موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٢

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ٢

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٣٢

ليس في دنيا الإسلام كارثة مدمّرة امتحن بها المسلمون امتحانا عسيرا كحادثة السقيفة ، فقد أولدت الأحقاد ، وأجّجت نار الفتن بين المسلمين ، وفتحت أبواب الطمع والتهالك على السلطة بين الزعماء.

إنّ جميع ما عاناه السادة المعظّمون من أهل البيت عليهم‌السلام يستند أوّلا وبالذات إلى مؤتمر السقيفة التي تعمّد أعضاؤها على الغضّ من شأنهم ، ومعاملتهم معاملة عادية تتّسم بالكراهة والحقد عليهم ، متناسين ما ألزمه الله تعالى بمودّتهم ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) (١) ، وما حثّ عليه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في لزوم مودّتهم ، وتعظيم شأنهم ، فلم يرعوا لاهتمام النبي بهم ، فأقصوهم عن مركز الحكم وعن جميع ما يتعلّق بالدولة الإسلامية التي أنشأها جدّهم الرسول ، وقامت على أكتاف أخيه وباب مدينة علمه ، لقد آلت الخلافة الإسلامية ـ مع الأسى والأسف ـ إلى بني أميّة فأمعنوا في ظلم العترة الطاهرة وإبادتها ، وما كارثة كربلاء الخالدة في دنيا الأحزان إلاّ من تبعات السقيفة ، ورحم الله الإمام كاشف الغطاء إذ يقول :

تالله ما كربلا لو لا سقيفتهم

ومثل هذا الفرع ذاك الأصل أنتجه

إنّ الأحداث الجسام التي فزع منها المسلمون كإباحة مدينة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وحرق الكعبة ، وتسلّط الأشرار المارقين عن الدين على رقاب المسلمين أمثال بسر بن أرطاة ، والمغيرة بن شعبة ، وزياد بن أبيه ، وعبيد الله بن زياد وأمثالهم من الخونة

__________________

(١) الشورى : ٢٣.

١٠١

المجرمين الذين أمعنوا في ظلم المسلمين ، وأغرقوهم في المآسي والخطوب كلّها قد نجمت من السقيفة ، وما يرتبط بها من أحداث.

ولسنا في البحث عن السقيفة خاضعين للمؤثّرات المذهبية ، نعوذ بالله أن نخضع لغير الحقّ ، وأن نكتب ما تمليه علينا العواطف التقليدية ، وإنّما نكتب هذه البحوث على ضوء الدراسة العلمية التي اقتبسناها من الوثائق التاريخية ، وحلّلنا أبعادها بأمانة وإخلاص ، وفيما اعتقد أنّ كلّ من يتأمّل في أحداث السقيفة يؤمن بأنّها غير طبيعة وأنّها دبّرت لصرف الخلافة عن أهل البيت.

وعلى أي حال فلا بدّ لنا من وقفة قصيرة للبحث عن هذا الحادث المروع الذي ابتلي فيه المسلمون كأشدّ وأقسى ما يكون الابتلاء ، وفيما يلي ذلك :

البواعث المؤتمر السقيفة

وعقد الأنصار في اليوم الذي توفّي فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مؤتمرا في سقيفة بني ساعدة ، ضمّ الجناحين منهم الأوس والخزرج ، تداولوا فيه شئون الخلافة ، وأن لا تخرج من حوزتهم ، ولا يكونوا تبعا لزعامة المهاجرين من قريش وتحت نفوذهم.

والشيء الذي يدعو إلى التساؤل لما ذا سارعوا إلى عقد مؤتمرهم بهذه السرعة الخاطفة ، والرسول لم يغيبه عن عيون القوم مثواه ، وأكبر الظنّ أنّ أسباب ذلك تتلخّص بما يلي :

أوّلا : إنّ الأنصار قد استبان لهم بصورة مكشوفة لا خفاء فيها على تصميم المهاجرين من قريش للاستيلاء على الحكم بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصرفه عن الإمام أمير المؤمنين ، ويدعم ذلك :

١ ـ إنّ المهاجرين من قريش أعلنوا رفضهم الكامل لبيعة الإمام يوم غدير خمّ ، فقد قالوا : لقد حسب محمّد أنّ هذا الأمر قد تمّ لابن عمّه وهيهات أن يتمّ ، وتناقلت

١٠٢

حديثهم معظم الأوساط في يثرب.

٢ ـ امتناع قادة المهاجرين من الالتحاق بجيش اسامة خوفا أن يتمّ الأمر للإمام بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويفلت الزمام منهم ، ولم يكن يخفى على الأنصار ذلك.

٣ ـ قيام بعض المهاجرين بالحيلولة بين النبيّ وبين ما رآه من الكتابة التي تضمن لامّته السعادة في جميع الأحقاب والآباد ـ على حدّ تعبيره ـ فقد رموه بالهجر ، وهو طعن مؤسف في شخصية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فامتنع بأبي وأمّي من الكتابة التي تهدف إلى النصّ الصريح على خلافة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ثانيا : إنّ الأنصار كانوا على يقين لا يخامره شكّ أنّ المهاجرين من قريش كانوا حاقدين على الإمام ؛ لأنّه قد وترهم ، وحصد رءوس أعلامهم ، وقد أعلن ذلك عثمان بن عفّان ، فقد قال للإمام :

ما أصنع إن كانت قريش لا تحبّكم وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين رجلا كأنّ وجوههم شنوف الذهب تصرع آنافهم قبل شفاههم ... (١).

أرأيتم كيف صوّر عثمان لوعة القرشيّين على فتيانهم وفرسانهم الذين أبادهم الإمام في يوم بدر وأبادتهم القوّات المسلّحة في الجيش الإسلامي .. وكانت قريش ترى أنّ الإمام عليه‌السلام هو الذي وترها ، فهي تطالبه بذحلها ... ويقول الكناني من شعراء قريش محرّضا لها على الوقيعة بالإمام :

في كلّ مجمع غاية أخزاكم

جذع أبرّ على المذاكي القرّح

لله درّكم ألما تذكروا

قد يذكر الحرّ الكريم ويستحي

هذا ابن فاطمة (٢) الذي أفناكم

ذبحا بقتلة بعضه لم يذبح

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٩ : ٢٢.

(٢) فاطمة بنت أسد أمّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

١٠٣

أين الكهول وأين كلّ دعامة

في المعضلات وأين زين الأبطح (١)؟

وروى ابن طاوس عن أبيه أنّه قال للإمام زين العابدين :

ما بال قريش لا تحبّ عليّا؟

فأجابهم الإمام :

لأنّه أورد أوّلهم النار ، وألزم آخرهم العار (٢).

لقد كان بغض القرشيّين للإمام عليه‌السلام مكشوفا وغير خفي على أحد ، وخاف الأنصار من استيلاء المهاجرين على دست الحكم فينزلون بهم الضربات القاصمة لولائهم للإمام عليه‌السلام ومودّتهم له.

ثالثا : إنّ الأنصار كانوا العمود الفقري للقوّات الإسلامية ، وقد أشاعوا الحزن والحداد في بيوت القرشيّين ، ومن المؤكّد أنّ القرشيّين كانوا يحقدون أشدّ الحقد على الأنصار ، وأنّهم لا يألون جهدا في الانتقام منهم ، فلذا سارعوا في عقد مؤتمرهم خشية من المهاجرين ، يقول الحبّاب بن المنذر وهو من مفكّري الأنصار :

لكنّنا نخاف أن يليها بعدكم من قتلنا أبناءهم وآباءهم واخوانهم (٣).

وتحقّق ما تنبأ به الحبّاب ، فإنّه لم يكد ينتهى حكم الخلفاء القصير الأمد حتى آل الحكم إلى الأمويّين فسعوا جاهدين في إذلالهم والتنكيل بهم. وقد أمعن معاوية في قهرهم وظلمهم ، ولمّا ولي الأمر بعده يزيد جهد على الوقيعة بهم فأباح دماءهم وأموالهم وأعراضهم في واقعة الحرّة المحزنة التي لم يشاهد التاريخ لها نظيرا في فظاعتها وقسوتها.

رابعا : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استشفّ من وراء الغيب ما تعانيه الأنصار من بعده من

__________________

(١) و (٣) حياة الإمام الحسين بن عليّ عليهما‌السلام ١ : ٢٣٥.

(٢) معجم الشيوخ ـ ابن الاعرابي ٤ : ١٦.

١٠٤

جهد وبلاء ، فقال لهم : « ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض ... » فخافوا كأشدّ ما يكون الخوف ، فلذا بادروا إلى عقد مؤتمرهم ليكونوا بمأمن من الاثرة والجهد.

وفيما أحسب أنّ هذه العوامل بعض الأسباب التي أدّت إلى عقد الأنصار مؤتمرهم في سقيفة بني ساعدة.

خطاب سعد :

ولمّا عقد الأنصار مؤتمرهم في السقيفة انبرى سعد بن عبادة زعيم الخزرج إلى افتتاح مؤتمرهم ، وكان مريضا لا يتمكّن أن يجهر بكلامه ، وإنّما كان يقول : فيبلغ بعض أقربائه مقالته ، وهذا نصّ كلامه :

يا معشر الأنصار ، لكم سابقة في الدين ، وفضيلة في الإسلام ليست لأحد من العرب ، إنّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأنداد والأوثان ، فما آمن به إلاّ قليل ، ما كانوا يقدرون على منعه ، ولا على إعزاز دينه ، ولا على دفع ضيم حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصّكم بالنعمة ، ورزقكم الإيمان به وبرسوله ، والمنع له ولأصحابه ، والاعزاز له ولدينه ، والجهاد لأعدائه ، فكنتم أشدّ الناس على عدوّه ، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها ، وأعطى البعيد المقادة صاغرا ، فدانت لرسوله بأسيافكم العرب ، وتوفّاه الله وهو عنكم راض ، وبكم قرير العين .. استبدّوا بهذا الأمر دون الناس فإنّه لكم دونهم ... (١).

وحفل خطاب سعد بالاشادة بإيمان الأنصار وبسالتهم وحمايتهم للإسلام ، وأنّه قام على سوقه عبل الذراع مفتول الساعد بفضل جهادهم ونصرتهم له ، فهم

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ٢٢٢. تاريخ الطبري ٣ : ٣٠٧.

١٠٥

الذين حموه أيام غربته ومحنته .. فإذن هم أولى بالنبيّ ، وأحقّ بمركزه ومقامه ، فإنّ من كان عليه العزم فهو أولى بالغنم.

وكان من بنود هذا الخطاب التنديد بالقرشيّين الذين ناهضوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وناجزوه الحرب ، حتى اضطرّ إلى الهجرة إلى يثرب ، وما آمن به من قومه إلاّ فئة قليلة لم تتمكّن من حمايته والذبّ عنه ... وبذلك فلا حقّ للقرشيّين في الخلافة ولا نصيب لهم بها.

المؤاخذة على سعد :

وتناسى سعد في خطابه المصيبة العظمى التي دهمت المسلمين وهي موت سيّد الكائنات ، فلم يشر إليها بقليل ولا بكثير ، ولم يعزّ الأنصار بهذا الخطب المروع ، كما تناسى في خطابه العترة الطاهرة التي هي وديعة النبيّ في امّته ، وعديلة القرآن الكريم ، ولم يتعرّض لسيّد المسلمين وإمام المتّقين الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي هو باب مدينة علم النبيّ ، ومن كان منه بمنزلة هارون من موسى ، فقد تجاهله سعد بالمرّة ، ونسى البيعة له يوم غدير خمّ ، فدعا لنفسه وقومه.

لقد أخطأ سعد إلى حدّ بعيد ، ولا مبرّر له في عقد مؤتمره ، فقد أخلد للامّة الفتن والمصاعب ، وألقاها في شرّ عظيم ، ومن ذلك اليوم عانت العترة الطاهرة ألوانا قاسية من الكوارث والخطوب ، وآلت الخلافة إلى الطلقاء وأبنائهم فاتّخذوها مغنما ووسيلة لنيل شهواتهم ورغباتهم ، ولم يعد للامّة أي ظلّ لمصالحها طيلة الحكم الأموي والعباسي.

وعلى أي حال فقد لاقى سعد جزاء عمله ، فإنّه لم يكد يستقرّ الحكم القصير الأمد إلى أبي بكر حتى جهد في ملاحقته ، وفرض الرقابة عليه حتى اضطرّ إلى الهجرة إلى الشام ، فتبعه خالد بن الوليد مع صاحب له ، فكمنا له ليلا وطعناه وألقياه في البئر ، وتحدّثوا أنّ الجنّ هي التي قتلته وأوردا على لسانها شعرا تفتخر فيه بقتله وهو :

١٠٦

نحن قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عباده

ورميناه بسهمين فلم نخطئ فؤاده

ومن الغريب أنّ دبلوماسية الحكم في ذلك العصر استخدمت الجنّ في أغراضها السياسية ، وقد آمن بذلك البسطاء والسذّخ من غير وعي للأهداف السياسية.

ضعف نفسية الأنصار :

ولم تكن للأنصار إرادة صلبة ولا عزم ثابت ، فقد منوا بالضعف والوهن والتخاذل ، فكانوا بعد خطاب زعيمهم سعد متخاذلين ، فقد أخذ بعضهم يقول لبعض : فإنّ أبى المهاجرون من قريش ، وقالوا : نحن المهاجرون وأصحابه الأوّلون وعشيرته وأولياؤه فعلام تنازعون هذا الأمر بعده ..

وانبرت طائفة منهم فقالوا :

فإنّا نقول : منّا أمير ومنكم أمير ، ولن نرضى بدون هذا أبدا ..

وأظهرت هذه المحاورة ضعفهم وانهيار عزائمهم وخوفهم من المهاجرين من قريش ، وثار سعد حينما رأى منهم هذه الروح الانهزامية فقال لهم :

هذا أوّل الوهن (١).

أجل إنّ هذا أوّل الوهن وآخره ، فقد تنازلوا للقرشيّين وشاركوهم في الأمر في حين أنّ الساحة قد خلت من كلّ قرشي ، وقد دلّ هذا على عدم نضوجهم السياسي وعدم عمقهم ، فإنّهم قد أحاطوا مؤتمرهم بكثير من الكتمان ليسبقوا الأحداث ويظفروا بالحكم قبل أن يعلم المهاجرون من قريش ، فقد ظلّوا قابعين في هذا الصراع الفارغ فأضاعوا عليهم الفرصة ، فقد دهمهم المهاجرون وسيطروا على

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ٢٢٢.

١٠٧

الوضع ، واستلموا الحكم بمهارة فائقة كما سنبيّن ذلك.

اختلاف الأنصار :

وشيء بالغ الأهميّة في انهزام الأنصار وعدم سيطرتهم على الموقف هو ما منوا به من الصراع القبلي بين الأوس والخزرج ، فقد كانت بينهما أحقاد وضغائن منذ عهد بعيد ، وشاعت بينهما الفتن والحروب ، وكان آخر أيام حروبهم هو ( يوم بغاث ) وكان ذلك قبل أن يهاجر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم ، ولمّا حلّ في ديارهم جهد على نشر المحبّة والوئام فيما بينهم ، ولكن لم تزل الأحقاد كامنة في نفوسهم ، وقد ظهرت بشكل سافر يوم السقيفة ، فإنّه حينما عزموا على مبايعة سعد حقد عليه خضير بن أسيد زعيم الأوس ، فقال لقومه :

لئن ولّيتموها ـ أي الخلافة ـ سعدا عليكم مرّة واحدة لا زالت لهم بذلك الفضيلة ، ولا جعلوا لكم فيها نصيبا أبدا ، فقوموا فبايعوا أبا بكر (١).

وحكى ذلك مدى الحقد المستحكم في نفوس الأوس للخزرج ، فإنّ سعدا إذا ولي الحكم مرّة واحدة تكون له فضيلة على الأوس وتفوّق عليهم ، وفعلا فقد انبرى مع قومه فبايع أبا بكر ولولاه لما تمّ الأمر له.

ومضافا إلى الأحقاد بين الأوس والخزرج إنّ بعض أبناء الخزرج الذين هم من أسرة سعد كانوا يحقدون عليه ، فهذا بشير بن سعد الخزرجي انبرى فبايع أبا بكر.

فذلكة عمر :

وشيء خطير بالغ الأهمّية قام به عمر لتجميد الأوضاع وإيقاف أيّة عملية تؤدّي إلى انتخاب خليفة على المسلمين ، فإنّ صاحبه أبا بكر لم يكن في يثرب عند

__________________

(١) الكامل في التاريخ ٢ : ٢٢٤.

١٠٨

وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّما كان في السنح (١) ، فبعث خلفه من يأتي به على وجه السرعة ، وانطلق عمر وهو يجوب في شوارع المدينة ، وقد شهر السيف ويلوّح به وينادي بصوت عال :

إنّ رجالا من المنافقين يزعمون أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد مات ، والله! ما مات ولكنّه ذهب إلى ربّه كما ذهب موسى بن عمران ... والله ليرجعنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقطعن أيدي رجال وأرجلهم ممّن أرجفوا بموته ...

وجعل لا يمرّ بأحد يقول مات رسول الله إلاّ خبطه بسيفه وتهدّده وتوعّده .. (٢).

وذهل الناس وساورتهم موجات من الشكوك والأوهام ، فلا يدرون أيصدّقون مزاعم عمر بحياة النبيّ وأنّه لم يمت وهي من أعزّ أمانيهم ، ومن أروع أحلامهم ، أم يصدّقون ما عاينوه من جثمان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مسجّى بين أهله لا حراك فيه.

ويستمرّ عمر يجول في الأزقّة والشوارع وهو يبرق ويرعد حتى أزبد شدقاه ، وهو يتهدّد بقتل من أرجف بموت النبيّ وبقطع يده ، ولم يمض قليل من الوقت حتى أقبل أبو بكر فانطلق معه إلى بيت النبيّ فكشف الرداء عن وجهه فتحقّق من وفاته ، فخرج إلى الناس وأخذ يفنّد مزاعم عمر ، وخاطب الجماهير التي أخرسها الخطب وذهلها المصاب قائلا :

من كان يعبد محمّدا فإنّ محمّدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت ، وتلا قوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ

__________________

(١) السنح : محل يبعد عن المدينة بميل ، وقيل : هو أحد عواليها ، ويبعد عنها بأربعة أميال.

(٢) حياة الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام ١ : ٢٤١ ، نقلا عن شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد.

١٠٩

ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) (١) وصدق عمر بسرعة مقالته ، وراح يقول : فو الله ما هو إلاّ إذا سمعتها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي ، وقد علمت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد مات .. (٢).

نظرة وتأمّل :

ولم تكن الحادثة بسيطة وساذجة ، فقد حفّت بالغموض ويواجهها عدّة من التساؤلات وهي :

١ ـ إنّ القرآن الكريم أعلن بصراحة ووضوح أنّ كلّ إنسان لا بدّ أن يسقى كأس المنية ، سواء أكان نبيّا أم غيره ، قال تعالى : ( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ ) (٣) ، وقال تعالى في خصوص نبيّه : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ .. ).

وهذه الآيات الكريمة تتلى في وضح النهار وفي غلس الليل ، فهل خفيت على أبي حفص ولم يسمعها ، وهو يصاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويماسيه ، ويسمع منه ما يتلوه من كتاب الله.

٢ ـ إنّ عمر بالذات كان متفائلا بموت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد قال لاسامة بن زيد

__________________

(١) آل عمران : ١٤٤.

(٢) الكامل في التاريخ ٢ : ٢١٩.

(٣) العنكبوت : ٥٧.

١١٠

حينما ولاّه النبيّ على الجيش الذي فيه عمر وأبو بكر : مات رسول الله وأنت عليّ أمير ، وهذا يدلّ بوضوح على أنّه كان مطمئنّا بوفاته ، مضافا إلى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أيامه الأخيرة قبل مرضه وبعده قد نعى نفسه إلى المسلمين.

٣ ـ إنّ عمر هو الذي حال بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبين ما رامه من الكتابة التي ضمن فيها أن لا تضلّ امّته في جميع الأحقاب والآباد ، فقال له : حسبنا كتاب الله ، وقال :

إنّ النبيّ يهجر ، ومن المؤكّد انّه إنّما قال ذلك بعد الاعتقاد بوفاته ، ولو كان يحتمل أنّ النبيّ لا يموت في مرضه لما قال ذلك.

٤ ـ إنّ سكوت عمر وهدوء ثورته الجامحة حينما جاء أبو بكر وأعلن وفاة النبيّ ، فصدّقه ولم يناقشه ، فإنّه يقضي على اتّفاق مسبق بينهما في ذلك.

٥ ـ إنّ حكم عمر بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوف يرجع إلى الأرض ويقطع أيدي رجال وأرجلهم ممّن ارجفوا بموته لا يخلو من مناقشة ، فإنّ تقطيع الأيدي والأرجل والحكم بالاعدام إنّما هو على الذين يخرجون عن دين الله أو يسمعون في الأرض فسادا ، والذهاب إلى موت الرسول لا يوجب ذلك قطعا.

٦ ـ إنّ حكم أبي بكر بأنّ من كان يعبد محمّدا فإنّه قد مات ، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت لا يخلو من النظر ؛ لأنّه لم يؤثر عن أي أحد من المسلمين أنّه كان يعبد محمّدا واتّخذه ربّا يعبده من دون الله ، وإنّما أجمع المسلمون على أنّه عبد الله ورسوله اختاره الله لوحيه ، واصطفاه لرسالته ..

هذه بعض الملاحظات التي تحوم حول هذه الحادثة ، وقد ذكرناها في كتابنا ( حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ).

مداهمة الأنصار :

وبينما كان الأنصار في سقيفتهم يدبّرون أمرهم ويتداولون الرأي في شئون

١١١

الخلافة ويحدّدون موقفهم من المهاجرين من قريش إذ خرج من مؤتمرهم ـ وهم لا يشعرون ـ عويم بن ساعدة الأوسي ، ومعن بن عدي حليف الأنصار ، وكانا من أولياء أبي بكر على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن أعضاء حزبه ، كما كانا من ألدّ أعداء سعد ، فانطلقا مسرعين صوب أبي بكر ، وأحاطاه علما بما جرى ، وفزع أبو بكر وعمر وسارعا نحو السقيفة ، ومعهما أبو عبيدة بن الجرّاح ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وجماعة من المهاجرين ، فكسبوا الأنصار في ندوتهم ، وذعر الأنصار وأسقط ما بأيديهم ، وغاض لون سعد وخاف من خروج الأمر منهم ، وذلك لعلمه بضعف الأنصار وتصدّع وحدتهم ، وفعلا فقد فشل سعد وانهارت جميع مخطّطاته.

خطاب أبي بكر :

وبعد أن داهم المهاجرون ندوة الأنصار أراد عمر أن يفتح الحديث معهم فنهره أبو بكر ، وذلك لعلمه بشدّته ، وهي لا تنجح في مثل هذا الموقف الملبّد بالضغائن والأحقاد ، الأمر الذي يستدعي الكلمات الناعمة لكسب الموقف ، فانبرى أبو بكر فخاطب الأنصار وقابلهم ببسمات فيّاضة بالبشر قائلا :

نحن المهاجرين أوّل الناس إسلاما ، وأكرمهم أحسابا ، وأوسطهم دارا ، وأحسنهم وجوها ، وأمسّهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأنتم اخواننا في الإسلام ، وشركاؤنا في الدين ، نصرتم وواسيتم فجزاكم الله خيرا ، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء ، لا تدين العرب إلاّ لهذا الحيّ من قريش ، فلا تنفسوا على اخوانكم المهاجرين ما فضّلهم الله به ، فقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين ـ يعنى عمر بن الخطّاب وأبا عبيدة بن الجرّاح (١) ـ.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٣ : ٦٢.

١١٢

دراسة وتحليل :

ومني خطاب أبي بكر بكثير من التساؤلات ، كان منها ما يلي :

١ ـ إنّه لم يعن بصورة مطلقة بوفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي هي أعظم كارثة مدمّرة فجع بها المسلمون ، فكان الأجدر به ـ فيما يقول المحقّقون ـ أن يعزّي الحاضرين بوفاة المنقذ العظيم الذي برّ بدين العرب ودنياهم ، ويدعوهم إلى الالتفاف حول جثمانه حتى يواروه في مقرّه الأخير ، ويعودوا بعد ذلك إلى عقد مؤتمر عامّ يضمّ المسلمين لينتخبوا عن إرادتهم وحرّيتهم من يرضونه خليفة لهم ـ على فرض أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعهد إلى الإمام عليه‌السلام بولاية العهد ـ.

٢ ـ إنّ هذا الخطاب قد حفل أوّلا وأخيرا بطلب الامرة والسلطان ، وقد عرض أبو بكر على الأنصار التنازل عن الخلافة ومنحها للمهاجرين ومنّاهم عوض ذلك أن تكون لهم الوزارة ، إلاّ أنّه من المؤسف لمّا تمّ له الأمر لم يقلّدهم أي منصب من مناصب الدولة وأقصاهم عن جميع مراتب الحكم.

٣ ـ وتجاهل خطاب أبي بكر بالمرّة حقّ الاسرة النبوية التي هي عديلة القرآن ، أو كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق وهوى ، حسبما تواترت الأخبار بذلك عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وكان الأجدر بأبي بكر التريث بالأمر حتى يتمّ تجهيز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويؤخذ رأي عترته الطاهرة في الخلافة حتى تحمل طابعا شرعيا ، ولا يحدث انقسام بين صفوف المسلمين ، ولا توصم بيعته بأنّها فلتة وقى الله المسلمين شرّها ـ كما يقول عمر ـ ، وعلّق الإمام شرف الدين على إهمال العترة الطاهرة وعدم أخذ رأيّها في بيعة أبي بكر بقوله :

لو فرض أنّ لا نصّ بالخلافة على أحد من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفرض كونهم غير

١١٣

مبرزين في حسب أو نسب أو أخلاق أو جهاد أو علم وعمل أو ايمان أو إخلاص ، ولم يكن لهم السبق في مضامير كلّ فضل ، بل كانوا كسائر الصحابة ، فهل كان مانع شرعي أو عقلي أو عرفي يمنع من تأجيل عقد البيعة إلى فراغهم من تجهيز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولو بأن يوكل حفظ الأمن إلى القيادة العسكرية مؤقّتا حتى يستتبّ أمر الخلافة.

أليس هذا المقدار من التريث كان أرفق بأولئك المفجوعين وهم وديعة النبيّ لديهم ، وبقيّته فيهم ، وقد قال الله تعالى : ( لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ) (١)؟

أليس من حقّ هذا الرسول الذي يعزّ عليه عنت الامّة ، ويحرص على سعادتها وهو الرءوف بها الرحيم لها أن لا تعنت عترته فلا تفاجأ بمثل ما فوجئت به ، والجرح لمّا يندمل والرسول لما يقبر (٢).

٤ ـ إنّ الحجّة التي استند إليها أبو بكر في أحقّية المهاجرين للخلافة هي أنّهم أمسّ الناس رحما برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقربهم إليه ، وبهذه الحجّة تغلّب على الأنصار ، وممّا لا ريب فيه أنّ هذا الملاك متوفّر في أهل البيت فهم ألصق الناس به ، وأمسّهم رحما به ، وقد عرض لذلك الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله :

احتجّوا بالشّجرة ، وأضاعوا الثّمرة.

وأثر عنه أنّه خاطب أبا بكر بقوله :

فإن كنت بالشّورى ملكت أمورهم

فكيف بهذا والمشيرون غيّب

و إن كنت بالقربى حججت خصيمهم

فغيرك أولى بالنبيّ وأقرب

__________________

(١) التوبة : ١٢٨.

(٢) النصّ والاجتهاد : ٧.

١١٤

وقال الإمام عليه‌السلام في حديث له :

« والله! إنّي لأخوه ـ أي أخو النبيّ ـ ، ووليّه ، وابن عمّه ، ووارث علمه ، فمن هو أحقّ به منّي ...؟ ».

والتفت المتكلّمون من الشيعة إلى هذه الجهة ، يقول الكميت في إحدى روائعه :

بحقّكم أمست قريش تقودنا

وبالقذّ منها والرديفين نركب

وقالوا ورثناها أبانا وأمّنا

وما ورثتهم ذاك أمّ ولا أب

يرون لهم فضلا على الناس واجبا

سفاها وحقّ الهاشميّين أوجب (١)

وعلى أي حال فقد أعرض القوم عن أهل البيت عامدين أو غير عامدين ، فواجهت الامّة منذ ذلك اليوم إلى أن يرث الله الأرض وما عليها أعنف المشاكل وأقسى ألوان الخطوب.

٥ ـ إنّ أبا بكر في خطابه رشّح لقيادة الامّة عمر وأبا عبيدة بن الجراح ، وكان ذلك منه التفاتة بارعة ، فقد جرّد نفسه من الأطماع السياسية ، وغزا نفوس الأنصار ، وملك عواطفهم ومشاعرهم ، وقد أجابه عمر بلباقة :

لا يكون هذا وأنت حيّ ، ما كان أحد ليؤخّرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ...

وعلّق بعض المحقّقين على مقالة عمر بقوله : لا نعلم متى أقامه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو دلّل عليه ، وقد كان مع بقيّة المهاجرين جنودا في سرية أسامة ، ولو كان قد رشّحه للخلافة لأقامه معه في يثرب ، وما أخرجه إلى ساحات الجهاد.

__________________

(١) الهاشميات : ٣١ ـ ٣٣.

١١٥

هذه بعض الملاحظات التي تواجه خطاب أبي بكر.

فوز أبي بكر بالحكم :

وكسب الموقف أبو بكر في خطابه السالف الذي أثنى فيه على الأنصار ، فقد منّاهم بالوزارة ، وأزال ما في نفوسهم ما كانوا يحذرونه من استبداد المهاجرين بالحكم ، إلاّ أنّ بعض الأنصار شجب البيعة لأبي بكر ، فردّ عليه عمر بعنف قائلا :

هيهات لا يجتمع اثنان في قرن ، والله! لا ترضى العرب أن يؤمّروكم ونبيّها من غيركم ، ولكن العرب لا تمتنع أن تولّي أمرها من كانت النبوّة فيهم ، وولي امورهم منهم ، ولنا بذلك على من أبى الحجّة الظاهرة والسلطان المبين من ذا ينازعنا سلطان محمّد وامارته ونحن أولياؤه وعشيرته؟ إلاّ مدل بباطل أو متجانف لاثم أو متورّط في هلكة ..

وليس في هذا الكلام شيء جديد سوى أنّ المهاجرين من قريش أولى بالرسول لأنّهم من أسرته القرشية ، وإذا أخذوا الحكم بهذه الحجّة وسيطروا على الموقف بها فإنّ عليّا أولى لأنّه من صميم الاسرة النبوية بالاضافة إلى جهاده وجهوده في سبيل الإسلام ، يقول الأستاد محمّد الكيلاني :

إنّه احتجّ عليهم ـ أي على آل النبيّ ـ بقرابة المهاجرين للرسول ، ومع ذلك فقد كان واجب العدل يقضي بأن تكون الخلافة لعليّ بن أبي طالب ما دامت القرابة اتّخذت سندا بحيازة ميراث الرسول ، لقد كان العبّاس أقرب الناس إلى النبيّ ، وكان أحقّ الناس بالخلافة ، ولكنّه تنازل بحقّه هذا لعليّ ، فمن هنا صار لعليّ الحقّ وحده في هذا المنصب (١).

وعلى أي حال فإنّ عمر لم ينته من كلامه حتى ردّ عليه الحبّاب بقوله :

__________________

(١) أثر التشيّع في الأدب العربيّ : ٥.

١١٦

يا معشر الأنصار ، املكوا عليكم أمركم ، ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر ، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم فاجلوهم عن هذه البلاد ، وتولّوا عليهم هذه الامور ، فأنتم ـ والله! ـ أحقّ بهذا الأمر منهم ؛ فإنّه بأسيافكم ، دان الناس لهذا الدين من دان ممّن لم يكن يدين ، أنا جذيلها المحك ، وعذيقها المرجب ، أنا شبل في عرينة الأسد والله! لو شئتم لنعيدنها جذعة ، والله! لا يرد أحد عليّ ما أقول إلاّ حطّمت أنفه بالسيف .. ».

وحفل هذا الخطاب بالعنف والتهديد ، والدعوة إلى الحرب ، وإجلاء المهاجرين ـ الذين لا يتجاوز عددهم الأصابع ـ عن يثرب ، كما حفل بالاعتزاز بنفس المتكلّم والافتخار بشجاعته ، وردّ عليه عمر بغيظ قائلا :

إذا يقتلك الله ...

فردّ عليه الحبّاب :

بل إيّاك يقتل ..

وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث فهدأ الموقف وبادر أعضاء حزبه بسرعة خاطفة فبايعوه ، وكان أوّل من بايعه عمر وبشير وأسيد بن خضير وعويم بن ساعدة ومعن بن عدي وأبو عبيدة بن الجرّاح وسالم مولى أبي حذيفة ، وكان من أشدّهم حماسا واندفاعا لبيعته عمر وخالد بن الوليد ، واشتدّ هؤلاء في حمل الناس وإرغامهم على مبايعة أبي بكر ، وجعل عمر يجول ويصول ويدفع الناس دفعا إلى البيعة ، ومن أبى علاه بدرته ، وسمع الأنصار يقولون :

قتلتم سعدا ...

فاندفع يقول بعنف :

اقتلوه قتله الله ، فإنّه صاحب فتنة ..

١١٧

وكادوا يقتلون سعدا ، وهو مزمن وجع ، وحمل إلى داره وهو وجع قد انهارت آماله وتبدّدت أحلامه وضاعت أمانيه.

وانتهت البيعة لأبي بكر بهذه السرعة ، فأقبل به حزبه يزفّونه إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زفاف العروس إلى بيت زوجها (١) ، وقد علا منهم التكبير والتهليل ، وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجّى في فراش الموت لم يغيبه عن عيون القوم مثواه ، وقد انشغل الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بتجهيزه ، ولمّا علم بيعة أبي بكر تمثّل بقول القائل :

وأصبح أقوام يقولون ما اشتهوا

ويطغون لما غال زبد غوائل (٢)

وعلى أي حال لقد تمّت البيعة لأبي بكر بهذه الكيفيّة التي اهمل فيها رأي الاسرة النبوية ورأي خيار الصحابة أمثال الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر وأبي ذرّ وسلمان الفارسي وغيرهم من أعلام الإسلام.

هزيمة الأنصار :

وأفل نجم الأنصار وانهارت قواهم ، وعراهم الذلّ والهوان ، وقد حكى حسّان ابن ثابت خيبة آمالهم بقوله :

نصرنا وآوينا النبيّ ولم نخف

صروف الليالي والبلاء على وجل

بذلنا لهم أنصاف مال أكفّنا

كقسمة أبسار الجزور من الفضل

فكان جزاء الفضل منّا عليهم

جهالتهم حمقا وما ذاك بالعدل (٣)

وتعرّضت الأنصار للمحن والخطوب في كثير من عهود الخلفاء والملوك ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٢ : ٨.

(٢) المصدر السابق : ٥.

(٣) المصدر السابق ٦ : ١٠ ـ ١١.

١١٨

وكان ذلك جزاء ما اقترفوه في حقّ العترة الطاهرة ، فهم الذين فتحوا الباب لظلمهم والاعتداء عليهم.

ابتهاج القرشيّين :

وابتهجت الاسر القرشية بحكومة أبي بكر واعتبرته فوزا ساحقا لهم ، وقد عبّر عن مدى فرحها وسرورها أبو عبرة القرشي بقوله :

شكرا لمن هو للثّناء حقيق

ذهب اللجاج وبويع الصدّيق

من بعد ما زلّت بسعد نعله

ورجا رجاء دونه العيّوق

إنّ الخلافة في قريش ما لكم

فيها وربّ محمّد معروق (١)

وحكى هذا الشعر سرور القرشيّين البالغ بحرمان الأنصار من الخلافة ، كما أظهر عمرو بن العاص سروره وفرحه ببيعة أبي بكر ، ولم يكن في يثرب وإنّما كان في سفر له ، فلمّا قدم وسمع بالبيعة قال :

قل لأوس إذا جئتها

وقل إذا ما جئت للخزرج

تمنّيتم الملك في يثرب

فأنزلت القدر لم تنضج (٢)

لقد عمّت الفرحة الكبرى جميع القرشيّين ببيعة أبي بكر ، فقد تخلّصوا من حكومة الأنصار وحكومة الاسرة النبوية.

موقف أبي سفيان :

وأعلن أبو سفيان معارضته لحكومة أبي بكر ، ومضى إلى الإمام عليه‌السلام يحفّزه على فتح باب الحرب على أبي بكر ، ويعده بنصره إن نهض لاسترداد حقّه يقول له :

__________________

(١) الموفّقيات : ٨٠. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٦ : ٨.

(٢) شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٦ : ٨.

١١٩

إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من اموركم. أين المستضعفان؟

أين الأذلاّن عليّ والعبّاس؟ ..

ما بال الأمر في أقلّ حيّ من قريش؟ ثمّ قال للإمام :

ابسط يدك ابايعك ، فو الله! لئن شئت لأملأنّها عليه خيلا ورجالا ، وتمثّل بشعر المتلمّس :

ولن يقيم على خسف يراد به

إلاّ الأذلاّن عير الحيّ والوتد

هذا على الخسف مربوط برمّته

وذا يشجّ فلا يبكي له أحد

وقال أبو سفيان :

وأضحت قريش بعد عزّ ومنعة

خضوعا لتيم لا بضرب القواضب

فيا لهف نفسي للذي ظفرت به

وما زال منها فائزا بالرغائب (١)

ولم يكن موقف أبي سفيان متّسما بالإخلاص والولاء للإمام ، فهو العدوّ الأوّل للإسلام وللمسلمين ، ولم تكن تخفى على الإمام دوافعه ، فلم يستجب له ونهره وأغلظ له في القول قائلا :

« والله! ما أردت بهذا إلاّ الفتنة ، وإنّك والله! طالما بغيت للإسلام شرّا ، لا حاجة لنا في نصيحتك » (٢).

وراح أبو سفيان يشتدّ لإثارة الفتنة بين المسلمين ، ويدعو الإمام إلى إعلان الثورة على حكومة أبي بكر ، وكان ينشد هذه الأبيات :

__________________

(١) الأغاني ٦ : ٣٥٦.

(٢) الكامل في التاريخ ٢ : ٢٢٠.

١٢٠