موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٢

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٢

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٣٢

وقد ذكرته بحفاوة رسول الله بها وقوله فيها : « إنّ الله يرضى لرضاك ، ويغضب لغضبك » (١) ، فلم يحفل ابن الخطّاب بذلك وصاح بهم غير مكترث ولا مبال :

وإن ، وإن ...

معناه وإن كانت فاطمة فيها لأحرقنّها غير حافل ومعتن بها ، وخرجت بضعة الرسول وريحانته قائلة :

« لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم ، تركتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جنازة بين أيدينا ، وقطّعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ولم تردّوا لنا حقّا ... ».

وتبدّد جبروت القوم وذاب عنفهم ، وأسرع عمر وهو بطل الموقف نحو أبو بكر طالبا منه حمل الإمام بالقوّة للبيعة قائلا :

ألا تأخذ هذا المتخلّف عنك بالبيعة؟

واستجاب أبو بكر له ، فأرسل معه قنفذا ، وكان شريرا معروفا بالغلظة والشدّة ومعه جماعة من الشرطة ، فاقتحموا دار الإمام وأخرجوه ملببا بحمائل سيفه ، وانطلقت خلفه زهراء الرسول ، وهي تهتف بأبيها وتستغيث به قائلة :

« يا أبت .. يا رسول الله! ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة .. ».

وازدحمت الجماهير على باب الإمام وعلاها الذهول ، وأغرق بعضهم في البكاء ، إلاّ أنّ ابن الخطّاب وحزبه لم يجد معهم موقف بضعة الرسول وهي ولهى مستغيثة بأبيها ، فلم تلن قلوبهم وعواطفهم ، فأخرجوا الإمام وانطلقوا به يهرول نحو أبي بكر ، فقال له :

بايع ... بايع.

__________________

(١) الحديث متواتر أخرجته الصحاح والسنن.

١٤١

فردّ عليه الإمام :

« وإن لم أفعل؟ ».

فأسرع القوم وقد أضلّهم الهوى وأعماهم حبّ الدنيا قائلين :

والله! الذي لا إله إلاّ هو نضرب عنقك ..

وسكت الإمام برهة فنظر إلى القوم ، فإذا ليس له ركن شديد يفزع إليه ، فقال بصوت حزين النبرات :

« إذا تقتلون عبد الله وأخا لرسوله .. ».

فاندفع ابن الخطّاب بشراسته قائلا :

أمّا عبد الله فنعم ، وأمّا أخو رسوله فلا ..

ونسي عمر ما أعلنه النبيّ أنّ الإمام أخوه وباب مدينة علمه ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، كلّ ذلك تنكّر له ابن الخطّاب ، والتفت إلى أبي بكر يحثّه على التنكيل به قائلا :

ألا تأمر فيه بأمرك؟

وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث وتبلور الرأي العامّ ، فقال لابن الخطّاب :

لا أكرهه على شيء ما كانت فاطمة إلى جانبه.

وأطلقوا سراح الإمام ، ومضى يهرول نحو مثوى أخيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشكو إليه ما ألمّ به من المحن والخطوب ، وهو يبكي أمرّ البكاء قائلا :

« يا ابن أمّ ، إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني ... ».

لقد استضعفه القوم وتنكّروا له ، وأعرضوا عمّا أوصاهم به النبيّ ، وقفل الإمام راجعا إلى بيته وهو كئيب حزين ، وقد استبان له ما يحمله القوم من الحقد والكراهية.

١٤٢

تأميم فدك :

وروى المؤرّخون أنّ الجيوش الإسلامية لمّا فتحت حصون خيبر قذف الله الرعب والفزع في قلوب أهالي فدك فهرعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نازلين على حكمه ، فصالحهم على نصف أراضيهم ، فكانت ملكا خاصّا له ؛ لأنّ المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل ولا ركاب ، ولمّا أنزل الله تعالى على نبيّه الآية : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) بادر فأنحل فاطمة فدكا ، فاستولت عليها وتصرّفت فيها تصرّف الملاّك في أملاكهم.

ولمّا استولى أبو بكر على الحكم اقتضت سياسته بمصادرة فدك ، وانتزاعها من سيّدة النساء ، وذلك لئلا تقوى شوكة الإمام على منازعته ، وهو إجراء اقتصادي باعثه إضعاف الجبهة المعارضة وشلّ فعاليّتها ، وهذا ما عليه الدول قديما وحديثا ، وقد مال إلى هذا الرأي عليّ بن مهنّا العلوي قال :

ما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها ـ أي عن فدك ـ ألاّ أن يقوى عليّ بحاصلها وغلّتها عن المنازعة في الخلافة (١).

مطالبة الزهراء بفدك :

وبعد ما استولى أبو بكر بالقوّة على فدك ، وأخرج منها عامل الزهراء عليها‌السلام طالبته بردّها ، فامتنع من إجابتها ، وطلب منها إقامة البيّنة على صدقها ، ويقول المعنيّون بالبحوث الفقهية من علماء الشيعة إنّ كلام أبي بكر لا يتّفق مع القواعد الفقهية ، وذلك لما يلي :

١ ـ إنّ صاحب اليد لا يطالب بالبيّنة ، والزهراء قد وضعت يدها على فدك ، فليس عليها إلاّ اليمين وعليه البيّنة ، وبذلك فقد شذّت دعوى أبي بكر عن

__________________

(١) أعلام النساء ٣ : ٢١٥.

١٤٣

المقرّرات الفقهية.

٢ ـ إنّ السيّدة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها سيّدة نساء هذه الامّة ، وخيرة نساء العالمين ـ على حدّ تعبير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، وقد نزلت في حقها وحقّ زوجها وولديها آية التطهير وهي صريحة في عصمتها من الزيغ والكذب ، وهي أصدق الناس لهجة ـ حسب قول عائشة (١) ـ ، أفلا يكفي ذلك في تصديقها.

٣ ـ إنّ ريحانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقامت البيّنة على ما ادّعت ، مضافا إلى اليد ، أمّا بيّنتها فقد تألّفت من الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والسيّدة الفاضلة أمّ أيمن ، فشهدا عنده أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنحلها فدكا ، فردّ شهادتهما معتذرا أنّ البيّنة لم تتمّ ، وهذا لا يخلو من المؤاخذات وهي :

١ ـ إنّ القواعد الفقهية قضت أنّ الدعوى إذا كانت على مال ، أو كان المقصود منها المال ، فإنّها تثبت بشاهد ويمين ، فالمدّعي إذا أقام شاهدا واحدا فعلى الحاكم أن يحلفه بدلا من الشّاهد الثاني ، فإن حلف أعطاه المال ، ولم يعن أبو بكر بذلك فردّ الشهادة وألغى الدعوى.

٢ ـ إنّه ردّ شهادة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد صرّح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه مع القرآن ، والقرآن معه لا يفترقان .. (٢).

٣ ـ إنّه قدح في شهادة السيّدة أمّ أيمن ، وقد خرجت زهراء الرسول بعد ردّ أبي بكر لدعواها ، وهي تتعثّر بأذيالها من الخيبة ، وقد ألمّ بها الحزن والأسى ، يقول الإمام شرف الدين نضّر الله مثواه :

فليته ـ أي أبا بكر ـ اتّقى فشل الزهراء في موقفها بكلّ ما لديه من سبل

__________________

(١) حلية الأولياء ٢ : ٤١. مستدرك الحاكم ٣ : ١٦٠.

(٢) مستدرك الحاكم ٣ : ١٢٤. الصواعق المحرقة : ٧٥.

١٤٤

الحكمة ، ولو فعل ذلك لكان أحمد في العقبى ، وأبعد عن مظانّ الندم ، وأنأى عن مواقف اللوم ، وأجمع لشمل الامّة ، وأصلح له بالخصوص ..

وقد كان في وسعه أن يربأ بوديعة رسول الله ووحيدته عن الخيبة ويحفظها عن أن تنقلب عنه ، وهي تتعثّر بأذيالها ، وما ذا عليه إذا احتلّ محلّ أبيها لو سلّمها فدكا من غير محاكمة ، فإنّ للإمام أن يفعل ذلك بولايته العامّة ، وما قيمة فدك في سبيل هذه المصلحة ، ودفع هذه المفسدة (١).

لقد كان أبو بكر باستطاعته وصلاحيّته أن يقرّ يد بضعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووديعته على فدك ويصنع معها الجميل والمعروف ، ولا يقابلها بمثل تلك القسوة ، ولكنّ الأمر كما حكاه علي بن الفاروق أحد أعلام الفكر العلمي في بغداد ، وأحد أساتذة المدرسة الغربية ، وأستاذ العلاّمة ابن أبي الحديد ، فقد سأله ابن أبي الحديد :

أكانت فاطمة صادقة في دعواها النحلة؟

نعم ...

فلم لم يدفع لها أبو بكر فدكا ، وهي عنده صادقة ، يقول ابن أبي الحديد :

فتبسّم ، ثمّ قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وقلّة دعابته قال :

لو أعطاها اليوم فدكا بمجرّد دعواها لجاءت إليه غدا وادّعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ، ولم يكن يمكن حينئذ الاعتذار بشيء ؛ لأنّه يكون قد سجّل على نفسه بأنّها صادقة فيما تدّعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بيّنة وشهود ... (٢).

نعم ، لهذه الجهة ولغيرها من الأحقاد والضغائن أجمع القوم على هضمها

__________________

(١) النصّ والاجتهاد : ٣٧.

(٢) حياة الإمام الحسن بن عليّ عليهما‌السلام ١ : ١٧٧.

١٤٥

وسلب تراثها ، وقد تركوا بذلك عترة النبيّ ووديعته يتقطّعون حسرات ، قد نخب الحزن قلوبهم ، وهاموا في تيارات من الأسى والشجون.

إلغاء الخمس :

من الإجراءات المؤسفة التي اتّخذها أبو بكر ضدّ العترة النبوية إلغاء الخمس ، الذي هو حقّ مفروض لها نصّ عليه القرآن قال تعالى : ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) (١).

أجمع الرواة أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يختصّ بسهم من الخمس ويخصّ أقاربه بسهم آخر منه ، وكانت هذه سيرته إلى أنّ اختاره الله تعالى إلى جواره.

ولمّا ولي أبو بكر أسقط سهم النبيّ وسهم ذوي القربى ، ومنع بني هاشم من الخمس ، وجعلهم كبقيّة المسلمين (٢) ، وقد أرسلت زهراء الرسول وبضعته فاطمة الزهراء صلوات الله عليها إلى أبي بكر أن يدفع إليها ما بقي من خمس خيبر ، فأبى أن يدفع إليها شيئا منه (٣) ، فقد ترك شبح الفقر مخيّما على آل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحجب عنهم ما فرضه الله لهم.

مصادرة تركة النبيّ :

واستولى أبو بكر على جميع ما تركه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بلغة العيش ، فحازه إلى بيت المال ، وقد سدّ بذلك كلّ نافذة اقتصادية على آل البيت ، وكانت حجّته في

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) تفسير الكشّاف ـ في تفسير آية الخمس ٢ : ٥٨٣.

(٣) صحيح البخاري ٣ : ٣٦. صحيح مسلم ٢ : ٧٢.

١٤٦

ذلك ما رواه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا نورث ما تركناه صدقة (١).

وهو اعتذار مهلهل حسب ما يقوله المحقّقون من علماء الشيعة ، وذلك لما يلي :

١ ـ إنّ الحديث لو كان صحيحا لاطّلعت عليه سيّدة نساء العالمين ، وما دخلت مع أبي بكر ميدان المحاججة والمخاصمة ، وكيف تطالبه وهي سليلة النبوّة وأوثق سيّدة في دنيا الإسلام بأمر لم يكن مشروعا.

٢ ـ إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف يحجب عن بضعته حكما يرجع إلى تكليفها الشرعي ، وقد غذّاها بروح التقوى والإيمان ، وأحاطها علما بجميع الأحكام الشرعية ، إنّ حجب ذلك عنها تعريض لها وللامّة لامور غير مشروعة.

٣ ـ إنّ من الممتنع أن يحجب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الحديث عن الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو حافظ سرّه ، وباب مدينة علمه ، وباب دار حكمته ، وأقضى امّته ؛ فإنّ من المقطوع به أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كان لا يورّث لعرفه الإمام عليه‌السلام ، وما كتمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه.

٤ ـ إنّ الحديث لو كان صحيحا لعرفه الهاشميّون وهم أهل النبيّ ، وألصق الناس به ، فلما ذا لم يبلّغهم به.

٥ ـ إنّ الحديث لو كان صحيحا لما خفي عن أمّهات المؤمنين ، والحال أنهنّ أرسلن إلى عثمان بن عفان يطلبن منه ميراثهنّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٦ ـ إنّ بعض أهل العلم يرى أنّ « ما » التي في الحديث « لا نورّث ما تركناه صدقة » موصولة ، والمعنى أنّ ما تركناه من الصدقات ليس خاضعا للمواريث ، وإنّما

__________________

(١) بلاغات النساء : ١٦. أعلام النساء ٣ : ٢٠٧.

١٤٧

هو للفقراء ، وعلى هذا فيكون الحديث أجنبيا عن الاستدلال به من عدم توريث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما تركه من الأموال.

الخطاب الخالد للزهراء :

وضاقت الدنيا على زهراء الرسول ووديعته في امّته من الإجراءات الصارمة التي اتّخذها أبو بكر ضدّها ، فرأت أن تلقي الحجّة عليه ، وتحفّز المسلمين للإطاحة بحكومته ، ويتحدّث الرواة أنّها سلام الله عليها استقلّت غضبا ، فلاثت خمارها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى دخلت على أبي بكر وهو في الجامع الأعظم ، وقد احتفّ بها المهاجرون والأنصار وغيرهم ، وقد أنيطت دونها ملاءة (١) تكريما لها ، فأنّت أنّة حسرة وألم وبكاء ، فأجهش القوم لها بالبكاء وارتجّ المجلس ، وذلك لأنّهم رأوا في شخصيّتها العظيمة شخصيّة أبيها العظيم الذي لم يعقب غيرها ؛ ولأنّهم قصّروا في حقّها وحقّ زوجها ، ولمّا سكن نشيجهم وهدأت فورتهم افتتحت خطابها الخالد بحمد الله والثناء عليه ، وانحدرت في خطابها كالسيل ، فلم يسمع قبلها ولا بعدها من هو أخطب منها ، وحسبها أنّها ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفصح من نطق بالضاد ، وقد ورثت بلاغته وفصاحته ..

وتحدّثت في خطابها الخالد عن معارف الإسلام وفلسفة تشريعاته وعلل أحكامه ، وعرضت إلى ما كانت عليه حالة الامم قبل أن يشرق عليها نور الإسلام من الجهل والانحطاط ووهن العقول وضحالة الفكر ، خصوصا الجزيرة العربية ، فقد كانت على شفا حفرة من النار مذقة الشارب ، ونهزة الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطئ الأقدام ، وكانت حياتها الاقتصادية بالغة السوء ، فالأكثرية الساحقة كانت

__________________

(١) الملاءة : الحجاب والستر.

١٤٨

تقتاد القدّ ، وتشرب الطرق ، وظلّت على هذا الحال من الذلّ والفقر والهوان حتى أنقذها الله سبحانه وتعالى برسوله العظيم ، فدفعها إلى واحات الحضارة والتطوّر ، وجعلها في الطليعة الواعية من امم العالم ، فما أعظم عائدته على العرب وعلى الناس أجمعين ، كما عرضت سيّدة نساء العالم إلى فضل ابن عمّها الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وجهاده المشرق في نصرة الإسلام والذبّ عن حياضه ، فالجاهلية الرعناء من قريش وغيرهم كلّما أوقدوا نارا للحرب تقدّم إليها الإمام فوطئ صماخها بأخمصه وخمد لهبها بسيفه ، في حين كان المهاجرون من قريش في رفاهية وادعين آمنين ، لم يكن لهم أي ضلع يذكر في نصرة الإسلام والدفاع عنه ، وإنّما كانوا ينكصون عند النزال ويفرّون من القتال.

وكانوا يتربّصون بأهل بيت النبيّ الدوائر ، ويتوقّعون فيهم نزول القواصم ، كما أعربت سيّدة نساء العالمين عن أسفها البالغ على ما مني به المسلمون من الزيغ والانحراف ، والاستجابة الكاملة لدواعي الهوى وحبّ الدنيا ، وتنبّأت صلوات الله عليها ما سيواجهه المسلمون من الأحداث المروعة والكوارث المؤلمة نتيجة ما اقترفوه من الأخطاء والانحراف عمّا أمره الله ورسوله من التمسّك بالعترة الطاهرة التي هي مصابيح الهدى وطرق النجاة.

وبعد ما أدلت حبيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه المواد عرضت إلى حرمانها المؤسف من إرث أبيها فقالت :

« وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ، أفحكم الجاهليّة تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون.

أفلا تعلمون ـ بلى قد تجلّى لكم كالشّمس الضّاحية ـ أنّي ابنته.

أيّها المسلمون ، أأغلب على تراث أبي؟

١٤٩

يا ابن أبي قحافة ، أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟

لقد جئت شيئا فريّا ، أفعلي عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول : ( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) (١) ، وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكريا إذ قال : ( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) (٢) ، وقال : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ) (٣) ، وقال : ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ) (٤) ، وقال : ( إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (٥).

وزعمتم أن لا حظوة لي ، ولا أرث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصّكم الله بآية أخرج منها أبي؟

أم تقولون : أهل ملّتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟

أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي؟

وحكى هذا المقطع من خطابها الخالد أوثق الأدلّة وأروعها على استحقاقها لميراث أبيها كان منها ما يلي :

١ ـ احتجّت على أنّ الأنبياء عليهم‌السلام كبقيّة الناس خاضعون للمواريث ، وقد استندت في ذلك إلى آيتي داود وزكريا ، وهما صريحتان بتوريث الأنبياء ، ومنهم أبوها سيّد المرسلين.

__________________

(١) النمل : ١٦.

(٢) مريم : ٦.

(٣) الأحزاب : ٦.

(٤) النساء : ١١.

(٥) البقرة : ١٨٠.

١٥٠

٢ ـ استدلت بعموم آيات المواريث ، وعموم آية الوصيّة ، وهي بالطبع شاملة لأبيها ، وخروجه منها من باب التخصيص بلا مخصّص ، وهو ممتنع كما صرح علماء الاصول.

٣ ـ إنّ ما يوجب تخصيص آية المواريث وعموم آية الوصية أن يختلف المورّث ووارثه في الدين بأن يكون المورّث مسلما ووارثه كافرا ، فإنّه لا ميراث بينهما ، وهذه الجهة منتفية انتفاء قطعيّا ، فسيّدة النساء أبوها مؤسّس الإسلام وخاتم الأنبياء ، وهي بضعته وريحانته وسيّدة نساء العالمين ، فكيف تمنع عن إرثها؟ وبعد هذه الحجج البالغة وجّهت خطابها لأبي بكر قائلة له :

« فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ونشرك ، فنعم الحكم الله ، والزّعيم محمّد ، والموعد القيامة ، وعند السّاعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون ، ولكلّ نبأ مستقرّ ، ولسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم ».

يا له من تقريع أمضى وأوجع من كلّ ألم ممضّ! يا له من عتاب أقسى من ضرب السيوف! ثمّ اتّجهت حبية الرسول إلى المسلمين تستنهض عزائمهم وتحثّهم على الاطاحة بحكومة أبي بكر قائلة :

« يا معشر النّقيبة وأعضاد الملّة وحضنة الإسلام ، ما هذه الغميزة في حقّي ، والسّنّة عن ظلامتي؟ أما كان رسول الله أبي يقول : المرء يحفظ في ولده ، سرعان ما أحدثتم وعجلان ذا إهالة ، ولكم طاقة بما أحاول ، وقوّة على ما أطلب وأزاول؟

أتقولون : مات محمّد فخطب جليل استوسع وهنه ، واستنهر فتقه ، وانفتق رتقه ، وأظلمت الأرض لغيبته ، وكسفت الشّمس والقمر ، وانتثرت النّجوم لمصيبته ،

١٥١

وأكدت الآمال ، وخشعت الجبال ، واضيع الحريم ، وازيلت الحرمة عند مماته ، فتلك والله! النّازلة الكبرى ، والمصيبة العظمى ، لا مثلها نازلة ، ولا بائقة عاجلة ، أعلن بها كتاب الله جلّ ثناؤه في أفنيتكم ، وفي ممساكم ومصبحكم ، يهتف في أفنيتكم هتافا وصراخا وتلاوة وألحانا ، ولقبله ما حلّ بأنبياء الله ورسله حكم فصل ، وقضاء حتم ، ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ، وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ).

وأخذت زهراء الرسول تحفّز الأنصار على الثورة ، وتذكّرهم ماضيهم المشرق في نصرة الإسلام وحماية مبادئه ، وتطلب منهم القيام بقلب الحكم القائم ، وإرجاع الخلافة إلى الإمام عليه‌السلام ، وإرجاع حقوقها لها قائلة :

« أيها بني قيلة (١) ، أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى منّي ومسمع ومنتدى ومجمع ، تلبسكم الدّعوة ، وتشملكم الخبرة ، وأنتم ذوو العدد والعدّة والأداة والقوّة ، وعندكم السّلاح والجنّة (٢) ، توافيكم الدّعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصّرخة فلا تغيثون ، وأنتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير والصّلاح ، والنّخبة التي انتخبت ، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت. قاتلتم العرب ، وتحمّلتم الكدّ والتّعب ، وناطحتم الامم ، وكافحتم البهم ، فلا نبرح أو تبرحون ، نأمركم فتأتمرون ، حتّى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرّ حلب الأيّام ، وخضعت نعرة الشّرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهرج ، واستوسق نظام الدّين ، فأنّى جرتم (٣) بعد البيان ، وأسررتم بعد الإعلان ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان؟

__________________

(١) بنو قيلة : هم الأوس والخزرج من الأنصار.

(٢) الجنّة : بالضمّ ما يستتر به من السلاح.

(٣) جرتم : أي ملتم.

١٥٢

ولمّا رأت سيّدة نساء العالمين وهن الأنصار وتخاذلهم وعدم استجابتهم لنداء الحقّ ، وجّهت إليهم أعنف اللوم وأشدّ العتب قائلة :

« ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنّها فيضة النّفس ، ونفثة الغيظ ، وحوز القناة ، وبثّة الصّدر ، وتقدمة الحجّة ، فدونكموها فاحتقبوها دبرة الظّهر ، نقبة الخفّ ، باقية العار ، موسومة بغضب الله ، وشنار الأبد ، موصومة بنار الله الموقدة ( الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ. إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ) ، فبعين الله ما تفعلون ، وسيعلم الّذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون ، وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فاعملوا إنّا عاملون ، وانتظروا إنّا منتظرون » (١).

وانتهى هذا الخطاب الثوري الذي حوى جميع مقوّمات الثورة على النظام القائم ، ولا أكاد أعرف خطابا أبلغ ولا آثر منه إلاّ إنّ القوم قد تخدّرت أعصابهم فصدوا عن الطريق القويم. وعلى أي حال فقد لمس أبو بكر مدى تأثير خطاب الزهراء عليه‌السلام في نفوس الحاضرين وخاف من اندلاع الثورة فاستطاع بلباقته وقابليّاته الدبلوماسية أن يسيطر على الموقف ، وينقذ حكومته من الانقلاب فقابل بضعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلّ حفاوة وتكريم ، وأظهر لها أمام الملأ أنّه يخلص لها ، ويكنّ لها التقدير والاحترام أكثر ممّا يكنّه لعائشة ابنته كما أظهر لها حزنه العميق على وفاة أبيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعرض لها أنّه لم يتقلّد منصب الحكم ، ولم يتّخذ معها الاجراءات الصارمة عن رأيه الخاص ، وإنّما كان عن رأي المسلمين فهم الذين قلّدوه ما تقلّد وباتّفاق منهم أخذ ما أخذ ، وبذلك فقد شارك المسلمين في إجراءاته وحمّلهم المسئولية ،

__________________

(١) أعلام النساء ٣ : ٢٠٨. بلاغات النساء : ١٢ ـ ١٩.

١٥٣

والحال أنّا ذكرنا كيفيّة بيعته ، وأنّها كانت فلتة على حدّ تعبير ابن الخطّاب.

ندم أبي بكر :

وندم أبو بكر كأشدّ ما يكون الندم على ما فرّط تجاه بضعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كبس دارها وحرمانها من مواريثها ، فقال : وددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة ، ولو أنّهم أغلقوه على الحرب (١).

لقد أنّبه ضميره على الإجراءات القاسية التي ارتكبها مع زهراء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي هي وديعته في امّته.

محاولة فاشلة لإرضاء الزهراء :

وحاول أبو بكر وصاحبه على إرضاء حبيبة رسول الله والفوز بعفوها عنهما ، وذلك لتكتسب حكومتهما الشرعية ، ويتّخذا وسيلة لإرضاء المسلمين عنهما فانطلقا إلى بيتها ، وطلبا منها السماح بمقابلتها ، فأبت أن تأذن لهما ، واستأذنا ثانيا ، فامتنعت من إجابتهما ، وخفّا نحو الإمام عليه‌السلام فطلبا منه أن يمنحهما الإذن لمقابلة وديعة النبيّ ، فانطلق إلى الدار والتمس من سيّدة النساء أن تأذن لهما ، فأجابته إلى ذلك ، فأذن لهما ، ودخلا فسلّما عليها ، فلم تجبهما ، وتقدّما فجلسا أمامها ، فأزاحت بوجهها عنهما ، وراحا يلحّان عليها أن تسمع مقالتهما ، فأذنت لهما في ذلك ، فقال لها أبو بكر : يا حبيبة رسول الله ، والله! إنّ قرابة رسول الله أحبّ إليّ من قرابتي ، وإنّك لأحبّ إليّ من عائشة ابنتي ، ولوددت يوم مات أبوك أنّي مت ولا أبقى بعده ..

أفتراني أعرفك ، وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقّك ، وميراثك من رسول الله؟ ألا إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

« لا نورث ما تركناه فهو صدقة ... ».

__________________

(١) كنز العمّال ٣ : ١٣٥. تاريخ الطبري ٤ : ٥٢.

١٥٤

وفنّدت بضعة الرسول هذه الرواية في خطابها التأريخي الخالد ، فلم تر حاجة إلى تفنيدها مرّة أخرى ، والتفت إليه وقد شاركت معه عمر قائلة :

« نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول : رضا فاطمة من رضاي ، وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني ، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ ... ».

فأجابا بالتصديق قائلين : أجل سمعناه يقول ذلك ..

فرفعت وجهها وكفّيها إلى السماء ، وراحت تقول بحزن وفؤاد مكلوم ..

« فإنّي اشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت رسول الله لأشكونّكما إليه .. ».

وانطلق أبو بكر يبكي ، فقالت له :

« والله! لأدعونّ عليك في كلّ صلاة اصلّيها » (١) ، فما كان أشدّها كلمات أخفّ من وقعها ضربات السيف! ... مادت الأرض تحتهما ، ودارت كالرحى حتى سارا من هول ما لقيا يترنّحان ، وغادرا الدار وقد خبا أملهما في رضا زهراء الرسول ، وعلما مدى الغضب الذي أثارته عليهما ومدى السخط الذي باءا به (٢).

وحقّ لأبي بكر أن يحزن ويبكي بعد ما فاته رضا زهراء الرسول التي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها كما حدّث بذلك أبوها (٣).

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٤. أعلام النساء ٣ : ١٢١٤. الإمام عليّ بن أبي طالب ـ عبد الفتاح عبد المقصود ١ : ٢١٧.

(٢) الإمام عليّ بن أبي طالب ١ : ٢١٧.

(٣) مستدرك الحاكم ٣ : ١٥٣. اسد الغابة ٥ : ٥٢٢. تهذيب التهذيب ١٢ : ٢٤١. ميزان الاعتدال ٢ : ٧٢. كنز العمّال ٦ : ٢١٩. ذخائر العقبى : ٣٩. مقتل الخوارزمي ١ : ٥٢.

١٥٥

أضواء على موقف الإمام :

ووقف الإمام مع حكومة أبي بكر موقفا سلبيا اتّسم بالعزلة التامّة عن الناس وعدم الاشتراك مع الجهاز الحاكم بأي لون من ألوان الاجتماع ، فقد انصرف إلى تدوين الأحكام الشرعية وتفسير القرآن الكريم ، فقد أعرض عن القوم وأعرضوا عنه لا يراجعهم ولا يراجعونه ، اللهمّ إلاّ إذا حلّت في ناديهم مشكلة فقهية لا يعرفون حلّها فزعوا إليه ليجيبهم عنها.

ويتساءل الكثيرون : لما ذا لم يقف الإمام عليه‌السلام مع أبي بكر موقفا سلبيا ، ويفتح معه باب الحرب ، ويأخذ حقّه منه بالقوّة ، فقد أعرض عن ذلك ، وخلد إلى الاعتزال ، وقد أدلى الإمام عليه‌السلام ببعض الأسباب التي دعته لإلقاء الستار على حقّه وهي :

١ ـ فقده للقوّة العسكرية :

لم تتوفّر عند الإمام عليه‌السلام أيّة قوّة عسكرية يستطيع أن يتغلّب بها على الأحداث ، ويستلم مقاليد الحكم ، وقد صرّح بذلك في كثير من المناسبات ، وهذه بعضها :

أ ـ قال عليه‌السلام في خطبته الشقشقية :

« وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذّاء ، أو أصبر على طخية عمياء (١) ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصّغير ، ويكدح فيها مؤمن حتّى يلقى ربّه! فرأيت أنّ الصّبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى. وفي الحلق شجا (٢) ، أرى تراثي نهبا ... » (٣).

__________________

(١) الطخية : الظلمة.

(٢) الشجى : ما يعترض في الحلق من عظم ونحوه.

(٣) نهج البلاغة ١ : ٣١.

١٥٦

وقد حكى هذا المقطع من خطابه ما ألمّ به من الأسى من فقدان الناصر أيام حكومة أبي بكر ، فإنّه لم تكن عنده قوّة تحميه ولم يكن يأوي إلى ركن شديد لإرجاع حقّه ، فصبر على ما في الصبر من قذى في العين وشجى في الحلق.

ب ـ قال عليه‌السلام :

« فنظرت فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، وأغضيت على القذى ، وشربت على الشّجا ، وصبرت على أحر الكظم ، وعلى أمرّ من طعم العلقم » (١).

وحكى هذا المقطع أنّه لم يكن مع الإمام عليه‌السلام سوى أسرته الماثلة في أبنائه وأبناء أخيه ، ومن المؤكّد أنّه لو فتح باب الحرب مع أبي بكر لقضي على الاسرة الهاشمية ، بالاضافة إلى ما تواجهه الامّة من أخطار هائلة.

ج ـ وبايعت الأكثرية الساحقة أبا بكر تحت ضغط عمر ، وقد أراد الإمام عليه‌السلام أن يقيم عليهم الحجّة فطاف بزهراء الرسول على بيوت المهاجرين والأنصار يسألهم النجدة ومناهضة الحكم القائم ، فكانوا يقولون لبضعة الرسول :

يا بنت رسول الله ، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، فتردّ عليهم حبيبة رسول الله :

« أفتدعون تراث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخرج من داره إلى غير داره؟ ... ».

وراحوا يعتذرون إليها قائلين :

يا بنت رسول الله ، لو أنّ زوجك سبق إلينا قبل أبي بكر لما عدلنا به ..

ويجيبهم الإمام عليه‌السلام :

« أفكنت أدع رسول الله في بيته لم أدفنه ، ثمّ أخرج أنازع النّاس سلطانه؟! ... ».

__________________

(١) نهج البلاغة ١ : ٦٧.

١٥٧

وتدعم سيّدة النساء مقالة الإمام عليه‌السلام قائلة :

« ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ... وقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه » (١).

إنّ موقف الإمام عليه‌السلام مع حكومة أبي بكر متّسم بعدم الرضا إلاّ أنّه لم يستطع القيام بأيّ عمل عسكري للاطاحة بها.

٢ ـ المحافظة على وحدة المسلمين :

من الأحداث التي دعت الإمام إلى المسالمة مع القوم حرصه على وحدة المسلمين ، وقد أعلن ذلك حينما عزم القوم على البيعة لعثمان ، فقال عليه‌السلام :

« لقد علمتم أنّي أحقّ النّاس بها ـ أي الخلافة ـ من غيري ؛ وو الله! لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ؛ ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصّة ، التماسا لأجر ذلك وفضله ، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه » (٢).

من أجل الحفاظ على وحدة المسلمين وجمع كلمتهم سالم الإمام وأعرض عمّا يكنّه في نفسه من الألم والأسى على ضياع حقّه.

لوعة الزهراء وشجونها :

وأعظم المآسي التي طاقت بالإمام هو ما حلّ بابنة الرسول وبضعته من الآلام القاسية التي احتلّت قلبها الرقيق المعذّب على فقد أبيها الذي كان عندها أعزّ من الحياة ، فكانت تزور جدثه الطاهر وهي حيرى قد أخرسها الخطب ، وتأخذ حفنة من ترابه فتضعه على عينيها ووجهها وتطيل من شمّه ، وتقبيله ، وتجد في ذلك راحة ،

__________________

(١) الإمامة والسياسة ١ : ١٢.

(٢) نهج البلاغة ١ : ١٢٤.

١٥٨

وهي تبكي أمرّ البكاء وأشجاه ، وتقول :

ما ذا على من شمّ تربة أحمد

أن لا يشمّ مدى الزّمان غواليا

صبّت علىّ مصائب لو أنّها

صبّت على الأيّام صرن لياليا

قل للمغيّب تحت أطباق الثّرى

إن كنت تسمع صرختي وندائيا

قد كنت ذات حمى بظلّ محمّد

لا أخش من ضيم وكان جماليا

فاليوم أخضع للذّليل واتّقي

ضيمي وأدفع ظالمي بردائيا

فاذا بكت قمريّة في ليلها

شجنا على غصن بكيت صباحيا

فلأجعلنّ الحزن بعدك مونسي

ولأجعلنّ الدّمع فيك وشاحيا (١)

وصوّرت هذه الأبيات مدى حزن زهراء الرسول ولوعتها على فقد أبيها الذي أخلصت له في الحبّ كأعظم ما يكون الإخلاص ، كما أخلص لها ، وإنّ مصابها القاسي عليه لو صبّ على الأيام لخفت ضياؤها وعادت قاتمة مظلمة.

وصوّرت هذه الأبيات الحزينة مدى منعتها وعزّتها أيام أبيها ، وبعد فقدها له صارت بأقصى مكان من الهوان ، فقد تنكّر لها القوم ، وأجمعوا على هضمها ، والغضّ من شأنها حتّى صارت تخضع للذليل وتتّقي من ظلمها بردائها.

وخلدت وديعة الرسول إلى البكاء والأسى حتى عدّت من البكائين الخمسة الذين مثلوا الحزن على امتداد التاريخ.

وبلغ من عظيم وجدها على أبيها أنّ أنس بن مالك استأذن عليها ليعزّيها بمصابها الأليم ، وكان ممّن وسّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مثواه الأخير ، فقالت له :

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٣١.

١٥٩

« أنس بن مالك هذا؟ ... ».

نعم ، يا بنت رسول الله ..

فقالت له بلوعة وبكاء :

« كيف طابت نفوسكم أن تحثوا التّراب على رسول الله » (١) ، وقطع أنس كلامه ، وهو يذرف أحرّ الدموع ، وقد هام في تيارات من الأسى والشجون.

وبلغ من عظيم وجد زهراء الرسول أنّها ألحّت على الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يريها القميص الذي غسّل فيه أباها ، فجاء به إليها ، فأخذته بلهفة وهي توسعه تقبيلا وشمّا ؛ لأنّها وجدت فيه رائحة أبيها الذي غاب في مثواه.

وخلدت بضعة الرسول إلى البكاء في وضح النهار وفي غلس الليل ، وثقل ذلك على القوم ، فشكوها إلى الإمام وطلبوا منه أن تجعل لبكائها وقتا خاصّا لأنّهم لا يهجعون ولا يستريحون ، وعرض الإمام عليها ذلك ، فأجابته إلى ما أراد ، فكانت في النهار تخرج خارج المدينة وتصحب معها ولديها الحسن والحسين وبنتها زينب ، فتجلس تحت شجرة من الاراك وتبكي أباها طيلة النهار ، فإذا أو شكت الشمس أن تغرب قفلت راجعة مع أولادها إلى البيت الذي خيّم عليه الحزن والبكاء ، وعمد القوم إلى تلك الشجرة فقطعوها فصارت تبكي في حرّ الشمس ، فقام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام فبنى لها بيتا أسماه « بيت الأحزان » فاتّخذته مقرّا لبكائها ، ونسب إلى مهدي آل محمّد ( عجّل الله فرجه ) أنّه قال فيه :

« أم تراني اتّخذت ـ لا ، وعلاها ـ بعد بيت الأحزان بيت سرور ».

وأثّر الحزن المرهق بوديعة النبيّ حتى فتكت بها الأمراض وذوت كما تذوي

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١٨. المواهب اللدنية ـ القسطلاني ٢ : ٢٨١.

١٦٠