البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

القول في خراسان

قال دغفل : خرج خراسان وهيطل ابنا عالج بن سام بن نوح لمّا تبلبلت الألسن ، فنزل كل واحد منهما في البلد المنسوب إليه ـ يريد أن هيطل نزل في البلد المعروف ببلد الهياطلة وهو وراء النهر ، ونزل خراسان في قلعته المعروفة بخراسان دون النهر ـ.

وروي عن شريك [١٥٤ أ] بن عبد الله قال : خراسان كنانة الله ، إذا غضب على قوم رماهم من كنانته.

وفي حديث آخر قال : ما خرجت من خراسان راية في جاهلية ولا إسلام فردّت حتى تبلغ منتهاها.

وحدثني أبو عبد الله الحسين بن أستاذويه [قال] حدثني أبو إسحاق بن إبراهيم بن الحسين. قال : قال أبو عبد الله محمد بن مرزوق الهاشمي. حدثنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال : حدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : لم يتزوج إبراهيم على سارة حتى ماتت ، فتزوج بعدها امرأة من العرب العاربة يقال لها قنطورا بنت مقطير. فولدت له مدين ومداين. وهو مدين ونيشان وشوح. فأمر إبراهيم أن يضم إليه من [ولد إسماعيل وإسحاق ومدين ونيسان ، ويخرج عنه مدين وأشتق وسرج. فقالوا له : يا أبانا ، كيف تستجيز أن تترك عندك إسماعيل وإسحاق ومدين ونيسان في الأمن والدعة وتخرجنا نحن عنك إلى الغربة](١) والوحشة والوحدة؟ فقال بذلك أمرت.

__________________

(١) ما بين عضادتين تكملة من ابن الفقيه نفسه الذي سيكرر هذه الواقعة ضمن الفصل المخصص للترك ، مع اختلافات طفيفة في كتابة بعض الأسماء.

٦٠١

ثم إن إبراهيم عليه السلام رحمهم فعلّمهم اسما من أسماء الله تعالى ، فكانوا يستنصرون به على الأعداء ويستسقون في الجدوب. ونزلوا موضع خراسان فتناسلوا هناك وكثروا.

وسمعت بهم الخزر ـ وهم من بني يافث بن نوح ـ ووقفوا على ما معهم من أسماء الله تعالى ، فقالوا : ينبغي لمن علمكم هذا أن يكون خير أهل الأرض أو يكون ملك الأرض ورغبوا في مصاهرتهم ، فزوّجوهم وعلّموهم الأسماء.

وقال الشعبي : كأني بهذا العلم وقد تحول إلى خراسان.

وقال : قرأت في كتاب حرب جوذرز وپيران ، أن پيران كتب إلى جوذرز في رسالة طويلة : من پيران بن وسحان (١) خليفة أفراسياب ملك الترك من نسل طوس ، إلى جوذرز بن جشواذان (٢) من أهل بيت الكيان حافظ ثغور الأوثان. إني بعون الله أكافئك على سنة الوقار ورسائل السلم أيها الحكيم المتوّج من السماء عقل الحكماء. قد مرّ ما كتبت إليك أن أباك (٣) كيخسرو الطلب يؤثر سياوش. فإن أفراسياب قسم الأرض وفصل الحدود كما فصلت قديما أيام منوجهر وسير الترك عن قرى أريان ونزل غرجستان العظيمة الكثيرة العدد ، والطالقان الحصينة الكثيرة الجبل والمراعي مجمع [١٥٤ ب] عساكر الثغور قديما ، وهراة الجمة الأموال وجشسدان دارأت (٤)؟ العامرة الكلية ، وآمل وسط النهر ، والترمذ الممرعة المذكورة بالغناء والأموال ، وبخارا التي وضع أفريدون بها بيت النار وأنزلها الأسد المذكور ، وبلخ العظيمة المنيرة الأنيقة المشهورة بالأعز المؤيدين (٥) ، ذات الجبال العالية

__________________

(١) غير منقوطة في الأصل. والصواب أن اسم هذا البطل الأسطوري هو : ييران ويسه ييران (فرهنگ أساطير ص ١٤٣ مادة ييران) و (بيست مقاله ١ : ٧٨) وفي تاريخ غرر السير ص ١٩٩ پيران بن وسيكان.

(٢) في الشاهنامه (١ : ٢٥٣) جودرز بن كشواذ.

(٣) في الأصل : أبوك.

(٤) لم نهتد إلى تصحيحها ولعل (دارأت) هي (داراب ابجرد).

(٥) كذا.

٦٠٢

والسهول العامرة التي تقول الكيانية إنها من بلد أريان في ناحية المشرق إلى السغد. وفي ناحية الحري من برية خوارزم إلى مصب بهروذ في البحر من مساكن قبائل الترك وأرمينية المحصنة العظيمة سرّة أريان لا ينحسر ثلجها عن جبالها ولا ماؤها عن أنهارها ، ولا تخلو أرضها من الثمار الكثيرة الكريمة والزروع العميمة ، وآذربيجان العامرة الزاهرة ذات العيون الكثيرة في شواهق جبالها ومستوى أرضها. في كلام له طويل.

ويروى أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : تفتح أمتي أرضا يقال لها خراسان عند نهرها الملعون ، أوّله رخاء وآخره بلاء.

وقال عبد الله بن مسلم بن قتيبة (١) : أهل خراسان أهل الدعوة وأنصار الدولة ، ولم يزالوا في أكثر ملك العجم لقاحا. لا يؤدون اتاوة ولا خراجا. وكانت ملوك العجم قبل ملوك الطوائف تنزل بلخ ثم نزلوا بابل ثم نزل أردشير بن بابك فارس فصارت دار ملكهم ، وصارت بخراسان ملوك الهياطلة. وهم الذين قتلوا فيروز بن يزدجرد بن بهرام ملك فارس ، وكان غزاهم فكادوه بمكيدة في طريقه حتى سلك معطشة مهلكة ، ثم خرجوا إليه فأسروه. فسألهم أن يمنّوا عليه وعلى من أسر معه من أصحابه وأعطاهم موثقا من الله وعهدا مؤكدا أن لا يغزوهم أبدا ولا يجوز حدودهم ، ونصب حجرا بينه وبينهم صيّره الحدّ الذي حلف عليه ، وأشهد على ذلك الله تعالى ومن حضره من أهله وخاصيته وأساورته. فمنّوا عليه وأطلقوه ومن أراد ممن أسر معه.

فلما عاد إلى مملكته ، دخلته الأنفة والحمية مما أصابه وعاد لغزوهم ناكثا الأيمان غادرا بذمته ، وجعل الحجر الذي [١٥٥ أ] كان نصبه وجعله الحد الذي حلف أنه لا يجوزه محمولا أمامه في مسيره يتأوّل فيه انه لا يتقدمه ولا يجوزه. فلما صار إلى بلدهم ناشدوه الله وأذكروه به ، فأبى إلّا لجاجا ونكث فواقعوه وقتلوه وحماته وكماته واستباحوا عسكره فلم يفلت منهم إلّا الشريد.

__________________

(١) هو الدينوري.

٦٠٣

وهم قتلوا كسرى بن قباذ بن هرمزد.

فهذه حال خراسان قبل الإسلام. ثم أتى الله بالإسلام فكانوا فيه أحسن الأمم رغبة وأشدهم إليه مسارعة منّا من الله عليهم وتفضلا وإحسانا منه عليهم. فأسلموا طوعا ودخلوا فيه أفواجا وصالحوا عن بلادهم صلحا. فخفّ خراجهم وقلّت نوائبهم ، ولم يجر عليهم سباء ولم يسقط فيما بينهم وبين المسلمين دم.

ولما رأى الله عزّ وجلّ سيرة بني أمية بعد عمر بن عبد العزيز وظلمهم العباد وإخرابهم البلاد واستئثارهم بالفيء ، وعكوفهم على المعازف والملاهي واللذات ، وإعراضهم عما أوجب الله عليهم فيما قلّدهم ، ابتعث جلودا من أهل خراسان جمعهم من أقطارها كما يجمع قزع الخريف وألبسهم الهيبة ونزع من قلوبهم الرحمة ، فساروا نحوهم كقطع الليل المظلم قد اتخذوا لبس السواد وأطالوا الشعور وشدّوا المآزر دون النساء حتى انتزعوا ملك بني أمية من أكبر ملوكهم سنا ، وأشدّهم حنكة ، وأحزمهم رأيا ، وأكثرهم عدة وعديدا ، وأعقلهم كاتبا ووزيرا ، وسلموه إلى بني العباس.

وقد كان محمد بن علي بن عبد الله بن العباس قال لدعاته حين أراد توجيههم إلى الأمصار (١) : أمّا الكوفة وسوادها ، هناك شيعة علي وولده. وأما البصرة فعثمانية تدين بالكفّ. [تقول كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل](٢). وأما الجزيرة فحرورية مارقة وأعراب كأعلاج ومسلمون في أخلاق النصارى. وأما أهل الشام فليس يعرفون إلّا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان وعداوة راسخة وجهل متراكم. وأمّا مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. ولكن عليكم بأهل خراسان ، فإن هناك العدد الكثير والجلد الظاهر وهناك [١٥٥ ب] صدور سليمة وقلوب فارغة لم تتقسمها الأهواء ولم تتوزعها النحل ولم يقدم عليها فساد

__________________

(١) النص في عيون الأخبار ١ : ٢٠٤ ـ ٢٠٥ وهو لدى الجاحظ في رسالة مناقب الترك (ص ٤٨٠ من مجموعة رسائل الجاحظ : الرسائل السياسية).

(٢) في المختصر فقط.

٦٠٤

وهم جند لهم أبدان وأجسام ومناكب وكواهل وهامات ولحى وشوارب وأصوات هائلة ولغات فخمة تخرج من أجواف منكرة.

وبعد ، فإني أتفاءل إلى المشرق إلى مطلع سراج الأرض ومصباح الخلق.

فلما بلغ الله إرادته من بني أمية وبني العباس ، أقام أهل خراسان مع خلفائهم على أسكن ريح وأحسن دعة وأشدّ طاعة وأكثر تعظيما لسلطان وأحمد سيرة في رعيته ، تتزين عندهم بالحسن ويستتر منهم بالقبح ، إلى أن كان من قضاء الله ورأى خلفاؤنا الاستبدال بهم وتصيير التدبير لغيرهم. ولا نذكر ما جرى بعد ذلك والله المستعان.

وقال قحطبة بن شبيب لأهل خراسان : قال محمد بن علي بن عبد الله : يأبى الله أن يكون شيعتنا إلّا أهل خراسان. لا ننصر إلّا بهم ولا ينصرون إلّا بنا. انه يخرج من خراسان سبعون ألف سيف مشهور ، قلوبهم كزبر الحديد وأسماؤهم الكنى وأنسابهم القرى ، يطيلون شعورهم كالغيلان ، جعابهم قصرت كعابهم. يطوون ملك بني أمية طيا ويزفّون الملك إلينا زفا. وأنشد لعصابة الجرجرائي :

الدار داران : إيوان وغمدان

والملك ملكان : ساسان وقحطان

والناس فارس والإقليم بابل

والإسلام مكة والدنيا خراسان

والجانبان العتيدان اللّذا خشيا

منها بخارا وبلخ الشا وأرّان

قد ميّز الناس أفواجا ورتّبهم

فمر زبان وبطريق ودهقان

ولخراسان طيب الهواء ، وعذوبة الماء ، وصحة التربة ، وعذوبة الثمرة واحكام الصنعة وتمام الخلقة وطول القامة وحسن الوجوه ، وفراهة المركب من البراذين والإبل والشهاري والحمير ، وجودة السلاح والدروع والثياب.

وهم أهل التجارب وأصبرهم على البؤس وأقلّهم تنعّما وخفضا. [فأهل خراسان جنّة للمسلمين دون الترك](١) وهم يثخنون فيهم القتل والأسر وبهم يدفع

__________________

(١) في المختصر فقط.

٦٠٥

إليه (١) [١٥٦ أ] عن المسلمين ومعرتهم وكيدهم.

وقد جاء في الحديث : تاركوا الترك ما تاركوكم.

وجاء عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فيها ما لا أعلم أنه جاء مثله في شيء من البلاد إلّا في الحرمين في الأرض المقدسة.

وقال : الترك أشدّ العدو بأسا وأغلظهم أكبادا.

وروي عن بريدة أنه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : يا بريدة ، إنه ستبعث من بعدي بعوث. فإذا بعثت فكن في بعث المشرق ، ثم كن في بعث خراسان. ثم كن في أرض يقال لها مرو. فإذا أتيتها فانزل مدينتها. فإنه بناها ذو القرنين وصلى فيها عزير. أنهارها تجري عليها بالبركة ، على كل نقب (٢) منها ملك شاهر سيفه يدفع عن أهلها السوء إلى يوم القيامة. فقدمها بريدة ومات بها.

وقد جهد الطاعن على أهل خراسان أن يدعي عليهم البخل ودقة النظر ويشنع بمثل قول ثمامة (٣) : إن الديك في كل بلد يلفظ ما يأكله في فمه للدجاجة بعد ما قد حصل ، إلّا ديكة مرو فإنها تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحبّ.

وهذا كذب بيّن ظاهر للعيان لا يقدم على مثله إلّا الوقّاع البهّات الذي لا يتوقى الفضوح والعار. وما ديكة مرو إلّا كالديكة في جميع الأرض. ولأهل خراسان أجواد مبذرون لا يجارون ولا يبلغ شأوهم ، منهم : البرامكة لا نعلم أن أحدا قرب من السلطان قربهم فأعطى عطاءهم وصنع صنعهم واعتقد بيوت الأموال

__________________

(١) كذا في الأصل ولعلها : الهم.

(٢) في المختصر : نهر.

(٣) ذم ثمامة بن أشرس هذا لأهل مرو في الحيوان ٢ : ١٤٩. وهو من كبار المعتزلة كان له اتصال بالرشيد ثم بالمأمون وكان ذا نوادر وملح. قال الجاحظ في شأنه : «ما علمت أنه كان في زمانه قروي ولا بلدي كان قد بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما كان بلغه. وكان لفظه في وزن إشارته ومعناه في طبقة لفظه ، ولم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك» البيان والتبيين ١ : ٦١. وعن ثمامة انظر ميزان الاعتدال ١ : ٣٧٢.

٦٠٦

وخزائن الخلفاء مثل اعتقادهم. ومن المشهور عنهم أنه لم يكن لخالد بن برمك صنيعة ولا متحرم إلّا بنى له دارا على قدر كفايته ثم وقف على أولاده ما يعينهم أبدا. ولم يكن لأحد منهم إلّا من جارية وهبها له.

ومن أهل خراسان القحاطبة وعلي بن هشام وعبد الله بن طاهر ، وخبّر عنه بعض قوّاده أنه فرّق في مقام واحد ألف ألف دينار. وهذا يكثر أن يملك فضلا عن أن يوهب.

وأخبار البرامكة وهؤلاء الذين ذكرنا بعدهم فأكثر من أن تلحق أو تعدّ أو توصف(١).

وممن سخت حاله وسمحت نفسه مما ملك ، عبد الله بن المبارك [١٥٦ ب] كان يفرق ماله على إخوانه ويؤثرهم بذخائره ويكسوهم الثياب المرتفعة ويحملهم على الدواب الفرهة ويلبس هو ثوبا بعشرة دراهم ، ويعطي صاحب الحمّام دينارا وللحمامي دينارا.

فأمّا الأمة التي سبق أوّلها وعفا آخرها فأهل فارس. كانوا في سالف الدهر أعظم الأمم ملكا ، وأكثرهم أموالا ، وأشدهم شوكة. وكانت الملوك في جميع الأطراف والأقاليم تعترف لهم بذلك ، وتعظم ملكهم رتغتنم منه أن يهاديهم. وكانت العرب تدعوهم الأحرار وبني الأحرار ، لأنهم كانوا يسبّون ولا يسبّون ويستخدمون ولا يستخدمون. ثم أتى الله بالإسلام فكانوا كنار خمدت وكرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ، فتبدد جمعهم ومجت (٢) قلوبهم ، ومزقوا كل ممزّق ، فلم يبق في الإسلام منهم نبيه يذكر ولا شريف يشهر إلّا أن يكون عبد الله بن المقفع والفضل بن سهل.

وأهل خراسان دخلوا في الإسلام رغبة وطوعا ، ثم هم أحسن الناس تقية

__________________

(١) في الأصل : يلحق أو يعد أو يوصف.

(٢) كذا في الأصل.

٦٠٧

وأشدهم بالدين تمسكا ، فمنهم المحدثون والنبل المشهورون والعلماء المتقدمون والعباد المجتهدون.

فإن قال قائل : كيف تدفع فارس عن حسن التقية مع قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : لو كان الإيمان معلقا (١) بالثريا لنالته رجال من فارس؟ قلنا له : في هذا القول دليل على رغبة الموصوفين في الدين ومسارعتهم إليه وتمسكهم بسنن النبي (صلى الله عليه وسلم) فيه. وإنما هو كقولك : لو كنت في أقاصي البلاد لزرتك ، فزيد : لتجشّمت الوصول إليك رغبة في لقائك. وخبر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الأمر يكون فيما بعد إنّما هو عن الله عزّ وجلّ. ولا خلف لقول الله ولا تبديل. فإذا نحن تطلبنا مصداق هذا القول في أهل فارس لم نجده أولا ولا آخرا ، إلّا أن أول أمرهم في الإسلام على ما قد علمت من شدة العداوة للمسلمين ومحاربتهم إياهم حتى قهروا وهزموا وطلبوا ومزقوا ، ولم تجد لهم [١٥٧ أ] بعد ذلك رجالا برعوا في العلم وعرفوا بالحفظ للأثر والتفقه في الدين والاجتهاد في العبادة إلّا أن تجد من ذلك الشيء اليسير والنبل المغمور.

فإن قال قائل : كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، جعله في أهل فارس فكيف جعلته في أهل خراسان؟ قلنا : إن فارس وخراسان كانتا عند العرب شيئا واحدا إلّا أنهما يتحاذّان ويتصلان ، لأن لسان أهل خراسان وفارس بالفارسية ، فهم يسمون جميعا الفرس. وكذلك المتكلمون بالعربية عند من لا يفصح من الأعاجم ، عرب جميعا. قال الشاعر يذكر بلاد فارس :

في بلدة لم تصل عكل بها طنبا

ولا خباء ، ولا عكّ وهمدان

ولا لجرم ولا الاتلاد من يمن

لكنها لبني الأحرار أوطان

أرض يبنّي بها كسرى مساكنه

فما بها من بني اللخناء إنسان

وروى أبو الجلد عمر بن جيلان قال : الدنيا كلها أربعة وعشرون ألف

__________________

(١) في الأصل : معلق. أما التقية الواردة هنا فقد نقل صاحب لسان العرب (وقي) عن ابن الأعرابي قوله : التّقاة والتّقيّة والتّقوى والاتّقاء : كله بمعنى واحد.

٦٠٨

فرسخ. فملك السودان ، اثنا عشر ألف فرسخ. وملك الروم ، ثمانية آلاف فرسخ. وملك فارس ، ألفا فرسخ. وأرض العرب ألفا فرسخ (١). فذكر [فارس] ولم يذكر خراسان ، وهي أوسع منها ، لأنه جعل المشرق كله من فارس وكذلك الروم. ولم يذكر ما يحاذيها من بلاد العجم جعله كله للروم.

وفي الحديث أن رجلا قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : غلبتنا هذه الحمراء ـ يعني العجم ـ فقال علي رضي الله عنه : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول ليضربنكم بالسيوف على دين الله إذا غيّرتم وبدّلتم كما ضربتموهم عليه. [١٥٧ ب].

فإذا نحن طلبنا مصداق ذلك في العجم وجدناه في أهل خراسان ، لأنهم هم الذين ضاربوا بالسيوف العرب وأهل الشام غضبا لدين الله وإنكارا لسيرة بني أمية حتى ابتزوهم الملك ونقلوه عن الشام إلى العراق.

[وروى زيد بن أبي زياد عن إبراهيم بن علقمة](٢) عن عبد الله بن مسعود أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال : إن أهل بيتي يلقون من بعدي بلاء وتطريدا ، حتى يأتي قوم من قبل المشرق ومعهم رايات سود يسألون الحق فلا يعطونه ، فيقاتلون فينصرون ، فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملؤها قسطا كما ملؤوها جورا. فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج.

وقرأت في الإنجيل أن المسيح عليه السلام قال : بحقّ أقول لكم ، ليأتين قوم من المشرق فينكبون بني إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم في ملكوت السماء ، ويخرج بنو المسكونة إلى الظلمة البرّانية حيث يكون البكاء وصرير الأسنان (٣).

__________________

(١) في الأصل : ملك فارس ألف. وأرض العرب ألف. ولا يستقيم مع قوله ان الدنيا (٢٤) ألف فرسخ. وعند ياقوت ١ : ١٦ ان مساحة الدنيا (٢٧) ألف فرسخ.

(٢) عن هذا الحديث ، انظر مقدمة الكتاب.

(٣) الذي في الإنجيل هو رؤيا يوحنا اللاهوتي وليس السيد المسيح (ع) انظر (رؤيا ١٦ : ١٢ ـ

٦٠٩

ومما يزيد ما قلناه في فارس وضوحا ان النبي (صلى الله عليه وسلم) كان بعث خنيس بن عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى وكتب إليه كتابا بدأ فيه بنفسه. فلما قرأه كسرى غضب ومزّقه وبعث إليه بتراب. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) : مزّق كتابي. أما انه سيمزق دينه وأمته وملكه ، وبعث إليّ ترابا. أما إنكم ستملكون أرضه.

فكيف يكون البقية الحسنة لمن أعلمنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنهم سيمزقون؟ لا جرم إنهم قد خملوا ودرسوا مدارس إلى يومنا هذا.

[وهم](١) أبخع الناس بطاعة سلطان ، وأصبرهم على الظلم وأثقلهم خراجا وأذلهم نفوسا.

وذكر جماعة من مشايخهم أنهم لم يعرفوا عدلا قط ، وإن سيرتهم (٢) عمر بن عبد العزيز شملت البلاد كلّها غير بلدهم ، فإن عامله الذي أنفذه إليهم هلك في سيره نحوهم.

ويزعم قوم من أهل السواد أنهم من أبناء أشراف فارس. وربما قال بعضهم إنهم قوافل خراسان. وإنما كانوا فإن الله قد [١٥٨ أ] أسبغ عليهم بالعرب النعمة وظاهر لهم الكرامة وأثقب لهم العز وأبدلهم بها () (٣) حالا لا ينكرها غير (٤) منقوص أو حاسد كفور. لأن السواد فتحته العرب عنوة ، والإمام مخيّر في العنوة بين القتل والرق والفدية والمنّ ، فاختاروا خير الأمور لهم وحقنوا دماءهم ومنّوا عليهم وأقرّوا الأموال في أيديهم.

ثم جاوروا السلطان من بني العباس وأولياءه من أهل خراسان ، فاستخلصهم

__________________

ـ ١٦) النص الذي يتحدث عن معركة هرمجدون. فلعله هو المقصود من خلال قرينة (الملوك الذين من مشرق الشمس).

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) كذا في الأصل.

(٣) كلمة مطموسة. وقبلها (أثقب لهم العز) غير واضحة المعنى.

(٤) في الأصل : لا ينكرها إلّا غير ...

٦١٠

لأموره وجعلهم موضع سرّه واتخذ منهم الكتّاب والوزراء والأصحاب والندماء فصاروا به أسعد من يبذل في التمهيد المهجة والمال.

وهؤلاء الذين ذكرناهم ، هم المشهورون من الناس. فأما من خفي أمره ودخل في جملة الناس فلا حاجة بنا أن نقص عاليه ولا نذكر أوله وآخره ، فنجعله خصما وهو مسلم ، ويفتح له بالمثل أولئك الطاعنون على العرب. وقد قال الأول :

كفاني نقصا أن أجرّ عداوة

بقول أرى في غيره متوسعا

وذكر علي بن محمد المدائني (١) أن أول فتوح خراسان الطبسين وهما بابا خراسان. فتحهما عبد الله بن بديل بن ورقاء في ولاية عثمان بن عفان. وإياهما عنى مالك بن الريب :

لعمري لئن غالت خراسان هامتي

لقد كنت عن بابي خراسان نائيا

دعاني الهوى من أهل ودّي ولحمتي

بذي الطبسين فالتفتّ ورائيا

[ومن الري إلى دامغان ثمانون فرسخا. ومن دامغان إلى نيسابور مثل ذلك](٢). فكان من الري إلى نيسابور مائة وستون فرسخا. ولنيسابور قهندز وهي أحد كور خراسان الجليلة ، ولها من المدن : زام ، وباخرز ، وجوين ، وبيهق ، [ولها اثنا عشر رستاقا ، في كل رستاق مائة وستون قرية](٣).

ومن نيسابور إلى سرخس أربعون (٤) فرسخا. ومن سرخس إلى مرو مدينة خراسان ثلاثون (٥) فرسخا وتسمى مرو الشاهجان. قال :

__________________

(١) للمدائني كتاب اسمه : فتوح خراسان (ابن النديم ١١٥).

(٢) في المختصر فقط.

(٣) في المختصر فقط. وقهندز تعني الحصن أو القلعة في وسط المدينة (معجم البلدان ٤ : ٢١٠).

(٤) في الأصل : أربعين.

(٥) في الأصل : ثلاثين.

٦١١

وأزرت مرو من أيّ السرايا

وأبقت عبرة للغابرينا

وسميت مرو الشاهجان لأنها كانت للملك. ومعنى هذه الكلمة أنها روح الملك [١٥٨ ب] لأن الشاه ، الملك. والجان ، الروح. فقيل مزح الروح.

وسميت مرو الروذ لأنه لم يكن بها بناء. فبعث إليها كسرى ناسا من أهل السواد عليهم رجل يقال له بهرامية ، فبنوها وسكنوها.

ولما غلب أردشير على ملك النبط فرأى جمالهم وعقولهم قال : ما أخوفني إن حدث بي حدث أن يعود الملك إلى هؤلاء. ففرض لهم فرضا وبعث منهم بعوثا وأغزاهم خراسان وفرّقهم في البلاد ، إلّا من ليست عليه منهم مؤونة (١) من أهل الذلة. فأهل مرو من النبط.

وعن قتادة في قول الله تعالى (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها). قال : أم القرى بالحجاز ، مكة. وبخراسان ، مرو.

ولما ملك طهمورث بنى قهندز مرو وبنى مدينة بابل ومدينة ابرايين ـ وهي بأرض قوم موسى ـ وبنى مدينة بالهند في رأس جبل يقال له أوق.

وأمرت خماني بنت أردشير بن إسفنديار لما ملكت ببناء الحائط الذي حول مرو.

ويقال إن طهمورث لمّا بنى قهندز مرو ، بناه ألف رجل وأقام لهم سوقا فيها الطعام والشراب. فكان إذا أمسى الرجل أعطي درهما فاشترى طعامه وجميع ما يحتاج إليه ، فتعود الألف الدرهم إليه. فلم يخرج في البناء إلّا الألف درهم.

وكان بمرو بيت كبير يقال له كي مرزبان. فإذا ارتفع عن الأرض مقدار قامة ، كان محمولا إلى السقف على أربعة صور. وفي جوانبه رجلان وامرأتان. وكانت فيه صورة عجيبة لا يدرى ما هي. فجاء قوم فادعوا أنه لهم وأن أباهم بناه ، فنقضوه وأبلغوا بما فيه من الخشب وما كان في صوره من الذهب. وكان بيتا

__________________

(١) في الأصل : مؤدية.

٦١٢

عجيب الصنعة ، فأصابت مرو وقراها في السنة التي هدم فيها جوائح عظام. فزعم أهل مرو أنه كان طلسما للعمران ، وأنه لما [زال](١) نال البلاد ما نالهم.

ووفد على بعض الخلفاء رجل من أهل خراسان له عقل ومعرفة ، فقال : أخبرني من أصدق أهل خراسان؟ قال : أهل بخارا. قال : فمن أوسعهم بذلا للخبز [والملح](٢)؟ قال : أهل الجوزجان. قال : فمن أحسنهم [١٥٩ أ] ضيافة؟ قال : أهل سمرقند. قال : فمن أدقّهم نظرا؟ قال : أهل مرو. قال : فمن أسوأهم طاعة وأذهبهم بنفسه؟ قال : أهل خوارزم. قال : فمن أحسنهم فطنة وأبعدهم غورا؟ قال : أهل مرو الروذ. قال : فمن أصحّهم (٣) عقولا؟ قال : أهل طوس ان رضي أهل نسا. قال : فمن أكثرهم جدلا وشغبا؟ قال : أهل سرخس. قال : فمن أضعفهم رأيا وتدبيرا؟ قال : أهل نيسابور. قال : فمن أقلّهم غيرة؟ قال : أهل هراة. قال : فمن أجهلهم بالخالق؟ قال : أهل بوشنج وبادغيس. قال : فمن أرماهم؟ قال : أهل خوارزم. قال : فمن أبخلهم؟ قال : أهل مرو. وأنشد :

مياسير مرو من يجود لضيفكم

بكرش فقد أمسى نظيرا لحاتم

ومن رشّ باب الدار منهم بغرفة

فقد كملت فيه خصال المكارم

يسمون بطن الشاة طاووس عرسهم

وعند طبيخ اللحم ضرب الجماجم

فلا قدّس الرحمن أرضا وبلدة

طواويسهم فيها بطون البهائم

وكان المأمون يقول : استوى الشريف والوضيع من أهل مرو في ثلاثة أشياء : البطيخ البارنك والماء البارد بغير الثلج [يعني ماء اليخ](٤) والقطن اللين.

وبمرو ، الرزيق والماجان : نهران كبيران حسنان منهما سقي أكثر ضياعهم ورساتيقهم. وأنشد لعلي بن الجهم :

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

(٢) في المختصر فقط.

(٣) في الأصل : أصدقهم والصواب ما نقلناه من المختصر.

(٤) من المختصر. واليخ هو الثلج بالفارسية.

٦١٣

جاوز النهرين والنهروانا

أجلولا يؤمّ أم حلوانا؟

ما أظن النوى يسوّغه القر

ب ولم تمخض المطيّ البطانا

نشطت عقلها هبوب الر

يح خرقاء تخبط البلدانا

أوردتنا حلوان ظهرا وقرمي

سين ليلا وصبّحت همذانا

انظرتنا إذا مررنا بمرو

ووردنا الرزيق والماجانا

أن نحيّي ديار جهم وإد

ريس ونسأل الإخوانا

[١٥٩ ب] قال وحدثني أحمد بن جعفر. حدثني أبو حفص عمر بن مدرك (١) ، قال كنت عند أبي إسحاق الطالقاني يوما بمرو على الرزيق في المسجد الجامع فقال أبو إسحاق : كنا يوما عند ابن المبارك ، فانهار القهندز فتناثرت منه جماجم ، فتصدعت جمجمة وتناثرت أسنانها ، فوزنّا سنّين منها ، فكان في كل واحدة منهما منوان بأربعة أرطال. فأتي ابن المبارك بهما ، فأقبل يوزنهما بيده ساعة ثم قال :

أتيت بسنّين قد رميا

من الحصن لما أثاروا الدفينا

على وزن منوين إحداهما

ينوء به الكف شيئا رزينا

ثلاثون أخرى على قدرها

تباركت يا أحسن الخالقينا

فما ذا يقوم لأفواهها

وما كان يملأ تلك البطونا

إذا ما تذكرت أجسامهم

تصاغرت النفس حتى تهونا

وكل على ذاك لاقي الردى

وبادوا جميعا فهم خامدونا

وقال إبراهيم بن الشمّاس الطالقاني : قدمت على عبد الله المبارك من سمرقند إلى مرو ، فأخذ بيدي فأخرجني فأطاف بي حول سور مدينة مرو. ثم قال لي : يا

__________________

(١) هو أحمد بن جعفر المستملي (انظر مقدمة الكتاب). أما أبو حفص عمر بن مدرك فقد وصفه الخطيب البغدادي في تاريخه (١١ : ٢١١) بالقاص الرازي ويقال البلخي وقال (وأراه بلخيا ، سكن الري وقدم بغداد وحدث بها ...) وانظر ميزان الاعتدال ٣ : ٢٢٣.

٦١٤

إبراهيم. أتعرف من بنى هذه المدينة؟ قلت : لا أدري يا أبا عبد الرحمن. قال : فمدينة مثل هذه لا يعرف بانيها ، وسفيان بن سعيد الثوري مات وليس له كفن واسمه حي إلى يوم القيامة.

قال معاذ الترمذي : أربعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ماتوا بمرو وحواليها : بريدة الأسلمي وبريدة بن الخصيب وحكم الغفاري وقثم بن العباس بن عبد المطلب.

وقال البلاذري : خراسان أربعة أرباع (١).

فالربع الأول : إيرانشهر ، وهي نيسابور ، وقهستان ، والطبسين وهراة ، وبوشنج ، وباذغيس ، وطوس ـ واسمها طابران ـ.

والربع الثاني : مرو الشاهجان ، وسرخس ، ونسا ، وباورد ، ومرو الروذ ، والطالقان [١٦٠ أ] وخوارزم [وزم](٢) وآمل ـ وهما على نهر بلخ ـ وبخارا.

والربع الثالث : وهو غربي النهر وبينه وبين النهر ثمانية فراسخ ـ : الفارياب ، والجوزجان ، وطخارستان العليا ، [وهي الطالقان ، والختّل وهي وخش ، والقواديان](٣) وخست وأندرابة ، والباميان ، وبغلان ، ووالج وهي مدينة مزاحم بن بسطام ، ورستاق بنك ، وبذخشان وهي مدخل الناس إلى التبت ـ ومن أندرابة مدخل الناس إلى كابل ـ والترمذ وهي في شرق بلخ ، والصغانيان ، وزم ، وطخارستان السفلى ، وخلم وسمنجان.

والربع الرابع : ما وراء النهر بخارا ، والشاش ، والطراربند ، والسغد وهوكس ونسف ، والروسيان ، واشروسنة ، وسنام قلعة المقنّع ، وفرغانة ، وسمرقند ،

__________________

(١) التقسيم الآتي موجود لدى ياقوت ٢ : ٤٠٩ (خراسان) وقد نسبه إلى البلاذري أيضا ، ترى هل نقله عن ابن الفقيه أم عن أحد كتب البلاذري ، مع أن أغلب ما لدى ياقوت عن مادة خراسان موجود لدى ابن الفقيه؟

(٢) في المختصر فقط.

(٣) في المختصر فقط.

٦١٥

[والشم ، وأباركت ، وبناكت ، والترك](١).

ولسمرقند أربعة أبواب : باب كبير. وباب الصين وباب أسروشنة وباب الحديد. وبين سمرقند وأسروشنة نيف وعشرون (٢) فرسخا. وخجندة متيامنة عن أسروشنة إلى الجبل والباميان إلى ناحية كابل.

ومن مرو طريقان : أحدهما إلى الشاش ، والآخر إلى بلخ وطخارستان. فمن مرو إلى مدينة بلخ مائة وستة وعشرون فرسخا ، وهي اثنان وعشرون منزلا قال الأحوص :

تجبى له بلخ ودجلة كلها

وله الفرات وما سقى والنيل

ويقال إن لهراسف بنى مدينة بلخ وعمرها وخرب مدينة بيت المقدس وشرّد من كان بها من اليهود.

وقال الضحاك : أسرع الأرض خرابا من المشرق ، بلخ.

ويقال إن الإسكندر بنى بلخ وقيل إنه مات [فيها] وقد قاتل ملوكا كثيرة وقهرهم وغلبهم غلبات مشهورة وهزم جنودا ذات قوة ووطئ بلدانا كثيرة وكانت مدة عمره اثنين وثلاثين سنة وسبعة أشهر لم يسترح في شيء منها.

ويقال إنه ملك الأرض كلها ودانت [له](٣) سائر ملوكها. وبنى ثلاث (٤) عشرة مدينة وسمّي كلها الاسكندرية. وبعضها قائم إلى اليوم. وقد غيرت بعض [١٦٠ ب] أسمائها.

منها الاسكندرية التي بناها على اسم فرسه فقليوس وتفسيره. رأس الثور. ومنها الاسكندرية التي في باورنقوس. ومنها الاسكندرية التي تدعى المحصنة. ومنها الاسكندرية التي بناها في الهند. ومنها الاسكندرية التي في جاليقوس.

__________________

(١) في المختصر فقط.

(٢) في الأصل : وعشرين.

(٣) زيادة يقتضيها السياق.

(٤) في الأصل : ثلاثة.

٦١٦

ومنها الاسكندرية التي في بلاد السقوياسيس. ومنها الاسكندرية التي على شاطئ النهر الأعظم. ومنها الاسكندرية التي بأرض بابل. ومنها الاسكندرية التي في بلاد السغد وهي سمرقند. ومنها الاسكندرية التي تدعى مرغيلوس وهي مرو. ومنها الاسكندرية التي في مجاري الأنهار بالهند. ومنها الاسكندرية العظمى التي في بلاد مصر. ومنها الاسكندرية التي سميت كوش وهي بلخ.

فهذه مدائنه التي بناها ، ومات ببابل مسموما.

وببلخ ، النوبهار ، وهو من بناء البرامكة. قال عمر بن الأزرق الكرماني : كانت البرامكة أهل شرف على وجه الدهر ببلخ قبل ملوك الطوائف. وكان دينهم عبادة الأوثان. فوصفت لهم مكة وحال الكعبة بها وما كانت قريش ومن والاها من العرب تدين به. فاتخذوا بيت النوبهار مضاهاة لبيت الله الحرام. ونصبوا حوله الأصنام وزينوه بالديباج والحرير وعلقوا عليه الجواهر النفيسة.

وتفسير النوبهار : الجديد. وكانت سنّتهم إذا بنوا بناء حسنا أو عقدوا طاقا شريفا أن يكلّلوه بالريحان ، يتوخّون بذلك أول ريحان يطلع في ذلك الوقت. فلما بنوا ذلك البيت جعلوا عليه أول ما ظهر من الريحان ـ وكان البهار ـ فسمّي نوبهار.

وكانت العجم تعظّمه وتحج إليه وتهدي له وتلبسه أنواع الثياب وتنصب على قبته الأعلام. وكانوا يسمون قبته الأستن. وكانت مائة ذراع في مثلها ، وارتفاعها فوق المائة ذراع بأروقة مستديرة حولها. وكان حول البيت ثلاثمائة وستون مقصورة يسكنها خدّامه [١٦١ أ] وقوّامه وسدنته. وكان على كل أهل مقصورة من تلك المقاصر ، خدمة يوم ثم لا يعودون إلى الخدمة حولا.

ويقال إن الريح كانت ربّما حملت الحرير من العلم الذي فوق القبة فتلقيها بالترمذ ، وبينهما اثنا عشر فرسخا.

وكانوا يسمون السادن الأكبر برمكا لأنهم شبّهوا البيت بمكة وقالوا : سادنه برمكة. فكان كل من ولي منهم السدانة يسمى برمكا.

وكانت ملوك الهند والصين وكابل شاه وغيرهم من الملوك تدين بذلك الدين

٦١٧

وتحج إلى هذا البيت. وكانت سنّتهم إذا هم وافوه أن يسجدوا للصنم الأكبر ويقبلوا برمك.

وكانوا قد جعلوا للبرمك ما حول النوبهار من الأرضين سبعة فراسخ في مثلها. وسائر أهل ذلك الرستاق عبيد له يحكم فيهم بما يريد.

وكانوا قد صيروا للبيت وقوفا كثيرة وضياعا عظيمة سوى ما يحمل إليه من الهدايا التي تتجاوز كل حد. وسائر أموال ذلك مصروفة إلى البرمك الذي يكون عليه.

فلم يزل برمك بعد برمك إلى أن افتتحت خراسان أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقد صارت السدانة إلى برمك أبي خالد بن برمك ، فسار إلى عثمان بن عفان مع دهاقين كانوا ضمنوا مالا في البلد. ثم إنه رغب في الإسلام فأسلم وسمّي عبد الله ورجع إلى ولده وأهله وبلده فأنكروا عليه إسلامه وجعلوا بعض ولده مكانه برمكا. فكتب إليه نيزك طرخان ـ وهو أحد الملوك يعظم ما أتاه من الإسلام ويدعوه إلى الرجوع في دين آبائه. فأجابه برمك : إني إنما دخلت في هذا الدين اختيارا له وعلما بفضله من غير رهبة ولا خوف ، ولم أكن لأرجع إلى دين بادي العوار مهتك الأستار. فغضب نيزك وزحف إلى برمك في جمع كثيف. فكتب إليه برمك : قد عرفت حبي للسلامة واني ان استجرت الملوك عليك أنجدوني ، فاصرف عني أعنّة خيلك وإلّا حملتني على لقائك. فانصرف عنه. ثم استغرّه وبيّته [١٦١ ب] فقتله وعشرة بنين له ، فلم يبق له خلف سوى برمك أبي خالد ، فإن أمه هربت به وكان صغيرا إلى بلاد القشمير فنشأ هناك وتعلم النجوم والطب وأنواعا من الحكمة ـ وهو على دين آبائه ـ. ثم إن أهل بلده أصابهم طاعون ووباء فتشاءموا بمفارقة دينهم ودخولهم في الإسلام ، فكتبوا إلى برمك فقدم عليهم وأجلسوه في مكان أبيه ، وتولى أمر النوبهار فسمّي برمكا.

فتزوج برمك بنت ملك الصغانيان فولدت له الحسن وبه كان يكنى ، وخالدا ،

٦١٨

وعمرا ، وأم خالد ، وسليمان بن برمك من امرأة غيرها من أهل بخارا (١). وأهدى صاحب بخارا إلى برمك جارية فولدت له كال بن برمك وأم القاسم. وللبرامكة أخبار كثيرة يطول أمرها ، وإنما ذكرنا هذا الخبر بسبب بناء النوبهار.

وببلخ جيحون وهو نهرهم العظيم ، وبينه وبين بلخ اثنا عشر فرسخا. والترمذ على النهر. وبخارا وجبالها وعيونها وأنهارها التي من الجانب الأقصى في الشمال. والمدن التي عن يمين النهر والأنهار الصغار التي في هذه الجبال الشرقية التي من ناحية القبلة ومن ناحية الدبور تصب إلى هذا النهر أعني نهر بلخ. وهو يجيء من ناحية المشرق من موضع يقال له ريوساران وهو جبل متصل بناحية السند والهند وكابل. ومنه عين تجري من موضع يقال له عندميس واسترز من هذا الجبل. ويجتمع بمرو ويجيء إلى مرغاب ثم يمرّ إلى آمويه ، ويشق خوارزم فيصير إلى البحر الخراساني وهو بحر الخزر ، ثم يدخل الصين.

ونصارى خراسان تميل إلى الثنوية والشمنية ، إلّا ان نسطور لما دخلها مالوا إلى مذهبه.

وأصل هذا النهر من المشرق عليه معادن البلور وغيره من الأحجار النفيسة وعليه أيضا معدن ذهب جيد.

ومن بلخ إلى شط جيحون اثنا عشر (٢) فرسخا. فذات اليمين على الشط كورة خلج ونهر الضرغام. وذات اليسار ، مرو وخوارزم واسمها بيل. فهي جانبان على نهر بلخ يشقها جيحون [١٦٢ أ] وآمل وزم وجبال الطالقان وبلنجر والجوزجان وأقاصي قرى بلخ (٣) :

سقى مزن السحاب إذا استهلّت

مصارع فتية بالجوزجان

__________________

(١) إلى هنا تنتهي الرواية التي بدأت بقوله : قال عمر بن الأزرق الكرماني. وهي موجودة بنصّها مع اسم راويها الكرماني أعلاه لدى ياقوت (نوبهار).

(٢) من هنا وما يليه من مسافات بين المدن موجود في فتوح البلدان للبلاذري ٣٣ ـ ٣٤.

(٣) في ياقوت (جوزجان) هذا البيت وبعده آخر ، قال إنهما لكثير بن الغريزة النهشلي.

٦١٩

ويعبر نهر بلخ هذا إلى الترمذ ـ وهو معها ـ ويضرب سورها ومدينتها على حجر طريق الصغانيان.

ومن الترمذ إلى الراشت ، ثمانون فرسخا. والراشت أقصى خراسان من ذلك الوجه. وهي بين جبلين. وكان منها مدخل الترك إلى بلاد الإسلام للغارة عليهم. فعلّق الفضل بن يحيى بن خالد هناك بابا.

ومن بلخ إلى طخارستان العليا ثمانية وعشرون فرسخا. وهناك قرية يقال لها قارض. وبالقرب منها قرى بسطام بن سورة بن عامر بن مساور (١).

ولمّا ان أقر ابن عامر قيس بن الهيثم على خراسان ، سار قيس إلى مدينة بلخ وقدّم بين يديه عطاء بن السائب فدخلها وخرّب النوبهار.

ويقال إن أول من دخل هراة من المسلمين رجل يقال له عطاء ، دخل من الباب المعروف بالحسك. فسمي الرجل عطاء الحسك.

وحدثني أبو يوسف يعقوب بن إسحاق (٢). قال : حدثني إبراهيم بن الجنيد عن إبراهيم بن رويم الخوارزمي قال : فيما بين خراسان وأرض الهند نمل أمثال الكلاب السلوقية. وكلبهم عظيم ، لا يطاقون ، ويحفرون من أماكنهم الذهب ويخرجونه ، فأرضهم كلها ذهب وهي شديدة الحرّ ، فهم يخافون في أحجرتهم الهاجرة. فيجيء الناس إلى أخذ ذلك الذهب ويعتمدون وقت شدة الحر ودخولهم إلى أماكنهم ، فيأخذون ما يقدرون عليه ويبادرون الخروج قبل سكون الحرّ وخروجهم. فإن خرجوا ولحقوا أحدا منهم ، أتوا عليه ، فيكون معهم اللحم اشقاقا كبارا ، فإذا كادوا أن يلحقوهم ، طرحوا بعد ذلك اللحم في وجوههم فاشتغلوا به وبادروا هم بالخروج ، فإذا بلغوا إلى موضع هو الحدّ لم يخرجوا منه شبرا واحدا في طلسم(٣).

__________________

(١) إلى هنا ينتهي التطابق مع البلاذري.

(٢) عن أبي يوسف يعقوب بن إسحاق هذا ، انظر مقدمة الكتاب.

(٣) كذا في الأصل.

٦٢٠