البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

المواعظ والأشعار الوعظية : «ولو لم يفدك هذا الكتاب من الأخبار العجيبة والأشعار الظريفة والأمور الغريبة ، لكان فيما يفيدك من أخبار البلدان وعجائب الكور والأمصار بلاغا ومقنعا. فكيف وقد أفادك علم الماضين وأخبار الأولين. وذلك علم المعنيين. ووقفك على الطريقين ، وأرشدك إلى الأمرين جميعا : حكمة بالغة وموعظة موجزة. تعرفت منه أخبار الماضين وأبنية من قد سلف من الأولين. وفي هذا الخبر الذي أثبته هاهنا عبرة لمن اعتبر وفكرة لمن تفكر ، ودليل على وحدانية الله تعالى ، ومخبر عن آياته وقدرته. فصفّ ذهنك وفرّغ قلبك ، وأقبل عليه بسمعك وتفكر فيه وفيما تضمنته من الأعجوبة. فإن فيه عبرة لأولي الألباب» (١٠٩ ب) ثم أورد بعد ذلك قصة عجيبة عن الخضر وملك بني إسرائيل.

نقول عن كتاب البلدان

أول من نقل عنه ، حسن بن محمد القمي الذي ألّف كتابه تاريخ قم عام ٣٧٨ ه‍ ـ الذي نقل عنه في اثنى عشر موضعا.

والثاني هو المقدسي البشاري (٣٣٥ ـ ٣٩٠ ه‍ ـ) الذي كان ازدراؤه لكتاب ابن الفقيه ـ كما مرّ بنا فيما مضى ـ مانعا له عن النقل عنه ، فلم ينقل إلّا في موضع واحد (ص ٢٧ من طبعة بيروت).

ويأتي بعد ذلك محمد بن محمود بن أحمد طوسي مؤلف كتاب عجائب المخلوقات الذي قال حاجي خليفة (٢ : ١١٢٧) أنه ألّفه عام ٥٥٥ ه‍ ـ إلّا أن محقق الكتاب لاحظ فيه تاريخ ٥٦٢ ه‍ ـ وأضاف : «على الرغم من كون اسمه : الطوسي. إلّا أنه إمّا أن يكون من أهل همدان أو عاش ردحا من الزمن فيها ، كما يستفاد من الكتاب. وهو لم يشر إلى مصادره إلّا فيما ندر ، ولم يشر إلى ابن الفقيه ولا مرة واحدة» (١).

ومن خلال مطالعتنا لعجائب الطوسي رأينا العجب العجاب. فالرجل قد نقل أكثر من ثلثي كتابه عن ابن الفقيه ولم يشر إليه ولا مرة واحدة. ولم يكن له من

__________________

(١) مقدمة منوجهر ستوده للكتاب ١٨ و ٢١.

٤١

جهد في ذلك النقل سوى ترجمته النصوص إلى الفارسية.

أما أكثرهم نقلا مع التنويه بأنه ينقل عن ابن الفقيه ـ بصورة عامة ـ فهو ياقوت الحموي الذي نقل عنه في مائة وثلاثة مواضع من كتابه معجم البلدان (١). وقد كان قلمه يزل أحيانا فيكتب : محمد بن أحمد بدلا من الصواب : أحمد بن محمد وهو الغالب في كتابه. وقد ذكرنا فيما مضى من المقدمة الموارد التي زلّ فيها قلمه.

ولقد دلتنا نقوله أنه كان ينقل عن المخطوطة الأصل وليس المختصرة كما أشرنا إلى ذلك في هوامش الكتاب. ونعتقد أنه كان ينقل عن نسخة من كتاب البلدان أكمل من هذه التي يوجد نصفها تقريبا بين أيدينا. ففي مادة (شبداز) لدى ابن الفقيه وفي النسخة الأصل لم نجد بضعة أسطر كان ياقوت قد قال صراحة أنه نقلها عن ابن الفقيه (انظر مادة شبداز ٣ : ٢٥٠). وكان يجري تغييرا طفيفا على العبارة. فمثلا نقرأ في فصل همذان لدى ابن الفقيه : «وقرأ عليّ بعض النصارى كتابا بالسريانية» (١١١ أ) ونجد ياقوت كتبه هكذا : «ووجد في بعض كتب السريانيين» (همذان ٤ : ٩٨١). أو قول ابن الفقيه (١١١ ب) : «فأجمعوا على أن تسدّ عيونها حولا ثم يفتح السد ويرسل على المدينة فإنها تغرق». نجده لدى ياقوت : «فأجمعوا على أن مياه عيونها تحبس حولا ثم تفتر وترسل على المدينة فإنها تغرق» (مادة همذان ٤ : ٩٨٢).

ويبدو أن كثرة نقول ياقوت عن ابن الفقيه كانت تدعوه إلى أن ينقل عنه من غير أن يذكر اسمه. فنحن نعرف بشكل أكيد أن المناظرة بين الواسطي وابن أبي السرح ـ قلنا إننا نرجح أن يكون ابن أبي السري ـ قد جرت في منزل محمد بن إسحاق بهمذان ، وهو والد أحمد بن محمد بن إسحاق مؤلف كتاب البلدان (١١٧ ب وما يليها) ومع ذلك فقد نقلها ياقوت (مادة همذان ٤ : ٩٨٤) بطولها

__________________

(١) انظر ص ٣٠٠ من فهرست فرديناند وستنفلد محقق أفضل طبعة للكتاب ظهرت حتى الآن. حيث ذكر ٩٨ موضعا وأضفنا خمسة مواضع سها عنها قلمه.

٤٢

ونقل بقية المعلومات المتعلقة بهمذان الموجودة لدى ابن الفقيه من غير أن يذكره ولا مرة واحدة في هذه المادة.

أخيرا جاء زكريا القزويني الذي كتب كتابه آثار البلاد عام ٦٧٤ ه‍. ونرجح أنه قد أخذ عن ياقوت نقوله عن ابن الفقيه وأودعها كتابه ، بحيث يمكننا القول بما يشبه اليقين أنه لم ير كتاب ابن الفقيه. دليلنا على ذلك أنه حيثما أخطأ ياقوت في اسم ابن الفقيه ، كان هذا الخطأ يتكرر في نفس المادة لدى القزويني. فقد كنا أشرنا إلى أن ياقوتا كان يسهو أحيانا فيكتب اسم ابن الفقيه هكذا : محمد بن أحمد الهمذاني. ونصادف هذا الخطأ لدى القزويني. فحين يقول ياقوت (مادة : رومية ٢ : ٨٧٢) «فجميع ما ذكرته هاهنا من صفة هذه المدينة فهو من كتاب محمد بن أحمد الهمذاني المعروف بابن الفقيه». نجد القزويني (ص ٥٩٤ مادة رومية أيضا) يكرر نفس الخطأ فيقول : «وهذه كلها منقولة من كتاب ابن الفقيه وهو محمد بن أحمد الهمذاني» (١).

وصف مخطوطة الكتاب

ضمت المجموعة الخطية التي كشف النقاب عنها في المكتبة التابعة لحضرة الإمام علي بن موسى الرضا (ع) بمدينة مشهد الإيرانية المخطوطات التالية :

١ ـ نصف كتاب البلدان لابن الفقيه وهو الذي نقدمه بين أيدي القراء الأفاضل.

__________________

(١) انظر نماذج أخرى باسم محمد بن أحمد وفي نفس المادة يحذو فيها القزويني حذو ياقوت فيما يلي : صنعاء (ياقوت ٣ : ٤٢١) والقزويني (٥٠) سوى أن القزويني اختصر المادة قليلا. زمزم (ياقوت ٢ : ٩٤٢) والقزويني (١٢٠). قصر شيرين (ياقوت ٤ : ١١٣) والقزويني (٤٤١).

ويقتضي الإنصاف أن نقول إنه كان يحدث أن يكون الاسم صحيحا لدى ياقوت لكنه مكتوب بصورة مغلوطة لدى القزويني. ففي مادة جبل شبام نجد ياقوتا يقول (٣ : ٢٤٨) ، قال أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني ...... بينما نجد القزويني (١١٦) يقول في نفس المادة : قال محمد بن أحمد بن إسحاق الهمذاني. وقد كرر هذا الغلط في مادة طرسوس لدى القزويني (٢١٩) بينما كان ياقوت قد نقل نفس المادة عن ابن الفقيه مع ذكر اسمه الصحيح وهو أحمد بن محمد (٣ : ٥٢٦).

٤٣

٢ ـ الرسالتين الأولى والثانية اللتين دون فيهما أبو دلف مسعر بن المهلهل رحلاته.

٣ ـ النص الكامل لرسالة ابن فضلان التي دون فيها مذاكرته عن رحلته التي قام بها عام ٣١٠ ه‍ـ لمناطق بلغار الفولغا وبلاد الخزر والروس والصقالبة. وقد طبعت رسالتا أبي دلف ، كما طبعت رحلة ابن فضلان بينما بقيت مخطوطة بلدان ابن الفقيه حتى يومنا هذا على رف الانتظار.

يقول فلاديمير مينورسكي الأستاذ بجامعة لندن : «إن كاتب المجموعة الخطية هو شخص واحد قد كتبها على التوالي. ومن الممكن أن يعود تاريخ كتابتها إلى زمن يرقى إلى ما قبل الهجوم المغولي هو القرن السابع الهجري على أوجه التقريب. خطها ليس عسيرا على القراءة .... وتظهر ملاحظة بعض خصائص الإملاء أن كاتبها شخص إيراني ، من قبيل استخدام (ژ) الفارسية أي ذات الثلاث نقاط. وكذلك كتابته لبعض التراكيب العربية التي لا معنى لها مثل كتابته (١٨٤ أ) (هي مدينة الإسلام وراها) بدلا من الصواب (لا إسلام وراءها). أو كتابته (١٨٥ أ) (وبه بنو معون المهدي) بدلا من الصواب وهو (وبه يتوقعون المهدي) (١)».

ومن خلال المطالعة الدقيقة لمخطوطة البلدان نرى ما يلي : إن المخطوطة عرّضت لتشويهين : أولهما أنها كانت تملى على شخص كان يسمع فيكتب. ودليلنا

__________________

(١) سفر نامه أبو دلف در إيران. المقدمة ص ٢٠ و ٣٤ ـ ٣٥ وقد ذكر أمثلة أخرى من خصائص المخطوطة مثل خلطه في الضمائر والصفات في التذكير والتأنيث أو تمييز الأعداد. أو التاء الطويلة بدلا من القصيرة وغير ذلك.

كما نبّه إلى كتابته الأسماء التي فيها حرف الدال ، بحرف الذال ، فهو يكتب بغداد بالذال فيقول بغداد. ويرى مينورسكي أن تلك كانت طريقة سائدة في الكتابة العربية والفارسية. وقد أهملت الكتابة بالذال في بداية القرن السابع الهجري.

وبدورنا فقد كتبنا كلمة (بغداد) التي وردت في كافة أرجاء الكتاب وخاصة الفصل الخاص بمدينة السلام بغداد ـ بصورة عامة ـ كتبناها بالدال.

٤٤

على ذلك وجود تحريف في الكلمات لا يمكن تصحيفها بالنقل من كتاب مدوّن. فيستحيل مثلاً أن يصحف كاتب ما كلمة (سهم) إلى (صهم) إذا كانت كلمة (سهم) مكتوبة أمامه وهو يقوم بنقلها. من الممكن أن تصحف إلى (شهم) أو (بهم) أو (نهم) أو (بينهم) أو أي شيء قريب. لكن أن تصحف إلى (سهم) ـ بالصاد ـ فإن ذلك يعني أن المملي ـ وهو غير عربي ـ قد قرأها مضخّمة فكتبها السامع بالصاد. وسنقدم أمثلة أخرى على ذلك.

أما التشويه الثاني فقد حدث على ناسخ استنسخ المخطوطة فارتكب أخطاء في الكتابة مما يمكن صدوره عمن ينقل من كتاب مدوّن أمامه مثل كتابة (ونموق قريبا) بدلا من (وتموت) وهو الصواب.

أخطأ سببها السماع المغلوط :

الخطأ

الصواب

[١١١ ب] فأصيبت عينه بصهم لذهبت

بسهم فذهبت

[١١٤ أ] فالماء يشرب كرفا وممزوجا

صرفا

[١١٤ أ] الماء الذي يطرب كل شيء ولا ينجسه شيء

يطهّر كل شيء.

[١١٩ ب] وليس فينا دقة النظر أهل البصرة

نظر

[١١٠ ب] فلم يجبه بحرفه

بحرف

أما تصحيفات النوع الثاني وهو الكتابي الممكن حدوثه أثناء النقل من نص مكتوب يقرؤه الناسخ نفسه. فمثل (٩٧ ب) وإذا فكرت في أمر صورة شبديز هذه وحدثها كما ذكر المعتزلي. والصواب (وجدتها). وقوله (١٠٣ أ) فأحجج الناس جميعا. والصواب (فأحجم). وقوله (١٠٣ أ) إن أمر نسائه سيعلموا على أمور

٤٥

الرجال. والصواب (سيعلو). (١٠٣ أ) إن حق صحن الدار أن يعمر بالجزم والحاشية. والصواب (بالخدم). و (١٠٥ أ) بنيت شديدا وتأمل بعيدا ونموق قريبا. والصواب (وتموت). و (١٠٧ ب) فحفروا وانتطوا الماء. والصواب (وأنبطوا).

عملنا في الكتاب

لما كانت المخطوطة الرضوية تمثل النصف الثاني لكتاب البلدان فقط. فقد اضطررنا إلى الاستعانة بمختصر الكتاب الذي طبعه دي خويه فوضعنا نصفه الأول في أول الكتاب ثم ألحقنا به النصف الثاني المخطوط (مخطوطة الرضوية) تجنبا لأن يكون في المكتبات كتابان أحدهما (مختصر كتاب البلدان) والثاني (النصف الثاني من مخطوطة البلدان الكاملة). هذا أولا.

ثانيا : الأبواب التي هي موجودة في المختصر والمخطوط الأصل ، اخترنا إثبات ما هو في المخطوطة الأصل الكاملة. إذ لا يعقل أن نثبت ما كتب عن الترك في المختصر ومقداره صفحة واحدة ونهمل ما هو في المخطوطة الكاملة ومقداره يزيد على عشر صفحات. أو نهمل مادة طبرستان الموسعة في المخطوطة لنثبت المختصر الذي هو في المطبوع.

ومع ذلك ، ومن أجل فائدة من يرغب في المزيد من الدقة. فقد ارتأينا أن تطبع المواد المشتركة بين المختصر والمخطوطة الكاملة ، أن تطبع بالحرف الأسود (المحقّق) ليرى القارئ مقدار الإساءة التي أساءها مختصر الكتاب حين حذف أسانيد الكتاب أو أسطرا من منتصف المواد حيث كنا نرى الجمل معلّقة أحيانا لا تعطي معنى ، إضافة إلى اختصاره القطع الشعرية. وكل ذلك يتضح للقارئ من خلال ملاحظته السطور المطبوعة بالحرف الأبيض عن تلك المطبوعة بالأسود. ويكفي اختصار الكتاب نقصا أنه حذفت منه أغلب الأسانيد. كما حذف منه أهم فصول الكتاب ونعني بها تلك المتعلقة بالترك والبلغار والصقالبة.

أخيرا ، أرجو من السادة المحققين والأساتذة والنقاد ، أن يتكرموا عليّ وهم

٤٦

المتفضلون ، إن كانت لديهم ملاحظات على الكتاب ـ سواء نشرت في الصحف والمجلات أم لم تنشر ـ بإرسال نسخة من تلك الملاحظات إلى دار عالم الكتب ، لتتفضل مشكورة بإرسالها لي حيث أعيش الألف عام الأولى من العزلة بلا وطن ولا هوية ، خارج الجغرافيا والتاريخ.

والله وليّ التوفيق.

الأول من فبراير ١٩٩٥

يوسف الهادي

٤٧
٤٨

٤٩

٥٠

٥١
٥٢

٥٣
٥٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين الطاهرين.

هذا بقية القول في العراق والبصرة وأخبار دار فتحها والوقت الذي بنيت فيه ، وما فيها من العجائب ، والقول في الأبلة. والقول في البطائح. والقول في واسط. والقول في النبط والخوز. والقول في بغداد وأخبار كور دجلة. والقول في سرّ من رأى. القول في خراج الدنيا وما كان يحمل إلى بيت السلطان من بلد إلى بلد. القول في الأهواز وفارس ومدنها. القول في قرميسين وأخبار شبريز. القول في همذان وعجائبها. القول في نهاوند وإصبهان وقم وعجائبها. القول في الري ودنباوند وأخبار بيوراسف. القول في قزوين وأبهر وزنجان وطبرستان. القول في خراسان ومدنها وأخبارها. القول في الترك وأخبارهم وقبائلهم وشرائعهم. ذكرنا أضيف (؟) إلى ما صنّفه أحمد بن محمد الهمذاني في آخر كتابه رسالتين كتبهما إلينا أبو دلف مسعود (كذا) بن المهلهل. () في إحداهما أخبار الترك والصين بمشاهدته ذلك. والأخرى أشياء رآها وشاهدها () وأضفنا إليه كتابا جمعه أحمد بن فضلان بن راشد بن حماد مولى محمد بن سليمان الهاشمي في أخبار الترك والخزر والروس والصقالبة والباشغرد مما وقف عليه ونظر إليه. لأن المقتدر بالله أنفذه إلى بلد الصقالبة في سنة تسع وثلاثمائة باستدعاء ملكهم ذلك () والإسلام. فحدّث بجميع ما شاهده في هذه البلدان (). [١ ب].

نص ما هو مكتوب على الصفحة التي تلي صفحة العنوان. والفراغات إما كلمات مطموسة أو غير مقروءة.

٥٥
٥٦

بسم الله الرحمن الرحيم

ربّ يسّر

قال ، قال الفضل بن يحيى : الناس أربع طبقات : ملوك قدّمهم الاستحقاق ، ووزراء فضّلهم الفطنة والرأي ، وعليه أنهضهم اليسار ، وأوساط ألحقهم بهم التأدّب ، والناس بعدهم زبد جفاء وسيل غثاء لكع ولكاع وربيطة اتّضاع ، همّ أحدهم طعمه ونومه. وقال معاوية للأحنف : صف لي الناس. فقال : رؤوس رفعهم الحظّ ، وأكتاف عظّمهم التدبير ، وأعجاز شهرهم المال ، وأدباء ألحقهم بهم التأدّب ، ثم الناس بعدهم أشباه البهائم ، إن جاعوا ساموا ، وإن شبعوا ناموا. وقال بزرجمهر لرجل : إن أردت أن تبلغ أحظى درجة الآداب وأهلها ، فاصحب ملكا أو وزيرا ، فإنهما برغبتهما في معرفة أيّام الملوك وأخبارهم ، والآداب وأهلها ، وقسمة الفلك ونجومه ، يبعثانك على طلب ذلك. قال : فما وسيلتي إليهما؟ قال : انتحال ذلك رسم الإدراك ، والطلب مادّة الوجود والآداب عند الهمّة. وقال أسامة بن معقل : كان السّفّاح راغبا في الخطب والرسائل ، يصطنع أهلها ويثيبهم عليها ، فحفظت ألف رسالة وألف خطبة طلبا للحظوة عنده فنلتها ، وكان المنصور بعده معنيّا بالأسمار والأخبار وأيّام العرب ، يدني أهلها ويجيزهم عليها. فلم يبق شيء من الأسمار والأخبار إلّا حفظته طلبا للقربة منه ، فظفرت بها. وكان موسى مغرما بالشعر يستخلص أهله فما تركت بيتا نادرا ، ولا شعرا فاخرا ، ولا نسيبا سائرا إلّا حفظته ، وأعانني على ذلك طلب الهمّة في علوّ الحال. ولم أر شيئا أدعى إلى تعلّم الآداب من رغبة الملوك في أهلها وصلاتهم عليها. ثم زهد هارون الرشيد في هذه الأربعة وأنسيتها حتى كأنّي لم أحفظ منها شيئا. دخل الشّعبيّ على الحجّاج فقال :

٥٧

يا شعبيّ أدب وافر وعقل نافر. قال : صدقت أيّها الأمير. العقل سجيّة والأدب تكلّف. ولو لا أنتم ـ معاشر الملوك ـ ما تأدّبنا ، قال : فالمنّة في ذلك لنا دونكم. قال : صدقت ، قال الشاعر ، في عبيد الله بن زياد :

علّمني جودك ما لم أكن

أحسنه من جيّد الشعر

فصرت في الناس أخا ثروة

وصرت ذا جاه وذا قدر

وأنشد لغيره :

وكنت مفحّما دهرا طويلا ،

فصيّرني عطاؤك ذا بيان

فما شكري لخلق مثل شكري

لمن كفّاه أطلقتا لساني

قال : فكتابي هذا ، يشتمل على ضروب من أخبار البلدان ، وعجائب الكور والبنيان ، فمن نظر فيه من أهل الأدب والمعرفة ، فليتأمّله بعين الإنصاف ، وليعرنا فيه حسن محضره وجميل رأيه ، فإن الأجدى في المذهب شاؤك ، وقرابة دانية ، ورحم ماسّة ، ووصلة واشجة. ويهب زللي لاعترافي ، وإغفالي لإقراري. فإنّي إنما ألحقت في هذا الكتاب ما أدركه حفظي ، وحضره سماعي من الأخبار والأشعار والشواهد والأمثال.

٥٨

القول في خلق الأرض

قال الله عزّ وجلّ : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) قال : وسئل النبيّ (صلى الله عليه وسلم) عن الأرض : سبع هي؟ قال : نعم ، والسماوات سبع. وقرأ : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ). فقال رجل : فنحن على وجه الأرض الأولى؟ قال : نعم ، وفي الثانية خلق يطيعون ولا يعصون ، وفي الثالثة خلق ، وفي الرابعة صخرة ملساء ، والخامسة ضحضاح من الماء ، والسادسة سجّيل وعليها عرش إبليس ، والسابعة ثور. والأرضون على قرن الثور ، والثور على سمكة ، والسمكة على الماء ، والماء على الهواء ، والهواء على الثرى ، والثرى منقطع فيه علم العلماء.

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل السهميّ : صورة الدنيا على خمسة أجزاء كرأس الطير والجناحين والصدر والذنب. فرأس الدنيا الصين ، وخلف الصين أمّة يقال لها واق واق ، ووراء واق واق من الأمم ما لا يحصي إلا الله. والجناح الأيمن الهند ، وخلف الهند البحر ، وليس خلفه خلق. والجناح الأيسر الخزر ، وخلف الخزر أمّتان ، يقال لإحداهما منشك وماشك ، وخلف ماشك ومنشك يأجوج ومأجوج من الأمم ما لا يعلمها إلّا الله. وصدر الدنيا مكّة والحجاز والشام والعراق ومصر. والذنب من ذات الحمام إلى المغرب ، وشرّ ما في الطير الذنب. وقال ابن عبّاس : الأرض كلّها أربعة آلاف فرسخ في مثل ذلك ، تكون ستّة عشر ألف ألف فرسخ. وقال أمير المؤمنين (رضي الله عنه) : الأرض طولها مسيرة خمس مائة سنة : أربع مائة خراب ، ومائة عمران. قال : وفي يد

٥٩

المسلمين سنة. وقال أبو خلف (١) : الأرض أربعة وعشرون ألف فرسخ ، فللسودان اثنا عشر ألف فرسخ ، وللروم ثمانية آلاف فرسخ ، وللعرب ألف فرسخ ، ولفارس ثلاثة آلاف فرسخ. وذكر محمّد بن موسى الخوارزميّ (٢) : أن دور الأرض على الفضاء تسعة آلاف فرسخ. العمران من ذلك نصف سدسها ، والباقي ليس فيه حيوان ولا نبات ، والبحار هي محسوبة من العمران ، والمفاوز التي بين العمران من العمران. وذكر بعض الفلاسفة ، أن الأرض مدوّرة كتدوير الكرة ، موضوعة في جوف الفلك كالمحّة في جوف البيضة. والنسيم حول الأرض ، وهو جاذب لها من جميع جوانبها إلى الفلك. وبنية الخلق على الأرض ، إن النسيم جاذب لما في أيديهم من الخفّة ، والأرض جاذبة لما في أيديهم من الثقل ، لأن الأرض بمنزلة الحجر الذي يجذب الحديد ، والأرض مقسومة نصفين بينهما خطّ الاستواء ، وهو من المشرق إلى المغرب. وهذا طول الأرض ، وهو أكبر خطّ في كرة الأرض. كما أن منطقة البروج أكبر خطّ في الفلك ، وعرض الأرض من القطب الجنوبيّ الذي يدور حوله سهيل ، إلى القطب ، الشماليّ الذي يدور حوله بنات نعش. واستدارة الأرض في موضع خطّ الاستواء ثلاثمائة وستّون درجة ، والدرجة خمسة وعشرون فرسخا ، والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع ، والذراع أربعة وعشرون إصبعا ، والأصبع ستّ حبّات شعير مصفوفة بطن بعضها إلى بعض. فيكون ذلك تسعة آلاف فرسخ.

وزعم دورتيوس (٣) : أن الأقاليم السبعة على بروج السماء كبار عظام مدينتان في إقليم زحل ، ومدينتان في إقليم المشتري ، ومدينتان في إقليم المرّيخ ، ومدينة في إقليم الشمس ، ومدينتان في إقليم الزّهرة ، ومدينتان في إقليم عطارد ، ومدينة في إقليم القمر. وقالوا أيضا : إن الأقاليم سبعة ، إقليم في أيدي العرب ، وإقليم في أيدي الروم ، وإقليم في أيدي الحبشة ، وإقليم في أيدي الهند ، وإقليم في أيدي

__________________

(١) عزا ياقوت ١ : ١٦ هذا القول عن مساحة الأرض إلى عمر بن جيلان.

(٢) الخوارزمي (بعد ٢٣٢ ه‍ ـ) انظر عنه فهرست ابن النديم ٣٣٣ والأعلام : ٧ : ١١٦.

(٣) في تاريخ مختصر الدول ١٤٠ : رياضي له اليد الطولى في علم الفلك والأحكام النجومية وتصانيفه مشهورة عند أهل هذا العلم في المواليد والأدوار. وانظر : التنبيه والاشراف ٣٩.

٦٠