البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

القول في آذربيجان

قال ابن المقفّع (١) : آذربيجان آذرباذ بن إيران بن الأسود بن سام بن نوح ، ويقال آذرباذ بن بيوراسف ، وافتتحها المغيرة بن شعبة في سنة ٢٢ عنوة ، ووضع عليها الخراج.

وأخبرني واقد أن العرب لمّا نزلت آذربيجان نزعت إليها عشائرها من المصريّين والشاميّين ، وغلب كلّ قوم على ما أمكنهم ، فصار أهلها مزارعين لهم ، فكانت ورثان منظرة ، فبناها مروان بن محمّد بن مروان بن الحكم ، وأحيا أرضها وحصّنها فصارت ضيعة ، ثم قبضت عن بني أميّة ، فصارت لأمّ جعفر زبيدة بنت جعفر بن المنصور ، وكان الورثانيّ من مواليها ، وكانت برزند قرية فعسكر بها الأفشين أيّام محاربته بابك فحصّنها وبناها ، وكانت المراغة تدعى أفرازهروذ ، وكانت موضع متمرّغ لدوابّ مروان بن محمّد والي أرمينية ودوابّ أصحابه ، فكانوا يسمّونها قرية المراغة ، ثم حذف الناس قرية فقالوا المراغة ، وكان أهلها ألجئوها إلى مروان فقبضت مع ضياع بني أميّة ، وصارت لبعض بنات الرشيد ، فلمّا عاث الوجناء الأزديّ وصدقة بن عليّ مولى الأزد وأفسدوا ، ولّي خزيمة بن خازم أرمينية وآذربيجان في خلافة الرشيد ، فبنى سورها وحصّنها ومصّرها وأنزلها جندا كثيفا ، فلمّا ظهر بابك بأرمينية لجأ الناس إليها فنزلوها وتحصّنوا بها ، وأما مرند فكانت قرية صغيرة فحصّنها أبو البعيث ، ثم حصّنها البعيث ، ثم من بعده محمّد ابنه ، وبنى بها قصرا.

__________________

(١) لابن المقفع كتاب اسمه (ربع الدنيا) ينقل عنه گرديزي في تاريخه. فربما كان هو الذي ينقل عنه ابن الفقيه هنا.

٥٨١

وأما أرمية فمدينة قديمة يزعم المجوس أن زردشت صاحبهم منها ، وكان صدقة بن عليّ مولى الأزد غلب عليها وبنى بها قصورا ، وأما تبريز فنزلها الرّوّاد الأزديّ ثم الوجناء بن الروّاد ، وبنوا بها وحصّنوها بسور فنزلها الناس معه ، وأما الميانج وجيلبايا فمنازل الهمدانيّين ، وأما كورة برزة فللأوديّين ، وأما نريز فكانت قرية لها قصر قديم متشعّث ، فنزلها مرّ بن عمرو الموصليّ الطائيّ ، فبنى بها وسكنها وولده ، فصاروا يتولّونه دون عامل آذربيجان ، وأما سراة ففيها جماعة من كندة من ولد من كان مع الأشعث بن قيس.

وروى مكحول الشاميّ قال : أسرع الأرض خرابا أرمينية ، قيل : وما يخربها؟ قال : سنابك الخيل كأني أنظر إلى خلاخيل نساء قيس تضطرب فدار فيها الخيل.

وحدّ آذربيجان من حدّ برذعة إلى حدّ زنجان ، ومن مدنها : بركري ، وسلماس ، وموقان ، وخويّ ، وورثان ، والبيلقان ، والمراغة ، ونريز ، وتبريز ، ويتّصل الحدّ الثاني من الجانب الشرقيّ ببلاد الديلم ، والطّرم ، وجيلان ، ومن مدنهم : برزة ، وسابرخاست ، والخونج ، والميانج ، ومرند ، وخويّ وكولسره ، وبرزند ، وكانت خرابا فمدّنها الأفشين ونزلها ، والطريق من برزند إلى ورثان وهي آخر عمل آذربيجان اثنا عشر فرسخا ، ومنها : جنزة ، وجابروان ، وأرمية مدينة زردشت ، والشيز وبها بيت نار آذرجشنس ، وهو عظيم القدر عند المجوس ، ورستاق السّلق ، ورستاق سندبايا ، والبذّ ، ورستاق ما ينهرج ، ورساتيق أرم ، وخراج آذربيجان ألفا ألف درهم ، وورثان آخر عمل آذربيجان من ذلك الوجه.

٥٨٢

القول في أرمينية

قال أبو المنذر هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ : سمّيت أرمينية بأرميني بن لنطى وهو ابن يونان بن يافث.

وحدّ أرمينية من برذعة إلى الباب والأبواب ، وإلى حدّ الروم من ذلك الوجه ، وإلى جبل القبق وملك السّرير وملك اللّكز.

ومن آخر عمل آذربيجان وهو ورثان إلى أوّل عمل أرمينية ثمان سكك ، ومن برذعة إلى تفليس عشر سكك ، وأرمينية الأولى هي السّيجان ، وأرّان ، وتفليس.

وافتتحها حبيب بن مسلمة ومنها برذعة وبناها قباذ الأكبر ، وبنى الباب والأبواب وبناها قصورا ، وإنما سمّيت أبوابا لأنها بنيت على طرق في الجبل ، وهي ثلاثمائة وستّون قصرا إلى باب اللّان مائة قصر ، وعشرة قصور في أيدي المسلمين إلى أرض طبرستان ، وباقي القصور في أرض فيلان. وصاحب السرير إلى باب اللّان (١).

ومن أرمينية الأولى : البيلقان وقبلة وشروان ، وأرمينية الثانية : جرزان وصغدبيل وباب فيروز قباذ واللّكز ، وأرمينية الثالثة : البسفرّجان ودبيل وسراج طير وبغروند والنّشوى ، وأرمينية الرابعة : وفيها قبر صفوان بن المعطّل السّلميّ صاحب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بينها وبين حصن زياد ، عليه شجرة لا يعرف ما هي ، حملها يشبه اللوز وطعمه أطيب من الشهد ، شمشاط ، وخلاط ، وقاليقلا ، وأرجيش ،

__________________

(١) يورد المؤلف بعد هذا وباختصار قصة فتح أرمينية. ولمّا كنا سننقل خبر فتحها بعد قليل اعتمادا على ياقوت الذي صرّح أنه نقلها عن ابن الفقيه فلا داعي لذكر المختصر.

٥٨٣

وباجنيس ، وكانت كور أرّان والسيجان في مملكة الخزر.

وفي قصّة موسى : أرأيت إذ أوينا إلى الصّخرة قال : الصخرة صخرة شروان والبحر بحر جيلان والقرية باجروان.

وبنى قباذ مدينة البيلقان أيضا ، ومدينة برذعة ، ومدينة قبلة ، وبنى سدّ اللبن ، وبنى على سدّ اللبن ثلاثمائة وستّين مدينة ، خربت بعد بناء الباب والأبواب ثم ملك بعده ابنه كسرى أنوشروان فبنى مدينة الشابران ، ومدينة مسقط ، ومدينة كركرة ، ثم بنى مدينة الباب والأبواب ، وإنما سمّيت أبوابا لأنها بنيت على طرق في الجبل ، وبنى بأرض أرّان أبواب شكّى ، وأبواب الدّودانيّة ، وهم أمّة يزعمون أنهم من بني دودان بن أسد بن خزيمة ، وبنى الدّرزوقيّة وهي اثنا عشر بابا ، كلّ باب منها فيه قصر من حجارة ، وبنى بأرض جرزان مدينة يقال لها سغدبيل ، وأنزلها قوما من السغد وأبناء فارس ، وجعلها مسلحة ، وبنى باب اللان ، وباب سمسخي ، وبنى قلعة الجردمان ، وقلعة شمشلدى ، وبنى بلنجر وسمندر وخزران ، وشكّى ، وفتح جميع البلاد ما كان في أيدي الروم ، وعمر مدينة دبيل وحصّنها ، وبنى مدينة النّشوى وهي مدينة كورة البسفرّجان ، وبنى حصن ويص وقلاعا بأرض السيسجان منها قلعة الكلاب وشاهبوش وأسنها من سياسيجيّته ذوي البأس والنجدة ، وبنى الحائط بينه وبين الخزر بالصخر والرصاص وعرضه ثلاثمائة ذراع ، حتى ألحقه برءوس الجبال ، ثم قاده في البحر وجعل عليه أبواب حديد ، فكان يحرسه مائة رجل بعد أن كان يحتاج إلى خمسين ألف رجل.

وفي أخبار الفرس أن أنوشروان لمّا فرغ من سدّ ثغر بلنجر ، وفنّد الفند في البحر وأحكمه ، سرّ بذلك سرورا شديدا ، فأمر أن ينصب له على الفند سرير من ذهب ، ثم رقي إليه فحمد الله وأثنى عليه وقال : يا ربّ الأرباب ألهمتني سدّ هذا الثغر وقمع العدوّ ، فلك الحمد فأحسن مثوبتي ، وردّ غربتي إلى وطني ، ثم ركع وسجد ، ثم استوى واستلقى على فراشه ، وأغفي إغفاءة ، فطلع طالع من البحر سدّ الأفق لطوله ، وارتفعت معه غمامة سترت الضوء ، وأهوى نحو الفند فبادر الأساورة إلى قسيّهم ، وانتبه الملك فزعا فقال : ما شأنكم؟ فقيل له فقال : أمسكوا

٥٨٤

عن سلاحكم فلم يكن الله جلّ وعزّ ليلهمني الشخوص عن وطني اثني عشر حولا حتى أسدّ ثغرا يكون مرفقا لعباده وراحة لأهل إقليمه ، ثم يسلّط عليّ بهيمة من بهائم البحر ، فتنحّى الأساورة وأقبل الطالع نحو الفند حتى علاه ثم قال : أيّها الملك أنا ساكن من سكّان هذا البحر ، وقد رأيت هذا الثغر مسدودا سبع مرّات ، وخرابا سبع مرّات ، وأوحى الله جلّ وعزّ إلينا معاشر سكّان البحر أن ملكا عصره عصرك وصورته صورتك يبعثه الله لسدّ هذا الثغر ، فيسدّه إلى الأبد ، وأنت ذلك الملك ، فأحسن الله مثوبتك ، وعلى البرّ معونتك ، وأطال مدّتك ، وسكّن يوم الفزع الأكبر روعتك ، ثم غاص في البحر. وكذلك بنى مدينة شروان ، فأما بلنجر داخل أرض الخزر فبناها بلنجر بن يافث.

ولمّا فرغ أنوشروان من الفند الذي في البحر سأل عن ذلك البحر فقيل : أيّها الملك هذا البحر يسمّى بكردبيل ، وهو ثلاثمائة فرسخ في مثله ، وبيننا وبين بيضاء الخزر مسيرة أربعة أشهر على هذا الساحل ، ومن بيضاء الخزر إلى السدّ الذي سدّه إسفنديار بالحديد مسيرة شهرين ، قال أنوشروان : لا بدّ من الوقوف عليه ، قالوا : فليس إليه طريق يسلك ، وفيه موضع يقال له دهان شير ، وفيه دردور (١) لا يطمع فيه ، ولا في سلوكه ، ولا تنجو سفينة منه ، فقال : لا بدّ من ركوبه والإشراف على هذا الدردور والنظر إلى هذا السدّ ، فقالوا : أيّها الملك اتّق الله في نفسك ومن معك ، فأبى وقال : إن الذي نجّاني من الخارج علينا من البحر لقادر أن ينجّينا من دردوره ، فهيّئت له سفن وركب معه عدّة من الزهّاد والعبّاد ، ولجّجوا في البحر أيّاما ، حتى إذا وافوا موضع الدردور بقوا متحيّرين لا يرون علما يجعلوه منارا لهم ، ولا جبلا يقيموه إمارة لمنصرفهم ، فرجعوا على الملك باللوم ، فقال أنوشروان : أخلصوا لله نيّاتكم واضرعوا إليه وابتهلوا إلى الله عزّ وجلّ ، ونذر أنوشروان لئن نجّاه الله ليصدّقنّ خراج سبع سنين في أهل الفاقة من مملكته ، فبينما هم كذلك إذ رفعت لهم جزيرة تعلوه الأمواج وفوق الجزيرة تمثال أسد في عظم

__________________

(١) الدّردور : موضع في وسط البحر يجيش ماؤه لا تكاد تسلم منه السفينة. وقال الجوهري : الدردور : الماء الذي يدور ، ويخاف منه الغرق. لسان العرب (درر).

٥٨٥

جبل ، يدخل الماء في مؤخّره ، وينحطّ من فيه إلى ذلك الدردور ، فبينا هم كذلك إذ بعث الله جلّ وعزّ بقرش ـ سمكة أعظم من التنّين ـ ينساب على الماء ، فطفرت في فم الأسد وسكن الدردور ونفذت السفن حتى وصل إلى ما أراد ، وانصرف إلى جرجان وقضى نذره.

وذكر أحمد بن واضح الأصبهانيّ أنه أطال المقام ببلاد أرمينية ، وأنه كتب لعدّة من ملوكها وعمّالها ، وأنه لم ير بلدا أكثر خيرا ، ولا أعظم حيوانا منها ، وذكر أن عدّة ممالكها مائة وثلاث عشرة مملكة ، منها : مملكة صاحب السرير بين اللان وباب الأبواب ، وليس إليها إلّا مسلكان : مسلك إلى بلاد الخزر ، ومسلك إلى بلاد أرمينية ، وهي ثمانية عشر ألف قرية ، وأرّان أوّل مملكة بأرمينية فيها أربعة آلاف قرية ، وأكثرها قرى صاحب السرير.

[وباب الأبواب أفواه شعاب في جبل القبق ، فيها حصون كثيرة منها : باب صول ، وباب اللان ، وباب الشابران ، وباب لازقة ، وباب بارقة ، وباب سمسجن ، وباب صاحب السرير ، وباب فيلانشاه ، وباب طارونان ، وباب طبرسران شاه ، وباب إيران شاه.

وكان السبب في بناء باب الأبواب على ما حدّث به أبو العباس الطوسي (١) قال : هاجت الخزر مرة في أيام المنصور فقال لنا : أتدرون كيف بناء أنوشروان الحائط الذي يقال له الباب؟ قلنا : لا. قال : كانت الخزر تغير في سلطان فارس حتى تبلغ همذان والموصل. فلما ملك أنوشروان بعث إلى ملكهم فخطب إليه ابنته على أن يزوّجه إياها ويعطيه هو أيضا ابنته ويتوادعا ثم يتفرغا لأعدائهما. فلما أجابه إلى ذلك ، عمد أنوشروان إلى جارية من جواريه نفيسة فوجّه بها إلى ملك الخزر على أنها ابنته وحمّل معها ما يحمل مع بنات الملوك. وأهدى خاقان إلى أنوشروان ابنته. فلما وصلت إليه كتب إلى ملك الخزر : لو التقينا فأوجبنا المودة

__________________

(١) من شخصيات البلاط العباسي واسمه الفضل بن سليمان كان من حاشية المنصور ثم ولي خراسان للرشيد (ابن الأثير ٥ : ٥٠٣ و ٦ : ٢١٥) توفي عام ١٧١ (الطبري ٨ : ٢٣٥).

٥٨٦

بيننا. فأجابه إلى ذلك وواعده إلى موضع سمّاه.

ثم التقيا فأقاما أياما. ثم إن أنوشروان أمر قائدا من قوّاده أن يختار ثلاثمائة رجل من أشدّاء أصحابه ، فإذا هدأت العيون أغار في عسكر الخزر. فحرق وعقر ورجع إلى العسكر في خفاء ففعل.

فلما أصبح بعث إليه خاقان : ما هذا؟ بيّت عسكري البارحة؟

فبعث إليه أنوشروان : لم تؤت من قبلنا فابحث وانظر. ففعل ، فلم يقف على شيء. ثم أمهله أياما وعاد لمثلها حتى فعل ثلاث مرات ، وفي كلها يعتذر ويسأله البحث فيبحث فلا يقف على شيء. فلما أثقل ذلك على خاقان ، دعا قائدا من قواده وأمره بمثل ما أمر به أنوشروان. فلما فعل ، أرسل إليه أنوشروان : ما هذا؟ استبيح عسكري الليلة وفعل بي وصنع. فأرسل إليه خاقان : ما أسرع ما ضجرت! قد فعل هذا بعسكري ثلاث مرات ، وإنما فعل بك أنت مرة واحدة.

فبعث إليه أنوشروان : هذا عمل قوم يريدون أن يفسدوا فيما بيننا ، وعندي رأي لو قبلته رأيت ما تحب. قال : وما هو؟ قال : تدعني أن أبني حائطا بيني وبينك وأجعل عليه بابا فلا يدخل بلدك إلّا من تحب ولا يدخل بلدي إلّا من أحب. فأجابه إلى ذلك وانصرف خاقان إلى مملكته.

وأقام أنوشروان يبني الحائط بالصخر والرصاص وجعل عرضه ثلاثمائة ذراع وعلوّه حتى ألحقه برءوس الجبال ثم قاده في البحر. فيقال إنه نفخ الزقاق وبنى عليها فأقبلت تنزل والبناء يصعد حتى استقرت الزقاق على الأرض ، ثم رفع البناء حتى استوى مع الذي على الأرض في عرضه وارتفاعه. وجعل عليه بابا من حديد ووكل به مائة رجل يحرسونه بعد أن كان يحتاج إلى مائة ألف رجل. ثم نصب سريره على الفند الذي صنعه على البحر وسجد سرورا بما هيأه الله على يده ثم استلقى على ظهره وقال : الآن حين استرحت.

ووصف بعضهم هذا السدّ الذي بناه أنوشروان فقال : إنه جعل طرفا منه في البحر فأحكمه إلى حيث لا يتهيأ سلوكه. وهو مبني بالحجارة المنقورة المربعة

٥٨٧

المهندمة لا يقلّ أصغرها خمسون رجلا وقد أحكمت بالمسامير والرصاص. وجعل في هذه السبعة فراسخ ، سبعة مسالك على كل مسلك مدينة. ورتّب فيها قوم من المقاتلة من الفرس يقال لهم الانشاستكين.

وكان على أرمينية وظائف رجال لحراسة ذلك السور ، مقدار ما يسير عليه عشرون رجلا بخيلهم لا يتزاحمون.

وذكر أن بمدينة الباب على باب الجهاد فوق الحائط أسطوانتين من حجر على كل اسطوانة تمثال أسد من حجارة بيض ، وأسفل منهما حجرين على كل حجر تمثال لبؤتين ، وبقرب الباب صورة رجل من حجر وبين رجليه صورة ثعلب في فمه عنقود عنب ، وإلى جانب المدينة صهريج معقود له درجة تنزل إلى الصهريج منها إذا قلّ ماؤه ، وعلى جنبي الدرجة أيضا صورتا أسد من حجارة يقولون إنهما طلسمان للسور.

وأما حديثها أيام الفتوح فإن سلمان بن ربيعة الباهلي غزاها في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وتجاوز الحصنين وبلنجر ولقيه خاقان ملك الخزر في جيشه خلف نهر بلنجر فاستشهد سلمان بن ربيعة وأصحابه ـ وكانوا أربعة آلاف ـ فقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي يذكر سلمان بن ربيعة وقتيبة بن مسلم الباهليين يفتخر بهما :

وإنّ لنا قبرين : قبر بلنجر

وقبر بصين استان يا لك من قبر

فهذا الذي بالصين عمّت فتوحه

وهذا الذي يسقى به سبل القطر](١)

__________________

(١) ما بين عضادتين من معجم البلدان (باب الأبواب) ويأتي بعد بيتي الشعر أعلاه ما يلي (يريد أن الترك أو الخزر لمّا قتلوا سلمان بن ربيعة وأصحابه كانوا يبصرون في كل ليلة نورا عظيما على موضع مصارعهم ، فيقال إنهم دفنوهم وأخذوا سلمان بن ربيعة وجعلوه في تابوت وسيّروه إلى بيت عبادتهم ، فإذا أجدبوا أو أقحطوا ، أخرجوا التابوت وكشفوا عنه فيسقون). ولا ندري هل ان هذا التعليق من ابن الفقيه أم من ياقوت. وفي فتوح البلدان ١٩٩ رواية تختلف في تفصيلاتها في أمر أنوشروان وبناء السدّ عما هو هنا.

٥٨٨

وقاليقلا امرأة بنت مدينة قاليقلا فنسبت إليها ، ومعنى ذلك إحسان قالي ، وأما بحيرة الطّريخ فلم تزل مباحة حتى ولي محمّد بن مروان بن الحكم الجزيرة وأرمينية فحوى صيدها ، ثم صارت لمروان بن محمّد فقبضت عنه.

وفتح حبيب بن مسلمة لعثمان بن عفّان من أرمينية مدنا كثيرة ، وولى عبد الله بن حاتم بن النعمان بن عمرو الباهليّ من قبل معاوية ، ثم وليها ابنه عبد العزيز ، فبنى مدينة دبيل إلى مدينة برذعة ومدنا كثيرة ، ففتح حبيب بن مسلمة لعثمان بن عفّان من أرمينية : جراخ ، وكسفر ، وكسال ، وخنان ، وسمسخي ، والجردمان ، وكسفى بيس ، وشوشيت ، وبازليت صلحا ، على أن يؤدّوا أتاوة عن رؤوسهم وأراضيهم ، وصالح الصّناريّة ، وأهل قلرجيت والدّودانيّة على أتاوة.

وكانت شمكور مدينة قديمة فوجّه إليها سلمان بن ربيعة من فتحها ، فلم تزل مسكونة حتى أخربها الساورديّة (١) ، قوم تجمّعوا أيّام انصراف يزيد بن أسيد (٢) عن أرمينية ، فغلظ أمرهم وكثرت نوائبهم ، ثم إن بغا مولى المعتصم بالله عمرها وحصّنها ونقل إليها التجّار وسمّاها المتوكّليّة (٣). وفتح سلمان بن ربيعة مدينة البيلقان صلحا ، ووجّه خيله ففتحت سيسر ، والمسقوان ، وأوذ ، والمصريان ، والمهرجليان ، وهي رساتيق عامرة وفتح غيرها من أرّان ، ودعا أكراد البلاسجان إلى الإسلام فقاتلوه فظفر بهم فأقرّ بعضهم بالجزية وأدّى بعضهم الصدقة ، ثم سار سلمان إلى مجمع الكرّ والرّسّ خلف برديج ، فعبر الكرّ ففتح قبلة وصالحه شكّن والقميبران ، وخيزان ، وملك شروان ، وسائر ملوك الجبال ، وأهل مسقط والشابران ، ومدينة الباب ، ثم أغلقت هذه بعده ، ولقيه خاقان في خيوله خلف نهر

__________________

(١) لدى ياقوت (شمكور) : السناوردية وفي البلاذري ٢٠٦ : الساوردية.

(٢) لدى الطبري ٨ : ١٤٢ حوادث ١٦٢ ه‍ (فيها غزا يزيد بن أسيد السلمي من باب قاليقلا فغنم وفتح ثلاثة حصون وأصاب سبيا كثيرا وأسرى). وخبر فتح شمكور موجود في البلاذري ٢٠٦.

(٣) في ياقوت (شمكور) (إن بغا مولى المعتصم عمرها في سنة ٢ ، وهو والي أرمينية وآذربيجان وشمشاط وسماها المتوكلية) وهو يتفق مع ما لدى البلاذري ٢٠٦.

٥٨٩

بلنجر ، فقتل (رحمه الله) في أربعة آلاف من المسلمين ، وكان سلمان أوّل من استقضي بالكوفة أقام أربعين يوما لا يأتيه خصم ، وقد روي عن عمر بن الخطّاب.

قالوا : ولمّا فتح حبيب ما فتح من أرض أرمينية كتب بذلك إلى عثمان ، فوافاه كتاب نعيّ سلمان فهمّ بأن يولّيه ، ثم رأى أن يجعله غازيا لثغور الشام والجزيرة ، فولّى ثغر أرمينية حذيفة بن اليمان العبسيّ ثم عزله ، وسار حبيب راجعا إلى الشام ، فكان يغزو الروم ونزل حمص فنقله معاوية إلى دمشق فتوفّى بها. وولّى أرمينية المغيرة بن شعبة ثم عزله ، وولّى القاسم بن ربيعة الثقفيّ ، ووليّ الأشعث بن قيس لعليّ بن أبي طالب أرمينية وآذربيجان ، ثم وليها غير واحد إلى أن وليها مروان بن محمّد ، ففتح بلاد الخزر وأمعن فيهم.

ثم جاءت الدولة العبّاسيّة فولي أبو جعفر الجزيرة وأرمينية في خلافة أخيه أبي العبّاس ، ثم استخلف وولى يزيد بن أسيد السلميّ ، وفتح باب اللان ورتّب فيه رابطة من أهل الديوان ، ودوّخ الصّنّاريّة حتى أدّوا الخراج ، ثم إن أهل أرمينية استعصوا في ولاية الحسن بن قحطبة الطائيّ بعد عزل يزيد بن أسيد ، فبعث المنصور بالأمداد وعليهم عامر بن إسماعيل ، فأوقع الحسن بموشايل وكان رئيسهم ، وفرّق جمعه واستتبّ له الأمر وهو الذي نسب إليه نهر الحسن بالبيلقان ، وباغ الحسن ببرذعة والضياع المعروفة بالحسنيّة ، ثم ولي بعد الحسن عثمان بن عمارة ، ثم روح بن حاتم المهلّبيّ ، ثم خزيمة بن خازم ، ثم يزيد بن مزيد الشيبانيّ ، ثم عبيد الله بن المهديّ ، ثم الفضل بن يحيى ، ثم سعيد بن سلم ، ثم محمّد بن يزيد بن مزيد ، وكان خزيمة أشدّهم ولاية ، وهو الذي سنّ المساحة بدبيل ونشوى ، ولم يكن قبل ذلك. ثم وليهم خالد بن يزيد بن مزيد في ولاية المأمون ، ثم ولّى المعتصم بالله الحسن بن عليّ الباذغيسيّ المعروف بالمأمونيّ الذي واصل بطارقة أرمينية ولان لهم حتى خرجوا عليه ، ثم لم يزل يتولّى أرمينية عمّال كانوا يرضون اليسير من أهلها ، حتى ولى المتوكّل فبعث إليها يوسف بن محمّد بن يوسف المروزيّ لسنتين من خلافته (١).

وقالوا : أعظم حيوان أرمينية الشاء ، والثيران ، والكلاب ، وبراذينها صغار ،

__________________

(١) ما ورد أعلاه عن فتوح أرمينية موجود لدى البلاذري ١٩٧ وما بعدها حتى ٢١٣.

٥٩٠

وكذلك جمالها صغار. تكاد صدورها تصيب الأرض تشبه إبل الترك.

وجبل القبق فيه اثنان وسبعون لسانا ، كلّ إنسان لا يعرف لغة صاحبه إلّا بترجمان ، وطوله خمس مائة فرسخ ، وهو متّصل ببلاد الروم إلى حدّ الخزر واللان ، ويتّصل ببلاد الصقالبة ، وفيه أيضا جنس من الصقالبة والباقون أرمن. وقالوا : إن هذا الجبل جبل العرج الذي بين المدينة ومكّة ، يمضي إلى الشام ويتّصل بلبنان من حمص : وسنير من دمشق ، ثم يمضي فيتّصل بجبال أنطاكية والمصّيصة ، ويسمّى هناك اللّكام ، ثم يتّصل بجبال ملطية وشمشاط وقاليقلا إلى بحر الخزر ، وفيه الباب والأبواب ويسمّى هناك القبق.

[أخبرني أبو الهيجا اليمامي وكان أحد برد الآفاق وكان صدوقا فيما يحكي : إن بقاليقلا بيعة للنصارى وفيها بيت لهم كبير تكون فيه مصاحفهم وصلبانهم](١) ، فإذا كان ليلة الشعانين يخرج من موضع من البيت تراب أبيض إلى الصباح ، فإذا كان الصباح انضمّ موضعه إلى قابل من ذلك الوقت ، فيأخذه الرهبان فيدفعونه إلى الناس وخاصّيّته للسموم والعقارب والحيّات يداف منه وزن دانق بماء ويشربه الملدوغ والمسلوع فيسكن على المكان. وفيه أعجوبة أخرى وذلك أنه إن بيع هذا التراب وأخذ عليه شيء من عرض الدنيا لم ينتفع صاحبه ولم يبرئه من وجعه.

ومن عجائب أرمينية : بحيرة خلاط فإنها عشرة أشهر لا يرى فيها ضفدع ولا سرطان ولا سمكة ، ثم يظهر السمك بعد ذلك شهرين وسمكه كلّه مستراث (٢).

وقال أبو المنذر : اتّخذ الطلسمات كوش بن حام بن نوح ، والضحّاك ذو الحيّتين ، وذو القرنين ، ويوسف بن يعقوب ، وموسى بن عمران ، وحلوان العمليقيّ ، وبليناس الروميّ وقانبوس.

وحدّ آذربيجان إلى الرّسّ والكرّ بأرمينية ، ومخرج الرسّ من قاليقلا ، ويمرّ بأرّان فيصبّ فيه نهر أرّان ، ثم يمرّ بورثان ، ويمرّ بالمجمع فيجتمع هو والكرّ

__________________

(١) من ياقوت (قاليقلا) الذي صرّح بنقله هذه المادة عن ابن الفقيه.

(٢) في ياقوت (خلاط) نسب هذه المعلومة إلى ابن الكلبي.

٥٩١

وبينهما مدينة البيلقان ، ويمرّان جميعا فيصبّان في بحر جرجان. والرسّ واد عجيب ، وفيه أنواع من السمك ، وفيه يكون الشورماهي ولا يكون إلّا في هذا الوادي ، ويجيء في كلّ سنة في وقت معلوم ، كمثل أصناف حيتان البحر وقواطع السمك ، فإنها تجيء في أوقات معلومة كالاستور ، والجراف ، والبرستوج ، فإن هذه الأنواع تأتي البصرة من أقاصي البحار تستعذب الماء في ذلك الإبّان ، ألا إنّ البرستوج يقبل إليهم من الزنج يستعذب الماء من دجلة البصرة ، يعرف ذلك جميع البحريّة ، وهم يزعمون أن الذي بين البصرة وعمان أبعد ما بين البصرة والزنج ، وإنما غلط الناس فزعموا أن الصين أبعد لأن بحر الزنج حفيرة واحدة عميقة واسعة ، وأمواجه عظام ، ولذلك البحر ريح تهبّ قويّة ، ومن عمان إلى جهة الزنج شهران ، فلمّا كان البحر عميقا والريح قويّة والأمواج عظيمة والخيرات ببلاد الزنج قليلة ، وكان الشراع لا تحطّ وكان سيرهم مع الوتر ، ولم يكن مع القوس ولا يعرفون الكنب والمكا ، صارت الأيّام التي تسير فيها قسمة الزنج أقرب ، فالبرستوج يقطع أمواج البحر ، ويسبح من الزنج إلى البصرة ، ثم يعود ما فضل عن صيد الناس إلى بلاده ، فتبارك الله أحسن الخالقين ، وإنما عرف الشورماهي في هذا النهر من بين السمك لطيبه ولذّته وكثرة دسمه ورطوبة لحمه.

قالوا : ولنا المنّ الكثير وهو الترنجبين ، ولنا القرمز الذي ليس يشركنا فيه أحد ، وهي دودة حمراء تظهر أيّام الربيع ، فتلتقط ثم تطبخ ويصبغ بها الصوف ، والأشق دابّة تكون بأرمينية شبه السنّور ، ليّنة المفاصل وبرة الجلد ، ويبلغ الثور جملة وأنيابها جيّدة للمحبّة ، تؤخذ أنيابها ومخاليبها فتجفّف وتسقيه من تحبّ فإنه يحبّك حبّا شديدا. ولنا الفوّة الكثيرة ، وبها معدن الزيبق والقلقند والقلقطار والأسربّ ، ولهم الثيران الأرمينيّة ، والشاة بلّوط ، والخلنج الكثير ، ويتّخذون منه عجائب ، وتقطع هذه من غيضة ملتفّة بناحية برذعة ، كثيرة الشجر والنبات تتّصل بالخزر وتمرّ إلى ناحية خوارزم تسمّى غيضة الرحمن.

وتقرير أرمينية ألفا ألف وثلاثة وثلاثون ألفا وتسع مائة وخمسة وثمانون درهما.

٥٩٢

وخارج الباب ملك سور واللّكز ، وملك اللان ، وملك فيلان ، وملك المسقط ، وصاحب السّرير ، ومدينة سمندر ، ومن جرجان إلى خليج الخزر إذا كانت الريح طيّبة ثمانية أيّام ، والخزر كلّهم يهود وإنّما هوّدت من قريب (١) ، ومن بلاد الخزر إلى موضع السدّ شهران قال الله جلّ وعزّ في سورة الكهف : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) ـ إلى قوله ـ : (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) قال : كانوا يخرجون أيّام الربيع إلى أراضيهم فلا يدعون شيئا أخضر إلّا أكلوه ولا شيئا يابسا إلّا احتملوه. فقال : ما مكّنّي فيه ربّي خير فأعينوني بقوّة أجعل بينكم وبينهم ردما ، قالوا : ما الذي تريد؟ قال : زبر الحديد ـ يعني قطع الحديد ـ ثم أمر بالحديد فضرب منه لبنا عظاما ، وأذاب النحاس ، ثم جعل ملاط اللبن النحاس وبنى به الفجّ وسوّاه مع قلّتي الجبل ، فلمّا فرغ منه أمر بالنحاس فأذيب وأفرغ عليه من فوقه فصار شبيها بالمصمت ، فلمّا فرغ منه جاز تلك الأرض فقطعها في أربعة أشهر منصرفا.

وفي الخبر : أنه لمّا انتهى إلى موضع السدّ اجتمع إليه خلق كثير ، فقالوا له : يا أيّها الملك المظفّر إن خلف هذا الجبل أمما لا يحصيهم إلّا الله جلّ وعزّ ، وقد أخربوا علينا بلادنا وزروعنا. قال : وما صفتهم؟ قالوا : هم قوم قصار صلع عراض الوجوه. قال : وكم صنف هم؟ قالوا : هم أمم كثيرة لا يحصيهم إلّا الله. قال : وما أساميهم؟ قالوا : أما من قرب منّا فهم ستّ قبائل : يأجوج ، ومأجوج ، وتاويل ، وتاريس ، ومنسك ، وكمارى ، وكلّ قبيلة من هؤلاء مثل جميع أهل الأرض ، فأما من كان في البعد منّا فإنّا لا نعرف قبائلهم ، وليس لهم إلينا منفذ إلّا من هذا

__________________

(١) حدث اعتناق الخزريين لليهودية في عام ٧٤٠ للميلاد (إمبراطورية الخزر وميراثها ص ٤٢) أي عام ١٢٣ للهجرة.

٥٩٣

الوجه. وهذا الفجّ ، فهل نجعل لك خرجا على أن تسدّه عليهم وتكفينا أمرهم. قال : فما طعامهم؟ قالوا : يقذف البحر إليهم في كلّ عام سمكتين مسيرة عشرة أيّام كلّ سمكة منهما. قال : فبنى هذا السدّ وفي الخبر قال : السدّ طريقة حمراء من نحاس ، وطريقة سوداء من حديد ، ويأجوج ومأجوج أربع وعشرون قبيلة ، فكانت قبيلة منهم في الغزو وهم التّرك ، فردم ذو القرنين السدّ على ثلاث وعشرين قبيلة.

قال مقاتل بن سليمان : وإنما سمّوا الترك لأنهم تركوا خلف الردم ، قالوا : وإذا نزل عيسى (صلى الله عليه وسلم) وقتل الدجّال الملعون ظهر يأجوج ومأجوج فيقوم عيسى في المسلمين خطيبا ، فيحمد الله ويثني عليه ويقول : اللهمّ انصر القليل في طاعتك على الكثير في معصيتك ، فينصر الله المؤمنين عليهم ، وفي خبر عن وهب بن منبّه قال : هم قوم طول ، أحدهم مثل نصف الرجل المربوع منّا ، لهم مخاليب في مواضع الأظفار في أيدينا ، ولهم أضراس وأنياب كالسباع ، ولهم آذان عظام يفترشون الإحدى ويلتحفون بالأخرى ، وليس منهم ذكر ولا أنثى إلّا وقد عرف أجله ، وذلك أنه لا تموت الأنثى حتى يخرج من رحمها ألف ولد ، وكذلك الرجال منهم ، وهم يرزقون التّنين في الربيع ويستمطرونه لحينه ، كما يستمطر الغيث لحينه ، وهم يتداعون تداعي الحمام ، ويعوون عواء الذئب ، ويتسافدون حيث ما التقوا كتسافد البهائم ، ولمّا عاين ذو القرنين ذلك منهم انصرف إلى ما بين الصّدفين ، فقاس ما بينهما وهو منقطع أرض الترك ممّا يلي المشرق ، فوجد بعد ما بينهما فرسخا وهو ثلاثة أميال ، فحفر له أساس حتى بلغ الماء ثم جعل عرضه ميلا ، وجعل حشوه زبر الحديد أمثال الصخور ، وطينه النحاس يذاب فيصبّ عليه ، فصار كأنّه عرق من جبل تحت الأرض ، ثم علّاه وشرّفه بزبر الحديد والنحاس المذاب ، وجعل خلاله عرقا من نحاس أصفر ، فكأنه برد محبّر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد ، فلمّا فرغ منه وأحكمه انصرف راجعا. وقال ابن عبّاس : الأرض ستّة أجزاء : فيأجوج ومأجوج منها خمسة أجزاء ، وسائر الخلق في جزء واحد. وقال المعلّى بن هلال الكوفيّ : كنت بالمصّيصة فسمعتهم يتحدّثون أن البحر ربما مكث أيّاما وليالي لا يصفق أمواجه ، ويسمع له دويّ شديد ، فيقولون :

٥٩٤

ما هذا إلّا لشيء قد آذى دوابّ البحر فهي تضجّ إلى الله تعالى ، قال : فتقبل سحابة حتى تغيب في البحر ، ثم تقبل أخرى وأخرى حتى عدّ سبع سحائب ، ثم ترتفع إلى جانب آخر تنهزم تتبعها التي تليها ، والريح تصفقها ثم يرتفعن جميعا في السماء ، وقد أخرجن شيئا يرون أنه التنّين حتى يغيب عنّا ونحن نراه ورأسه في السحاب وذنبه يضطرب ، فيطرحه إلى يأجوج ومأجوج فيسكن البحر لذلك.

وقال المنصوريّ : إن السحاب الموكّل بالتنّين يخطفه حيث ما وجده كما يخطف حجر المغناطيس الحديد ، حتى صار لا يطلع رأسه خوفا من السحاب ، ولا يخرج رأسه إلّا في الفرد إذا صحت السماء ، وربما احتمله السحاب فانفلت منه ووقع في البحر ، فتجيء السحابة بهدّة ورعد وبرق فتدخل في البحر فتستخرجه ثانية ، فربما مرّ في طريقه بالشجرة العاديّة فيقتلعها والصخرة العظيمة فيرفعها ، وكان في بعض زمان حكيم يقال له بقراطيس فشا الموت في قرى هناك ففحص عنه بقراطيس هذا فإذا بتنّين قد أخرجه السحاب وانفلت منه. فوقع ونتن ، فأبلغ ذلك إلى أهل القرى فذهب بقراطيس فجمع الدراهم وجبى أهل القرى ، واشترى بها ملحا فألقاه عليه حتى سكن ذلك النتن ، وأسلم الله أهل البلاد ، قال بقراطيس : فذهبت إليه لأنظر ما هو فوجدت طوله فرسخين وعرضه أذرع كثيرة ، وجسمه مستدير ولونه مثل لون النمر ، مفلّس كفلوس السمك ، وله جناحان عظيمان كأجنحة السمك بالقرب من رأسه الذي يتشعّب منه الرءوس ، وهذا الرأس على خلقة رأس الإنسان مثل التلّ العظيم ، وله أذنان طويلتان عريضتان كآذان الفيل ، ويتشعّب من ذلك الرأس ستّة أعناق ، طول العنق عشرة أذرع ، على كلّ عنق رأس شبيه برأس الحيّة.

وحدّث سلّام الترجمان (١) أن الواثق بالله لمّا رأى في منامه كأن السدّ الذي

__________________

(١) قال المقدسي في أحسن التقاسيم ٢٧٧ (ط بيروت) : (قرأت في كتاب ابن خرداذبه وغيره في قصة هذا السدّ على نسق واحد. واللفظ والإسناد لابن خرداذبه لأنه كان وزير الخليفة وأقدر على ودائع علوم خزانة أمير المؤمنين مع أنه يقول : حدثني سلّام المترجم).

٥٩٥

بناه ذو القرنين بيننا وبين يأجوج ومأجوج قد انفتح ، فطلب رجلا يخرجه إلى الموضع فيستخبر خبره.

فقال أشناس (١) : ما هاهنا أحد يصلح إلّا سلّام الترجمان ـ وكان يتكلم بثلاثين لسانا ـ

قال : فدعا بي الواثق وقال : أريد أن تخرج إلى السدّ حتى تعاينه وتجيئني بخبره. وضمّ إليّ خمسين رجلا شباب أقوياء ووصلني بخمسة آلاف دينار ، وأعطاني ديتي عشرة آلاف درهم. وأمر فأعطي كل رجل من الخمسين ألف درهم ورزق سنة ، وأمر أن يهيأ للرجال اللبابيد وتغشى بالأديم واستعمل لهم الكستبانات (٢) بالفراء والركب الخشب وأعطاني مائتي بغل لحمل الزاد والماء.

فشخصنا من سر من رأى بكتاب من الواثق بالله إلى إسحاق بن إسماعيل صاحب أرمينية وهو بتفليس في انفاذنا. وكتب لنا إسحاق إلى صاحب السرير. وكتب لنا صاحب السرير إلى ملك اللان إلى فيلان شاه. وكتب لنا فيلان شاه إلى طرخان ملك الخزر.

فأقمنا عند ملك الخزر يوما وليلة حتى وجّه معنا خمسة أدلّاء فسرنا من عنده ستة وعشرين يوما ، فانتهينا إلى أرض سوداء منتنة الرائحة. وكنا قد تزودنا قبل دخولها خلّا نشمه من الرائحة المنكرة. فسرنا فيها عشرة أيام ثم صرنا إلى مدن خراب فسرنا فيها عشرة أيام ، ثم صرنا إلى مدن خراب فسرنا فيها عشرين يوما. فسألنا عن حال تلك المدن فخبّرنا أنها المدن التي كان يأجوج ومأجوج يتطرقونها فخربوها.

ثم صرنا إلى حصون بالقرب من الجبل الذي في شعبة منه السد وفي تلك

__________________

(١) أشناس التركي أحد القادة العسكريين للمعتصم والواثق الذي كان يجلّه حتى انه توّجه بتاج وألبسه وشاحين بالجواهر. توفي عام ٢٣٠ ه‍. (انظر الطبري ٩ : ١٢٤ والمنتظم ١١ : ٧٩ ، ١٥٥).

(٢) لم نهتد إلى معناها.

٥٩٦

الحصون قوم يتكلمون بالعربية والفارسية ، مسلمون يقرءون القرآن لهم كتاتيب ومساجد فسألونا من أين أقبلنا ، فأخبرناهم إنّا رسل أمير المؤمنين. فأقبلوا يتعجبون ويقولون أمير المؤمنين! فنقول نعم. فقالوا : شيخ هو أم شاب؟ فقلنا شاب. فعجبوا أيضا فقالوا : أين يكون؟ فقلنا بالعراق في مدينة يقال لها سرّ من رأى. فقالوا : ما سمعنا بهذا قط.

وبين كل حصن من تلك الحصون إلى الحصن الآخر فرسخ إلى فرسخين أقل وأكثر.

ثم صرنا إلى مدينة يقال لها إيكة ، تربيعها عشرة فراسخ ولها أبواب حديد يرسل الأبواب من فوقها وفيها مزارع وأرحاء داخل المدينة وهي التي كان ينزلها ذو القرنين بعسكره. بينها وبين السدّ مسيرة ثلاثة أيام وبينها وبين السدّ حصون وقرى حتى تصير إلى السد في اليوم الثالث. وهو جبل مستدير ذكروا أن يأجوج ومأجوج فيه وهما صنفان ، ذكروا أن يأجوج أطول من مأجوج. ويكون طول أحدهم ما بين ذراع إلى ذراع ونصف وأقل وأكثر.

ثم صرنا إلى جبل عال عليه حصن. والسد الذي بناه ذو القرنين هو فجّ بين جبلين عرضه مائتا ذراع وهو الطريق الذي يخرجون منه فيتفرقون في الأرض. فحفر أساسه ثلاثين ذراعا إلى أسفل وبناه بالحديد والنحاس حتى ساقه إلى وجه الأرض ثم رفع عضادتين مما يلي الجبل من جنبتي الفج ، عرض كل عضادة خمس وعشرون ذراعا ونصفا في ذراع ونصف في سمك أربع أصابع ، ودروند حديد طرفاه على العضادتين طوله مائة وعشرون ذراعا قد ركب على العضادتين على كل واحدة بمقدار عشر أذرع في عرض خمس أذرع وفوق الدروند بناء بذلك اللبن الحديد في النحاس إلى رأس الجبل ، وارتفاعه مدّ البصر يكون البناء فوق الدروند نحوا من ستين ذراعا ، وفوق ذلك. شرف حديد في طرف كل شرفة قرنتان تنثني كل واحدة منهما على الأخرى ، طول كل شرفة خمس أذرع في عرض أربع أذرع ، وعليه سبع وثلاثون شرفة. وإذا باب حديد بمصراعين معلقين عرض كل مصراع خمسون ذراعا في ارتفاع خمس وسبعين ذراعا في ثخن خمس أذرع وقائمتاهما في

٥٩٧

دوّارة على قدر الدروند ، لا يدخل من الباب ولا من الجبل ريح كأنه خلق خلقة.

وعلى الباب قفل طوله سبع أذرع في غلظ باع في الاستدارة. والقفل لا يحتضنه رجلان. وارتفاع القفل من الأرض خمس وعشرون ذراعا وفوق القفل بقدر خمس أذرع غلق طوله أكثر من طول القفل وقفيزاه كل واحد منهما ذراعان ، وعلى الغلق مفتاح معلّق طوله ذراع ونصف وله اثنا عشرة دندانكة (١) ، كل دندانكة في صفة دستج الهواوين ، واستدارة المفتاح أربعة أشبار معلق في سلسلة ملحومة بالباب طولها ثماني أذرع في استدارة أربعة أشبار. والحلقة التي فيها السلسلة مثل حلقة المنجنيق. وعتبة الباب عرضها عشر أذرع في بسط مائة ذراع سوى ما تحت العضادتين ، والظاهر منها خمس أذرع ، وهذه الذراع كلها بالذراع السوداء.

ومع الباب حصنان يكون كل واحد منهما مائتي ذراع في مائتي ذراع وعلى باب هذين الحصنين شجرتان وبين الحصنين عين عذبة ، وفي أحد الحصنين آلة البناء التي بني بها السدّ من القدور الحديد والمغارف الحديد ، على كل ديكدان (٢) أربع قدور مثل قدور الصابون. وهناك بقية من اللبن الحديد قد التزق بعضه ببعض من الصدأ.

ورئيس تلك الحصون يركب في كل يوم اثنين وخميس. وهم يتوارثون ذلك الباب كما يتوارث الخلفاء الخلافة. يجيء راكبا ومعه ثلاثة رجال على عنق كل رجل مرزبّة ، ومع الباب درجة ، فيصعد على أعلى الدرجة فيضرب القفل ضربة في أول النهار فيسمع لهم جلبة مثل كور الزنابير ثم يخمدون ، فإذا كان عند الظهر ضربه ضربة أخرى ويصغي بأذنه إلى الباب فتكون جلبتهم في الثانية أشد من الأوّلة ثم يخمدون. فإذا كان وقت العصر ضربه ضربة أخرى فيضجون مثل ذلك ثم يقعد إلى مغيب الشمس ثم ينصرف.

__________________

(١) مصغّر كلمة دندان وهي فارسية تعني السن. وهي هنا تعني الأسنان الصغيرة التي تمتد على طول المفتاح. أمّا دستج الهواوين ، فهي المدقّة. والدروند التي مرت قبل قليل فهي ـ كما في كتاب السامي في الأسامي ٥٣١ ـ

: مغلاق الباب.

(٢) الأثافي التي تنصب ليوضع القدر عليها.

٥٩٨

الغرض في قرع القفل أن يسمع من وراء الباب فيعلموا أن هناك حفظة ويعلم هؤلاء أن أولئك لم يحدثوا في الباب حدثا.

وبالقرب من هذا الموضع حصن كبير يكون عشرة فراسخ في عشرة فراسخ ، تكسيره مائة فرسخ.

قال سلام : فقلت لمن كان بالحضرة من أهل الحصون : هل عاب من هذا الباب شيء قط؟ قالوا : ما فيه إلّا هذا الشق ، والشق كان بالعرض مثل الخيط دقيق. فقلت : تخشون عليه شيئا؟ فقالوا : لا ، إن هذا الباب ثخنه خمسة (١) أذرع بذراع الإسكندر يكون ذراعا ونصفا بالأسود ، كل ذراع واحدة من ذراع الإسكندر.

قال : فدنوت وأخرجت من خفّي سكينا فحككت موضع الشق فأخرج منه مقدار نصف درهم وأشدّه في منديل لأريه الواثق بالله.

وعلى فرد مصراع الباب الأيمن في أعلاه مكتوب بالحديد باللسان الأول «فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا».

وننظر إلى البناية وأكثره مخطط ساف أصفر من نحاس وساف أسود من حديد ، وفي الجبل محفور الموضع الذي صب فيه الأبواب وموضع القدور التي كان يخلط فيها النحاس والموضع الذي كان يغلى فيه الرصاص والنحاس وقدور شبيهة بالصفر لكل قدر ثلاث عرى فيها السلاسل والكلاليب التي كان يمدّ بها النحاس إلى فوق السور.

وسألنا من هناك؟ هل رأيتم من يأجوج ومأجوج أحدا؟ فذكروا أنهم رأوا مرة عددا فوق الجبل فهبّت ريح سوداء فألقتهم إلى جانبهم ، وكان مقدار الرجل في رأي العين شبرا ونصفا.

والجبل من الخارج ليس له متن ولا سفح ولا عليه نبات ولا حشيش ولا شجرة ولا غير ذلك وهو جبل مسلنطح قائم أملس أبيض.

__________________

(١) في الأصل : خمس.

٥٩٩

فلما انصرفنا أخذ الأدلّاء بنا ناحية خراسان ، وكان الملك يسمى اللب ، ثم خرجنا من ذلك الموضع وصرنا إلى موضع يقال له طبانوين وهو صاحب الخراج فأقمنا عندهم أياما وسرنا من ذلك الموضع حتى وردنا سمرقند في ثمانية أشهر ، ووردنا إلى اسبيشاب وعبرنا نهر بلخ ثم صرنا إلى أشروسنة وإلى بخارا وإلى ترمذ ثم وصلنا نيسابور ومات من الرجال الذين كانوا معنا ومن مرض منهم في الذهاب اثنان وعشرون رجلا. من مات منهم دفن في ثيابه ومن مرض خلّفناه مريضا في بعض القرى. ومات في المرجع أربعة عشر رجلا.

فوردنا نيسابور ونحن أربعة عشر رجلا ـ وكان أصحاب الحصون زوّدونا ما كفانا ـ ثم صرنا إلى عبد الله بن طاهر فوصلني بثمانية آلاف درهم ووصل كل رجل معي بخمس مائة درهم. وأجرى للفارس خمسة دراهم وللراجل ثلاثة دراهم في كل يوم إلى الري. ولم يسلم من البغال التي كانت معنا إلّا ثلاثة وعشرون بغلّا.

ووردنا سرّ من رأى فدخلت على الواثق فأخبرته بالقصة وأريته الحديد الذي كنت حككته من الباب. فحمد الله وأمر بصدقة يتصدق بها وأعطى الرجال كل رجل ألف دينار. وكان وصولنا إلى السدّ في ستة عشر شهرا ورجعنا في اثني عشر شهرا وأيام (١).

__________________

(١) كان دي خويه قد ترك فراغا حين بدأ بقصة سلام الترجمان في طبعه لمختصر البلدان. ويبدو أنه لم يجد فائدة في كتابتها لأنها موجودة في المسالك والممالك الذي طبعه هو ضمن مسلسل المكتبة الجغرافية. وقد آثرنا نحن كتابتها هنا فنقلناها عن ابن خرداذبه فهو المصدر الأول لكل من روى تلك الرحلة. (انظر المسالك والممالك ١٦٢ ـ ١٧٠).

٦٠٠