البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

الترك ، وإقليم في أيدي الصين ، وإقليم في أيدي يأجوج ومأجوج ، لا يدخل هؤلاء أرض هؤلاء ، ولا هؤلاء إلى هؤلاء.

فالإقليم الأول : مبتدأه من أرض المحرقة التي تدعى باليونانيّة ريامياروس ، ومنتهاه أرض سرنديب ، وسكّانه سود ، قباح الوجوه عراة كالسباع ، وأعمارهم طويلة ، ودوابّهم وطيورهم أعظم من عامّة البهائم والطير ، وهناك رقى وعقاقير وأحجار فيها شفاء ومنافع طبيعيّة ، وفيها تنانين وهو امّ ذات سموم ، وطوله خمسة آلاف وخمس مائة فرسخ ، وعرضه مائتان وخمسة وثمانون فرسخا.

والإقليم الثاني : مبتدأه من العرض أرض سرنديب ، ومنتهاه أرض الحبشة ، وهناك معدن الزبرجد والببغاء ، ومنتهاه من قبل شرقيّة أرض السند قريب من كابل وزابلستان. وهناك سباع ضارية ، وحشرات وطير ممتنعة ، وأهلها في القبح دون الإقليم الأوّل. وفيها أيضا رقى وعقاقير ، وأهلها أقصر أعمارا من الأوّل ، وطوله طول الأوّل.

والإقليم الثالث : مبتدأه عرض أرض الصّغد وجرجان ، حتى ينتهي إلى أرض الترك وحدّ الصين إلى أقصى المشرق ، ومن غربيّة نحو مصر ، ومن شرقيّة السند وعدن ، ومنتهى عرضه أرض الشام وفارس وإصبهان. وهناك ناس حكماء. وعرضه وطوله مثل الأوّل.

والإقليم الرابع : بابل ، متوسّط الأقاليم ، وهو أفضلها مزاجا. ومبتدأه من إفريقية إلى بلخ إلى مشرق الأرض ، وعرضه وطوله كالأوّل.

والإقليم الخامس : قسطنطينيّة والروم والخزر ، وعرضه وطوله كالأوّل.

والإقليم السادس : فرنجة وأمم أخرى ، وفيه نساء من عادتهن قطع ثديهنّ وكيّه في صغرهنّ لئلا يعظم. وعرضه وطوله كالأوّل.

والإقليم السابع : الترك ، ورجالهم ونساؤهم مترّكو الوجوه لغلبة البرد عليهم ، وسباعهم صغيرة الأجساد ، ولا يوجد هناك حشرات ولا هوامّ. ويسكنون الظلال يتّخذونها من الألواح ، ينقلونها على عجل ، تجرّها الثيران ، وأنعامهم في

٦١

الفيافي وفي أولادهم قلّة. فمبلغ الأقاليم السبعة على مساحة الإقليم الأوّل ثمانية وثلاثون ألف فرسخ وخمس مائة فرسخ ، وعرضها ألف وتسع مائة وخمسة وتسعون فرسخا.

وقسمت الأرض المعمورة أربعة أقسام :

أروفى (١) ، وفيه : الأندلس والصّقالبة والروم وفرنجة.

وطنجة إلى حدّ مصر ولوبية وفيها : مصر وقلزم والحبشة وبربر وما والاها.

والبحر الجنوبيّ ، وليس في هذه البلاد خنزير برّيّ ولا أيّل ولا عير ولا تيس ، وفيها تهامة واليمن والسند والهند.

وأسقوتيا وفيها : أرمينية وخراسان والترك والخزر. وزعم هرمس أن طول كلّ إقليم سبع مائة فرسخ في مثله.

__________________

(١) ما نسميه اليوم : أوربا.

٦٢

القول في البحار وإحاطتها بالأرض

قال : البحار أربعة :

البحر الكبير ، الذي ليس في العالم بحر أكبر منه. وهو أخذ من المغرب إلى القلزم حتى يبلغ واق واق الصين ، وواق واق الصين هو بخلاف واق واق اليمن ، لأن واق واق اليمن يخرج منه ذهب سوء. وهذا البحر يمدّ من القلزم على وادي القرى حتى يبلغ بربر وعمان ، ويمرّ إلى الدّيبل والمولتان حتى يبلغ جبل الصّنف إلى الصين (١).

ثم البحر المغربي الدبوريّ الروميّ ، وهو من أنطاكية إلى جزائر السعادة ، وخليج منه آخذ من الأندلس حتى يبلغ السوس الأقصى ، وعلى ساحل هذا البحر طرسوس والمصّيصة والإسكندريّة وأطرابلس. وطول هذا البحر ألفان وخمس مائة فرسخ ، من أنطاكية إلى جزائر السعادة. وعرضه خمس مائة فرسخ.

والبحر الثالث الخراسانيّ الخزريّ ، لقرب الخزر منه ، إلى موقان إلى طبرستان وخوارزم وباب الأبواب ، ومن بحر جرجان إلى خليج الخزر عشرة أيّام ،

__________________

(١) يبدو أن سبط ابن الجوزي قد نقل ما يتعلق بهذا البحر عن النسخة الكاملة من الكتاب فقال في مرآة الزمان ، السفر الأول ٩٨ تحت عنوان (البحر الشرقي).

(ذكر أحمد بن محمد بن إسحاق في كتاب البلدان وقال : ليس في العالم أكبر من هذا البحر ـ يعني غير البحر المحيط ـ قال : فإنه يأخذ من المغرب وينتهي إلى الصين ، فيمر على النوبة والحبشة ثم على القلزم ثم إلى وادي القرى وجدة وزبيد وعدن والشحر وحضر موت وعمان والديبل وفارس إلى المشرق وجميع بلاد السند والهند عليه. صيفهم شتاؤنا وشتاؤنا صيفهم ، فكانوا وكان شباط عندهم مثل حزيران وتموز وآب عندنا. وعللوا ذلك بقرب الشمس من الأقاليم وبعدها. وقال : وذكر من لا خبرة له به أن عمق الماء فيه في مواضع باع أو أكثر).

٦٣

فإذا طابت. لهم الريح فثمانية أيّام في البحر ، ويومان في البرّ ، ويسمّى هذا البحر الدّوّارة الخراسانيّة ، وقطرها مائة فرسخ ، والذي يطيف بها ألف وخمس مائة فرسخ.

والرابع ، ما بين رومية وخوارزم جزيرة تسمّى تولية ، ولم يوضع عليها سفينة قطّ. وملك العرب في يديه ألف مدينة في زماننا هذا ، وفي يدي ملك النوبة ألف مدينة ، وفي يدي ملك الصين أربع مائة مدينة ، وستّمائة مدينة من الصين في أيدي ملوك صغار.

قال : وأعلم أن بحر فارس والهند هما بحر واحد لاتّصال أحدهما بالآخر ، إلّا أنهما متضادّان. قال : فأوّل ما تبتدئ صعوبة بحر فارس عند دخول الشمس السنبلة وقربها من الاستواء الخريفيّ ، فلا يزال يكثر أمواجه ويتقاذف مياهه ويصعب ظهره ، إلى أن تصير الشمس إلى الحوت. وأشدّ ما تكون صعوبته في آخر زمان الخريف ، عند كون الشمس في القوس. وإذا كانت قرب الاستواء الربيعيّ ، يبتدئ في قلّة الأمواج ولين الظهر ، إلى أن تعود الشمس في السنبلة ، وألين ما يكون في آخر زمان الربيع ، وهو عند كون الشمس في الجوزاء. فأما بحر الهند فإنه خلافه ، لأنه عند كون الشمس في الحوت وقربها من الاستواء الربيعيّ ، يبتدئ في الظلمة والغلظ ، وتكثر أمواجه ، حتى لا يركبه أحد لظلمته وصعوبته عند كون الشمس في الجوزاء. فإذا صارت في السنبلة أضاء ظلمته ، ويسهل مركبه ، إلى أن تصير الشمس في الحوت ، إلّا أن بحر فارس ، قد يركب في كلّ أوقات السنة. فأما بحر الهند ، فلا يركبه الناس عند هيجانه لظلمته وصعوبته. قال : فمن أراد الصين ، أو عدن ، أو شلاهط ، أخذ من ناحية المغرب على اليمامة وعمان. ومن أراد السند أخذ من ناحية فارس على سيراف.

٦٤

القول في البحار وعجائب ما فيها

قال الله عزّ وجلّ : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) يروى عن الحسن قال : بحر فارس والروم. وقال سليمان بن أبي كريمة (١) : إذا طلعت الثّريّا ارتجّ البحر واختلفت الرياح ، وسلّط الله الجنّ على المياه ، وتبرّأ الله ممن يركب البحر أربعين يوما. وقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم): «من ركب البحر بعد طلوع الثريّا ، فقد برئت منه الذمّة». وسئل ابن عبّاس عن المدّ والجزر فقال : إن ملكا موكّل بقاموس البحر (٢) ، إذا وضع رجله فيها فاضت ، وإذا رفعها غاضت. قال كعب : ولقي الخضر ملكا من الملائكة فسأله عن المدّ والجزر فقال الملك : إن الحوت يتنفّس فيشرب الماء ويرفعه إلى منخريه فذلك الجزر ، ثم يتنفّس فيخرجه من منخريه فذلك المدّ. قال : وفي البحر سمكة يقال لها الخراطيم مثل الحيّة لها منقار كمنقار الكركيّ ، وفي منقارها من الشقّين كالمنشار. وفيه سمكة يقال لها الأطمر لها فرج كفرج المرأة ، ووجهها كوجه الخنزير ، وهو طبق من شحم وطبق من لحم. وفي البحر سمك على خلقة القرود من جلوده تكون الدرق التي تنبو عنها السيوف ، ويقال إنها تحيض وترضع وكذلك السلاحف. وفيه سمك يسمّى الدّخس ينجي الغريق. وفيه سمك إذا هاج البحر خرج من قعر البحر ، فيعلم البحريّون أن البحر قد هاج ، يسمّى البرستوج ، وهو الذي يكون بالبصرة.

ويلي هذا البحر بحر يسمّى هركند ، يقال إنه قاموس البحار كلّها ، وفي هذا البحر جزيرة سرنديب ، وفي هذه الجزيرة الجبل الذي أهبط عليه آدم ، وعليه أثر

__________________

(١) قال ياقوت في معجم البلدان انه من دمياط ولقبه بالبيروتي (١ : ٦٠٦).

(٢) في أساس البلاغة قاموس البحر : قعره الأقصى.

٦٥

قدم آدم ، وهو عظيم طويل ، وعليه أنواع الأفاوية والطيب وفأر المسك ، وفي بحره مغاص اللؤلؤ. وفي هذه الجزيرة ثلاثة ملوك ، فالملك الأكبر منهم إذا مات قطع بأربع قطع وأحرق بالنار ، ورجاله يتهافتون خلفه في النار حتى يحرقوا أنفسهم. وبعدها جزيرة الرامني وهي ثمان مائة فرسخ ، وفيها عجائب كثيرة ، وهي تشرع إلى بحر شلاهط والهركند ، وفيها ملوك كثيرة ، وبها الكركدن والكافور ، وفيها معادن الذهب ، وطعامهم النارجيل ، ورجالهم أقوياء يصيدون الفيلة ، وفيها بقمّ كثير يغرس غرسا ، وحمله شبه الخرنوب ، وطعمه مثل العلقم لا يؤكل. ويقال. إن عروقه شفاء من سمّ ساعة ، وفيها الخيزران الكثير وجواميس عظيمة ، وملوك لهم الأفاوية الطيّبة كالصّندلين والبسباسة ، وليس هذا لأحد غيرهم. وبالزابج ببغات بيض وحمر وصفر ، تتكلّم على ما لقّنت بكلام فصيح ، عربيّة وفارسيّة وروميّة وهنديّة. ومن الطواويس خضر ورقط وبزاة بيض لها قنازع حمر ، وإن بها قردة بيضا عظاما كأمثال الجواميس ، وبها خلق على صورة الإنسان يتكلّم بكلام لا يفهم يأكل ويشرب. وبها من السنانير ألوان ولها أجنحة كأجنحة الخفّاش من أصل الأذن إلى الذنب. وأن فأر المسك تحمل أحياء من السند إلى الزابج ، وأن الزباد أطيب رائحة من المسك ، والأنثى تجلب مسكا ، وإذا مشى في بيت نفحت منه رائحة المسك ، وإذا لمسته بيدك عبق بيدك (١). وذكر سليمان التاجر : أن أكثر السفن الصينيّة تحمل من البصرة وعمان ، وتعبأ بسيراف ، وذلك لكثرة الأمواج في هذا البحر وقلّة الماء في مواضع منه ، فإذا عبّى المتاع استعذبوا الماء إلى موضع منها

__________________

(١) نقل القزويني نصا شبيها بهذا في آثار البلاد ص ٣٠ نورده بنصه :

«بهذه الجزيرة ـ الزابج ـ قوم على صورة البشر ، إلّا أن أخلاقهم بالسباع أشبه ، يتكلم بكلام لا يفهم ، ويطفر من شجرة إلى شجرة ، وبها صنف من السنانير لها أجنحة كأجنحة الخفافيش من الأذن إلى الذنب. وبها وعول كالبقر الجبلية ، ألوانها حمر منقطة ببياض ، وأذنابها كأذناب الظباء ولحومها حامضة. وبها دابة الزباد وهي شبيهة بالهر يجلب منها الزباد ، وبها فارة المسك. وبها جبل النصبان ، وهو جبل فيه حيّات عظام تبلع البقر والجاموس ومنها ما يبلغ الفيل. وبها قردة بيض كأمثال الجواميس والكباش ، وبها صنف آخر بيض الصدر سود الظهر».

٦٦

يقال له مسقط ، وهو آخر عمان ، وبين سيراف وهذا الموضع نحو مائتي فرسخ. وفي شرقيّ هذا البحر فيما بين سيراف ومسقط من البلاد سيف بني الصفّاق وجزيرة ابن كاوان. وفي غربيّ هذا البحر جبال عمان ، وفيها الموضع الذي يسمّى دردور وهو مضيق بين جبلين ، تسلكه السفن الصغار ولا تسلك فيه الصينيّة ، وفيه جبلا كسير وعوير ، فإذا جاوزت الجبال صرت إلى موضع يقال له صحار عمان ، فيستعذب الماء من مسقط من بئر بها وهناك جبل فيه رعاء غنم من بلاد عمان فتختطف (١) السفينة منها إلى بلاد الهند ، وتقصد إلى كولو ملي ، وفيها مسلحة لبلاد الهند وبها ماء عذب ، فإذا استعذبوا من هناك الماء أخذوا من المركب الصينيّ ألف درهم ومن غيرها عشرة دنانير إلى العشرين الدينار ، وملي من بلاد الهند. وبين مسقط وبين كولو ملي مسيرة شهر ، وبين كولو ملي وبين الهركند نحو من شهر. ثم يختطف من كولو ملي إلى بحر الهركند ، فإذا جاوزوه ، صاروا إلى موضع يقال له كله بار بينه وبين هركند جزائر قوم يقال لهم لنج (٢) ، لا يعرفون لغة ، ولا يلبسون الثياب كواسج ، لم ير منهم امرأة ، يبيعون العنبر بقطع الحديد ، ويخرجون إلى التجّار من الجزيرة في زواريق ومعهم النارجيل ، وشراب النارجيل يكون أبيض ، فإذا شرب منه فهو حلو كالعسل ، فإذا ترك يوما صار مسكرا ، فإن بقي أيّاما حمض فيبيعونه بالحديد ، ويتبايعون بالإشارة يدا بيد ، وهم حذّاق بالسباحة ، فربّما استلبوا الحديد من التجّار ولا يعطونهم شيئا ، ثم تخطف السفينة إلى موضع يقال له كله بار ، وهي من مملكة الزابج متيامنة عن بلاد الهند ، يجمعهم ملك ولباسهم الفوط ، ثم يتخطف إلى موضع يقال له تيومة ، بها ماء عذب والمسافة إليها عشرة أيّام ، ثم إلى موضع يقال له كدرنج (٣) مسيرة عشرة أيّام بها ماء عذب ، وكذلك في سائر جزائر الهند إن احتفر فيها الآبار وجد فيها الماء

__________________

(١) أخبار الصين والهند لسليمان التاجر ٢٢ (خطفوا ـ وهذه لفظة يستعملها أهل البحر ، يعني يقلعون).

(٢) لدى سليمان ٢٣ (لنجبالوس).

(٣) سليمان ٢٤ (كندرنج).

٦٧

العذب ، وبها جبل مشرف. ثم يخطف إلى موضع يقال له الصّنف ، ثم إلى موضع يقال له صندرفولات (١) ، وهي جزيرة في البحر ، والمسيرة إليها عشرة أيّام ، ثم إلى موضع يقال له صنج إلى أبواب الصين ، وهي جبال في البحر ، بين كلّ جبلين فرجة تمرّ فيها السفن ، ثم إلى الصين. ومن صندرفولات إلى الصين مسافة شهر ، إلّا أن الجبال التي تمرّ بها السفن مسيرة سبعة أيّام ، فإذا جاوزت الأبواب صرت إلى ماء عذب يقال له خانفو ، يكون فيه مدّ وجزر في اليوم والليلة مرّتين (٢).

وبقرب الصين في موضع يقال له صنجي وهو أخبث البحار. [كثير الموج والخب وفيه جبال كثيرة لا بدّ للمراكب من النفوذ بينها. وذلك أن البحر إذا عظم خبه وكثر موجه ظهر أشخاص] (٣) شبيهون بصبيان الزنج طول أحدهم أربعة أشبار ، يخرجون بالليل من الماء فيبيتون في السفينة ويدورون فيها ، ولا يؤذون أحدا ، ثم يعودون إلى البحر ، فإذا رأوا ذلك كان علامة الريح التي تسمّى الخبّ ، وهي أخبث الرياح ، فيستعدّون لتلك الريح ويخفّفون المتاع. وقالوا : إذا رأوا أعلى دقل السفينة بهذا الموضع طائرا كأنه شعلة نار ، فذلك عندهم من دلالة التخلّص ، وإن في البحر طيرا يقال له جرشي ، يكون قريبا من الساحل أعظم من الحمام ، يتبعه طير يقال له جوانكرك ، يشبه الحمام. فإذا ذرق الجرشي تلقّاه الجوانكرك بمنقاره فابتلعه. وأن بقرب الزابج جبلا يسمّى جبل النار لا يقدر على الدنوّ منه ، يظهر بالنهار منه دخان ، وبالليل لهب النار ، يخرج من أسفله عين باردة عذبة وعين حارّة عذبة.

__________________

(١) سليمان ٢٤ (صنف فولاو).

(٢) إلى هنا يتوقف عن النقل من سليمان التاجر ثم يبدأ في نقل المقطع المتعلق ب (صنجي) من مصدر نقل عنه المسعودي في المروج ١ : ١٧٥.

(٣) ما بين العضادتين نقلناه عن المسعودي ليكمل معنى النص كما عدّلنا كلمة (شبيها) الموجودة في الأصل لتصبح (شبيهين) وتتسق مع المعنى العام. علما بأن بقية الكلام موجود في المسعودي لغاية : تلقاه الجوانكرك بمنقاره فابتلعه. وما جاء بعدها وهو ما يتعلق بالجبل القريب من زابج فهو منقول عن سليمان التاجر ٢٥.

٦٨

جزيرة برطاييل : جزيرة قريبة من جزائر الزابج ، سكانها قوم وجوههم كالمجان المطرقة وشعورهم كأذناب البراذين وبها الكركدن ، وبها جبال يسمع فيها بالليل صوت الطبل والدف والصياح المزعجة ، والبحريون يقولون إن الدجال فيها ومنها يخرج.

وبها القرنفل ومنها يجلب ، وذلك أن التجار ينزلون عليها ويضعون بضائعهم وأمتعتهم على الساحل ويعودون إلى مراكبهم ويلبثون فيها. فإذا أصبحوا ذهبوا إلى أمتعتهم فيجدون إلى جانب كل شيء من البضاعة شيئاً من القرنفل فإن رضيه أخذه وترك البضاعة. وإن أخذوا البضاعة والقرنفل لم تقدر مراكبهم على السير حتى يردّوا أحدهما إلى مكانه. وإن طلب أحدهم الزيادة فترك البضاعة والقرنفل فيزاد له فيه.

وحكى بعض التجار أنه صعد هذه الجزيرة فرأى فيها قوما مردا وجوههم كوجوه الأتراك وآذانهم مخرمة ولهم شعور ، هم على زي النساء ، فغابوا عن بصره. ثم إن التجار بعد ذلك أقاموا يترددون إليها ويتركون البضائع على الساحل فلم يخرج إليهم شيء من القرنفل ، فعلموا أن ذلك بسبب نظرهم إليهم ، ثم عادوا بعد سنين إلى ما كانوا عليه.

ولباس هؤلاء القوم ورق شجر يقال له اللوف يأكلون ثمرتها ويلبسون ورقها. ويأكلون حيوانا يشبه السرطان ، وهذا الحيوان إذا خرج إلى البر صار حجرا صلدا. وهو مشهور يدخل في الأكحال ، ويأكلون السمك والموز والنارجيل والقرنفل ، وهذا القرنفل من أكله رطبا لا يهرم ولا يشيب شعره] (١).

الصين

[أهل الصين يقولون بالتناسخ ويعملون بالنجوم ولهم كتب يشتغلون بها ، والزنا عندهم مباح ولهم غلمان وقفوهم للواطة. كما أن الهند وقفوا الجواري على

__________________

(١) نقل هذا النص القزويني عن ابن الفقيه ، في آثار البلاد ص ٨١.

٦٩

البد (١) للزنا وذلك عند سفلتهم لا عند أهل التمييز.

والملك وكلّ بالصناع ليرفع إلى الملك جميع المعمول ، فما أراد من ذلك اشتراه لخزانته وإلّا يباع في السوق ، وما فيه عيب يمزّقه.

وحكي أنه ارتفع ثوب إلى الملك فاستحسنه المشايخ كلهم إلّا واحدا ، فسئل عن عيبه فقال : إن هذا الثوب عليه صورة الطاووس وقد حمل قنو موز ، والطاووس لا يقدر على حمل قنو الموز ، فلو بعث الملك هذا الثوب هدية إلى بعض الملوك يقولون : أهل الصين ما يعرفون أن الطاووس لا يقدر على حمل قنو الموز.

وبالصين دابة المسك ، وهي دابة تخرج من الماء في كل سنة في وقت معلوم فيصطاد منها شيء كثير وهي شديدة الشبه بالظباء ، فتذبح ويؤخذ الدم من سرّتها وهو المسك ولا رائحة له هناك حتى يحمل إلى غيرها من الأماكن.

وبها الغضائر الصيني التي لها خواص وهي بيضاء اللون شفافة لا يصل إلى بلادنا منها شيء ، والذي يباع في بلادنا على أنه صيني معمول بلاد الهند بمدينة يقال لها كولم. والصيني أصلب منه وأصبر على النار.

وخزف الصين أبيض ، قالوا : يترشح السم منه وخزف كولم أدكن.

وطرائف الصين كثيرة : الفرند الفائق والحديد المصنوع الذي يقال له طاليقون يشترى بأضعافه فضة ، ومناديل الغمر من جلد السمندل ، والطواويس العجيبة ، والبراذين الفرّة التي لا نظير لها في البلاد] (٢).

الفرق ما بين بلاد الصين وبلاد الهند

قالوا : ليس بالصين متاع أسرى ولا أحسن ممّا يحمله التجّار إلى العراق ، فأما ما يبقى هناك فرديّ لا حسن له. ولباس أهل الصين كلّهم الحرير في الشتاء ،

__________________

(١) البد ، هو الصنم. وهو بالفارسية : بت.

(٢) عن القزويني ص ٤٦ ، ٥٥.

٧٠

والصيف. يلبس الرجل منهم خمس سراويلات حرير لندوة أسفلهم. فأما هواؤهم ، فحارّ ، ولا يعرفون العمائم ، وطعامهم الأرزّ ، وملوكهم يأكلون خبز الحنطة واللحم ، وليس فيهم كثير نخل ، ويعمل نبيذهم ، من الأرزّ ، ولا يستنجون بالماء ، ويأكلون الميتة ، ونساؤهم يكشفن رؤوسهن ، ويجعلن فيها الأمشاط. فربّما كان في رأس واحدة منهن عشرون مشطا من عاج ، والرجال يغطّون رؤوسهم بشبه القلانس ، وأهل الصين يلوطون بغلمان قد أقيموا لذلك بمنزلة الزواني للهند. وحيطان أهل الصين الخشب ، وأكثرهم لا لحى لهم ، حتى كأنهم لم تخلق لهم لحى. وأهل الصين يعبدون الأوثان ، ولهم كتب لأديانهم.

والهند لا يأكلون الحنطة ، إنما يأكلون الأرزّ فقط ، وتطول لحاهم حتى ربّما رأيت لأحدهم لحية ثلاثة أذرع ، وإذا مات أحدهم حلق رأسه ولحيته ، وهم يتلازمون بالحقوق ، ويمنعون في الملازمة الطعام والشراب سبعة أيّام ، وأهل الهند يقتلون ما أرادوا أكله ولا يذبحونه ، يضربون هامته حتى يموت ، ثم يأكلونه ، ولا يغتسلون من جنابة ، ولا يأتون النساء في محيض ، وأهل الصين يأتون لأن آئينهم آئين المجوس. وأهل الهند لا يأكلون حتى يستاكوا ويغتسلوا ، ولا يفعل ذلك أهل الصين ، وبلاد الهند أوسع من بلاد الصين أضعافا ، وبلاد الصين أعمر وليس لهم عنب ، وليس بالبلدين جميعا نخل ، وللهند السحر وهم جميعا يقولون بالتناسخ ، ويختلفون في فروع دينهم ، وأهل الهند أطبّاء حكماء منجّمون ، ولهم خيل قليلة ، وملوكهم لا يرزقون جندهم ، إنما يدعوهم الملوك إلى الجهاد فيخرجون بنفقات أنفسهم. والهند لا مدائن لهم ، ويلبسون القرطين ويتحلّون بأسورة الذهب الرجال والنساء ، والهند تبيح الزنا ما خلا ملك قمار ، فإنه يحرّم الزنا والشراب [وملكها يعاقبهم على شرب الخمر ، فيحمي الحديدة بالنار وتوضع على بدن الشارب ولا تترك إلى أن تبرد. فربما يفضي إلى التلف. وينسب إليها العود القماري] (١). وبلاد الصين أنزه وأحسن ، ومدنهم عظيمة مشرفة محصنة مسوّرة ، وبلادهم أصحّ وأقلّ أمراضا ، وأطيب ، لا تكاد ترى بها أعور ولا أعمى ولا ذا عاهة ، ولهم عطاء

__________________

(١) عن القزويني ص ١٠٥.

٧١

كديوان العرب (١). ويقال إن بين الهند والصين ثلاثين ملكا ، أصغر ملك بها يملك ما يملكه ملك العرب ، وملوك الهند كلّهم يلبسون الحلي. وفي بلاد الهند مملكة يقال لها رهمى على ساحل البحر ، وملكتهم امرأة وبلادها وبيّة ، ومن دخل إليها من سائر الهند مات ، فالتجّار يدخلونها لكثرة أرباحها ، ثم تصير إلى بلاد الزابج ، فلملك الكبير يقال له المهراج ، تفسيره ملك الملوك ، وليس بعده أحد ، لأنه في آخر الجزائر ، وهو ملك كثير الخير ، وفيها غيضة فيها ورد ، إذا أخرج من الغيضة احترق.

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : فيما بين السند والهند أرض يقال لها كنام فيها بطّة من نحاس على عمود من نحاس ، فإذا كان يوم عاشوراء نشرت البطّة جناحها ، ومدّت منقارها ، فيفيض من الماء ما يكفي زروعهم ومواشيهم وضياعهم إلى العام المقبل. وقمار من بلاد الهند ، وأهل الهند تزعم أن أصل كتب الهند من قمار ، وملكه مسيرة أربعة أشهر ، وعبادتهم الأصنام كلّهم. وملك قمار يفترش أربعة آلاف جارية والعنبر يؤتى به من جزيرة شلاهط ، والفلفل من ملي وسندان ، والبقّم من ناحية الجنوب من شلاهط ، والقرنفل والصندل والكافور وجوزبوا من الزابج ، وهو من ناحية القبلة بقرب الصين من بلد يقال له فنصور ، وماء الكافور والنيل من ناحية السند ، والخيزران من بلد يقال له لنكبالوس وكله من ناحية خراسان ، والقنى من عمان ، والياقوت والألماس من سرنديب ، وكذلك الكركدن والطاوس والببغاء والدجاج السنديّ وجميع أنواع العطر والصّيدلة.

قالوا : ومبدأ بحر الصين من جبل قاف إلى أن يجيء إلى عبّادان والبصرة ، وأول البحار التي تسلك إلى بلاد الصين بحر صنجى ، وأوّل جبل فيه يدعى صندرفولات ، وفيه حيّات ربّما ابتلعت البقر والرجل ، فهو أشدّ البحار كلّها ، وهو قليل المسافة ، وعلى الجبل من الصيّادين خلق لهم شباك يكون في قعر البحر ، فأهل المركب إذا رأوا بلاد الصين سألوا الصيّادين عن الريح فيخبرونهم بهيجان

__________________

(١) كل ما مرّ أعلاه نقله ابن الفقيه عن سليمان التاجر.

٧٢

البحر وسكونه ، لأنه بحر إذا هاج فيه الريح فقليل من يسلم ، وإنما يقطع في عشر أو ثمان إلى بلاد الصين إلى الأبواب ، خاصّة أبواب الصين ، وذلك البحر بحر كبير وفيه ملك يدعى المهراج ، عظيم الملك في جزائره عجائب ، وأنواع العطر ، وينبت في بلاده الذهب نباتا ، ويقال غلّته في كل يوم مائتا منا ذهب.

[أتى رجل من الهند هذا الصنم وقد اتخذ لرأسه تاجا من القطن ملطخا بالقطران ولأصابعه كذلك وأشعل النار فيها ، ووقف بين يدي الصنم حتى احترق] (١).

__________________

(١) عن القزويني في آثار البلاد ص ١٢٢ وكان يتحدث عن صنم عظيم بالهند فنقل هذا النص عن ابن الفقيه.

٧٣

القول في مكة

قال ، عبد الله بن عمرو بن العاص : سمّيت بكّة لأنها كانت تبكّ أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم ـ أي تدقّ ـ وقال إبراهيم بن أبي المهاجر : بكّة موضع البيت ، ومكّة موضع القرية. وسمّيت بذلك لاجتذابها الناس من الآفاق. وقالوا : سمّيت بكّة لأن الأقدام تبكّ بعضها بعضها ـ أي تزدحم ـ وسمّي البيت العتيق لأنه أعتق من الجبابرة. وهي أمّ القرى ، وأمّ الرّحم ، لأن الرّحمة تنزل بها. ومن أسمائها : صلاح ، وناسّة لقلّة الماء بها ، وبنيّة الأمين.

قال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : «ما من نبيّ هرب من قومه إلّا هرب إلى الكعبة يعبد الله فيها حتى يموت» وقال (عليه السلام) : «إن قبر هود وشعيب وصالح فيما بين زمزم والمقام ، وإن في الكعبة قبر ثلاثمائة نبيّ ، وما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود قبر سبعين نبيّاً» وقال (صلى الله عليه وسلم) : «من مات في حجّ أو. عمرة لم يعرض ولم يحاسب ، وقيل له : أدخل الجنّة بغير حساب». وقال (صلى الله عليه وسلم) : «من صلّى في الحرم صلاة واحدة كتب الله له ألف صلاة وخمس مائة صلاة». وقال (صلى الله عليه وسلم) : «المقام بمكّة سعادة والخروج منها شقاوة». وقال (صلى الله عليه وسلم) : «الحاجّ والعمّار وفد الله إن سألوا أعطوا ، وإن دعوا أجيبوا ، وإن أنفقوا أخلف عليهم لكلّ درهم ألف درهم». وقال (صلى الله عليه وسلم) : «من صبر على حرّ مكّة تباعد منه جهنّم مسيرة مائة عام وتقرّبت منه الجنّة مسيرة مائتي عام». وقال الكلبيّ : لمّا قال إبراهيم : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) ... (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) الآية استجاب الله له فأمن فيه الخائف ورزق أهله من الثمرات ، يجلب إليهم من الآفاق ، وقيل قرية من قرى الشام ، فيقال إنها الطائف وقال مقاتل : من نزل بمكّة والمدينة من غير أهلهما محتسبا حتى يموت دخل في

٧٤

شفاعة محمّد (صلى الله عليه وسلم) قال الله جلّ ذكره : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) ولم يقل مثابة للعرب دون العجم ، إذ كان اسم الناس شاملاً للفريقين ، فقد جعله الله مثابة للجميع ، والدليل على ذلك قول الله عزّ وجلّ : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ) الآية فمن شرف مكّة أمنه ، ومقام إبراهيم فيه ، وحجّ الأنبياء إليه ، وأن أهلها في الجاهليّة كانت لقاحا لم يؤدّوا أتاوة قطّ ، ولا ملكهم ملك ، وكانوا يتزوّجون في أيّ القبائل شاءوا ، ولا يشترط عليهم في ذلك ولا يزوّجون أحدا إلا بعد أن يشترطوا عليهم أن يكونوا حمسا على دينهم ويدان لهم وينتقل إليهم ، فحمّسوا خزاعة ودانت لهم ، وحمّسوا عامر بن صعصعة ودانت لهم ، وحمّسوا ثقيفا ودانت لهم ، سوى من حمّسوا من عدد الرجال ، ثم فرضوا على العرب قاطبة أن يطرحوا أزواد الحلّ إذا دخلوا الحرم ، وأن يخلعوا ثياب الحلّ ، ويستبدلوا ثياب الحرم إمّا شرى أو عاريّة أو هبة ، فإن أتى بذلك وإلا طاف بالبيت عريانا ، وفرضوا على نساء العرب مثل ذلك ، وكلّفوا العرب أن تفيض من المزدلفة ، وهم بعد أعزّ العرب يتأمّرون على العرب قاطبة ، وهم أصحاب الهريس والحرير والثريد والضيافة والأندية والفالوذج ، وأول من ثرد الثريد منهم عمرو وهو هاشم بن عبد مناف وفيه يقول الشاعر(١) :

عمرو العلى هشم الثريد لقومه

ورجال مكّة مسنتون عجاف

ولهذا سمّي هاشما.

ذكر البيت الحرام وما جاء فيه

قال الله تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) ، عن وهب بن منبّه أنه قال : إن الله جلّ وعزّ لمّا أهبط آدم (عليه السلام) من الجنّة إلى الأرض حزن واشتدّ بكاؤه على الجنّة ، فحباه الله بخيمة من خيام الجنّة ، فوضعها له بمكّة في موضع الكعبة ، قبل أن تكون الكعبة وكانت من ياقوتة حمراء ، فيها قناديل من ذهب ، وأنزل معها الركن ، وهو يومئذ ياقوتة بيضاء ، وكان كرسياً لآدم (عليه

__________________

(١) هو ابن الزبعرى السهمي (أخبار مكة ١ : ١١١).

٧٥

السلام) وطول الحديث ، قال : فمن فضائل البيت الحرام أنه لم يره أحد ممّن لم يكن رآه إلّا ضحك أو بكى ، ومن فضائله أنه لا يسقط على ظهر الكعبة من الحمام إلا العليل منها ، فإذا وقع عليه بريء ، وتقبل الفرقة من الطير والحمام وغير ذلك حتى إذا تحاذت الكعبة افترقت فرقتين ، ومالت عن ظهرها ، ولم يطر على ظهرها طير قطّ ومن عجائب البيت والمسجد : كثرة الحمام بها ، ولم يروا على طول الدهر ذرقة حمام ولا طير في المسجد ولا الكعبة ومن عجائبه : أمن الطير والوحوش والسباع بها ، ودفع الله عنها شرّ الحبشة والفيلة ، وحجّه النعمان بن المنذر وزاره وهو ملك نصرانيّ ، فجلس في سفح أجياد فبال عليه خالد بن ثوّالة الكنانيّ فما كان عنده نكير لأهل مكّة. وماء زمزم دواء لكلّ مبتلى. وقال (صلى الله عليه وسلم) : «التضلّع من ماء زمزم براءة من النفاق». [وكان ذرع زمزم من أعلاها إلى أسفلها ستين ذراعا] (١)

وقال مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) قال : لو قال : واجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لازدحمت عليه فارس والروم. قال قتادة : بنيت الكعبة من خمسة أجبل : طور سينا وطور زيتا ، وأحد ، ولبنان ، وحراء ، وثبير. وقال مجاهد : أسّس إبراهيم زوايا البيت بأربعة أحجار : حجر من حراء ، وحجر من ثبير ، وحجر من الطور ، وحجر من الجوديّ. قال قتادة : فبنى إبراهيم البيت وجعل طوله في السماء سبعة أذرع ، وعرضه اثنين وثلاثين ذراعا بين الركن الأسود إلى الركن الشامي الذي عنده الحجر من وجهه ، وجعل عرض ما بين الركن الشامي إلى الركن الغربي الذي فيه الحجر اثنين وعشرين ذراعا ، وجعل طول ظهرها من الركن الغربي إلى الركن اليماني أحد وثلاثين ذراعا ، وجعل عرض شقّها اليماني من الركن الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعا ، وجعل بابها في الأرض مبوّب حتى كان زمن تبّع الحميري ، فهو الذي بوّبها وكساها الوصائل ثياب حبرة ونحر عندها ، ثم كساها النبيّ (عليه السلام) الثياب اليمانية ، ثم كساها عثمان

__________________

(١) ما بين عضادتين زيادة من ياقوت (زمزم) ولا ندري هل يقف في نقله عن ابن الفقيه عند هذا الحدّ أم أن ما بعده لابن الفقيه أيضا. فهو لم يذكر أين انتهى نقله. وفي آثار البلاد ص ١٢٠ نقل عن ابن الفقيه ان ذرع زمزم أربعون ذراعا.

٧٦

القباطيّ ، ثم كساها الحجّاج الديباج. قال : ومعاوية أول من طيّب الكعبة بالخلوق والمجمر ، وأجرى الزيت لقناديل المسجد من بيت مال المسلمين ، وبناه ابن الزّبير بعد ما بويع له بالخلافة ، فلمّا قتل نقض الحجّاج بناءه وبناه على الأساس الأوّل ، ثم وسّع المنصور مسجد الكعبة سنة ولي الخلافة ، ثم زاد فيه المهديّ.

قال : فطول البيت اليوم سبعة وعشرون ذراعاً ، وعرضه في الحجر أحد وعشرون ذراعا ، وذرع جوفها ما بين الركن الأسود إلى الركن اليماني بطن الكعبة خمسة عشر ذراعا وشبر ، وما بين ركني الحجر ثمانية عشر ذراعا ، وما بين الباب إلى الشاذروان خمسة أذرع ، وعرض بابها أربعة أذرع وفيها ثلاث سوار اثنان منها صنوبر والوسطى ساج. وبعث عمر بن الخطّاب إلى البيت بهلالين كبيرين فعلّقا في الكعبة ، وبعث عبد الملك بن مروان بالشّمستين ، وبعث الوليد ابنه بقدحين ، وبعث أبو العبّاس بالصّفحة الخضراء ، وبعث أبو جعفر بالقارورة الفرعونيّة ، وبعث المأمون بالصنم الذي وجّهه إليه ملك التّبّت وكان أسلم وله خبر طويل (١). وذرع المقام ذراع وهو مربّع سعة أعلاه أربعة عشر إصبعا في مثله ، ومن أسفله مثل ذلك ، وفي طرفيه طوق من ذهب. وما بين الطرفين من الحجر من المقام بارز لا ذهب عليه ، وطوله من نواحيه كلّها تسع أصابع ، وعرضه عشر أصابع ، وعرض الحجر حجر المقام من نواحيه إحدى وعشرون إصبعا ، وسطه مربّع القادمان داخلتان في الحجر سبع أصابع ، دخولهما منحرف ووسطه قد استدقّ من التمسّح به. والمقام في حوض مربّع حوله رصاص ، وعلى الحوض صفائح من رصاص مكسّر ، وعلى المقام صندوق ساج في طرفيه سلسلتان تدخلان في أسفل الصندوق ، وعليهما قفلان. قال : وذرع المسجد اليوم مائة ألف ذراع وعشرون ألف ذراع مكسّر ، وعرضه من باب النّدوة إلى الجدار الذي يلي الوادي عند باب الصّفا ثلاثمائة ذراع وأربعة أذرع ، وعرض المسجد من المنارة التي عند المسعى إلى المنارة التي عند باب بني شيبة الكبير مائتا ذراع وثمانية وسبعون ذراعا ، وفيه من الأساطين أربع مائة وخمس وستّون أسطوانة ، طول كلّ أسطوانة عشرة أذرع ،

__________________

(١) عن هذا الصنم انظر : أخبار مكة ١ : ٢٢٥.

٧٧

وتدويرها ثلاثة أذرع. وعدد أبواب المسجد في الشقّ الشرقيّ خمسة أبواب ، وفي الغربيّ ستّة أبواب ، وفي اليماني سبعة أبواب ، وفي الشقّ الشاميّ ستّة أبواب ، وذرع الطواف مائة ذراع وخمسة أذرع.

وحدود الحرم من طريق المدينة على ثلاثة أميال ، ومن طريق جدّة على عشرة أميال ، ومن طريق اليمن على سبعة أميال ، ومن طريق الطائف على أحد عشر ميلا ، ومن طريق العراق على تسعة أميال ، ومن بغداد إلى مكّة مائتان وخمسة وسبعون فرسخا وثلثا فرسخ (١) تكون ثمانية وخمسين بريدا. ومن البريد إلى البريد عشرون ميلا ، وبين كلّ بريدين مشرف وكلّ ثلاثة أميال فرسخ ، ومن مكة إلى عرفات اثنا عشر ميلا.

__________________

(١) حدود الحرم والمسافة بين بغداد والحرم لدى ابن خرداذبه ١٣٢.

٧٨

مدينة الطائف

اسمها وجّ ، وسمّيت الطائف بذلك الطوف الذي أحاطه عليها قسيّ وهو ثقيف وكانت الطائف مهربا وملجأ لكلّ هارب ، وبالطائف وهط عمرو بن العاص ، وهو كرم كان يعرش على ألف ألف خشبة ، شرى كلّ خشبة ألف درهم ، والوهط عند العرب دقّ التراب ، يقال تراب موهط أي مدقوق. وحجّ سليمان بن عبد الملك فمرّ بالوهط وقال : أحبّ أن أنظر إليه ، فلمّا رآه قال : هذا أكرم مال وأحسنه ، وما رأيت لأحد مثله ، لولا هذه الحرّة في وسطه. فقيل له : ما هذه بحرّة ولكنها زبيبه ، وقد كان جمع في وسط الضيعة ، فلمّا رآها من بعيد ظنّ أنها حرّة سوداء فقال : لله درّ قسيّ بأيّ عشّ وضع أفرخه (١).

__________________

(١) روى ياقوت (الطائف) هذا الخبر عن المدائني.

٧٩

القول في المدينة

يروى عن النبيّ (عليه السلام) أنه قال : للمدينة عشرة أسماء هي : طيبة ، والباقية ، والموفّية ، والمسكينة ، والمباركة ، والمحفوفة ، والمحرّمة ، والعذراء ، والمسلمة ، والمقدّسة ، والشافية ، والمرزوقة. فمن فضلها على غيرها أن وهب بن منبه قال : إني لأجد في بعض الكتب أن مهاجر النبي الأميّ العربيّ إلى بلد يقال لها طيابا ، وتفسير ذلك أنها طويت بالبركة ، وقدّس هواءها ، وطيّب ترابها ، فيها مهاجره ، وموضع قبره ، ومن مشى بالمدينة شمّ بها عرفا طيّبا.

وقال أبو البختري : هي أرفع الأرض كلّها ، ولا يدخلها طاعون ولا دجّال ، وبظاهر بيدائها يخسف بالدجّال ، وبها نزل القرآن وفرضت الفرائض وسنت السنن ، وبها أصول الدين والسنن والأحكام والفرائض والحلال والحرام ، وبها روضة من رياض الجنّة ، ودعا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يبارك لهم في صاعهم ومدّهم وسوقهم وقليلهم وكثيرهم ، وبها آثار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومساجده وقبره وقبور أصحابه وأعمامه وأزواجه ، وكلّ بلد في دار الإسلام فإنما فتح بالسيف إلّا المدينة فإنها افتتحت بالإيمان.

وقال (صلى الله عليه وسلم) : «غبار المدينة دواء من الجذام» وقال : «حبّ أهل المدينة محنة فإن منافقا لا يحبّهم ومؤمنا لا يبغضهم» وقال (عليه السلام) : «أهل المدينة الشعار والناس الدثار» وقال : «المدينة معلّقة بالجنّة». قال : ولمّا حجّ معاوية حرّك المنبر يريد أن يخرج به إلى الشام فانكسفت الشمس ، فقال جابر بن عبد الله : بئس ما صنع معاوية ببلد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ومهاجره الذي اختاره الله له ، والله ليصيبنّ معاوية شيء في وجهه ، فأصابته اللّقوة نسأل الله العافية.

٨٠