موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٢

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٢

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٣٢

٧ ـ أبو مريم بن محرش.

٨ ـ نافع بن الحرث.

هؤلاء بعض عمّاله وولاته الذين شاطرهم أموالهم ، ويقول المؤرّخون : إنّ السبب في اتّخاذه هذا الإجراء هو يزيد بن قيس ، فقد حفّزه إلى ذلك ودعاه إليه بهذه الأبيات :

أبلغ أمير المؤمنين رسالة

فأنت أمين الله في النهي والأمر

وأنت أمين الله فينا ومن يكن

أمينا لربّ العرش يسلم له صدري

فلا تدعن أهل الرّساتيق والقرى

يسيغون مال الله في الادم والوفر

فارسل إلى الحجّاج فاعرف حسابه

وأرسل إلى جزء وأرسل إلى بشر

ولا تنسينّ النافعين كليهما

ولا ابن غلاب من سراة بني نصر

وما عاصم منها بصفر عيابه

وذاك الذي في السوق مولى بني بدر

وأرسل إلى النعمان واعرف حسابه

وصهر بني غزوان إنّي لذو خبر

وشبلا فسله المال وابن محرّش

فقد كان في أهل الرساتيق ذا ذكر

فقاسمهم أهلي فداؤك إنّهم

سيرضون إن قاسمتهم منك بالشطر

ولا تدعوني للشّهادة إنّني

أغيب ولكنّي أرى عجب الدهر

نئوب إذا آبوا ونغزوا إذا غزوا

فأنّى لهم وفرّ ولسنا أولي وفر

إذا التاجر الداري جاء بفأرة

من المسك راحت في مفارقهم تجري

وعلى أثر ذلك قام عمر فشاطر عمّاله نعلا بنعل (١) ، ومعنى هذا الشعر أنّ هؤلاء الولاة قد اقترفوا جريمة السرقة وخانوا مال المسلمين ، والواجب يقضي بأن تصادر جميع أموالهم وضمّها إلى بيت مال المسلمين ، وإذا ثبتت خيانتهم فيقصون

__________________

(١) الغدير ٦ : ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

١٨١

عن وظائفهم ، ولا تشاطر أموالهم كما فعل عمر.

وعلى أي حال فإنّ شدّة عمر ومراقبته لولاته لم تجد ، فقد كانت هناك شكاوى متّصلة منهم ، فقد أرسل إليه بعض المسلمين يشتكون من القائمين على الخراج ، وفيها هذان البيتان :

نئوب إذا آبوا ونغزوا إذا غزوا

فأنّى لهم وفر ولسنا أولي وفر

إذا التاجر الداري جاء بفأرة

من المسك راحت في مفارقهم تجري (١)

بقي هنا شيء يدعو إلى التساؤل ، وهو أنّ عمر قد استعمل الشدّة والصرامة مع عمّاله وولاته سوى معاوية بن أبي سفيان فإنّه كان يحدب عليه ويشفق ، فلم يفتح معه أي لون من التحقيق ولم يحاسبه على بذخه وإسرافه ، وتكدّس الأموال عنده حيث تتواتر إليه الأخبار باختلاسه لبيت المال وإنفاقه الأموال الهائلة على رغباته وتوطيد ملكه فيعتذر عنه ويشيد به قائلا :

تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية (٢) ، وهذا مجاف لما في الحديث النبوي : « هلك كسرى ثمّ لا يكون كسرى بعده ، وقيصر ليهلكنّ ثمّ لا يكون قيصر بعده ، والّذي نفسي بيده! لتنفقنّ كنوزهما في سبيل الله ... ».

لقد بالغ في تسديد معاوية والإشادة به ولم يحفل بجرحه ، فقد أخبره جماعة من الصحابة أنّ معاوية قد جافى سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو يلبس الحرير والديباج ويستعمل أواني الذهب والفضة ولا يتحرّج في أعماله وسلوكه عمّا خالف السنّة ، فأنكر عليهم عمر وقال لهم :

دعونا من ذمّ فتى من قريش من يضحك في الغضب ولا ينال ما عنده من

__________________

(١) فتوح البلدان : ٣٨٤.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ١١٤.

١٨٢

الرضاء ولا يؤخذ من فوق رأسه إلاّ من تحت قدمه .. (١).

وقد ذهب في تسديده إلى أبعد من ذلك ، فقد نفخ فيه روح الطموح وهدّد به أعضاء الشورى الذين انتخبهم من بعده قائلا : إنّكم إن تحاسدتم وتدابرتم ، وتباغضتم غلبكم على هذا معاوية بن أبي سفيان (٢).

ولمّا أمن معاوية جانب عمر أخذ يعمل في الشام عمل من يريد الملك والسلطان (٣).

سياسته المالية :

أمّا سياسة عمر ومنهجه المالي فقد كان مخالفا لسياسة أبي بكر المالية ، فقد كان أبو بكر يساوي في العطاء ، وقد أشار عليه عمر بالعدول عن ذلك قائلا :

إنّ الله لم يفضّل أحدا على أحد ، ولكنّه قال : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ ) ، ولم يخصّ قوما دون آخرين .. (٤).

ولمّا أفضت إليه الخلافة عدل عن سياسة أبي بكر وفضّل بعض المسلمين على بعض في العطاء ، وقال : إنّ أبا بكر رأى في هذا الحال رأيا ، ولي فيه رأي آخر ، لا أجعل من قاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كمن قاتل معه (٥). وقد فرض للمهاجرين والأنصار ممّن شهد بدرا خمسة آلاف خمسة آلاف ، وفرض لمن كان إسلامه كإسلام أهل بدر

__________________

(١) الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ٣ : ٣٧٧.

(٢) نهج البلاغة ١ : ١٨٧.

(٣) حياة الإمام الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ١ : ٢٩٦.

(٤) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٨ : ١١١.

(٥) حياة الإمام الحسن بن عليّ عليهما‌السلام ١ : ٢٨٤.

١٨٣

ولم يشهد بدرا أربعة آلاف أربعة آلاف ، وفرض لأزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثني عشر ألفا إلاّ صفية وجويرية ففرض لهما ستّة آلاف فرفضتا ذلك ، كما فرض للعبّاس عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثني عشر ألفا ، وفرض لاسامة بن زيد أربعة آلاف ، وفرض لابنه عبد الله ثلاثة آلاف فأنكر عليه ذلك ، وقال له :

يا أبت ، لم زدته عليّ ألفا؟ ما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لأبي ، وكان له ما لم يكن لي؟

فقال له عمر : إنّ أبا اسامة كان أحبّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أبيك ، وكان اسامة أحبّ إلى رسول الله منك (١).

وقد فضّل عمر العرب على العجم ، والصريح على الموالي (٢).

وأدّت هذه السياسة إلى إيجاد الطبقيّة بين المسلمين ، كما أدّت إلى تصنيف الناس بحسب قبائلهم واصولهم ، فنشط النسّابون لتدوين الأنساب ، وتصنيف القبائل بحسب اصولها (٣).

وكان هذا الإجراء قد أوجد تحوّلا في الجماعة الإسلامية ، فقد أدّى إلى حنق الموالي على العرب ، وظهور النعرات الشعوبية والقومية ، في حين إنّ الإسلام قد ساوى بين جميع المسلمين وجعل رابطة الدين أقوى من رابطة النسب والدم.

ناقدون :

وأثارت هذه السياسة المالية التي انتهجها عمر موجة من النقد والسخط من المحقّقين ، وهؤلاء بعضهم :

__________________

(١) الخراج : ٢٤٤.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٨ : ٤١١.

(٣) العصبية القبلية : ١٩٠.

١٨٤

١ ـ الدكتور محمّد مصطفى :

وأنكر الدكتور محمّد مصطفى هذه السياسة قال : وفرض العطاء على هذه الصورة قد أثّر تأثيرا خطيرا في الحياة الاقتصادية للجماعة الإسلامية ؛ إذ خلق شيئا فشيئا طبقة ارستقراطية غنيّة يأتيها رزقها رغدا دون أن تنهض بعمل ما مقابل ما يدخل إليها من أموال .. ذلك أنّ فرض العطاء كان يرتكز على ناحيتين : القرابة من رسول الله ، والسابقة في الإسلام ، ولهذه القرابة ولتلك السابقة درجات ودرجات ، وبهذا لم يرع عمر فرض العطاء ذلك للمقابل الذي لا بدّ من أن تأخذه الدولة في صورة عمل وجهاد (١).

٢ ـ العلاّمة العلائلي :

قال العلاّمة العلائلي : هذا التنظيم المالي أوجد تمايزا كبيرا ، وأقام المجتمع العربيّ على قاعدة الطبقات بعد أن كانوا سواء في نظر القانون ( الشريعة ) ، فقد أوجد ارستقراطية وشعبا وعامّة (٢).

٣ ـ الدكتور عبد الله سلام :

وأنكر الدكتور عبد الله سلام هذه السياسة التي انتهجها عمر في سياسته المالية ، قال : لست أدري كيف اتّخذ عمر هذا الاجراء ولما ذا اتّخذه؟ إنّه إجراء أوجد تفاوتا اجتماعيا واقتصاديا ، إجراء أوجد بذور التنافس والتفاضل بين المسلمين (٣).

إنّ السياسة التي جرى عليها عمر في الميدان الاقتصادي لا تحمل أي طابع

__________________

(١) اتّجاهات الشعر العربيّ : ١٠٨.

(٢) الإمام الحسين عليه‌السلام : ٢٣٢.

(٣) الغلوّ والفرق الغالية في الحضارة الإسلامية : ٢٥١.

١٨٥

من التوازن ، فقد خلقت الرأسمالية عند عدد من الصحابة ، فقد تكدّست عندهم الأموال ، وقد خلّف بعضهم بعد موته من الذهب ما يكسّر بالفؤوس ، وبذلك فقد سيطرت الرأسمالية على شئون الدولة ، وقد سخّرت أجهزتها لمصالحها الخاصّة ، وقد ازداد نفوذها وثراؤها أيام حكومة عثمان بن عفّان عميد الاسرة الأموية وبعد قتله ، ولمّا تسلّم الإمام عليه‌السلام قيادة الحكم جهدت في معارضته ؛ لأنّ سياسته العادلة كانت تهدف إلى منعهم من الامتيازات الخاصّة ومصادرة أموالهم التي ابتزوها بغير حقّ ، كما سنوضّح ذلك عند التحدّث عن حكومة الإمام.

ندم عمر :

وندم عمر في آخر أيام حكومته لما تفشّى الثراء العريض عند بعض الصحابة وراح يقول : لو استقبلت من أمري ما استدبرته أخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء.

وفيما أحسب أنّ هذا الإجراء الذي أراد عمر أن يتّخذه لا يخلو من تأمّل ؛ فإنّ فضول أموال الأغنياء إن كانت مختلسة من أموال الدولة فيجب مصادرتها وتأميمها ، وإن كانت من أموال التجارة فليس له من سبيل عليها ، والواجب أخذ ما عليها من الضرائب المالية إن كانت خاضعة لها ، ومهما يكن الأمر فإنّ أموال الأغنياء إن كانت من الفيء ومن جباية الجزية والخراج فهي ملك للمسلمين فلا يجوز أن يستأثر بها فريق دون فريق.

اعتزال الإمام :

واعتزل الإمام أيام حكومة عمر ، ولم يشترك بأي عمل من أعمال الدولة ، كما اعتزل في أيام حكومة أبي بكر ، يقول محمّد بن سليمان في أجوبته على أسئلة

١٨٦

جعفر بن مكّي عمّا دار بين علي وعثمان : إنّ عليّا دحضه الأوّلان ـ يعني أبا بكر وعمر ـ وأسقطاه ، وكسرا ناموسه بين الناس فصار نسيا منسيا .. (١).

ويعزو الإمام عليه‌السلام جميع ما لاقاه في حياته من النكبات والأزمات إلى عمر ، وذلك في حديث خاصّ له مع عبد الله بن عمر (٢).

وعلى أي حال فقد اعتزل الإمام عليه‌السلام الناس اعتزالا تامّا ، وانصرف إلى تفسير القرآن الكريم ، ولم يتّصل بأحد سوى الصفوة من أصحابه أمثال الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر ، والثائر على الحكم الأموي أبو ذرّ ، وسلمان الفارسي وغيرهم من خيار أصحاب الرسول.

وكان عمر يرجع إلى الإمام في المسائل الفقهية ؛ لأنّ بضاعته كانت قليلة فيها ، وقد شاع عنه قوله :

لو لا علي لهلك عمر .. (٣).

وقد نزلت في عمر نازلة فحار في التخلّص منها ، وعرض ذلك على أصحابه فقال لهم :

ما تقولون في هذا الأمر؟

فأجابوه : أنت المفزع والمنزع ...

فلم يرضه قولهم وتلا قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) (٤).

ثمّ قال لهم :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٩ : ٩٨.

(٢) المصدر السابق : ٥٤.

(٣) الغدير ٦ : ٨٣ ، وفيه عرض شامل لذلك.

(٤) الأحزاب : ٧٠.

١٨٧

أما والله! إنّي وإيّاكم لنعلم ابن بجدتها والخبير بها.

فقالوا :

كأنّك أردت ابن أبي طالب؟

وأنّى يعدل بي عنه ، وهل طفحت حرّة بمثله ..

لو دعوته يا أمير المؤمنين.

فامتنع من إجابتهم وقال :

إنّ هناك شمخا من هاشم ، واثرة من علم ، ولحمة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤتى ولا يأتي فامضوا بنا إليه ..

وخفّوا جميعا إليه فوجدوه في حائط له يعمل فيه وعليه تبان ، وهو يقرأ قوله تعالى : ( أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً ) إلى آخر السورة ودموعه تنهمر على خدّيه ، فلمّا رآه القوم اجهشوا في البكاء ، ولمّا سكتوا سأله عمر عمّا ألمّ به ، فأجابه عنه ، والتفت عمر إلى الإمام فقال له :

أما والله! لقد أرادك الحقّ ، ولكن أبى قومك ...

فأجابه الإمام :

« يا أبا حفص ، خفّض عليك من هنا وهنا » ، وقرأ قوله تعالى : ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً ).

وذهل عمر فوضع إحدى يديه على الاخرى ، وخرج كأنّما ينظر في رماد (١).

وعلى أي حال فإنّ الإمام في خلافة عمر قد كان جليسا في بيته يساور الهموم ، ويسامر النجوم ، ويتوسّد الأرق ، ويتجرّع الغصص ، قد كظم غيظه ، وأوكل أمره إلى الله تعالى.

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٢ : ٧٩ ـ ٨٠.

١٨٨

نصيحته لعمر :

ونصح الإمام عليه‌السلام عمر في موضعين ، وأسدل عمّا يكنّه من الموجدة من ضياع حقّه ، وذلك حفظا لكلمة الإسلام وهما :

١ ـ غزو الروم :

ورام عمر أن يمضي لغزو الروم ، فنهاه الإمام عن ذلك وقال له :

« إنّك متى تسر إلى هذا العدوّ بنفسك ، فتلقهم فتنكب ، لا تكن للمسلمين كانفة (١) دون أقصى بلادهم. ليس بعدك مرجع يرجعون إليه ، فابعث إليهم رجلا محربا ، واحفز معه أهل البلاء والنّصيحة ، فإن أظهر الله فذاك ما تحبّ ، وإن تكن الأخرى ، كنت ردءا للنّاس ومثابة للمسلمين .. ».

٢ ـ غزو الفرس :

واستشار عمر الإمام في الخروج بنفسه لغزو الفرس ، فأشار عليه بعدم خروجه قائلا :

« إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلّة. وهو دين الله الّذي أظهره ، وجنده الّذي أعدّه وأمدّه ، حتّى بلغ ما بلغ ، وطلع حيث طلع ؛ ونحن على موعود من الله ، والله منجز وعده ، وناصر جنده. ومكان القيّم بالأمر مكان النّظام من الخرز يجمعه ويضمّه : فإن انقطع النّظام تفرّق الخرز وذهب ، ثمّ لم يجتمع بحذافيره أبدا. والعرب اليوم ، وإن كانوا قليلا ، فهم كثيرون بالإسلام ، عزيزون بالاجتماع! فكن قطبا ، واستدر الرّحا بالعرب ، وأصلهم دونك نار الحرب ، فإنّك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها ، حتّى يكون ما تدع وراءك من

__________________

(١) الكانفة : هي العاصمة التي يلجئون إليها.

١٨٩

العورات أهمّ إليك ممّا بين يديك.

إنّ الأعاجم إن ينظروا إليك غدا يقولوا : هذا أصل العرب ، فإذا اقتطعتموه استرحتم ، فيكون ذلك أشدّ لكلبهم عليك ، وطمعهم فيك. فأمّا ما ذكرت من مسير القوم إلى قتال المسلمين ، فإنّ الله سبحانه هو أكره لمسيرهم منك. وهو أقدر على تغيير ما يكره.

وأمّا ما ذكرت من عددهم ، فإنّا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ، وإنّما كنّا نقاتل بالنّصر والمعونة! ».

وكان رأي الإمام هو الرأي المشرق ، فإنّ خروج عمر مع الجيش تكون له مضاعفاته السيّئة على المسلمين ، والتي منها أنّه لو اندحر الجيش الإسلامي وفيهم عمر لانطوت بذلك راية الإسلام.

٣ ـ حليّ الكعبة :

وفي أيام عمر كثرت الحليّ على الكعبة ، فأشار عليه القوم ببيعها وإرصاد ثمنها للجيوش الإسلامية لأنّ الكعبة ما تصنع بالحليّ ، وأراد عمر تنفيذ ذلك ، فاستشار الإمام عليه‌السلام فقال له الإمام :

إنّ هذا القرآن أنزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والأموال أربعة : أموال المسلمين فقسّمها بين الورثة في الفرائض ؛ والفيء فقسّمه على مستحقّيه ؛ والخمس فوضعه الله حيث وضعه ؛ والصّدقات فجعلها الله حيث جعلها. وكان حلي الكعبة فيها يومئذ ، فتركه الله على حاله ، ولم يتركه نسيانا ، ولم يخف عليه مكانا ، فأقرّه حيث أقرّه الله ورسوله.

فاستحسن عمر رأي الإمام ، وأبدى إعجابه قائلا : لولاك لافتضحنا ، وترك الحليّ بحاله ...

١٩٠

اغتيال عمر :

وآثرنا الايجاز في خلافة عمر ولم نعرض إلى الأحداث التي رافقت حكومته ، خصوصا ما صدر منه من الفتاوى التي كانت من الاجتهاد قبال النصّ كتحريم المتعة وغيرها ، فقد عرض لها علماء الشيعة وفقهاؤهم ، وفي طليعتهم الإمام الأعظم شرف الدين في كتابه الذائع الصيت ( النصّ والاجتهاد ) ، والمحقّق الكبير الإمام الشيخ عبد الحسين الأميني في كتابه الخالد ( الغدير ).

وعلى أي حال فإنّ الذي يعنينا اغتيال عمر ، ووضعه لنظام الشورى قبل وفاته ، أمّا اغتيال عمر فيعزوه بعض الكتّاب المحدثين إلى بني أميّة ، فقد أرادوا التخلّص من حكمه وفرض سلطانهم على المسلمين (١) ، وقد استدلّوا على ذلك بأنّ أبا لؤلؤة الذي اغتال عمر كان مولى للمغيرة بن شعبة الذي له صلة وثيقة بالأمويّين ... وهذا الرأي لا يحمل أي طابع من التحقيق ؛ لأنّ علاقة عمر بالأمويّين كانت وثيقة للغاية ، ولم تقع بينهما أيّة منافسة ، وكانوا من أعداء الإمام وهو المنافس الوحيد له.

واستعمل عمر وجوه الأمويّين ولاة على الأقطار الإسلامية أمثال يزيد بن أبي سفيان ، وسعيد بن العاص ومعاوية ، ولم يشاطر أي واحد منهم أمواله كما شاطر بقيّة عمّاله ، وكان معنيّا بشئون نسائهم ، فقد أقرض هند بنت عتبة أمّ معاوية أربعة آلاف من بيت المال تتّجر فيها (٢) ، وقد أعدّ في بيته مكانا خاصّا فرشه بأحسن الفرش ولم يسمح لأي أحد بالدخول فيه سوى أبي سفيان ، وعوتب على ذلك فقال : هذا شيخ قريش (٣) ، فكيف يقومون باغتياله.

__________________

(١) من أنصار هذا الرأي العلاّمة المغفور له العلائلي ، ذهب إلى ذلك في كتابه ( سموّ المعنى في سموّ الذات ) : ص ٣١.

(٢) الكامل في التاريخ ٣ : ٣٣.

(٣) سير أعلام النبلاء ٣ : ٣٤١.

١٩١

ومهما يكن الأمر فإنّ من المقطوع به أنّ أبا لؤلؤة إنّما اندفع لاغتيال عمر بوحي من نفسه ، لا بدافع أموي ، ويعود السبب في ذلك أنّه كان شابا متحمّسا لشعبه ووطنه ، فقد رأى بلاده فتحت عنوة ، وقد انطوى مجد الفرس وذهب عزّهم ، ورأى عمر قد بالغ في احتقار الفرس ، وتمنّى أن يحول بينهم وبينه جبل من حديد ، كما حضر عليهم دخول يثرب إلاّ من كان سنّه دون البلوغ (١) ، وأصدر فتواه بعدم إرثهم إلاّ من ولد في بلاد العرب (٢) ، كما كان يعبّر عنهم بالعلوج ، وهو بالذات قد خفّ إلى عمر شاكيا ضيقه وجهده من جراء ما فرض عليه المغيرة من ثقل الخراج فلم يعن به عمر وصاح به.

وما خراجك بكثير من أجل الحرف التي تحسنها ...

وأوجد ذلك حنقا وحقدا عليه ، فأضمر له في نفسه الشرّ ، وقد اجتاز عليه فسخر منه ، وقال له :

بلغني أنّك تقول : لو شئت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت ..

فلذعته هذه السخرية وقال له :

لأصنعنّ لك رحى يتحدّث بها الناس.

وفي اليوم الثاني قام بعملية الاغتيال (٣) ، فطعنه ثلاث طعنات إحداهنّ تحت السرّة فخرقت الصفاق (٤).

ثمّ حمل على أهل المسجد فطعن أحد عشر رجلا ، وعمد إلى نفسه فانتحر ، وحمل عمر إلى داره وجراحاته تنزف دما ، فقال لمن حوله :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٨٥.

(٢) الموطأ ٢ : ١٢.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٢١٢.

(٤) الصفاق : الجلد الأسفل الذي تحت الجلد.

١٩٢

من طعنني؟

غلام المغيرة ..

ألم أقل لكم لا تجلبوا لنا من العلوج أحدا فغلبتموني (١).

وأحضر له أهله طبيبا فقال له : أي الشراب أحبّ إليك؟

النبيذ ..

فسقوه منه ، فخرج من بعض طعناته ، فقال الناس : خرج صديدا ، ثمّ سقوه لبنا فخرج من بعض طعناته ، فيئس منه الطبيب ، وقال له : لا أرى أن تمسي (٢).

وصيّته :

ولمّا أيقن عمر بدنو الأجل المحتوم أوصى ولده عبد الله ، وقال له : انظر ما عليّ من الدّين ، فنظروا فيه فإذا به مدين لبيت المال ستين ألفا لا نعلم أنّها من الدنانير أو من الدراهم.

وقال لولده بعد أن بيّن مقدار دينه : إنّ وفى به مال آل عمر فأدّه من أموالهم ، وإلاّ فسل فيّ بني عدي بن كعب ، فإن لم تف به أموالهم ، فسل فيّ قريش ، ولا تعدهم إلى غيرهم (٣) ..

ويواجه هذه الوصية عدّة من المؤاخذات ذكرناها بالتفصيل في الجزء الأوّل من كتابنا ( حياة الإمام الحسين عليه‌السلام )

عمر مع ابنه عبد الله :

وطلب عبد الله من أبيه عمر أن ينصّ على أحد من المسلمين ويجعله خليفة

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٨٧.

(٢) الاستيعاب المطبوع على هامش الاصابة ٢ : ٤٦١. الإمامة والسياسة ١ : ٢١.

(٣) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٨٨.

١٩٣

عليهم من بعده قائلا له :

يا أبتي ، استخلف على أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه لو جاء راعي إبلك أو غنمك وترك إبله أو غنمه لا راعي لها ، وقلت له : كيف تركت أمانتك ضائعة فكيف بامّة محمّد ، فاستخلف عليهم ..

ورمقه عمر بطرفه ، وأجابه :

إن استخلف عليهم فقد استخلف أبو بكر ، وإن أتركهم فقد تركهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. (١).

ولعلّ « الوجع » قد غلب عمر فنسي قيام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصب عليّ خليفة من بعده في يوم « غدير خمّ » ، وإلزام المسلمين بمبايعته ، وعمر بالذات ممّن بايعه ، وقال له : بخ بخ لك يا عليّ ، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.

وهل أبو بكر أشفق على المسلمين من النبيّ فأوصى من بعده بالخلافة إلى عمر وأهمل ذلك النبيّ ولم يوص لأحد من بعده؟

وعلى أي حال فإنّ عمر قد فتكت به جراحاته ، وأحاطت به الآلام ، فجزع جزعا شديدا ، وجعل يقول :

لو أنّ لي ما في الأرض ذهبا لا فتديت به من عذاب الله قبل أن أراه .. (٢).

والتفت لولده عبد الله وقال له : ضع خدّي على الأرض ..

فلم يحفل به ولده ، وظنّ أنّه قد اختلس عقله ، وأمره ثانيا بذلك فلم يجبه ، فصاح به :

ضع خدّي على الأرض لا أمّ لك ..

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٢١٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٩٢.

١٩٤

وبادر عبد الله فوضع خدّ أبيه على الأرض ، وأخذ يجهش بالبكاء ويقول :

يا ويل عمر!! وويل أمّ عمر!! إن لم يتجاوز الله عنه (١) ، ولعلّه قد لاحت له في تلك اللحظات الأخيرة من حياته ما أنزله بالاسرة النبوية من النكبات والأزمات.

وعلى أي حال فإنّ عمر بعث ولده إلى عائشة يستأذن منها أن يدفن مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر فسمحت بذلك (٢) ، وعلّقت الشيعة على ذلك فقالت : إنّ ما تركه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من متع الحياة إن كان لا يرثه أهله ، وإنّما هي لولي الأمر من بعده حسب ما يرويه أبو بكر ، فلا وجه للاستئذان من عائشة ، وإن كان يرجع إلى ورثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يقول بذلك أهل البيت عليهم‌السلام فليس لعائشة فيه أي نصيب ؛ لأنّ الزوجة لا ترث من الأرض ، وإنّما ترث من البناء ، حسبما قرّره فقهاء المسلمين ، ولا بدّ حينئذ أن يكون الإذن في دفنه من ورثة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يتحقّق ذلك.

نظام الشورى :

ونظام الشورى الذي وضعه عمر كنظام السقيفة ، قد أخلد للمسلمين المصاعب وألقتهم في شرّ عظيم ، وهو نظام مفضوح لا غبار عليه في أنّ القصد منه إقصاء الإمام عليه‌السلام عن قيادة الامّة وتسليمها لبني أميّة إرضاء لعواطف القرشيّين المترعة بالحقد والكراهية للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ونحن نعرض إلى الشورى العمرية بدراسة وتحليل بعيدة عن العواطف التقليدية ، لم نقصد بذلك إلاّ إبراز الواقع التأريخي على ما هو عليه.

وعلى أي حال ، فإنّ عمر لمّا أحسّ بدنو الأجل المحتوم منه أخذ يمعن فيمن

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٢ : ١٩٣.

(٢) المصدر السابق : ١٩٠.

١٩٥

يتولّى شئون الحكم من بعده ، وقد راح يتذكّر أقطاب حزبه الذين استعان بهم على البيعة لأبي بكر ، وصرف الخلافة عن الإمام أمير المؤمنين ، فجعل يصعّد حسراته ويبدي أساه عليهم قائلا :

« لو كان أبو عبيدة حيّا لاستخلفته ؛ لأنّه أمين هذه الامّة ، فلو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّا لاستخلفته ؛ لأنّه شديد الحبّ لله تعالى ... » وليس لأبي عبيدة أي نصيب في خدمة الامّة الإسلامية وجهاد يذكر.

كما أنّه ليس لسالم مولى أبي حذيفة أية شخصية إسلامية معروفة ، وإنّما كان من سواد المسلمين ، إلاّ أنّه ساهم مساهمة إيجابية في مؤتمر السقيفة ، وكان كقوة ضاربة في حماية أعضائها.

وعلى أي حال فقد طلب منه أصحابه أن يرشّح أحدا من بعده ليتولّى شئون المسلمين ، فأبى وقال :

أكره أن أتحمّلها حيّا وميّتا ..

ولكنّه لم يلبث أن عدل عن رأيه فانتخب أعضاء الشورى الستّة ، وفوّض إليهم انتخاب أحدهم ليكون واليا على المسلمين ، وبذلك فقد تحمّل الخلافة حيّا وميّتا ، وعلّق ابن أبي الحديد على كلامه ، قائلا :

أي شيء يكون من التحمّل أكثر من هذا؟ وأي فرق بين أن يتحمّلها ، بأن ينصّ على واحد بعينه ، وبين أن يفعل ما فعله من الحصر والترتيب .. (١).

صلاة صهيب :

وأوعز عمر إلى صهيب أن يصلّي بالناس حينما اغتاله أبو لؤلؤة ، فصلّى بهم ، وفي ذلك يقول الفرزدق :

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ١٢ : ٢٦٠.

١٩٦

صلّى صهيب ثلاثا ثمّ أرسلها

إلى ابن عفّان ملكا غير مقصود (١)

انتخاب عمر لأعضاء الشورى :

وانتخب عمر ستّة أشخاص ، وجعلهم أعضاء للشورى وألزمهم بانتخاب واحد منهم ليتولّى قيادة الامّة ، وهم :

١ ـ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٢ ـ سعد بن أبي وقّاص.

٣ ـ الزبير بن العوّام.

٤ ـ طلحة.

٥ ـ عثمان بن عفّان.

٦ ـ عبد الرحمن بن عوف.

والشيء البارز في هذا الانتخاب أنّه لم يجعل أي نصيب فيه للأنصار الذين نصروا النبيّ ، واحتضنوا مبادئه ، ولعلّ السبب في ذلك هو ميولهم للإمام عليه‌السلام ، وقد اقتصر أعضاء الشورى على الجناح القرشي ، وليس لغيرهم فيه أي نصيب.

عمر مع أعضاء الشورى :

وطلب عمر حضور أعضاء الشورى الذين انتخبهم ، فلمّا مثلوا أمامه وجّه إليهم أعنف القول وأقساه ورماهم بالصفات الذميمة التي توجب القدح في ترشيحهم لمنصب الإمامة ، وقد روى المؤرّخون صورا لحديثه معهم ، وهذه بعضها :

الرواية الاولى :

إنّ أعضاء الشورى لمّا حضروا عنده قال لهم : أكلّكم يطمع بالخلافة بعدي؟ ..

__________________

(١) نور القيس المختصر من المقتبس ـ المرزباني : ١.

١٩٧

ووجموا عن الكلام ، فأعاد عليهم القول ثانيا ، فأجابه الزبير : وما الذي يبعدنا منها ، وليتها ـ أي الخلافة ـ أنت فقمت بها ، ولسنا دونك في قريش ، ولا في السابقة ، ولا في القرابة .. ، ولم يسعه الردّ عليه لأنّه ليس في كلامه فجوة يسلك فيها لإبطال كلامه ، والتفت عمر إلى الجماعة فقال لهم :

أفلا أخبركم عن أنفسكم؟ ..

فأجابوا مجمعين :

قل ، فإنّا لو استعفيناك لم تعفنا ..

وأخذ يحدّثهم عن نفسيّاتهم وميولهم ، فوجّه كلامه لكلّ واحد منهم :

مع الزبير :

« أمّا أنت يا زبير! فوعق لقس (١) ، مؤمن الرّضا ، كافر الغضب ، يوما إنسان ويوما شيطان ، ولعلّها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مدّ من شعير .. أفرأيت إن أفضت إليك ، فليت شعري من يكون للنّاس يوم تكون شيطانا؟ ومن يكون يوم تغضب!! وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمّة وأنت على هذه الصّفة ... ».

إنّ الزبير حسب هذا التحليل النفسي لشخصيّته مبتلى بآفات شريرة وهي :

١ ـ الضجر والتبرّم.

٢ ـ الغضب الشديد الذي يفقده الرشد.

٣ ـ عدم الاستقامة في السلوك.

٤ ـ الحرص والبخل.

وهذه النزعات من مساوئ الصفات ، ومن اتّصف ببعضها لا يصلح لأن يكون إماما للمسلمين ... ومع هذه الصفات الماثلة فيه كيف رشّحه للخلافة؟

__________________

(١) الوعق : الضجر والتبرّم. اللقس : من لا يستقيم على أمر.

١٩٨
مع طلحة :

وأقبل عمر على طلحة ، وأخذ يحدّثه بنزعاته فقال له :

أقول أم أسكت؟ ..

فزجره طلحة وقال له :

إنّك لا تقول من الخير شيئا ..

وأخذ عمر يقول :

أما إنّي أعرفك منذ أصيبت اصبعك يوم أحد وائيا بالذي حدث لك ، ولقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب ...

وإذا كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساخطا على طلحة كيف يرشّحه للخلافة ، كما أنّه مناقض لما قاله في أعضاء الشورى أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راض عنهم.

وعلّق الجاحظ على مقاله بقوله :

لو قال لعمر قائل : أنت قلت : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راض عن الستّة ، فكيف تقول الآن لطلحة : إنّه مات صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها ، لكان قد رماه بمشاقصه (١) ، ولكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له : ما دون هذا فكيف هذا؟ ..

مع سعد بن أبي وقّاص :

واتّجه صوب سعد بن أبي وقّاص ، فقال له : إنّما أنت صاحب مقنب (٢) من هذه المقانب تقاتل به ، وصاحب قنص وقوس وسهم ، وما زهرة والخلافة وامور الناس؟

وحكى كلام عمر اتّجاهات سعد وأنّه رجل عسكري لا يفقه إلاّ عمليات

__________________

(١) المشاقص : جمع مشقص ، وهو نصل السهم.

(٢) المقنب : جماعة الخيل.

١٩٩

الحروب ، ولا خبرة له بالشؤون الإدارية والسياسية ، وإذا كانت هذه اتّجاهاته كيف جعله من أعضاء الشورى؟

مع عبد الرحمن بن عوف :

وأقبل عمر على عبد الرحمن بن عوف ، فقال له : أمّا أنت يا عبد الرحمن فلو وزن نصف ايمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك عليهم ، ولكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك ، وما زهرة وهذا الأمر؟ ..

إنّ عبد الرحمن ـ حسب رأي عمر ـ مثال للإيمان والتقوى ، وإنّ إيمانه يساوي نصف إيمان المسلمين ، ومن إيمانه المزعوم أنّه عدل عن انتخابه سيّد العترة الطاهرة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وسلّم الخلافة إلى بني أميّة ، فاتّخذوا مال الله دولا وعباد الله خولا.

وإذا لم تكن لعبد الرحمن شخصية صلبة وقوية ـ حسب رأي عمر ـ كيف رشّحه للخلافة؟

مع الإمام أمير المؤمنين :

والتفت عمر إلى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له : لله أنت لو لا دعابة فيك ...

أمّا والله! لئن ولّيتهم لتحملنّهم على الحقّ الواضح والمحجّة البيضاء ..

ومتى كانت للإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام الدعابة؟ وهو الذي ما ألف في حياته غير الجدّ والحزم.

إنّ الدعابة تنمّ عن ضعف الشخصية ، وقد اعترف عمر أنّ الإمام لو ولي امور المسلمين لحملهم على الحقّ الواضع والمحجّة البيضاء ، ومن المؤكّد أنّ من يقوم بذلك لا بدّ أن يكون شخصية قوية ذا إرادة صلبة.

وعلى أي حال فإنّ عمر اعترف بأنّ الإمام لو تقلّد الحكم لسار بين المسلمين

٢٠٠