كتيبته ، وحملت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتيبة فيها بشر بن مالك ، فقتله الإمام ، وولّت كتيبته منهزمة ... وبهر جبرائيل من مواساة الإمام وجهاده وصبره فقال للنبيّ : « إنّ هذه المواساة قد عجبت منها الملائكة » ، فقال له النبيّ : « وما يمنعه وهو منّي وأنا منه »؟ فقال جبرائيل : « وأنا منكما » (١).

وظلّ الإمام صامدا في تلك المعركة الرهيبة مدافعا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاديا له بنفسه ، وقد اصيب بست عشرة ضربة كلّ ضربة تلزمه الأرض ، وما كان يرفعه إلاّ جبرائيل (٢) ... ففي ذمّة الإسلام ما لا قاه إمام المتّقين وسيّد الموحّدين من المصاعب والأهوال في سبيل نشر دعوة الإسلام ، ولو لاه لما قام الإسلام على سوقه ولا ارتفعت له كلمة ، ومن المؤسف أنّ هذا العملاق العظيم والمجاهد الأوّل قد دفع عن مقامه وقرن بينه وبين أعضاء الشورى الذين ليس لهم سابقة الجهاد مثله.

تشفّي هند :

وشفت هند غليلها وانطفأت جمرة حقدها حينما علمت بمصرع الشهيد حمزة ، فسارعت تفتّش عن جثّته وهي مثلوجة الفؤاد ناعمة البال ، فلمّا أبصرتها أقبلت عليها كالكلبة فمثّلت بها شرّ تمثيل ، فاستخرجت كبده فلاكته ثمّ لفظته ،

__________________

(١) أعيان الشيعة ٣ : ١١١.

(٢) أسد الغابة ٤ : ٢٠.

٢٧

وجدعت أنفه واذنيه وجعلتهم قلادة لها ، واثر عنها من الشعر قد سجّلت فيه شكرها لوحشي قاتل حمزة وهو :

نحن جزيناكم بيوم بدر

والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر

ولا أخي وعمّه وبكر

شفيت نفسي وقضيت نذري

شفيت يا وحشي غليل صدري

فشكر وحشي على عمري

حتى ترم أعظمي في قبري

وحكى هذا الشعر خساسة طبعها ولؤم عنصرها ، وقد مثّلت هند بجثّة حمزة عمّ النبي شرّ تمثيل.

تشفّي أبي سفيان :

وسارع الجاهلي أبو سفيان نحو ساحة المعركة يتفرّس في وجوه شهداء المسلمين ليروي غليله ، فرأى جثّة الشهيد حمزة التي مزّقتها هند ، فطار سرورا وفرحا وقال بصوت تفيض منه الشماتة والأحقاد :

يا أبا عمارة ، دار الدهر ، وحال الأمر ، واشتفت منكم نفسي.

ثمّ هزّ رمحه وطعن به شدق جثّة حمزة ، وهو يردّد : ذق عقق ... ذق عقق (١).

وولّى وهو ناعم البال قرير العين قد روى قلبه المترع بالشرك والرذائل من زعيم الهاشميّين وبطل الإسلام.

حزن النبيّ :

ووقف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على جثمان عمّه الذي مثّلت به هند أقسى ألوان التمثيل فذابت نفسه أسى وحزنا كأشدّ ما يكون الحزن ، وراح يقول مخاطبا عمّه :

__________________

(١) الإمام عليّ بن أبي طالب ـ عبد الفتّاح عبد المقصود ١ : ٨٢.

٢٨

« لن أصاب بمثلك أبدا ، ما وقفت موقفا قطّ أغيظ إليّ من هذا ، لو لا أن تحزن صفيّة ويكون سنّة من بعدي لتركته حتّى يكون في بطون السّباع وحواصل الطّيور ، ولئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لامثّلنّ بثلاثين رجلا منهم ».

وانبرى المسلمون بلوعة وأسى قائلين :

والله! لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثّلنّ بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب ...

ونزل جبرئيل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرشده إلى ما ينبغي له مع قريش ، وكره له التمثيل بهم بهذه السعة ، فقد رفع له هذه الآية : ( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ ) (١).

فعفا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصبر ونهى عن المثلة ، وقال : « إنّ المثلة حرام ولو بالكلب العقور ».

لقد كانت معركة أحد المعركة الوحيدة التي هزم فيها المسلمون شرّ هزيمة ، وقد قال ابن إسحاق : إنّ يوم أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص اختبر الله به المؤمنين ومحقّ به المنافقين ممّن كان يظهر الإيمان بلسانه وهو مستخف بالكفر في قلبه ، ويوما أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة (٢).

وقد أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بعد انتهاء المعركة أنّه لا يصيب المشركون من المسلمين مثل هذه المعركة حتى يفتح الله تعالى على المسلمين (٣).

__________________

(١) النحل : ١٢٦ و ١٢٧.

(٢) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ١٠٥.

(٣) البداية والنهاية ٤ : ٤٧.

٢٩

ملاحقة النبيّ للقرشيّين :

ولم يمكث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يثرب إلاّ زمنا يسيرا بعد رجوعه من معركة أحد حتى أمر أصحابه أن ينفروا لحرب قريش ، وخصّ طلبه بالذين اشتركوا معه في الحرب بما فيهم الجرحى ، والسبب في ذلك أن يوهم على قريش أنّه محتفظ بقوّته حتى لا يكرّوا الرجعة إليه ، وكانوا قد عزموا على ذلك ، فلمّا وافتهم الأنباء بزحف النبيّ إليهم تثاقلوا وتراجعوا عمّا صمّموا عليه ، وكانت هذه

الخطة من أروع الخطط السياسية والحربية.

سرور القرشيّين :

ورجعت قريش إلى مكّة وهي تعزف أبواق النصر بما حقّقته من نصر على المسلمين وما أوقعته فيهم من الخسائر الفادحة في النفوس والأموال ، وكان من أعظم المسرورين أبو سفيان وزوجته هند وسائر بني أميّة ، فقد أخذوا ثأرهم من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بما سفكوه من دم عمّه حمزة وسائر الأبطال من المسلمين.

واقعة الخندق :

أمّا واقعة الخندق فهي واقعة الأحزاب ، سمّيت بذلك لتحزّب القبائل على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ضاق منها المسلمون ذرعا وساد فيهم الرعب والخوف ، وذلك لقوّة المشركين وانضمام اليهود إليهم ، فقد كان عددهم عشرة آلاف مقاتل وعدد جيش المسلمين ثلاثة آلاف مقاتل ، وقد حكى القرآن الكريم مدى الفزع الذي أصاب المسلمين من أعدائهم قال تعالى : ( إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ) (١) ، وقد كتب الله تعالى النصر للإسلام

__________________

(١) الأحزاب : ١٠.

٣٠

على يد الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فهو الذي أحرز الفتح المبين ... ونقدّم عرضا موجزا لهذه الواقعة التي خاضها الإمام عليه‌السلام.

دور اليهود في المعركة :

أمّا اليهود فكانوا العنصر الفعّال في هذه المعركة ، فقد خفّت منهم عصابة إلى القرشيّين يحرّضونهم على حرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويطلبون منهم الانضمام إليهم قائلين لهم :

إنّا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ...

وهتف القرشيّون قائلين :

يا معشر اليهود ، إنّكم أهل الكتاب الأوّل والعلم بما أصبحنا نختلف فيه ، هو محمّد أفديننا خير أم دينه؟

وأسرع اليهود قائلين :

بل دينكم ـ وهو عبادة الأوثان والأصنام ـ خير من دينه ، وأنتم أولى بالحقّ منه ...

وحكى القرآن الكريم هذه المحاورة ، قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً. أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً. أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً ) (١).

إنّ اليهود في جميع فترات تأريخهم أعداء الفكر والحق ومصدر الفتنة في

__________________

(١) النساء : ٥٠ ـ ٥٥.

٣١

الأرض ، وقد استجابت القوى الكافرة من القرشيّين لحرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما استجابت قبائل غطفان وتجهّزوا لحرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

النبيّ مع نعيم :

أسلم نعيم على يد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الفترة الرهيبة ، وكان من زعماء غطفان ، فقال للنبيّ : يا رسول الله ، إنّي قد أسلمت وإنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فأمرني بما شئت ... فأمره النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتخذيل القبائل عنه وخداعهم ، فإنّ الحرب خدعة ، وقام نعيم بن مسعود بدور إيجابي وفعّال في تفتيت القوى المحاربة للنبيّ من اليهود والقرشيّين ، فقد انطلق إلى بني قريظة ، وكان نديما لهم في الجاهلية فقال لهم :

يا بني قريظة ، قد عرفتم ودّي إيّاكم والخاصّة التي بيني وبينكم ...

وهتفوا قائلين :

صدقت لست عندنا بمتّهم.

وأشار عليهم بنصيحة قائلا :

إنّ قريشا وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون على تحوّل منه إلى غيره ، وإنّ قريشا وغطفان جاءوا لحرب محمّد وأصحابه ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره ، فإن رأوا نهزة أصابوها (١) ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلّوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ولا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم على أن تقاتلوا محمّدا حتى تناجزوه ...

وهتفوا جميعا :

__________________

(١) النهزة : انتهاز الشيء واختلاسه.

٣٢

أشرت بالرأي ...

ومضى إلى قريش فقال لأبي سفيان ومن معه من زعماء قريش : قد عرفتم ودّي لكم وفراقي محمّدا ، وإنّه بلغني أمر قد رأيت عليّ حقّا أن أبلغكموه نصحا لكم فاكتموا عنّي.

وطفقوا قائلين :

نفعل ذلك.

إنّ اليهود قد ندموا على ما صنعوه مع محمّد ، وأرسلوا إليه أنّهم قد ندموا على ما فعلوه ، وإنّه إذا يرضيه أن يأخذوا من أشراف قريش وغطفان جماعة ويسلّموهم إليه ليضرب أعناقهم ، ثمّ يكونوا معه ... فإن بعثت لكم اليهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم رجلا واحدا ...

وأرسل أبو سفيان ورؤساء بني غطفان إلى بني قريظة عكرمة بن أبي جهل مع جماعة من قريش وغطفان فطلبوا منهم الالتحاق بهم لمحاربة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت بنو قريظة : لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا حتى نناجز محمّدا ... ورجعت الرسل إلى قريش وغطفان فأخبروهم بمقالة بني قريظة ، فصدّقوا مقالة نعيم بن مسعود ، وقالوا : لا نعطيهم أي واحد منّا ، وبذلك فقد تخلّص المسلمون من يهود بني قريظة ، فلم ينضمّوا إلى قريش ولم يشتركوا معهم في حرب رسول الله (١).

حفر الخندق :

ولمّا علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خروج القرشيّين وقبائل غطفان لحربه جمع أصحابه

__________________

(١) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ٢٢٩ ـ ٢٣٠.

٣٣

وأحاطهم علما بالأمر ، وطلب منهم اتّخاذ أهمّ وسيلة لصدّ العدوان عن المسلمين ، فأشار عليه الصحابي الجليل سلمان المحمّدي بحفر الخندق حول المدينة ليمنع من وصول العدو لهم ، واستصوب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الرأي ، وقام مع أصحابه بحفر الخندق ، وكانت خطّة حكيمة وقت المسلمين من شرّ أعدائهم ، ووقفت قريش مذهولة لا حيلة لها ، فلم تقدر على اجتيازه والوصول إلى محاربة المسلمين ، واستخدمت النبال في حربها ، وكان المسلمون يردّون عليهم بالمثل ، وبقي التراشق بين الفريقين من دون أن تقع حرب عامّة.

مبارزة الإمام لعمرو :

وضاقت القبائل القرشية ذرعا من هذه المناوشات التي لم يحرزوا فيها نصرا ، والتمسوا منهم مكانا ضيّقا ، فأقحموا خيولهم فيه وعبروا الخندق ، كان منهم عمرو ابن عبد ودّ فارس قريش في الجاهلية وفارس كنانة ، وهو مدجّج بالسلاح كأنّه القلعة فوق جواده ، واهتزّت الأرض من تيهه وزهوه وقوّة بدنه ، وساد الوجوم بين المسلمين وعمّ فيهم الرعب وتهيّبوه ، وجعل يصول ويجول أمامهم محتقرا لهم وقد رفع صوته قائلا :

يا رجال محمّد ، هل من مبارز؟

وخلعت قلوب المسلمين ، فكان كالصاعقة عليهم.

وهتف ثانيا :

ألا رجل يبارز؟

ولبّى نداءه حامي الإسلام وبطل المسلمين الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام قائلا :

« أنا له يا رسول الله ... »!

وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضنينا على ابن عمّه ، فقال للإمام :

٣٤

« إنّه عمرو ».

وجلس الإمام عليه‌السلام ممتثلا لأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعاد عمرو ساخرا من المسلمين قائلا لهم :

يا أصحاب محمّد ، أين جنّتكم التي زعمتم أنّكم داخلوها إذا قتلتم؟

ألا يريدها رجل منكم؟

ولم يستجب أحد من المسلمين لنداء عمرو سوى الإمام ، فأخذ يلحّ على النبيّ أن يأذن له ، فأذن له النبيّ بعد إصراره وإلحاحه.

وقلّده الرسول وساما من أعظم الأوسمة التي تقلّدها الإمام حين قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« برز الإيمان كلّه إلى الشّرك كلّه ».

يا لها من كلمة خالدة ، فقد حدّدت الإمام بالإيمان بجميع رحابه ومفاهيمه ، فهو الذي يحكيه. ورفع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يديه بالدعاء مبتهلا إلى الله تعالى قائلا :

« اللهمّ إنّك أخذت منّي حمزة يوم أحد ، وعبيدة يوم بدر ، فاحفظ اليوم عليّا ... ربّ لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين ... ».

وبرز الإمام مزهوا لم يخالجه رعب ولا خوف من عمرو بن عبد ودّ ، وعجب عمرو من جرأة هذا الفتى وإقدامه على مناجزته ، فقال له :

من أنت؟

فأجابه الإمام ساخرا منه :

« أنا عليّ بن أبي طالب ».

فأشفق عليه عمرو وقال له :

قد كان أبوك صديقا لي.

ولم يحفل الإمام بصداقة عمرو لأبيه وراح يقول له :

٣٥

« يا عمرو ، إنّك عاهدت قومك ألاّ يدعوك رجل من قريش إلى خلال ثلاث إلاّ أجبته؟ ... ».

نعم ، هذا عهدي.

« إنّي أدعوك إلى الإسلام ... ».

وضحك عمرو وقال للإمام بسخرية :

أأترك دين آبائي ، دع هذا عنك ..

« أكفّ يدي عنك فلا أقتلك وترجع؟ ».

وغضب عمرو وعجب من جرأة هذا الفتى عليه وقال له :

إذن تتحدّث العرب عن فراري ..

وعرض الإمام عليه الأمر الثالث فقال له :

« إنّي أدعوك إلى النّزال؟ » (١).

وعجب عمرو من جرأة الفتى وبسالته ، فنزل عن فرسه واستلّ سيفه وضرب رأس الإمام ، فاستقبلها بدرقته فقدّها ونفذ السيف إلى رأس الإمام فشجّه ، وأيقن المسلمون أنّ الإمام قد لاقى مصيره ، ولكن الله تعالى نصره وحماه ، فقد ضرب عمروا ضربة هدّته وسقط إلى الأرض يخور بدمه كما يخور الثور عند ذبحه .. وكبّر الإمام ، وكبّر المسلمون ، فقد انقصم ظهر الشرك وتفلّلت قواه ، وأحرز الإسلام النصر الحاسم على يد إمام المتّقين وبطل الإيمان ، وراح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقلّده وساما مشرقا باقيا على امتداد التاريخ قائلا : « لمبارزة عليّ بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال أمّتي إلى يوم القيامة » (٢).

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ : ٣٢.

(٢) تاريخ بغداد ١٣ : ١٩. مستدرك الحاكم ٣ : ٣٢.

٣٦

وقال الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان : لو قسّمت فضيلة عليّ بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين أجمعهم لوسعتهم (١).

وقال عبد الله بن عباس في تفسير قوله تعالى : ( وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ ) (٢) قال : كفاهم بعليّ بن أبي طالب. وبكت قريش عمرو بن عبد ودّ لأنّ قتله كان هزيمة لهم ، وقد رثاه سافح بن عبد مناف بن زهرة بقوله :

عمرو بن عبد كان أوّل فارس

جزع المزار وكان فارس يليل

سمح الخلائق ماجد ذو مرّة

يبغي القتال بشكة لم ينكل

واعتزّت اخت عمرو بالإمام قاتل أخيها لأنّه البطل الأوّل قي الجزيرة ، ولو كان قاتله غير الإمام لحزنت عليه كأشدّ ما يكون الحزن قالت :

لو كان قاتل عمرو غير قاتله

لكنت أبكى عليه آخر الأبد

لكن قاتله من لا يعاب به

من كان يدعى قديما بيضة البلد (٣)

وقتل الإمام عليه‌السلام بطلا آخر من قريش وهو نوفل بن عبد الله ، وسبّب ذلك هزيمة كبرى لقريش ، وراح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له :

« الآن نغزوهم ولا يغزوننا » (٤).

وولّت قريش منهزمة على أعقابها تجرّ رداء الخيبة والخسران ، قد منيت بهزيمة ساحقة ولم تربح أي شيء في هذه المعركة ولم يخسر المسلمون فيها شيئا.

__________________

(١) رسائل الجاحظ : ٦٠.

(٢) الأحزاب : ٢٥.

(٣) أمالي المرتضى ٢ : ٧ ـ ٨.

(٤) أعيان الشيعة ٣ : ١١٣.

٣٧

فتح خيبر (١) :

وبعد ما شاعت الهزائم الساحقة في صفوف القرشيّين وأخزاهم الله وأذلّهم رأى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفكره الثاقب ورأيه الأصيل أنّه لا يستقيم للمسلمين أمر ولا تسلم لهم دولة ولا تسود كلمة الإسلام في الأرض مع وجود قوّة اليهود ، وهم من ألدّ أعداء الإسلام ، وتلك القوة هي حصون خيبر التي كانت مصنعا للأسلحة على اختلاف أنواعها من السيوف والرماح والدروع والدبابات التي كانت تقذف بالماء الحار والرصاص بعد إذابته ، وهي من أخطر الأسلحة في ذلك العصر ، وكانت اليهود هي التي تمدّ القوى المحاربة للإسلام بالأسلحة ... وزحف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بجيشه لاحتلال حصون خيبر ، وأسند قيادة جيشه لأبي بكر ، فمضى ، ولمّا أشرف على الحصون قوبل بالقذائف فرجع منهزما خائبا ، وفي اليوم الثاني أسند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قيادة الجيش إلى عمر بن الخطّاب ، فكان كصاحبه أبي بكر ، فقفل راجعا منهزما ، وظلّت الحصون مغلقة لم يمسّها أحد بسوء ...

وبعد ما عجز الجيش من اقتحام الحصن أعلن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سيعيّن القائد الذي يفتح الله على يده قائلا :

« لأدفعنّ الرّاية غدا إلى رجل يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، لا يرجع حتّى يفتح الله له » (٢).

واستشرف الجيش بفارغ الصبر ينتظرون القائد الملهم الذي يفتح الله على يده ، ولم يظنّوا أنّه الإمام ؛ لأنّه كان مصابا برمد ، ولمّا اندلع نور الصباح دعاه

__________________

(١) خيبر : اسم ولاية مشتملة على حصون ومزارع ونخل كثير تبعد عن المدينة ثلاثة أيام ، سمّيت باسم أوّل من نزلها وهو خيبر أخو يثرب من أبناء عاد ، وكانت غزوة خيبر في آخر السنّة السادسة من الهجرة ، جاء ذلك في خزانة الأدب ٦ : ٦٩.

(٢) حلية الأولياء ١ : ٦٢. صفة الصفوة ١ : ١٦٣. مسند أحمد ١ : ١٨٥ ، رقم الحديث ٧٧٨.

٣٨

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان معصبا على عينيه فأزاح العصابة عنه وسقا عينيه بريقه فبرئتا بالوقت ، وقال له : « خذ هذه الرّاية حتّى يفتح الله عليك ... ».

ووصف حسّان بن ثابت رمد الإمام وشفاءه من ريق النبيّ بقوله :

وكان عليّ أرمد العين يبتغي

دواء فلم يحسس طبيبا مداويا

شفاه رسول الله منه بتفلة

فبورك مرقيا وبورك راقيا

وقال : سأعطي الراية اليوم صارما

كميّا محبّا للرسول مواليا

يحبّ إلهي والإله يحبّه

به يفتح الله الحصون الأوابيا

فأصفى بها دون البريّة كلّها

عليّا وسمّاه الوزير المؤاخيا (١)

ووصف الشاعر الموهوب الأزري الحادثة بقوله :

وله يوم خيبر فتكات

كبرت منظرا على من رآها

يوم قال النبيّ إنّي لأعطي

رايتي ليثها وحامي حماها

فاستطالت أعناق كلّ فريق

ليروا أيّ ماجد يعطاها

فدعا أين وارث العلم والحلم

مجير الأيام من بأساها؟

أين ذو النجدة الذي لو دعته

في الثرايا مروعة لبّاها؟

فأتاه الوصي أرمد عين

فسقاه من ريقه فشفاها

ومضى يطلب الصفوف فولّت

عنه علما بأنّه أمضاها (٢)

واستلم الإمام عليه‌السلام الراية من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له :

« يا رسول الله ، اقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا؟ » ، فقال له النبيّ : « انفذ على

__________________

(١) إعلام الورى : ١٨٥ ـ ١٨٦.

(٢) شرح الأزرية : ١٤١ ـ ١٤٢.

٣٩

رسلك حتّى تنزل بساحتهم ، ثمّ ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله فو الله! لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النّعم » (١).

وأسرع القائد العظيم مزهوّا لم يختلج في قلبه رعب ، وهو يلوّح بلواء النصر متّجها نحو الحصن ، فقلع بابه وتترّس بها (٢) ووقته من ضربات اليهود وقذائفهم ، وذعر اليهود وأصابتهم أوبئة الخوف وفزعوا من هذا البطل الذي قلع باب حصنهم وتترّس بها.

مبارزة الإمام لمرحب :

وبرز مرحب ـ وهو من أبطال اليهود وشجعانهم ـ صوب الإمام وعليه مغفر يماني وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه ، وهو يرتجز :

قد علمت خيبر أنّي مرحب

شاكي السلاح بطل مجرّب

إذا الليوث أقبلت تلتهب واستقبله حامي الإسلام وعليه جبّة حمراء فأجابه :

« أنا الّذي سمّتني أمّي حيدره

ضرغام آجام وليث قسوره » (٣)

__________________

(١) صفوة الصفوة ١ : ١٦٤. صحيح البخاري ٧ : ١٢١. وفي وسائل الشيعة ( ٦ : ٣٠ ) : « يا عليّ ، لا تقاتلنّ أحدا حتّى تدعوه إلى الإسلام ».

(٢) إنّ قلع الإمام لباب خيبر كان من المعاجز ، فقد كانت الباب لا يقلعها إلاّ أربعون رجلا ، كما نصّت عليه المصادر التالية : تاريخ بغداد ١١ : ٣٢٤. ميزان الاعتدال ٢ : ٢١٨. كنز العمّال ٦ : ٣٦٨.

وفي الرياض النضرة ( ٢ : ١٨٨ ) : « إنّه اجتمع سبعون رجلا فأعادوا الباب بعد جهد ».

(٣) الآجام : جمع أجمة ، وهي الشجر الكثير الملتفّ أو القصب يكونان مأوى للأسود ، وهو إشارة إلى فرط قوّته ومنعة جانبه ، فإنّه لم يكتف بحماية أجمة ، وإنّما حمى آجاما.

القسورة : أوّل الليل ، وتأتي بمعنى الأسد ، وهو من القسر لأنّه يأخذ فريسته قسرا وقهرا.

٤٠