موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٢

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٢

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٣٢

يصطفوا من أموال الدولة أي شيء لنفوسهم ولغيرهم ، يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ رجالا يتخوّضون في مال الله بغير حقّ فلهم النّار يوم القيامة » (١).

وأوضح الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام النهج الكامل على للسياسة الاقتصادية في الإسلام وذلك فيما كتبه إلى قثم بن العبّاس قال عليه‌السلام :

وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة ، مصيبا به مواضع الفاقة والخلاّت وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا (٢).

هذا هو نظر الإسلام في أموال الدولة : إنفاق على الفقراء ، ورفع لغائلة الجوع ، وبسط للرخاء العامّ بين المسلمين .. أمّا عثمان فلم يعن بذلك ، وإنّما أنفق الأموال بسخاء على بني أميّة وآل أبي معيط وسائر الوجوه والأشراف المؤيّدين لسياسته.

لقد أصبحت الأموال الهائلة التي تتدفّق على الخزينة المركزية تمنح للأمويّين ، وادّعوا أنّ المال إنّما هو ملكهم لا مال الدولة ، وأنّها ملك لبني أميّة ، فقد منحوا نفوسهم جميع الامتيازات (٣) ، ونعرض فيما يلي لذلك :

هباته للأمويّين :

ومنح عثمان بني أميّة الأموال الهائلة ووهبهم الثراء العريض ، وهذه قائمة ببعض أسماء الذين أغدق عليهم الأموال وهم :

١ ـ الحارث بن الحكم :

وهب عثمان الحارث بن الحكم صهره من عائشة ما يلي :

__________________

(١) صحيح البخاري ٥ : ١٧.

(٢) نهج البلاغة ـ محمّد عبده ٢ : ١٢٨.

(٣) العقيدة والشريعة في الإسلام : ٢٣.

٢٤١

أ ـ ثلاثمائة ألف درهم (١).

ب ـ وهبه إبل الصدقة التي وردت إلى المدينة (٢).

ج ـ أقطعه سوقا في المدينة يعرف بتهروز بعد أن تصدّق به النبيّ على جميع المسلمين (٣).

٢ ـ أبو سفيان :

وهب عثمان عميد اسرته أبا سفيان مائتي ألف درهم من بيت المال (٤).

٣ ـ سعيد بن العاص :

منحه مائة ألف درهم من بيت المال (٥).

٤ ـ عبد الله بن خالد :

تزوّج عبد الله بن خالد بنت عثمان ، فأمر له بستمائة ألف درهم ، وكتب إلى عبد الله بن عامر واليه على البصرة أن يدفعها إليه من بيت المال (٦).

٥ ـ الوليد بن عقبة :

أمّا الوليد بن عقبة فهو أخو عثمان من امّه ، استقرض من عبد الله بن مسعود أموالا طائلة من بيت المال ، فطالبه بها ، فأبى أن يدفعها ، ورفع الوليد رسالة إلى عثمان يشكو فيها ابن مسعود لمطالبته بالمال ، فكتب إليه عثمان : إنّما أنت خازن لنا فلا تعرض للوليد فيما أخذ من المال ، وغضب ابن مسعود ، وطرح مفاتيح بيت المال ، وقال : كنت أظنّ أنّي خازن للمسلمين ، فأمّا إذا كنت خازنا لكم فلا حاجة لي

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٥٢.

(٢) حياة الإمام الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ١ : ٣٥٥.

(٣) و (٥) أنساب الأشراف ٥ : ٢٨.

(٤) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٦٧.

(٦) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٥.

٢٤٢

في ذلك ، وأقام في الكوفة بعد أن استقال من منصبه (١).

إنّ بيت المال في عرف عثمان ملك لبني أميّة الذين ناهضوا الإسلام ، وليس ملكا للمسلمين ، ونترك الحكم في ذلك إلى القرّاء.

٦ ـ الحكم بن أبي العاص : أمّا الحكم فهو رجس من أرجاس الجاهلية ، ومن ألدّ أعداء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونفاه إلى الطائف بعد فتح مكّة ، وقال : لا يساكنني ، ولم يزل منفيا هو وأولاده ، وبعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقرّ الشيخان نفيه ، ولمّا انتهى الحكم إلى عثمان أصدر عنه العفو ، فقدم إلى يثرب وهو بأقصى مكان من الذلّ والبؤس ، وكان يسوق تيسا وعليه ثياب رثة ، فلمّا رآه عثمان تألّم وكساه جبة خز وطيلسان (٢) ، ووهبه من الأموال ما يلي :

ـ وصله بمائة ألف درهم.

ـ ولاّه على صدقات قضاعة ، فبلغت ثلاثمائة ألف درهم ، فوهبها له (٣).

وأدّت هباته للحكم التذمّر والنقمة عليه من جميع الأوساط الإسلامية.

٧ ـ مروان بن الحكم : أمّا مروان بن الحكم فهو خيط باطل ـ كما اشتهر بذلك ـ وكان وغدا خبيثا ، وكانت شئون الدولة العثمانية بيده ولا شأن لعثمان بها ، وقد وهبه من الأموال ما يلي :

أ ـ أعطاه خمس افريقية ، وقد بلغت خمسمائة ألف دينار ، وقد عيب على عثمان في ذلك وانتقصه المسلمون ، وهجاه الشاعر عبد الرحمن بن حنبل بهذه الأبيات :

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٣٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٤١.

(٣) أنساب الأشراف ٥ : ٢٨.

٢٤٣

سأحلف بالله جهد اليمي

ن ما ترك الله أمرا سدى

ولكن خلقت لنا فتنة

لكي نبتلى بك أو تبتلى

فإنّ الأمينين قد بينا

منار الطريق عليه الهدى

فما أخذا درهما غيلة

وما جعلا درهما في الهوى

دعوت اللعين فأدنيته

خلافا لسنّة من قد مضى

وأعطيت مروان خمس العبا

د ظلما لهم وحميت الحمى (١)

ب ـ أعطاه ألف وخمسين اوقية ، لا نعلم أنّها من الذهب أو الفضة ... وهذا ممّا سبّت عليه النقمة العامّة في البلاد (٢).

ج ـ أعطاه مائة ألف من بيت المال ، فسارع زيد بن أرقم خازن بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يديه ، وجعل يبكي فنهره عثمان وقال له : أتبكي أن وصلت رحمي؟

ولكن أبكي لأنّي أظنّك أنّك أخذت المال عوضا عمّا كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا.

وزجره عثمان وصاح به :

ألق المفاتيح يا ابن أرقم! فإنّا سنجد غيرك (٣).

د ـ أقطعه فدكا (٤) ، وهي التي صادرها أبو بكر من سيّدة نساء العالمين زهراء

__________________

(١) تاريخ أبي الفداء ١ : ١٦٨ ، وفي العقد المفصّل ( ٩ : ٨٩١ ) : إنّ اسم الشاعر عبد الرحمن ابن حسل.

(٢) السيرة الحلبية ٢ : ٨٧.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١ : ٦٧.

(٤) لطائف المعارف : ٨٤. تاريخ أبي الفداء ١ : ١٦٨.

٢٤٤

الرسول بحجّة أنّها لجميع المسلمين ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

هـ ـ كتب له بخمس مصر (١).

هذه بعض ممالأة عثمان لاسرته التي حاربت الله ورسوله وليس من العدل ولا من الإنصاف أن تمنح هذه الأموال إلى هؤلاء الأوغاد الذين لم يألوا جهدا في محاربة الإسلام والكيد للمسلمين.

هباته للأعيان :

ووهب عثمان الثراء العريض والأموال الهائلة إلى بعض الوجوه والأشراف من ذوي النفوذ ، وهم :

١ ـ طلحة : وأعطى عثمان طلحة مائتي ألف دينار (٢) ، وكانت عليه خمسون ألفا فأحضرها طلحة فوهبها له وقال : هي لك على مروءتك (٣) ، أليس هذا هو التلاعب في بيت مال المسلمين؟

٢ ـ الزبير : منح الزبير بن العوّام ستمائة ألف ، ولمّا قبضها حار في صرفها ، فجعل يسأل عن خير مال يستغلّ صلته وينمّي ثراءه ، فأرشد إلى اتّخاذ الدور في الأقاليم والأمصار (٤) ، فبنى إحدى عشرة دارا بالمدينة ودارين بالبصرة ودارا بالكوفة ، ودارا بمصر (٥).

٣ ـ زيد بن ثابت : ووهب عثمان أموالا هائلة لزيد بن ثابت حتى بلغ به الثراء العريض أنّه لمّا توفّي خلّف من الذهب والفضّة ما يكسّر بالفؤوس عدا ما ترك من

__________________

(١) الطبقات الكبرى ٣ : ٢٤.

(٢) تاريخ الطبري ٥ : ١٣٩.

(٣) تاريخ الطبري ٥ : ١٣٩.

(٤) الطبقات الكبرى ٣ : ٧٩.

(٥) صحيح البخاري ٥ : ٢١.

٢٤٥

الأموال والضياع ما قيمته مائة ألف (١) ، ومنح أموالا طائلة للمؤيّدين لسياسته أمثال حسّان بن ثابت ، وقد تكدّست ثروة البلاد في طائفة من الرأسماليّين الذين جهدوا على حصر الثروة عندهم وحرمان المجتمع الإسلامي منها ، وقد أدّت هذه السياسة الملتوية إلى إشاعة الفساد ، وانتشار الترف والبذخ عند طائفة من الناس.

وقد خاف بعض المتحرّجين في دينهم من هذا الثراء الذي ظفر به من هبات عثمان ، يقول خباب بن الارت : لقد رأيتني مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أملك دينارا ولا درهما ، وإنّ في ناحية بيتي في تابوتي لأربعين ألف واف (٢) ، ولقد خشيت أن تكون عجلت طيّباتنا في حياتنا الدنيا .. (٣).

وهكذا تمثّلت الحيرة والذهول عند الصحابة المتحرّجين في دينهم من هذا الثراء الذي اختصّ بقوم وحرمت الأكثرية الساحقة في البلاد الإسلامية من التمتّع بالعيش الرغيد.

إقطاعه للأراضي :

ومن مناهج السياسة المالية عند عثمان أنّه أقطع بعض الأراضي الواسعة لجمهرة من المؤيّدين لسياسته ، فقد أقطع أراضي في داخل الكوفة وخارجها ... وهذه الأراضي من المفتوحة عنوة ، وهي ملك للمسلمين ، فمن أحيى أرضا فهي له ، وعليه الخراج يؤدّيه للدولة.

وعلى أي حال فقد أقطع عثمان أراضي في الكوفة لجماعة ، وهي :

١ ـ طلحة : أقطعه أرضا سمّيت دار الطلحيّين ، وكانت في الكناسة.

__________________

(١) مروج الذهب ١ : ٣٣٤.

(٢) الوافي : درهم وأربعة دوانق.

(٣) الطبقات الكبرى ٦ : ٨.

٢٤٦

٢ ـ عبيد الله بن عمر : أقطعه أرضا سمّيت ( كوفيّة ابن عمر ).

٣ ـ اسامة بن زيد.

٤ ـ سعد وابن أخيه هاشم بن عتبة.

٥ ـ أبو موسى الأشعري.

٦ ـ حذيفة العبسي.

٧ ـ عبد الله بن مسعود.

٨ ـ سلمان الباهلي.

٩ ـ المسيّب الفزاري.

١٠ ـ عمرو بن حريث المخزومي.

١١ ـ جبير بن مطعم الثقفي.

١٢ ـ عتبة بن عمر الخزرجي.

١٣ ـ أبو جبير الأنصاري.

١٤ ـ عدي بن حاتم الطائي.

١٥ ـ جرير البجلي.

١٦ ـ الأشعث الكندي.

١٧ ـ الفرات بن حيّان العجلي.

١٨ ـ الوليد بن عقبة.

١٩ ـ جابر بن عبد الله الأنصاري.

٢٠ ـ أمّ هاني بنت أبي طالب.

هؤلاء بعض من منحهم الأراضي ، ولا نعلم مقدار مساحتها.

٢٤٧

قائمة بأسماء الممنوحين أراضي واسعة :

وأقطع عثمان أراضي واسعة تدرّ بالربح الكثير لجماعة وهم :

١ ـ طلحة بن عبد الله : أقطعه ( النشاستج ).

٢ ـ عدي بن حاتم : منحه ( البردجاء ).

٣ ـ وائل بن حجر الحضرمي : منحه ضيعة ( زادر ).

٤ ـ خباب بن الارت : منحه ( مسعبنا ).

٥ ـ خالد بن عرفطة : أقطعه أرضا عند ( حمام أعين ).

٦ ـ الأشعث الكندي : أعطاه ( ظيزناباد ).

٧ ـ جرير بن عبد الله البجلي : أعطاه أرضا على شاطئ الفرات ( الجرفين ).

٨ ـ عبد الله بن مسعود : أقطعه أرضا بالنهرين.

٩ ـ الزبير بن العوّام : أقطعه أرضا.

١٠ ـ اسامة بين زيد : أقطعه أرضا ثمّ باعها (١).

هذه بعض الأراضي الزراعية التي منحها عثمان لبعض الشخصيات.

ومن الجدير بالذكر أنّه اندفع جماعة من الطبقة الارستقراطية إلى شراء أراض خصبة في العراق ، فقد اشترى طلحة ومروان بن الحكم والأشعث بن قيس (٢) ورجال من قبائل العراق أراضي واسعة حتى انتشر الاقطاع ، وعمّ البؤس والحرمان في أوساط الفلاحين ، وبذلك فقد وجد النظام الطبقي الذي يخلق الصراع بين أبناء الامّة.

__________________

(١) الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الكوفة : ١٤٦ ـ ١٤٧.

(٢) خطط الكوفة : ٢١. الحضارة الإسلامية ١ : ١٢٣.

٢٤٨

استقطاع عثمان للأموال :

واصطفى عثمان من بيت المال ما شاء لنفسه وعياله ، فقد روى المؤرّخون انّه كانت في بيوت الأموال جواهر ثمينة لا تقدّر قيمتها ، فأخذها وحلّى بها بناته ونساءه (١) ، كما بالغ في الترف والسرف إلى حدّ لم يألفه المسلمون ، فقد أشاد له دارا في المدينة بناها بالحجر والكلس ، وجعل أبوابها من الساج والعرعر ، واقتنى أموالا وجنانا وعيونا بالمدينة (٢) ، وكان ينضّد أسنانه بالذهب ، ويتلبّس بأثواب الملوك ، وأنفق الكثير من بيت المال في عمارة ضياعه ودوره (٣) ، ولمّا قتل وجد عند خازنه ثلاثون ألف ألف درهم ، وخمسون ومائة ألف دينار ، وترك ألف بعير وصدقات ببراديس وخيبر ووادي القرى ما قيمتها مائتا ألف دينار (٤).

وعلّق محمّد كرد علي على هذه السياسة التي انتهجها عثمان بقوله :

لقد أوجدت هذه السياسة المالية طبقتين من الناس ؛ الاولى : الطبقة الفاحشة في الثراء التي لا عمل لها إلاّ اللهو والتبطّل ، والاخرى : الطبقة الكادحة التي تزرع الأرض ، وتعمل في الصناعة ، وتشقى في سبيل اولئك السادة من أجل الحصول على فتات موائدهم ، وترتّب على فقدان التوازن في الحياة الاقتصادية ، انعدام الاستقرار في الحياة السياسية والاجتماعية على السواء ، وقد سارت الدولة الأموية في أيام حكمها على هذه السياسة فأخضعت المال للتيارات السياسية وجعلوه سلاحا ضدّ أعدائهم ونعيما مباحا لأنصارهم (٥).

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٣٦.

(٢) مروج الذهب ١ : ٣٣٤.

(٣) السيرة الحلبية ٢ : ٨٧.

(٤) الطبقات الكبرى ٣ : ٥٣.

(٥) الإدارة الإسلامية : ٨٢.

٢٤٩

هذه بعض المؤاخذات على السياسة المالية التي انتهجها عثمان ، وقد ابتعدت كلّ البعد عمّا قنّنه الإسلام من وجوب إنفاق أموال الدولة على ما يسعد به المجتمع من مكافحة الفقر ، وتطوير الحياة الاقتصادية بشكل عامّ.

مع الجبهة المعارضة :

وكان من الطبيعي أن ينقم خيار المسلمين وصلحاؤهم على عثمان وولاته بما اقترفوه من مساوئ الأعمال التي لا تتّفق بصلة مع الواقع الديني ، وقد شنّوا عليه حملة شعواء نقدوه بلاذع النقد .. ومن الجدير بالذكر أنّ المعارضة كانت مختلفة الاتّجاه بين اليمين واليسار ، فطلحة والزبير وعائشة ومن انضمّ إليهم كانوا مدفوعين لرغباتهم الخاصّة ومصالحهم الضيّقة ، أمّا الطائفة الثانية فكانت تضمّ أعلام الإسلام وحماته أمثال عمّار بن ياسر الطيّب ابن الطيّب وأمثال المجاهد الكبير أبي ذرّ ، والصحابي القارئ عبد الله بن مسعود ونظرائهم من الذين أبلوا في الله بلاء حسنا ، فرأوا أنّ السنّة قد اميتت ، والبدعة احييت ، ورأوا صادقا يكذّب ، وأثرة بغير حقّ ، فهبّوا في وجه عثمان مطالبين بتغيير سلوكه واتّباع الهدى ، ولم تكن لهم أيّة مصلحة ينشدونها سوى خدمة الإسلام ، ولو أنّه استجاب لهم لجنّب الامّة الكثير من المشاكل.

التنكيل بالمعارضين :

وأمعن عثمان بالتنكيل بالمعارضين لسياسته ، فصبّ عليهم جام غضبه وقابلهم بمزيد من القسوة والبطش والتنكيل ، وهذه قائمة بأسماء بعضهم وما عانوه منه :

١ ـ عمّار بن ياسر :

أمّا عمّار بن ياسر فهو أجلّ صحابي ، ومكانته في الإسلام معلومة ، فهو وأبواه

٢٥٠

قد عانوا في سبيل الإسلام أعنف المصاعب وأقسى ألوان التعذيب ، وقد استشهد أبواه في سبيل الإسلام على يد القساة الطغاة من قريش.

وقد أشاد القرآن الكريم بفضل عمّار ، فمن الآيات النازلة في حقّه قوله تعالى : ( أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ) (١) ، وقال تعالى في حقّه أيضا : ( أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (٢).

وكانت له المنزلة الكريمة عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد سمع شخصا ينال من عمّار ، فتأثّر ، وقال : « ما لهم ولعمّار ، يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النار ، إنّ عمّارا جلدة ما بين عيني وأنفي ، فإذا بلغ ذلك من الرجل فاجتنبوه » (٣) ، وكان عمّار من ألمع أصحاب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقد آمن بحقّه ، وأنّه أولى بمقام النبيّ من غيره ، وقد وقف إلى جانبه أيام الفتنة الكبرى ، وأعلن تأييده للإمام عليه‌السلام ، وبعد ما فرض عمر عثمان خليفة على المسلمين في وضعه للشورى التي أدّت إلى فوزه في الحكم ... كان عمّار من أشدّ الناقمين على عثمان ، وقد أظهر نقمته عليه في المواضع التالية :

١ ـ إنّ عثمان لمّا استأثر بالسفط الذي يضمّ جواهر ثمينة لا تقدّر قيمتها بثمن ، فأخذها ليحلّي بها نساءه وبناته ، فأنكر عليه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وأيّده عمّار ، فقال له عثمان : يا ابن المتكاء (٤) ، أعليّ تجترئ؟ ثمّ أوعز إلى شرطته بأخذه ، فقبضوا عليه وأدخلوه عليه ، فضربه ضربا مبرحا حتى غشي عليه ، وحملوه إلى منزل أمّ المؤمنين السيّدة أمّ سلمة ولم يفق من شدّة الضرب حتى فاتته صلاة الظهرين

__________________

(١) الزمر : ٩ ، نصّ على ذلك ابن سعد في طبقاته ٣ : ١٧٨. القرطبي في تفسيره ٥ : ٢٣٩.

(٢) الأنعام : ١٢٢ ، نصّ على ذلك السيوطي في تفسيره ١ : ٢٣٩ ، وغيره.

(٣) السيرة النبوية ـ ابن هشام ٢ : ١١٤.

(٤) المتكاء : العظيمة البطن التي لا تمسك بولها.

٢٥١

والمغرب ، فلمّا أفاق قام وتوضّأ وصلّى صلاة العشاء وقال :

الحمد لله ليس هذا أوّل يوم اوذينا فيه في الله.

يا لله! يا للمسلمين! أمثل عمّار الذي هو في طليعة المؤسّسين في بناء الإسلام يضرب ويهان لأنّه رأى أثرة بغير تقىّ ونهبا لأموال المسلمين بغير وجه مشروع.

وكان من الطبيعي أن يثير ذلك غضب المسلمين ونقمتهم على عثمان عميد الأمويّين ، فقد غضبت عائشة ، وأخرجت شعرا من شعر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وثوبا من ثيابه ، ونعلا من نعاله ، وقالت :

ما أسرع ما تركتم سنّة نبيّكم! وهذا شعره وثوبه ونعله لم يبل بعد ..

وغضب عثمان من عائشة ، ولم يدر كيف يعتذر ممّا اقترفه تجاه عمّار (١).

٢ ـ أنّ أعلام الصحابة رفعوا مذكّرة لعثمان ذكروا فيها أحداثه ومخالفاته للسنّة ، وطالبوه بالكفّ عنها ، فأخذها عمّار ودفعها إليه ، فقال له عثمان بعنف :

أعليّ تقدم من بينهم؟ ...

إنّي أنصحهم لك ...

كذبت يا ابن سميّة.

أنا والله! ابن سميّة ، وابن ياسر ..

وأوعز عثمان إلى جلاوزته لمدّ يديه ورجليه وضربه عثمان بنفسه برجليه على مذاكيره فأصابه فتق ، وكان ضعيفا فاغمي عليه ...

لقد لاقى هذا الصحابي من صنوف العذاب والتنكيل في عهد عثمان ما لا يوصف لمرارته ، والحاكم هو الله الذي يقضي بين عباده.

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٤٨.

٢٥٢

٣ ـ لمّا نكّل عثمان بالصحابي الثائر على السياسة الأموية أبي ذرّ فنفاه إلى الربذة ، ومات فيها جائعا غريبا مظلوما مضطهدا ، فحزن عليه المسلمون فقال عثمان أمام جماعة من الصحابة :

رحمه الله ..

فاندفع عمّار والأسى باد عليه فقال :

رحمه الله من كلّ أنفسنا ...

فغضب عثمان وقال لعمّار بأفحش القول وأقساه قائلا :

يا عاضّ أير أبيه! أتراني ندمت على تسييره ...؟

أيليق هذا الفحش بالرجل العادي فضلا عمّن يدّعي أنّه خليفة المسلمين وأنّ الملائكة تستحي منه.

ثمّ أمر عثمان غلمانه فدفعوا عمّارا وأرهقوه ، وأمر بنفيه إلى الربذة ، فلمّا تهيّأ للخروج أقبلت بنو مخزوم إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فسألوه أن يكلّم عثمان في شأن عمّار وأن يلغي قراره في اعتقاله في الربذة ، وكلّم الإمام عثمان بذلك قائلا :

« اتّق الله ، فإنّك سيّرت رجلا صالحا من المسلمين ، فهلك في تسييرك ، ثمّ أنت الآن تريد أن تنفي نظيره ..؟ ».

فثار عثمان وصاح بالإمام :

أنت أحقّ بالنّفي منه ...

« رم إن شئت ذلك .. ».

واجتمع المهاجرون فعذلوه عن ذلك ، فاستجاب لهم وعفا عن عمّار (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٥٠. أنساب الأشراف ٥ : ٥٤.

٢٥٣

وهكذا لقي هذا الصحابي العظيم صنوف الاضطهاد والارهاق من عثمان ، ولم يلحظ مكانته في الإسلام وعظيم جهاده في إقامة صروح الدين ، فإنا لله وإنّا إليه راجعون.

٢ ـ مع أبي ذرّ :

أمّا أبو ذرّ فهو صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخليله ، وهو من الأسبقين للإسلام ، وكان من أزهد الناس في الدنيا ، ومن أقلّهم احتفالا بمنافعها ، وكان من ألصق الناس برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان يأتمنه حين لا يأتمن أحدا من الصحابة ، ويسرّ إليه حين لا يسرّ أحدا من أصحابه (١) ، وهو أحد الثلاثة الذين أحبّهم الله ، وأمر نبيّه بحبّهم ، كما أنّه أحد الثلاثة (٢) الذين تشتاق إليهم الجنّة (٣).

ولمّا آل الحكم إلى عثمان واستأثرت بنو أميّة بمنافع الدولة وخيرات المسلمين ، هبّ أبو ذرّ إلى الانكار عليه ، وقد نهاه عثمان من نقده والانكار عليه ، فلم يمتنع ورأى أنّ ذلك ضرورة إسلامية وواجب عليه ، وكان أبو ذرّ يقف أمام الذين وهبهم عثمان الثراء العريض ويتلو عليهم قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) ، وغاظ ذلك مروان بن الحكم المنتفع الأوّل من حكومة عثمان ، فشكاه إليه ، فأرسل خلفه ، فنهاه فقال أبو ذرّ :

أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله؟ ... فو الله! لأن أرضي الله بسخط عثمان أحبّ إليّ وخير لي من أن أسخط الله برضاه ...

__________________

(١) كنز العمّال ٨ : ١٥.

(٢) الثلاثة الذين تشتاق لهم الجنّة : الإمام عليّ ، أبو ذرّ وعمّار بن ياسر.

(٣) مجمع الزوائد ٩ : ٣٣٠.

٢٥٤

لقد أبى أبو ذرّ الذي تربّى بتعاليم الإسلام وأحكام القرآن أن يصانع عثمان ، ويقرّه على سياسته الملتوية التي اتّخذت مال الله دولا.

وضاق عثمان ذرعا من أبي ذرّ الثائر العظيم الذي وعى الإسلام وآمن بقيمه وتعاليمه ، وراح عثمان يفتّش عن الوسائل التي يتخلّص بها من خصمه العنيد ، فاتّخذ القرار التالي :

اعتقال أبي ذرّ في الشام :

أبى أبو ذرّ أن يصانع عثمان ويساير خطواته ومخطّطاته ويجاريه بأي عمل من أعماله التي لا يقرّها الإسلام ، وكان من ذلك أنّ عثمان سأل حضّار مجلسه فقال لهم :

أيجوز لأحد أن يأخذ من بيت المال فإذا أيسر قضاه؟

فانبرى كعب الأحبار فأفتاه بالجواز ، وصعب على أبي ذرّ أن يتدخّل كعب في شئون الإسلام وهو يهودي النزعة ، وقد شكّ في إسلامه ، فصاح به :

يا ابن اليهوديّين ، أتعلّمنا ديننا؟ ...

فثار عثمان وصاح بأبي ذرّ :

ما أكثر أذاك لي! وولعك بأصحابي! الحق بمكتبك في الشام ...

وسيّره إلى الشام ، فلمّا انتهى إليها أفزعه ما رأى من منكرات معاوية وبدعه ، فقد رآه قد أطلق يديه في بيت المال يهبه لعملائه وينفقه على شهواته وملاذّه فأخذ ينكر عليه ذلك ، ويذيع مساوئ عثمان وبدعه ، وقد قال لمعاوية حينما قال :

المال مال الله ..

فردّ عليه أبو ذرّ :

المال مال المسلمين ..

٢٥٥

إنّ أموال الخزينة العامّة للمسلمين وليست لمعاوية حتى ينفقها على ملاذه وتدعيم سلطانه ، ولمّا بنى معاوية داره الخضراء أنكر عليه أبو ذرّ وقال له :

يا معاوية ، إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة ، وإن كانت من مالك فهذا الإسراف ..

وأخذ الثائر العظيم يدعو المسلمين إلى الحذر واليقظة من السياسة الأموية التي أمعنت في اقتراف المنكر ، فكان يقول لأهل الشام :

والله! لقد حدثت أعمال ما أعرفها ، والله! ما هي في كتاب الله ولا في سنّة نبيّه ، والله! لأرى حقّا يطفأ ، وباطلا يحيى ، وصادقا يكذّب ، وأثرة بغير تقى ، وصالحا مستأثرا عليه ... (١).

وأخذ الوعي ينتشر بين أهل الشام ، فقد أوجدت دعوته هدى في النفوس ، واستطابتها العامّة .. لقد كانت دعوته إلى إنصاف المحرومين ، وتحريض الفقراء على استرجاع حقوقهم من الطغمة الحاكمة .. وخاف الطاغية معاوية أن تندلع عليه نار الثورة فنهى الناس عن مخالطته والاجتماع به ، وقال بعنف لأبي ذرّ :

يا عدو الله! تؤلّب الناس علينا ، وتصنع ما تصنع!! فلو كنت قاتلا رجلا من أصحاب محمّد من غير إذن أمير المؤمنين ـ يعني عثمان ـ لقتلتك ..

فردّ عليه البطل العظيم غير حافل بسلطانه قائلا :

ما أنا بعدوّ الله ولا رسوله ، بل أنت وأبوك عدوّان لله ورسوله أظهرتما الإسلام وأبطنتما الكفر ..

لقد صدق أبو ذرّ بمقالته ، فإنّ معاوية وأباه أبو سفيان لم يؤمنا بالله طرفة عين ،

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٥٢.

٢٥٦

أظهرا الإسلام خوفا من السيف وأبطنا الكفر والكيد للإسلام.

وعلى أي حال ، فقد ظلّ أبو ذرّ يواصل نشاطه الديني والسياسي للتشهير بالحكم الأموي حتى فزع منه معاوية وخاف على سلطانه.

إخراج أبي ذرّ من الشام :

وكتب معاوية إلى عثمان يخبره بخطر أبي ذرّ على الشام ويطلب منه إخراجه إلى بلد آخر ، فأجابه عثمان ، وأمره بحمله على أغلظ مركب وأوعره حتى يلقى الجهد والعناء ، فأرسله معاوية مع جلاوزة نزعت من نفوسهم الرأفة والرحمة والشرف والكرامة ، فساروا به سيرا مزعجا ولم يسمحوا له أن يستريح من الجهد والعناء ، ومضوا في سيرهم لا يلوون على شيء حتى تسلّخت بواطن فخذه وكاد أن يموت.

ولمّا انتهى إلى يثرب دخل على عثمان وهو منهوك القوى ، فاستقبله عثمان بالجفوة ومرارة القول قائلا :

أنت الذي فعلت ... وفعلت؟ ...

فأجابه أبو ذرّ بمنطق الحقّ قائلا :

نصحتك فاستغششتني ، ونصحت صاحبك ـ يعني معاوية ـ فاستغشني ..

فصاح عثمان به :

كذبت ، ولكنّك تريد الفتنة وتحبّها ، وقد أنغلت الشام علينا ...

فوجّه إليه أبو ذر نصيحته قائلا :

اتّبع سنّة صاحبيك ـ يعني أبا بكر وعمر ـ لم يكن لأحد كلام.

فصاح به عثمان :

ما لك لا أمّ لك ...

٢٥٧

فقال له أبو ذرّ بهدوء :

والله! ما وجدت لي عذرا إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..

وثار عثمان فقال لمن حوله :

أشيروا عليّ في هذا الشيخ الكذّاب ، إمّا أن أضربه أو أحبسه أو أقتله ، فإنّه فرّق جماعة المسلمين ، أو أنفيه من أرض الإسلام ...

فثار الإمام عليه‌السلام من هذه الاستهانة التي قابل بها عثمان أبا ذرّ ، فقال له :

« يا عثمان ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذرّ .. ».

ولم يحفل هذا الثائر العظيم بعثمان ، وإنّما راح ينكر عليه بوحي من دينه ، ويندّد بسياسته الملتوية قائلا له :

تستعمل الصبيان ، وتحمي الحمى ، وتقرّب أولاد الطلقاء؟

وأخذ يذيع بين المسلمين ما سمعه من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذمّ الأمويّين ، ومدى خطرهم على الإسلام قائلا :

قال رسول الله : « إنّ بني العاص إذا بلغوا ثلاثين رجلا جعلوا كتاب الله دخلا ، وعباد الله خولا ، ومال الله دولا » (١).

وأصدر عثمان أمرا بمنع مجالسة أبي ذرّ وحرّم مخالطته والكلام معه ، لأنّه يقول الحقّ ويأمر بالعدل وينهى عن المنكر.

اعتقاله في الربذة :

واستمرّ أبو ذرّ في جهاده ينشر مساوئ الأمويّين ويذيع منكراتهم ويوقظ الجماهير ، فضاق عثمان به ذرعا فصمّم على أن ينفيه عن الأمصار الإسلامية

__________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ١ : ٣٦٨ ـ ٣٧٠.

٢٥٨

ويعتقله في أرض جرداء لا سكن فيها ، فأرسل شرطته خلفه ، فلمّا حضر عنده بادره أبو ذرّ منكرا وناقما على سياسته قائلا :

ويحك يا عثمان ، أما رأيت رسول الله ورأيت أبا بكر وعمر ، هل رأيت هذا هديهم ، إنّك لتبطش بي بطش الجبّارين ..

فقطع عليه عثمان كلامه وصاح به :

اخرج عنّا من بلادنا ..

أتخرجني من حرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ..

نعم ، وأنفك راغم.

اخرج إلى مكّة.

لا ..

الكوفة؟

لا ..

إلى الربذة حتى تموت فيها ..

وأوعز شيخ الأمويّين عثمان إلى وزيره ومستشاره مروان بن الحكم بإخراج هذا الصحابي العظيم من مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقيم في أرض جرداء قد انعدمت فيها جميع وسائل الحياة ، فأخرجه الوزغ ابن الوزغ مهان الجانب ، محطّم الكيان ، وحرّم على المسلمين مشايعته وتوديعه ، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

توديع الاسرة النبوية لأبي ذرّ :

ولم تذعن الاسرة النبوية لأوامر عثمان بتحريم توديع أبي ذرّ ، فقد خرجت ومعها الصحابي الجليل عمّار بن ياسر لتوديع هذا الصحابي المضطهد ، وتلقي عليه نظرة الوداع.

٢٥٩

ولمّا رآهم مروان وجّه خطابه وإنذاره إلى الإمام الحسن عليه‌السلام فقال له :

ايه يا حسن! ألا تعلم أنّ عثمان قد نهى عن كلام هذا الرجل؟ فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك ...

ولم يجبه الإمام بكلمة احتقارا له ، وثار الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وحمل على مروان وضرب أذني دابته ، وصاح به :

« تنحّ نحّاك الله إلى النّار » ، وولّى مروان منهزما فزعا إلى سيّده وابن عمّه عثمان يخبره بعصيان أهل البيت عليهم‌السلام أمره ، فاستشاط عثمان غيظا وورم أنفه.

كلمة الإمام :

وألقى الإمام عليه‌السلام على أبي ذرّ نظرة مشفوعة بالأسى والحزن ، وخاطبه بهذه الكلمات التي حدّدت أبعاد شخصيّة أبي ذرّ ، وألقت الأضواء على ثورته ضدّ الحكم الأموي قائلا :

يا أبا ذرّ ، إنّك غضبت لله فارج من غضبت له. إنّ القوم خافوك على دنياهم ، وخفتهم على دينك ، فاترك في أيديهم ما خافوك عليه واهرب منهم بما خفتهم عليه ؛ فما أحوجهم إلى ما منعتهم ، وما أغناك عمّا منعوك! وستعلم من الرّابح غدا ، والأكثر حسّدا. ولو أنّ السّماوات والأرضين كانتا على عبد رتقا ، ثمّ اتّقى الله لجعل الله له منهما مخرجا! لا يؤنسنّك إلاّ الحقّ ، ولا يوحشنّك إلاّ الباطل ، فلو قبلت دنياهم لأحبّوك ، ولو قرضت منها لأمّنوك.

يا لها من كلمات ذهبية ألمّت بواقع أبي ذرّ الذي ثار في وجه الطغيان والاستبداد! فقد كانت ثورته إصلاحية استهدفت القضاء على الاستغلال ونهب ثروات الامّة.

وقد مجّد الإمام ثورة أبي ذرّ التي خشيها الأمويّون وطلب منه أن يهرب بدينه

٢٦٠