موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٢

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٢

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٣٢

حكومة عثمان

٢٢١
٢٢٢

واستقبلت القوى الخيّرة خلافة عثمان بكثير من القلق والوجوم والاضطراب ، فقد اعتبرت فوزه في الحكم فوزا لاسرة الأمويّين الذين لم يألوا جهدا في محاربة الإسلام والكيد للمسلمين ، ويرى « دوزي » أنّ انتصار الأمويّين إنّما هو انتصار للجماعة التي كانت تضمر العداء للإسلام (١).

لقد خاف المسلمون على دينهم ، وخافوا على دولتهم من الأمويّين ، وتحقّق ما خافوا منه ، فإنّه لم يمض قليل من الوقت حتى استولى الأمويّون على جميع أجهزة الدولة ، وسخّروا الاقتصاد العامّ لمصالحهم حتى عمّ الفقر وسادت الفوضى في جميع أنحاء البلاد.

إنّ عثمان حينما فرضه ابن عوف خليفة على المسلمين احتفّ به الأمويّون واخوانهم القرشيّون ، وجاءوا به يزفّونه إلى مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد علت أصواتهم بالدعم الكامل لحكومته ، والهتاف بحياته ، واعتلى عثمان المنبر فجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم يجلس في المكان الذي كان يجلس فيه أبو بكر وعمر ، وارتاب بعض الحاضرين ، فقالوا : اليوم ولد الشرّ (٢).

واتّجه المجتمع ليسمع ما يدلي به عثمان ، وما يفتح به مناهجه السياسية ، فارتجّ عليه ولم يدر ما يقول ، وجهد نفسه فألقى هذه الكلمات المتقطّعة المضطربة.

__________________

(١) تاريخ الشعر العربيّ : ٢٦.

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢ : ١٤٠. البداية والنهاية ٧ : ١٤٨.

٢٢٣

« أمّا بعد ، فإن أوّل مركب صعب ، وما كنّا خطباء ، وسيعلم الله ، وأنّ امراء ليس بينه وبين آدم إلاّ أب ميّت ، لموعوظ » ، ثمّ نزل عن المنبر وهو وجل (١) ، وأنت ترى أنّه ليس بين هذه الكلمات أي ربط أو اتّصال ، وإنّما كانت متنافرة في اسلوبها الأمر الذي دعا الحاضرين ليهزءوا به ويسخروا منه ، وكان ذلك من آفات الشورى التي امتحن بها المسلمون ، فقد أقصت أمير البيان ورائد الحكمة والعدالة في دنيا الإسلام وفرضت عثمان حاكما على المسلمين.

مظاهر شخصيّته :

ولا بدّ لنا من التحدّث عن مظاهر شخصيّة عثمان التي هي المقياس في نجاح أي حاكم أو فشله في الميادين السياسية والاجتماعية وهذه بعضها :

أوّلا ـ ضعف الإرادة :

كان عثمان ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ ضعيف الإرادة ، خائر العزيمة ، ولم تكن له أيّة قدرة على مواجهة الأحداث والتغلّب عليها ، فقد استولى عليه الأمويّون وسيطروا على جميع شئونه ، ولم يستطع أن يقف موقفا إيجابيا ضدّ رغباتهم وأهوائهم ، ووصفه بعض الكتّاب المحدثين بأنّه كالميّت في يد الغاسل لا حول له ولا قوّة.

وكان الذي يدير شئون دولته مروان بن الحكم ، فهو الذي يعطي ويمنع ويتصرّف حسب ما يشاء ، ولا رأي لعثمان ولا اختيار له ، وقد قبض على الدولة بيد من حديد ، يقول ابن أبي الحديد :

إنّ الخليفة في الحقيقة والواقع إنّما كان مروان ، وعثمان له اسم الخلافة.

__________________

(١) الموفّقيات : ٢٠٢.

٢٢٤

وأراد بعض المؤرّخين أن يدافع عن عثمان فقال : إنّه كان شديد الرأفة والرقّة واللين والتسامح. نعم ، إنّه كذلك ، ولكن مع أرحامه وأسرته ، أمّا مع الجبهة المعارضة لسياسته فقد اتّسم بالشدّة والغلظة معهم ، فقد نفى المصلح العظيم أبا ذرّ إلى الشام ، ثمّ إلى الربذة ، وفرض عليه الإقامة الجبرية فيها ، وقد انعدمت في هذه البقعة جميع وسائل الحياة حتى مات جائعا غريبا وفي يد عثمان ذهب الأرض ينفقه بسخاء على بني أميّة وآل أبي معيط. كما نكل بالطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمر بضربه حتى أصابه فتق ، وألقته شرطته في الطريق مغمى عليه ، كما نكّل بعبد الله بن مسعود القارئ الكبير فقد ألهبت جسمه سياط شرطته وهشّموا أضلاعه وحرّم عليه العطاء ، وهكذا كانت معاملته مع الناقمين لسياسته ، أمّا المؤيّدون له فقد وهبهم الثراء العريض وأسند لهم المناصب الحسّاسة في الدولة وحملهم على رقاب الناس.

ثانيا ـ حبّه العارم للأمويّين :

من النزعات التي اشتهر بها عثمان هو أنّه كان عظيم الحبّ والولاء لاسرته ، حتى تمنّى أن تكون مفاتيح الجنّة بيده ليهبها لبني أميّة ، ولمّا تقلّد زمام الدولة آثرهم بالفيء ، ووهبهم الملايين ، وجعلهم ولاة على الأقطار والأمصار الإسلامية ، وكانت تتواتر إليه الأخبار أنّهم جانبوا الحقّ وأشاعوا الفساد في الأرض فلم يحفل بذلك ، ولم يجر معهم أي لون من التحقيق الأمر الذي أدّى إلى النقمة عليه ، وسنتعرّف على ذلك في البحوث الآتية.

ثالثا ـ ميله إلى الترف :

وكان عثمان شديد الميل إلى الترف والبذخ ، فاتّخذ القصور ، واصطفى لنفسه ما شاء من بيت المال ، وأحاط نفسه بالثراء العريض ، ووصفه الإمام عليه‌السلام بقوله :

٢٢٥

« نافجا حضنيه بين نثيله ومعتلفه » ، وكان ذلك من موجبات النقمة عليه.

رابعا ـ مصانعة الوجوه :

ومن نزعاته مصانعة الوجوه والأشراف ، وإن أدّى ذلك إلى إهمال الأحكام الشرعية ، وكان من ذلك ما ذكره المؤرّخون أنّ أبا لؤلؤة لمّا اغتال عمر قام ولده عبيد الله فقتل الهرمزان صديق أبي لؤلؤة ، وقتل جفينة وابنة أبي لؤلؤة ، وهو قتل متعمّد بغير حقّ ، فأقفل عثمان سير التحقيق مع عبيد الله وأصدر عفوا عنه ممالأة لاسرة عمر ، وقد قوبل هذا الإجراء بمزيد من الانكار ، فقد أنكر عليه الإمام وطالبه بالقود من ابن عمر ، وكذلك طالبه المقداد فلم يعن عثمان بذلك ، وكان زياد بن لبيد إذ لقي عبيد الله بن عمر خاطبه بهذه الأبيات :

ألا يا عبيد الله! مالك مهرب

ولا ملجأ من ابن أروى ولا خفر

أصبت دما والله! في غير حلّه

حراما وقتل الهرمزان له خطر

على غير شيء غير أن قال قائل

أتتّهمون الهرمزان على عمر؟

فقال سفيه ـ والحوادث جمّة ـ:

نعم اتّهمه قد أشار وقد أمر!

وكان سلاح العبد في جوف بيته

يقلّبها والأمر بالأمر يعتبر

وشكا عبيد الله إلى عثمان ما قاله زياد فيه ، فدعاه عثمان ونهاه عن ذلك إلاّ أنّه لم ينته ، وتناول عثمان بالنقد فقال فيه :

أبا عمرو عبيد الله رهن

ـ فلا تشكك ـ بقتل الهرمزان

فإنّك إن غفرت الجرم عنه

وأسباب الخطا فرسا رهان

أتعفو إذ عفوت بغير حقّ

فما لك بالذي تحكى يدان

وغضب عثمان من زياد وحذّره العقوبة حتى انتهى (١).

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٤١.

٢٢٦

وأمر عثمان بإخراج عبيد الله إلى الكوفة ، وأقطعه بها أرضا واسعة ، فنسبت إليه ، وقيل ( كوفية ابن عمر ) ، وكانت هذه الحادثة من الأسباب التي أدّت إلى نقمة المسلمين عليه.

ولاته وعمّاله :

وفرض عثمان اسرته وذوي قرباه من بني أميّة وآل أبي معيط ولاة وحكّاما على المسلمين ، يقول المقريزي :

« وجعل عثمان بني أميّة أوتاد خلافته » ، مع العلم أنّه لم تتوفّر في أي واحد القابلية لتحمّل المسئولية وإدارة دفّة الحكم ، مع أنّ الكثيرين منهم ليس لهم معرفة بأحكام الإسلام ، كما لم تكن لهم حريجة في الدين ، فكيف يجعلون ولاة وحكّاما على المسلمين؟

ويرى السيّد مير علي أنّ المسلمين تذمّروا من استبداد الحكّام واغتصابهم الأموال (١) ، وكان من ولاته أبو موسى الأشعري ، فسمح لأحد عمّاله بالتجارة في أقوات أهل العراق (٢).

وعلى أي حال فإنّا نعرض إلى بعض عمّاله الذين عانى منهم المسلمون الجهد والبلاء ، وفيما يلي ذلك :

١ ـ عبد الله بن عامر :

عبد الله بن عامر بن كريز هو ابن خال عثمان ، وقد ولاّه إمارة البصرة بعد أن عزل منها أبا موسى الأشعري ، وكان ولاجا خرّاجا (٣) ، وهو أوّل من لبس الخزّ

__________________

(١) مختصر تاريخ العرب : ٤٣.

(٢) تاريخ الطبري ٤ : ٢٦٢.

(٣) الكامل في التاريخ ٣ : ٣٨.

٢٢٧

في البصرة ، وقد لبس جبّة دكناء ، فقال الناس : لبس الأمير جلد دبّ ، فغيّر لباسه ولبس جبّة حمراء (١).

وقد نقم الناس من سياسته وسوء تصرّفاته ، وعابوا على عثمان ولايته له ، وخفّ إلى يثرب عامر بن عبد الله موفدا من قبل أهل البصرة يطالب عثمان بالاستقامة في سلوكه فقال له :

إنّ اناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك ، فوجدوك قد ركبت امورا عظاما ، فاتّق الله عزّ وجلّ وتب إليه وانزع عنها ...

فاحتقره عثمان وأعرض عنه ، وقال لمن حوله :

انظروا إلى هذا ، فإنّ الناس يزعمون انّه قارىء ، ثمّ هو يجيء فيكلّمني في المحقّرات ، فو الله! ما يدري أين الله؟ ...

ولم يكلّمه عامر إلاّ بتقوى الله وطاعته ، وإيثار مصلحة المسلمين ، فهل هذه الامور من المحقّرات؟

والتفت إليه عامر فقال له :

أنا لا أدرى أين الله ...

نعم.

إنّي لأدري انّ الله بالمرصاد ...

وغضب عثمان ، فعقد مؤتمرا من مستشاريه ، وعرض عليهم انتقاد المعارضين لسياسته ، فأشار عليه ابن خاله عبد الله بن عامر أن يتّخذ معهم الاجراءات الصارمة قائلا :

__________________

(١) اسد الغابة ٣ : ١٩٢.

٢٢٨

رأي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك ، وأن تجمهرهم في المغازي حتى يذلّوا لك ، فلا يكون همّة أحدهم إلاّ نفسه ، وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته ..

وأشار عليه آخرون بخلاف ذلك ، إلاّ أنّه استجاب لرأي ابن خاله ، وأو عز إلى عمّاله بالتضييق على الجبهة المعارضة ، ومقابلتهم بالشدّة والعنف ، فاستجاب له ، وطبّق ما أشار عليه ، فقد أمر عمّاله بتجمير الناس في البعوث ، وعزم على حرمانهم من العطاء حتى يشيع الفقر فيهم والبؤس ، فيضطروا إلى طاعته (١).

ولمّا قفل عبد الله بن عامر إلى البصرة عمد إلى التنكيل بعامر بن عبد الله ، وأوعز إلى عملائه أن يشهدوا عليه شهادة زور بأنّه خالف المسلمين في امور قد أحلّها الله كان منها :

١ ـ أنّه لا يأكل اللحم.

٢ ـ لا يشهد الجمعة.

٣ ـ لا يرى مشروعية الزواج (٢).

ودوّنت شهادتهم ، ورفعها إلى عثمان ، فأمره بنفيه إلى الشام ، وحمله على قتب حتى يشق عليه السفر ، ولمّا انتهى إلى الشام أنزله معاوية ( الخضراء ) ، وبعث إليه بجارية تكون عينا عليه ، وأشرفت عليه الجارية فرأته يقوم في الليل متعبّدا ، ويخرج من السحر فلا يعود إلاّ بعد العتمة ، ولا يتناول من طعام معاوية شيئا ، وكان يتناول كسرا من الخبز ويجعلها في الماء تحرّجا من أن يدخل جوفه شيء من الحرام ، وانبرت الجارية فأخبرت معاوية بشأنه ، فكتب إلى عثمان بأمره (٣) ، وقد

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٩٤. تاريخ ابن خلدون ٢ : ٣٩.

(٢) الفتنة الكبرى ١ : ١١٦.

(٣) الاصابة ٣ : ٨٥.

٢٢٩

نقم الأخيار والمتحرّجون في دينهم على عثمان لما اقترفه في شأن هذا العبد الصالح.

وعلى أي حال فقد ظلّ عبد الله بن عامر واليا على البصرة لم يتحرّج من إثم وبغي ، ولمّا قتل عثمان نهب ما في بيت المال وسار إلى مكّة ، فوافى بها طلحة والزبير وعائشة فانضمّ إليهم ، وأمدّهم بالأموال التي نهبها ليستعينوا بها على حرب الإمام أمير المؤمنين ، وهو الذي أشار عليهم بالنزوح إلى البصرة (١).

إنّ هذا الذئب الجاهلي من ولاة عثمان ومن المقرّبين إليه ، وقد أسند إليه ولاية هذا القطر المهمّ.

٢ ـ الوليد بن عقبة :

وكان على الكوفة واليا سعد بن أبي وقّاص الزهري ، فعزله عثمان وولّى عليها الوليد بن عقبة ، وهو ـ فيما أجمع عليه المؤرّخون ـ من فسّاق بني أميّة ، ومن أكثرهم مجونا ، وقد أخبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه من أهل النار (٢) ، وكان أبوه عقبة من ألدّ أعداء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان يأتي بالروث ويطرحه على بابه (٣) ، وهو الذي بصق بوجه النبيّ ، فهدّده بأنّه إن وجده خارجا من جبال مكّة يأمر بضرب عنقه ، ولمّا كانت واقعة بدر امتنع من الخروج ، فأصرّ عليه أصحابه فأخبرهم بخوفه من النبيّ ، فأغروه وخدعوه وقالوا له : لك جمل أحمر لا يدرك ، فلو كانت الهزيمة طرت عليه ، فاستجاب لهم ، وخرج لحرب النبيّ ، فلمّا هزم الله المشركين حمل به جمله في جدود من الأرض ، فأخذه المسلمون وجاءوا به أسيرا ، فأمر النبيّ عليّا بضرب عنقه ، فقام إليه وقتله (٤) ،

__________________

(١) اسد الغاية ٣ : ١٩٢.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٢٣.

(٣) الطبقات الكبرى ١ : ١٨٦.

(٤) الغدير ٨ : ٢٧٣.

٢٣٠

وقد أترعت نفس الوليد بالحقد والعداء للنبيّ وللإمام لأنّهما قد وتراه بأبيه ، وقد أسلم الوليد مع من أسلم من كفّار قريش خوفا من حدّ السيف.

وقد انزلت في ذمّه آيتان في فسقه وذمّه وهما :

الاولى : قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (١) ، وكان سبب نزول هذه الآية أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسله إلى بني المصطلق لأخذ الصدقة منهم ، فعاد إليه وأخبره بأنّهم منعوه منها ، فخرج إليهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتبيّن له كذبه ، ونزلت الآية في فسقه.

الثانية : قوله تعالى : ( أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ) (٢) ، وكان السبب في نزولها أنّه جرت بين الوليد وبين الإمام مشادّة ، فقال الوليد للإمام :

اسكت فإنّك صبي وأنا شيخ ، والله! إنّي أبسط منك لسانا ، وأحدّ منك سنانا ، وأشجع منك جنانا ، وأملأ منك حشوا في الكتيبة.

فردّ عليه الإمام قائلا :

« اسكت فإنّك فاسق .. ».

فأنزل الله تعالى فيهما هذه الآية ، ونظم هذه الحادثة حسّان بن ثابت بقوله :

أنزل الله والكتاب عزيز

في عليّ وفي الوليد قرانا

فتبوّا الوليد من ذاك فسقا

وعليّ مبوّأ إيمانا

ليس من كان مؤمنا عرف الله

كمن كان فاسقا خوّانا

فعليّ يلقى لدى الله عزّا

ووليد يلقى هناك هوانا

سوف يجزى الوليد خزيا ونارا

وعليّ لا شكّ يجزى جنانا (٣)

__________________

(١) الحجرات : ٦.

(٢) السجدة : ١٨.

(٣) تذكرة الخواص : ١١٥.

٢٣١

ولمّا ولاّه عثمان ولاية الكوفة كان يشرب الخمر جهارا ، وقد دخل القصر وهو ثمل يتمثّل بأبيات تأبط شرّا :

ولست بعيدا عن مدام وقينة

ولا بصفا صلد عن الخير معزل

ولكن أروى من الخمر هامتي

وأمشي الملا بالساحب المتسلسل (١)

ومن مجونه أنّه كان يفيق لياليه سكران مع المغنّين حتى الصباح ، وكان نديمه أبو زيد الطائي من نصارى تغلب ، وقد أنزله دارا له على باب المسجد ، ثمّ وهبها له ، وكان الطائي يشقّ صفوف المصلّين في الجامع حتى ينتهي إليه وهو سكران (٢).

وكان من إدمانه على الخمر أنّه شربها فصلّى بالناس صلاة الصبح وهو ثمل أربع ركعات ، وصار يقول في ركوعه وسجوده : اشرب واسقني ، ثمّ قاء الخمر في المحراب وسلّم ، والتفت إلى المصلّين خلفه وقال : هل أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود : لا زادك الله خيرا ولا من بعثك إلينا ، وأخذ فروة نعله وضرب بها وجهه ، وحصبه الناس ، فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو ثمل (٣) مترنّح ، وفي فضائحه ومخازيه يقول الحطيئة جرول بن أوس العبسي :

شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه

أنّ الوليد أحقّ بالغدر

نادى وقد تمّت صلاتهم

أأزيدكم ثملا ولا يدري

ليزيدهم خيرا ولو قبلوا

منه لزادهم على عشر

فأبوا أبا وهب ولو فعلوا

لقرنت بين الشفع والوتر

حبسوا عنانك إذ جريت ولو

خلوا عنانك لم تزل تجري (٤)

__________________

(١) الأخبار الطوال : ١٥٦.

(٢) الأغاني ٥ : ١٢٢. العقد الفريد ٦ : ٣٤٨.

(٣) السيرة الحلبية ٢ : ٣١٤.

(٤) الأغاني ٤ : ١٧٨.

٢٣٢

أرأيتم هذه السخرية اللاذعة والاستهزاء السافر بأحد ولاة عثمان؟

وقال الحطيئة في ذمّه وهجائه مرّة أخرى :

تكلّم في الصلاة وزاد فيها

علانية وجاهر بالنفاق

ومجّ الخمر عن سنن المصلّي

ونادى والجميع إلى افتراق

أأزيدكم على أن تحمدوني

فما لكم ومالي من خلاق (١)

وأسرع جماعة من خيار الكوفة إلى يثرب يشكون الوليد إلى عثمان ، وقد صحبوا معهم خاتمه الذي انتزعوه منه في حال سكره ، وقابلوا عثمان ، وعرضوا عليه أنّ الوليد شرب الخمر فزجرهم عثمان وقال لهم بعنف :

ما يدريكم انّه شرب الخمر؟

هي الخمر التي كنّا نشربها في الجاهلية.

وأعطوه خاتمه الذي انتزعوه منه في حال سكره لتأييد شهادتهم ، فغضب عثمان ، ودفع في صدورهم وقابلهم بأخبث القول وأقساه ، وخرجوا منه وهم يتميّزون من الغيظ ، واتّجهوا صوب الإمام وأخبروه بما جرى لهم مع عثمان ، فانبرى إلى عثمان وقال له :

« دفعت الشّهود وأبطلت الحدود ».

وخاف عثمان من عواقب الامور ، فقال للإمام :

ما ترى؟

« أرى أن تبعث إلى صاحبك ، فإن أقاما الشّهادة في وجهه ولم يدل بحجّة أقمت عليه الحدّ .. ».

ولم يجد عثمان بدّا من امتثال أمر الإمام ، فكتب إلى الوليد يأمره بالحضور

__________________

(١) الأغاني ٤ : ١٧٨.

٢٣٣

إلى يثرب ، ولمّا انتهت إليه رسالة عثمان نزح من الكوفة إلى يثرب .. ولمّا مثل أمام عثمان دعا بالشهود ، فأقاموا عليه الشهادة ، ولم يدل الوليد بأيّة حجّة ، وقد خضع بذلك لإقامة الحدّ ، ولم ينبر أحد لإقامة الحدّ عليه خوفا من عثمان ، فقام الإمام عليه‌السلام ودنا منه فسبّه الوليد وقال له : يا صاحب مكس (١) ، وقام إليه عقيل فردّ عليه سبّه ، وضرب الإمام به الأرض وعلاه بالسوط ، وعثمان يتميّز غيظا ، فصاح بالإمام :

ليس لك أن تفعل به هذا.

فأجابه الإمام بمنطق الشرع :

« بلى ، وشرّ من هذا إذا فسق ، ومنع حقّ الله أن يؤخذ منه » (٢).

وعلّق العلاّمة العلا يلي على هذه البادرة بقوله :

هذه القصة تضع بين أيدينا شيئا جديرا غير العطاء الذي يرجع إلى مكان العاطفة ، تضع بين أيدينا صورة عن الاغضاء عن مجاوزة السلطة للقانون ، والاغضاء في واقعة دينية ، بحيث يجب على الخليفة أن يكون أوّل من يغار عليها ، وإلاّ هدّد مكانه وافسح المجال للناس للنقد والتجريح ، وبالأخصّ حين جاءت حكومته عقيب حكومة عمر التي عرفت بالشدّة فيما يتعلّق بالحدود الدينية حتى لو كان من أقرب ذوي القربى.

إذن ، فهذه المبالغة في الاغضاء والصفح والمجاوزة لا ترجع إلى مكان العاطفة وحدها ـ إن كانت ـ بل إلى الحزبية حتى تتناحر مجتمعة (٣).

إنّ الوليد بفسقه وفجوره ترك الدعارة واللهو والمجون في الكوفة ، وقد أسّست فيها دور للغناء والطرب ، وانتشر فيها المغنّون ، فكان فيها عبد الله بن هلال

__________________

(١) المكس : النقص والظلم.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٢٥.

(٣) الإمام الحسين عليه‌السلام : ٣٣.

٢٣٤

الذي لقّب بصاحب إبليس (١) ، وحنين الشاعر النصراني (٢) وغيرهما من أعلام الغناء.

٣ ـ عبد الله بن سعد :

ومن ولاة عثمان أخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرح فجعله واليا على مصر ، وأسند إليه إقامة الصلاة والولاية على الخراج ، وهو فيما أجمع عليه المؤرّخون من أكثر زنادقة قريش عداء للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان يقول مستهزئا به : إنّي أصرفه حيث اريد ، وأحلّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دمه وإن كان متعلّقا بأستار الكعبة ، وقد هرب بعد فتح مكّة فاستجار بعثمان فغيّبه ، وبعد ما اطمأن أهل مكّة أتى به عثمان إلى النبيّ ، فلمّا رآه صمت طويلا ، ثمّ آمنه وعفا عنه ، فلمّا انصرف عثمان التفت النبيّ إلى أصحابه وقال لهم :

« ما صمت إلاّ ليقوم إليه بعضكم ليضرب عنقه ».

فقال له رجل من الأنصار : هلا أومأت إليّ يا رسول الله؟

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ النبيّ لا ينبغي له خائنة الأعين » (٣).

ولمّا ولي عبد الله مصر ساس المصريّين سياسة عنف وكلّفهم فوق ما يطيقون ، وأظهر الكبرياء والجبروت ، فضجروا منه ، فذهب خيارهم إلى عثمان يشكون إليه ، فاستجاب لهم عثمان وأرسل إليه رسالة يستنكر فيها سياسته في القطر ، فلم يستجب لعثمان ، وراح مصرّا على غيّه ، وعمد إلى من شكاه لعثمان فقتله ، وشاع التذمّر وعمّ السخط من جميع الأوساط في مصر ، فتشكّل منهم وفد كبير بلغ عدد أعضائه سبعمائة شخص فخفّوا إلى عثمان ، ولمّا انتهوا إلى يثرب نزلوا في الجامع وشكوا

__________________

(١) الأغاني ٢ : ٣٥١.

(٢) المصدر السابق : ٣٤٩.

(٣) تفسير القرطبي ٧ : ٤٠. سنن أبي داود ٢ : ٢٢٠.

٢٣٥

أميرهم إلى الصحابة ، فانبرى طلحة إلى عثمان فكلّمه بكلام قاسي ، وأرسلت إليه عائشة تطالبه بإنصاف القوم ، وكلّمه

الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام في شأنه قائلا : « إنّما يسألك القوم رجلا مكان رجل ، وقد ادّعوا قبله دما ، فاعزله واقض بينهم ، فإن وجب عليه حقّ فأنصفهم منه ... ».

واستجاب عثمان ـ على كره ـ لنصيحة الإمام ، وقال للقوم : اختاروا رجلا اولّيه عليكم مكانه ، فأشاروا عليه بمحمّد بن أبي بكر ، فكتب إليه عهده ، وبعث معه عدّة من المهاجرين والأنصار ينظرون فيما بينهم وبين ابن أبي سرح (١) ، ونزح القوم من المدينة ، فلمّا انتهوا إلى الموضع المعروف بـ ( حمس ) وإذا بقادم من المدينة ، تأمّلوه وإذا هو ورش غلام عثمان ، ففتّشوه وإذا به يحمل رسالة من عثمان إلى ابن أبي سرح يأمره فيها بالتنكيل بالمصريّين ، وتأمّلوا الكتاب وإذا به بخطّ مروان ، فقفلوا راجعين إلى المدينة وقد صمّموا على قتل عثمان أو خلعه (٢).

٤ ـ معاوية بن أبي سفيان :

وأقرّ عثمان معاوية على الشام ، فقد ولاّه عمر عليه ، وزاد عثمان في رقعة سلطانه ، وزاد في نفوذه ، وقد مهّد له الطريق لنقل الخلافة إليه.

يقول الدكتور طه حسين :

وليس من شكّ في أنّ عثمان هو الذي مهّد لمعاوية ما اتيح له من نقل الخلافة ذات يوم إلى آل أبي سفيان ، وتثبيتها في بني أميّة ، فعثمان هو الذي وسّع على معاوية في الولاية فضمّ إليه فلسطين وحمص ، وأنشأ له وحدة شامية بعيدة الأرجاء ، وجمع له قيادة الأجناد الأربعة ، فكانت جيوشه أقوى جيوش المسلمين ، ثمّ مدّ له في الولاية أثناء خلافته كلّها كما فعل عمر ، وأطلق يده في امور الشام أكثر ممّا أطلقها

__________________

(١) أنساب الأشراف ٥ : ٢٦.

(٢) حياة الإمام الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ١ : ٢٥٠.

٢٣٦

عمر ، فلمّا كانت الفتنة فإذا هو أبعد الامراء بالولاية عهدا وأقواهم جندا وأملكهم لقلب رعيّته ... (١).

وحكى حديث الدكتور الواقع ، فإنّ عثمان هو الذي أمدّ في سلطان معاوية ، وبسط له النفوذ والسعة حتى صار من أقوى الولاة ، وأصبح قطره من أهمّ الأقطار الإسلامية ومن أكثرها ولاء له.

٥ ـ سعيد بن العاص :

وأسند عثمان ولاية الكوفة إلى سعيد بن العاص ، فولاّه هذا القطر العظيم الذي كان حامية للجيوش الإسلامية بعد أن عزل عنه الوليد الذي شرب الخمر وأقام الإمام عليه‌السلام عليه الحدّ.

وقد استقبل الكوفيّون ولاية سعيد بكثير من الكراهية ؛ لأنّه كان شابا مترفا متهوّرا لا يتحرّج من اقتراف الإثم والمنكر ، وقد روى المؤرّخون صورا من استهتاره بالقيم الإسلامية والاجتماعية كان منها ما يلي : إنّه طلب من الحاضرين رؤية عيد شهر رمضان المبارك ، فقام إليه الصحابي الجليل هاشم بن عتبة المرقال فقال له :

أنا رأيته ..

فوجّه إليه كلاما جافيا لا يصدر من إنسان شريف قائلا له : بعينك هذه العوراء رأيته؟ ..

فالتاع هاشم وانبرى يقول :

تعيّرني بعيني ، وإنّما فقئت في سبيل الله ، وكانت عينه قد اصيبت يوم اليرموك.

لقد فقئت عين هذا المجاهد الكبير في واقعة اليرموك ، وقد عيّره بها هذا

__________________

(١) الفتنة الكبرى ١ : ١٢٠.

٢٣٧

الجاهلي الذي لم يتربّ إلاّ على الرذائل والموبقات.

وعلى أي حال فقد أصبح هاشم مفطرا ؛ لأنّه قد رأى الهلال ، وقد جاء عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته » ، وقد فطر الناس لإفطاره ، فانتهى الخبر إلى سعيد فأرسل خلفه وضربه ضربا موجعا وأمر بإحراق داره ، وقد أثار ذلك حفائظ النفوس ونقم عليه الأخيار والمتحرّجون في دينهم ، فقد كان اعتداؤه على علم من أعلام الإسلام بغير حقّ ووجه مشروع إلاّ إرضاء لعواطفه المترعة بالجهل والحقد على رجال الإسلام (١).

٢ ـ أعلن سعيد أمام الجماهير القول : إنّما السواد ـ يعني سواد الكوفة ـ بستان لقريش وأثار ذلك حفائظ النفوس ، فالسواد ملك للمسلمين وليس للقرشيّين الذين هم خصوم الإسلام وأعداء الرسول أي حقّ فيه ... وقد اندفع الزعيم الكبير مالك الأشتر إلى الانكار عليه قائلا :

أتجعل مراكز رماحنا ، وما أفاء الله علينا بستانا لك ولقومك؟ ... والله! لو رامه أحد لقرع قرعا يتصأصأ منه ...

لقد اتّخذ الحكم الأموي الذي فرض على الامّة بقوّة السيف خيرات الامّة بستانا لقريش التي ناجزت الإسلام وكفرت بجميع قيمه.

وانضمّ قرّاء المصر وفقهاؤهم إلى الزعيم مالك الأشتر فردّوا على الوالي طيشه وغروره ، وجابهوه بالنقد لمقالته ، وغضب مدير شرطته فردّ عليهم ردّا غليظا ، فبادروا إليه وضربوه ضربا عنيفا حتى اغمي عليه ، وأخذوا يذيعون مساوئ قريش وجرائم بني أميّة وذكر مثالب عثمان ، ورفع سعيد من فوره رسالة إلى عثمان أخبره فيها بما جرى عليه ، فأمره بنفيهم إلى الشام ، وكتب رسالة إلى معاوية يأمره فيها

__________________

(١) حياة الإمام الحسن بن عليّ عليهما‌السلام ١ : ٢٤٠.

٢٣٨

باستصلاحهم. ولم يرتكب هؤلاء الأخيار إثما أو يحدثوا فسادا في الأرض حتى يستحقّوا النفي من وطنهم ، وإنّما نقدوا أميرهم لأنّه قال غير الحقّ ، وشذّ عن الطريق القويم. ومن المؤكّد أنّ الإسلام قد منح الحرية التامّة للمواطنين ، فلهم أن ينقدوا الحكّام والمسئولين إذا شذّوا في سلوكهم وابتعدوا عن الحقّ.

وعلى أي حال فقد قامت السلطة بإخراج القوم بالعنف عن أوطانهم ، وأرسلتهم مخفورين إلى الشام ، فتلقّاهم معاوية وأنزلهم في كنيسة ، وأجرى عليهم بعض الرزق ، وجعل يناظرهم ، ويحبّذ لهم الغضّ عمّا تقترفه السلطة من أعمال إلاّ أنّهم لم يستجيبوا له وأنكروا عليه وعلى سعيد الذي قال : إنّما السواد بستان قريش.

ولمّا يئس معاوية منهم كتب إلى عثمان يستعفيه من بقائهم في الشام خوفا من أن يفسدوا أهلها عليه ، فأعفاه عثمان وأمره بردّهم إلى الكوفة ، فلمّا عادوا إليها انطلقت ألسنتهم بنقد أمير الكوفة وذكر مثالب الأمويّين ، ورفع سعيد ثانيا أمرهم إلى عثمان ، فأمره بنفيهم إلى حمص والجزيرة ، فأخرجهم سعيد بعنف ، فلمّا انتهوا إلى حمص قابلهم وإليها بشدّة وعنف ، وسامهم سوء العذاب ، ويقول الرواة : إنّه إذا ركب أمر بهم بالسير حول ركابه مبالغة في إذلالهم والاستهانة بهم ، ولمّا رأوا ذلك أظهروا له الطاعة والاذعان لسلطانه ، وكتب لعثمان بذلك ، فأمره بردّهم إلى الكوفة ، وأخرجهم من حمص ، ومضوا يجدّون في سيرهم ، وجعلوا طريقهم إلى يثرب لمقابلة عثمان ، وعرض ما عانوه من عمّاله من صنوف التعذيب والارهاق ، وتوجّهوا صوب المدينة ، فلمّا انتهوا إليها رأوا سعيدا قد أقبل من الكوفة في مهمّة رسمية ، وقابلوا عثمان ، وعرضوا عليه ما لا لاقوه من سعيد ، وسألوه عزله ، وفاجأهم سعيد فرآهم عند عثمان وهم يشكونه ، فأعرض عنهم عثمان وألزمهم بطاعته والانصياع لأوامره.

وقفل القوم راجعين إلى الكوفة ، وأقسموا أن لا يدخلها سعيد ، وقاموا

٢٣٩

باحتلال مركزه ، وخرجوا في جماعة مسلّحين بقيادة الزعيم مالك الأشتر حتى انتهوا إلى ( الجرعة ) ، فرابطوا فيها ليحولوا بين سعيد وبين دخوله إلى الكوفة ، وأقبل سعيد فقاموا بوجهه وعنّفوه أشدّ العنف ومنعوه من الدخول إلى مصرهم ، فولّى منهزما إلى عثمان يشكوهم إليه ، ولم يجد عثمان بدّا في عزله وتولية غيره مكانه .. (١).

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن بعض ولاة عثمان من الأمويّين ، وقد منحهم هذه المناصب العليا تقوية لنفوذهم ، وبسطا لسلطانهم ، وحملهم على رقاب المسلمين ، يقول السيّد مير علي الهندي :

وكان هؤلاء هم رجال الخليفة المفضّلين ، وقد تعلّقوا بالولايات كالثعبان الجائعة ، فجعلوا ينهشونها ويكدّسون الثروات منها بوسائل الإرهاق التي لا ترحم (٢).

وعلى أي حال فإنّ من الأسباب المهمّة التي أدّت إلى قتل عثمان سيرة ولاته وعمّاله الأمويّين الذين لم يألوا جهدا في ظلم الناس وإرغامهم على ما يكرهون.

سياسته الاقتصادية :

ولم تكن لعثمان سياسة اقتصادية واضحة المعالم ، وإنّما انتهج سياسة عمر وسار عليها (٣) ، وهي ممالأة الأشراف والوجوه ، وتقديمهم في العطاء على غيرهم ، وقد شذّت هذه السياسة عمّا قنّنه الإسلام من لزوم المساواة بين المسلمين في العطاء ، وإيجاد التوازن الاقتصادي في الحياة العامّة ، وليس لولاة الامور أن

__________________

(١) تاريخ الطبري ٥ : ٨٥. تاريخ أبي الفداء ١ : ٦٨.

(٢) روح الإسلام : ٩٠.

(٣) تاريخ العراق في ظلّ الحكم الأموي : ٩٠.

٢٤٠