البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

أخنى على عاد وأهلك تبّعا

وسطا بقدرته على النعمان

وأزال ملك الفرس بعد ثبوته

وهوى بكسراها أنوشروان

آثارهم تنبيك عن أخبارهم

نطقا وليس مغيّبا كعيان

هل أسمعت أذناك مثل حديثهم

أو عاينت عيناك كالإيوان؟

قصر يكاد يردّ حسن بنائه

عند التأمل أعين العميان

تعلو له شرف كأن شخوصها

بيض الحمائم في ذى الأغصان

حفّت به كحفوف وقد أحدقوا

بحريم بيت الله ذي الأركان

وكأنها في وسط كل دجنّة

نار تشب لعابد الرهبان

أو فتية شربوا فأثر فيهم

فعل الشراب مخيلة النشوان

وضعوا الأكفّ على الحضور ورفّعوا

فوق الرءوس أكلّة المرجان

مصطفة كبنات نعش في ذرى

عالي السموك موثّق البنيان

الفت مجاورة السموك سموكه

وترفعت عن يذبل وأبان

فكأنما بين السماك وبينه

شر فما ينيان ينتحيان

صور من الآساد في جنباته

ما ان لها اجم سوى الجدران

أسد على فرس الرجال قديمة

لو انها كانت من الحيوان

ومعسكران لكل حزب منهما

رجل أمام مواقف الفرسان

جيشان لو وقع التناجز منهما

لم يبق من جمعيهما رجلان

لولا وقوع اليأس من حركاتهم

لظننت أنهما سيقتتلان

لبسوا من الألوان أصفر فاقعا

فأتاه ناصعه بأحمرقان

ومورّد في خضرة فكأنه

زهر تكنف حافتي بستان

[٩٦ أ] ثم رجع بنا القول في قرميسين وذكر عجائبها.

قال أبو المنذر : طلسمات إيران شهر غير ظاهرة ، وعند كل طلسم منها علامة إما صخرة وإمّا تمثال. وجميع ذلك من كل طلسم على أربعين ذراعا.

٤٢١

قال : ولما انتهى بليناس إلى طرازستان وعمل بإزاء القنطرة طلسما للغرق فسلم أهلها منه. وآخر خلف القنطرة فاستتمّ بناؤها. وآخر عن يمينها ، فجرى الماء الذي عندها. وآخر عن يسارها فسلمت من السحر. وعمل بالبندنيجين طلسما للغرق فأمنوا. وآخر للقيّارة ـ عين القير ـ حتى نضبت. لولا ذلك ما أمكن أحد أن يشرب من الماء الذي هناك. وكذلك عمل آخر للنفاطة حتى انصرف شعب النفط إلى جهة أخرى عن الماء.

وعمل عن يسار البندنيجين طلسما للزنابير وآخر للذبة فقلّت وكانت أكثر الأرض ذبة (١) وزنابير.

وعمل بقرية من قرى ماسبندان تسمى تومان ، طلسما لأجمة كانت هناك لا يسلكها أحد في الشتاء إلّا غرق في طينها.

وعمل في هذه القرية أيضا طلسما لحمّة كانت هناك ماؤها شديد الحرّ ، كانت تظهر في الشتاء وينقطع ماؤها في الصيف. فلما طلسمها جرى ماؤها شتاء وصيفا ولم ينقطع في وقت من أوقات السنة.

ومن عجائب قرميسين أن الهواء لم يكن يهب فيها في الصيف ليلا ولا نهارا. فشكا قباذ إلى بليناس ذلك ، فعمل لها طلسما حتى هب الهواء بها على ما يهب في غيرها.

وطلسم أيضا قرية بالقرب منها يقال لها كركان. وكانت تقوم بها سوق في كل عام فيتلف فيها خلق كثير بالعقارب. فقلّت العقارب فيها وخف عن أهلها ما كانوا يلقون منها. ويقال إنه لا يوجد منها عقرب. وإن وجد لم يضرّ. ومن أخذ من ترابها وطيّن بها حيطان داره في أي بلد كان ، لم ير في داره عقربا. ومن أخذ منه عند لسعة العقرب إياه وشربه ، عوفي لوقته. ومن أخذ منه شيئا وأخذ العقارب بيده لم يخشها.

__________________

(١) في المنجد (الذّباب : جمعه أذبّة وذبّان وذبّ. ويطلق الذباب عند العرب على الزنابير والنحل والبعوض).

٤٢٢

ومن عجائبها وهو أحد عجائب الدنيا ، صورة شبديز (١). وهو في قرية يقال لها جانان ومصوّره فنطوس بن سنمار. وسنمار هو الذي [٩٦ ب] بنى الخورنق بالكوفة. وكان سبب صورته في هذه القرية أنه كان أزكى الدواب وأعظمها خلقا وأظهرها خلقا وأصبرها على طول الركض. وكان ملك الهند أهداه إلى برويز الملك. فكان لا يبول ولا يروث ما دام عليه سرجه ولجامه ولا ينخر ولا يزبد. وكانت استدارة حافره ستة أشباره.

[فاتفق أن شبديز اشتكى وزادت شكواه ، وعرف أبرويز ذلك وقال : لئن أخبرني أحد بموته لأقتلنه. فلمّا مات شبديز خاف صاحب خيله أن يسأله عنه فلا يجد بدا من أخباره بموته فيقتله. فجاء إلى البهلبند مغنيه ـ ولم يكن فيما تقدم من الأزمان ولا ما تأخر أحذق منه بالضرب بالعود والغناء ـ ، قالوا : كان لأبرويز ثلاث خصائص لم تكن لأحد من قبله : فرسه شبديز وسريته شيرين ومغنيه بهلبند. وقال : اعلم أن شبديز قد نفق ومات. وقد عرفت ما أوعد به الملك من أخبره بموته ، فاحتل لي حيلة ولك كذا وكذا. فوعده الحيلة.

فلما حضر بين يدي الملك غنّاه غناء ورّى فيه عن القصة إلى أن فطن الملك وقال له: ويحك! مات شبديز؟ فقال : الملك يقوله. فقال له : زه. ما أحسن ما تخلصت وخلصت غيرك. وجزع عليه جزعا عظيما](٢). فأمر قنطوس بن سنمار بتصويره. فلما فرغ منه أعلم برويز بذلك. فجاء حتى وقف عليه ونظر إليه واستعبر باكيا عند تأمله إياه وقال : لشدّ ما نعى هذا التمثال إلينا أنفسنا وذكّرنا ما نصير إليه من فساد حالنا. ولئن كان في الظاهر أمر من أمور الدنيا يخلو من أمور الآخرة ، إن فيه لدليلا على الإقرار بموت جسدنا وانهدام بدننا وطموس صورتنا ودرس أثرنا

__________________

(١) شبديز هو فرس الملك الفارسي كسرى أبرويز. وهو منحوت في جبل قرب الطريق الواصل بين سنندج وكرمانشاه بإيران. وفيه نحت كسرى أبرويز وهو يمتطي جواده المسمى شبديز. إضافة إلى منحوتات أخرى تشكل أهمية كبيرة في معرفة تاريخ الساسانيين.

(٢) ما بين العضادتين نقلناه عن ياقوت (شبداز) الذي قال إنه نقل هذه المادة عن ابن الفقيه. وهو غير موجود لا في مختصر البلدان ولا في النسخة الأصل ، وأوردناه لأن المعنى لا يتمّ إلّا به.

٤٢٣

للبلى الذي لا بد منه. مع الإقرار باليأس من البقاء الذي لا سبيل إليه أن يبقى من جمال صورتنا ومثال بدننا إلّا رسما يتجدد به من أمرنا من الباقين بعدنا مع ما يدرس من آثارنا وذكرنا.

فمن خطر بباله هذا فلينظر إلى ما أمرنا به من هذا التمثال. وليستيقن بدروس رسمه وذهاب بهجته وإلّا فالهلاك غالب على أمره. وقد أحدث لنا وقوفنا على هذا التمثال ذكرا لما يصير إليه حالنا. وتوهّمنا وقوف الواقفين عليه بعدنا حتى كأننا بعضهم ومشاهدون لهم أو من حضر ذلك منهم من ذكر الحالتين اللتين اختلفتا بصاحبه من الحياة وصحة البدن ونفاذ الأمر وما حار إلى ذلك محارّه.

ومن عجائب هذا التمثال أنه لم ير مثل صورته صورة ولم يقف عليه أحد منذ صوّر ، من أهل الفكر اللطيف والنظر الدقيق إلّا استراب بصورته وعجب منها وأطال الفكر فيها. حتى لقد سمعت كثيرا من هذا الصنف يحلفون أو يقاربون اليمين انها ليست من صنعة العباد ولا تصوير المخلوقين.

وسمعت رجلا من كبار المعتزلة ومناظريهم (١) يحلف بالأيمان المغلظة أنه ليس من صنعة العباد ، وان لله عزّ وجلّ فيه خبيئة سوف يظهرها يوما ما.

وسمعت بعض الفقهاء العلماء يقول [٩٧ أ] : لو أن رجلا خرج من فرغانة القصوى وآخر من السوس الأبعد ، قاصدين إلى شبديز حتى ينظرا إليه ما عنفا على ذلك.

وأنت إذا فكرت في أمر صورة شبديز هذه وجدتها كما ذكر هذا المعتزلي. فإنه إن كان من صنعة الآدميين ، فقد أعطي ما لم يعط أحد من العالمين. فأي شيء أعجب وأظرف أو أشد امتناعا من أنه سخرت له الحجارة كما يريد ، ففي الموضع الذي يحتاج إليه أن يكون أسود ، أسود. وفي الموضع الذي يحتاج إليه أن يكون أحمر ، أحمر. وكذلك البياض وسائر الألوان. فتبارك الله أحسن الخالقين.

وقال لي أبو علي محمد بن هارون بن زياد ـ وكان حكيما فيلسوفا ـ وقد

__________________

(١) في الأصل : ونظاربهم.

٤٢٤

تجارينا ذكر شبديز فوصلنا إلى هذا الفصل : ما يكون أن تكون حجرة واحدة احتفر فيها هذه الألوان في المواضع التي احتيج إليها. ولكنه لمّا فرغ من الصورة صبغها بما احتاج إليه من الأصباغ. ثم دهنها بعد ذلك بدهن كان يقف عليه. يوهم أن ذلك الألوان خلقة في الحجر غير معالجة بشيء من الأشياء.

قال : وأنشدني أبو محمد العبدي الهمذاني لنفسه

من ناظر معتبر أبصرت

مقلته صورة شبديز

تأمّل الدنيا وآثارها

في ملك الدنيا أبرويز

يوقن أنّ الدهر لا يأتلي

يلحق موجودا بمهزوز

أبعد كسرى اعتاض عن ملكه

بخطّ رسم ثمّ مرموز

يغبط ذو ملك على عيشة

رنق يعانيها بتوفيز

خلّ عن الدنيا فلا طائل

فيها لذي لب وتمييز

نعمى وبؤسى أعقبت هذه

تيك ، فذو العزّ كمغروز

وأنشدني الحسين بن أبي سرح لأبي عمران الكسروي :

وهم نقروا شبديز في الصخر عبرة

وراكبه برويز كالبدر طالع

عليه بهاء الملك والوفد عكّف

يخال به فجر من الأفق ساطع

تلاحظه شيرين واللحظ فاتن

وتعطو بكفّ حسّنتها الأشاجع

يدوم على كرّ الجديدين شخصه

ويلفى قويم الجسم واللون ناصع

وقال آخر :

شبديز منحوت صخر بعد بهجته

للناظرين فلا جري ولا خبب

[٩٧ ب]

عليه برويز مثل البدر منتصبا

للناظرين فلا يجدي ولا يهب

وربما فاض للعافين من يده

سحائب ودقها المرجان والذهب

٤٢٥

فلا تزال مدى الأيام صورته

تحنّ شوقا إليها العجم والعرب

وقال أبو الحسن العجلي في صورة شبديز :

أباح للطرف السهاد والسهر

ووكّل الجفن بماء منهمر

طيف سرى وهنا لريّا فظهر

يا حبّذا الطارق في وجه السحر

في الليل يبدو والنهار يستتر

تلك التي تزري بشمس وقمر

وغرة زاهرة تغشي القمر

حال بهاها الجمال فقطر

شبّهتها حين تبدّت في حفر

شيرين في حسن اعتدال وقدر

كأنّما تنفث سحرا مستمر

تكاد تسبي ناظراها من نظر

بطرّة مشرقة من الطرر

وحاجب خطّ بمسك فشطر

وشاهد عقرب في الخدّ النضر

ما أن به من ندب ولا أثر

لولا الذي من أنف شيرين كسر

شلت يدا آمره والمؤتمر

لقد أتى بفعله إحدى الكبر

ما كان أقوى قلبه حين جسر

ويل أمّه لقد تعاطى فعقر

فجاءه أمر الأمير فحبر

وعمّر البهو وقد كان دثر

وهي كهاتيك ولكن من حجر

كسرى وشيرين وشيخ ذو كبر

عليهم التيجان من فوق الوفر

تسقيهم شيرين راحا بقدر

في البهو والبهو عليه محتجر

يحثّهم مدجّج على ظهر

منصلت حربته ذات شرر

كأنّما يطرد مهدوب الوبر

أو الشبيهات يعيران البقر

لا الزام إنسيا ولا الطرف أغر

عادته صيد الظباء والعفر

والترس في يمناه لما يستتر

شاكي السلاح كالكميّ المنكدر

كأنما الدرع عليه قد سمر

وعن يمين البهو نهر قد زخر

فيه صنوف الصيد من بحر وبر

والفلك والنون فيه منشمر

وفارس عن الشمال مستدر

تكاد أن تنبض يمناه الوفر

٤٢٦

[٩٨ أ]

ومنهم فوق الحصان قد سكر

تكفّه شمسته من حرّ وقر(!)

وفوق عقد البهو عند المختبر

خلقان مكتوبان في خلق البشر

والشرفات فوق هامات الحزر

والملكان صعدا كما أمر

في الطاق بأن بالحديد والدسر

وفي التماثيل على الماء بقر

ثلاثة من عاقر ومعتقر

يحثّهم منازع فيه طمر

وعقد طيقان ونهر محتفر

وصاحب النهر على الماء خطر

يدفعه من نهر إلى نهر

فانظر فهذا وصف ما منه ظهر

فيه لمن عمّر وعظّ وعبر

يا أيّها السيد ذو الوجه الأغرّ

شرفت كسرت وأنكرت ما ذكر (؟)

من شرف الملك القديم والخطر

قال : وأنشدني أبو نصر ، رجل من أهل قصر اللصوص يذكر شبديز والبناء الذي بقصر اللصوص :

يا طالبي غرر الأماكن

حيّوا الديار ببرز ماهن

وسلوا السحاب تجودها

وتسحّ في تلك الأماكن

وتزور شبديز الملوك

وتنثني نحو المساكن

واها لشيرين التي

قرعت فؤادك بالمحاسن

فمضى على غلوائه

لا يستكين ولا يداهن

واها لمعصمها المليح

وللسوالف والمغابن

في كفّها الورق الممسّك

والمطيّب والمداهن

وزجاجة تدع الحكيم إذا

انتشى في زيّ ماجن

انعظت حين رأيتها

واهتاج منّي كلّ ساكن

فسقى رباع الكسروية

بالجبال وبالمدائن

٤٢٧

دان يسفّ ربابه

وتناله أيدي الحواضن

وقال بعض الشعراء في شبديز وقد اجتاز بموضعه رجل من الملوك فاستحسن المكان وشرب هناك ثم أمر أن يخلق وجه شبديز وشيرين بالزعفران ففعل ذلك :

كاد شبديز أن يحمحم لمّا

خلق الوجه منه بالزّعفران

[٩٨ ب]

وكأنّ الهمام كسرى وشيرين

مع الشيخ موبذ الموبذان

من خلوق قد ضمخوه جميعا

أصبحوا في مطارق الأرجوان

وأنشد لأحمد بن محمد (١) :

بوستان طاق ليس في الأرض مثله

وفيه تصاوير من الصخر محكم

وبرويز فيه والمرازب حوله

وشيرين تسقيهم وشيخ مزمزم

وبهرام جور والمقاول مثّل

وشروين فيهم قاعد متعمّم

وخرّين قد أجرى وأومى بسرعة

إلى طفلة حسّانة لا تكلّم

وموبذهم في الطاق صوّر عبرة

وهربذهم بالجهل والجور يحكم

وكث يحوز الماء في النهر واقف

ليقسم فيما بينهم ليس يظلم

وأسراب عين والكلاب تحوشها

وطرف عليه المرزبان المكرّم

وصوّر فيه كلّ وحش وطائر

من الطير والعنقاء ما الله أعلم

وأسد وصيران وشاة وأعنز

وحيتان بحر في السفين تعوّم

وما دبّ من ذرّ ونمل وعقرب

وفيل وفيّال عليه يدمدم

وقبج ودراج وظبي وأرنب

وباز وصقر قد يصيد وقشعم

ومكتب صبيان وتأديب غلمة

وشيخ عديم قيل هذا معلّم

__________________

(١) انفرد المختصر بذكر هذه القطعة.

٤٢٨

وصوّر فطّوس على الطاق نفسه

عليه جناحا طائر لا يحوّم

فسبحان ربّ سخّر الصخر عنوة

فصوّر فيه كلّ شيء مقوّم

لقد أبدع الرومي في الطاق بدعة

أقرّ له بالحذق عرب وأعجم

وبقرميسين الدكان الذي اجتمع عليه جماعة من ملوك الأرض منهم فغفور ملك الصين وخاقان ملك الترك وداهر ملك الهند وقيصر ملك الروم عند كسرى أبرويز. وهو دكان من حجارة مربع مائة ذراع في مثلها من حجارة مهندمة مسمّرة بمسامير الحديد ، ولا يتبين فيه ما بين الحجرين فلا يشك من رآه أنه قطعة واحدة.

وأنشد لأحمد بن محمد فيه :

بين القناطر والدكّان أبنية

فاقت على كلّ آثار وبنيان

دكّان صخر على تلّ بنوه فما

ندري لجنّ بنوه أم لإنسان

لأنها صخرة ملسا ململمة

عجيبة الشأن فيها كلّ ألوان

قد هندسوه فأوفوه على عمد

وهندموه فما يخفى على جان

قالوا بأنّ ملوك الأرض اجتمعوا

عليه عند أبرويز بن ساسان

وبقصر اللصوص بناء عجيب وأساطين محكمة.

وقال أبو عبد الله محمد بن إسحاق (١) : رأيت الحسين بن أبي سرح في المنام بعد موته وكأني أسأله أن يملي عليّ خبر شبديز ومن صوّره وكيف صوّر فقال : اكتب ، استأنسوا بملامس الصخور ، ولم يستوقفوا عن صغائر الأمور. وصوروا الجواري الأبكار ، في الصخور الكبار ، كأن لم يسمعوا بجنة ولا نار

__________________

(١) هو والد مؤلف هذا الكتاب.

٤٢٩

في أبنية البلدان وخواصها وعجائبها

قال بطليموس : إن اختلاف الأمم في ألوانهم وأخلاقهم وأجسامهم وطبائعهم وجميع حالاتهم من ثلاثة وجوه :

واحدها : من بعد الأرض من خط الاستواء. وهو مثل البلاد وانحرافها عن الخط يمنة أو يسرة.

الثاني : من قبل طبائع البروج المحاذية لسمت تلك البلاد والغالبة على طبائعها.

والثالث : بعد البلاد من مدار الشمس وقربها منه.

فأمّا الأرض العامرة في ربع الأرض الشمالي ، فما كان منها متيامنا وهو ما بين تغير الربيع إلى تغير الصيف ، وهو الذي محاذيها من البروج ما بين الحمل إلى السرطان. فإذا توسطت الشمس وسط السماء كانت على سمت رؤوسهم فأحرقتهم. فلذلك صارت أجسادهم سودا وشعورهم قططا وجثتهم ذابلة ، وطبائعهم حارة وعامة أشكالهم متوحشة لشدة حرّ أرضهم. وهم الحبشة والزنج والنوبة وأنواع السودان. وليس يكون ذلك فيهم وحدهم ، ولكنه يكون في الهواء المحيط بهم. وكذلك يبس دواب أرضهم وشجرهم في جميع ذلك تحرقه أرضهم.

وأما ما كان متيامنا (١) [٩٩ أ] من الأرض فلتباعد سمت رؤوسهم عن مدار الشمس وحرارتها ومدار البروج ، كان مكانهم باردا تنالهم كثرة الرطوبة. وتكون

__________________

(١) يبدو أنها (متياسرا).

٤٣٠

ألوانهم بيضا وشعورهم سبطة وأجسادهم عظاما وطبائعهم إلى البرد وشكلهم متوحش لشدة برد أرضهم. وشتاؤهم شديد مفرط البرد ، وشجرهم عظام ودوابهم على مثل هواء أرضهم. وهم الترك.

وأما ما كان من الذين سمت رؤوسهم تحت السرطان ومن سمت رؤوسهم تحت الدينة (١) فلأن الشمس لا تستوي على رؤوسهم ، ولأنهم لم يميلوا إليها جدا ، فلذلك هواؤهم حسن التمزيج وموضعهم معتدل ، ليس فيه برد شديد ولا حرّ شديد. وألوانهم وأجسامهم وسط ، وطبائعهم ممتزجة ومراتبهم في جميع حالاتهم متقاربة.

ومن كان من هؤلاء متيامنا فعامتهم أهل ذكاء وفطنة ودقة نظر وعلم بالنجوم وغير ذلك من العلوم ، لقرب سمت رؤوسهم من مدار الكواكب الجارية والبروج. فمن أجل ذلك تنازعهم نفوسهم إلى طلب علم النجوم والآداب. ومن كان مشرقا فهم مذكوّون وأنفسهم شديدة وهم أهل تنافس في الشرف والزيادة. لأن المشرق فيه طبيعة الشمس.

ومن يعزف منهم مغربا ، فإنهم مؤنثون وأجسامهم لينة وعامة أعمالهم خفية. لأن المغرب للقمر أو لدونيّة من مهلك من المغرب. فلذلك جعل المغرب مؤنثا ليّنا.

والشمال خلاف المشرق.

وفي هذه الأقسام قسم مختلفة في الشبه والطبائع والأدب على نحو ما يحيط به من الهواء الحار والبارد والممتزج وذلك ينقص ويزيد في كل كوكب ومكان على نحو ارتفاع الأرض وانخفاضها. والدليل على ذلك ، أن بعض الناس صاروا نواتية وهم أصحاب السفن البحرية لقرب أرضهم من البحر. وصار آخرون أهل دعة وذلك لخصب بلادهم وكثرة خيرهم. وكذلك موافقة الأقاليم للبروج التي عليها في الطبائع. فإن طبائع كل إقليم على مثل طبائع البروج التي تتولاه.

__________________

(١) كذا في الأصل.

٤٣١

وقسمت [٩٩ ب] الأرض العامرة على أربعة أجزاء :

فأول الأجزاء : أورس ، وهي بين الشمال والدبور ويوافقها من مثلثات البروج التي لها ما بين الشمال والدبور وهي مثلثة : الحمل والأسد والقوس ويدبّرها المشتري والمريخ. وجميع ما في هذا الربع من الأمم : بريطانية وعليا وجرمانية وانوليه وصقلية وطونيا. وهم أعزاء غير خاضعين ، يحسنون أخذ السلاح والعمل به ، وهم أصحاب زي ولباس ، يحبون مجامعة الذكران ويغارون عليهم ولا يرون ذلك شينا ولا مأثما. وأنفسهم مذكّرة وليست لهم غيره على النساء ، ويهون عليهم الجماع.

والربع الثاني هو الذي من الجنوب والصبا. ولهم المثلثات : الثور والعذراء والجدي. ووالي تدبيرهم : الزهرة وزحل مشرقين. وطبائع هذه الكواكب على نحو طبائع الذي يدبرهم. فإنهم يسجدون لها ويسمعون الزهرة أنيس ، والزحل يبسون ، وفيه كهنة يخبرون عن الأشياء قبل أن تحدث. ويعظمون أمهاتهم وأخواتهم وجميع الإناث لتدبير الزهرة وزحل إياهم. وفيهم الورع ، لأن الزهرة طبيعتها الورع. وبلادهم حارة ويحبون المجامعة والرقى والرقص واللهو والمجون من أجل الزهرة أيضا. ولا يجامعون الذكران ، وينكحون أمهاتهم ويولدونهم ويرون أن ذلك تعظيم لهنّ. وأنفسهم عظيمة. وهم أشدّاء مقاتلون لتشريق زحل. ونصيب هذا الربع من وسط الأرض : أروميا وقيلسوسينا وتوريا وحلبايا. وهذه البلدان من الشمال والدبور. وهو الحمل والأسد والقوس. ووالي تدبيرهم المشتري والمريخ والشمس وعطارد. ولذلك صاروا أهل تدبير وصناعة وتجارة وعقل وسخاء. وكتابة. وفيهم غش وخبث.

وأما الربع الثالث :

فمنها : أرمينية الأولى والثانية والثالثة والرابعة. والبلدان التي بين الشمال والصبا. وهو أحد () (١) التي يقال لها الجامع. وواليها من المثلثات التي بين

__________________

(١) كلمة مطموسة.

٤٣٢

الشمال والصبا وهي الجوزاء والميزان والدلو [١٠٠ أ] وأصحاب تدبيرها زحل والمشتري مشرقين ، فلذلك صار الذين في هذه الكور يسجدون للشمس والمشتري وهم يشبهون المجوس وعباداتهم وآدابهم حسنة. ولهم ملاحة وقبول. ماضين للحق ، مقتصدين في مجامعة النساء. ويحبون البرّ والصلة. وعامة ذلك من تشريق زحل والمشتري.

فأما الربع الرابع الذي بين الحوت والميزان واليه من المثلثات : السرطان والعقرب والحوت. ومدبّرهم من الكواكب : المريخ والزهرة مغربين. فأسماء الأمم التي في هذا الربع : قونيه وميدنية وإفريقية ومور طلينا وطنجه ومراميه. فلذلك أهل هذه البلاد يملّكون رجلا وامرأة. فأما الرجل فيملك الرجال ، والمرأة تملك النساء. ويحبون مجامعة الإناث وعامة نكاحهم زنى. ويحبون الزينة والمال ، ويتزينون بزي النساء من أجل الزهرة. وهم أهل غش وسحر وجرأة [في إلقاء] أنفسهم في المهلكة من أجل المريخ وولايته إياهم.

ونصيب هذا الربع من وسط الأرض وسقى وتمريقى والبرط السفلى واطرز المغرب ومارثها والحبشة والاسطون وهم ما بين الشمال والصبا.

ولهم من المثلثات : التومين والميزان والدلو. ومدبّرهم من الكواكب : زحل والمشتري وعطارد. وهذه الكور قريبة من مدار الكواكب الخمسة الجارية إذا كانت مغربة. ولذلك هم أهل تدين وتعظيم الآلهة. يعرفون حقّها ويحبون النياحة. ولهم آداب كبيرة مختلفة وأديان متفرقة. وإذا ملكوا كانوا أذلّاء جبناء صابرين. وإذا ملكوا كانوا أهل طيب أنفس وعطية كثيرة. وخلقهم على نحو طبيعة أرضهم. وعامة ذكرانهم ضعفاء مؤنثون يتركون الجماع من حيث ينبغي ويأتون النساء من حيث لا ينبغي لتقريب الزهرة.

وذكروا أن الأرض والماء وسائر الطبائع كرية. وان استدارة الأرض كلها وجبالها وبحارها أربعة وعشرون ألف ميل. وان قطرها وعمقها وعرضها سبعة آلاف وستة وثلاثين. وانهم استدركوا ذلك بأنهم أخذوا ارتفاع القطب الشمالي في مدينتين هما على خط الاستواء مثل مدينة تدمر [١٠٠ ب] والرقة ، فوجدوا ارتفاع

٤٣٣

القطب في مدينة الرقة خمسة وثلاثين جزءا وثلثا. وارتفاع القطب في مدينة التدمر ، أربعة وثلاثين ، بينهما زيادة جزء وثلث. ثم مسحوا ما بين الرقة وتدمر فوجدوه سبعة وعشرين ميلا. فعلموا أن لكل جزء وثلث ، جزء من أجزاء الفلك الأعظم. فالظاهر من الفلك سبعة وستون (١) ميلا من الأرض ، والفلك ثلاثمائة وستون جزءا على ما اتفق عليه علماء الروم والهند وبابل. وإنما قسموه هكذا ، لأنهم وجدوا الفلك قد اقتسمته البروج الاثنا عشر ، ووجدوا الشمس تقطع كل برج منها في شهر وتقطع البروج في ثلاثمائة وستين يوما. فبهذه القسمة والمقاييس استدركوا علم الساعات والكسوفين. وبها استخرجوا الآلات والاصطرلابات وعليها وضعوا كتبهم.

وقالوا أيضا : الفلك مستدير. واستدلوا بذلك لأنه يدور على محورين وقطبين ، اللذين هما القطب الشمالي. والجنوبي.

فأما أهل البلدان التي مالت إلى ناحية الشمال ، فإنهم يرون القطب الشمالي وبنات نعش ولا يرون القطب الجنوبي ولا الكواكب القريبة منه. ولذلك صار سهيل (٢) لا يرى بناحية خراسان ويرى في العراق أياما في السنة. فأما في البلدان الجنوبية فإنه يرى فيها السنة كلها. فمتى مال إلى الناحية الجنوب ، غاب عنه القطب الشمالي والكواكب التي تقاربه. وهذه الكواكب التي هي قريبة من القطب تدور حوله دورانا مستديرا مستويا يرى بالعيان مثل الشمس فإنها بالصيف تطلع من وسط المشرق ثم تصعد في الفلك صعودا مستويا ، ثم تهبط على مثال ذلك الدور ، ثم تغيب تحت الأرض. فتدور هناك مثلما تدور هاهنا حتى تطلع.

وزعموا أن البحر أيضا كريّ مدور. وبرهان ذلك أنك إذا لججت فيه غابت عنك الأرض والجبال شيئا بعد شيء حتى خفي ذلك كله ، ولا ترى شيئا من شوامخ الجبال. فإذا أقبلت نحو الساحل ، ظهرت [١٠١ أ] لك قلل الجبال وأجسامها شيئا

__________________

(١) في الأصل : وستين.

(٢) في الأصل : سهيلا.

٤٣٤

بعد شيء. فإذا قربت من الساحل ، ظهرت الأرض والأشجار. والأرض قسمان : أحدهما مسكون والآخر غير مسكون. والمسكون منه قسمان : أحدهما مفرط الحر وهو جهة اليمين لأن الشمس تقرب منه فيلتهب هواؤه. والآخر جهة الشمال وهو مفرط البرد لبعد الشمس منه.

فكل مدينة موضوعة في جهة المشرق فهي أشد اعتدالا وأقل اسقاما. لأن الشمس تصفي تلك المياه التي تجري فيها.

والمدن الموضوعة بإزاء المغرب ، تكثر أمراض أهلها لأن مياههم كدرة متغيرة ، وهواؤهم غليظ ، لأنه يبقي تلك الرطوبات فيه فتغلظ مياههم.

والمدن الموضوعة على جهة الجنوب تكون مياهها حارة كدرة متغيرة مالحة لينة تسخن في الصيف وتبرد في الشتاء. وأبدان أهلها رطبة لينة لما يتحلب إليها عن الرطوبات من أرضهم. وتكثر نساؤهم الإسقاط بسبب الرطوبات ولا يقدرون أن يكثروا من الطعام والشراب لضعف رؤوسهم. لأن كثرة ذلك تغمّ أدمغتهم وتغيرها. وقلما تعرض لهم الحميات الحارة.

والمدن الموضوعة في جهة الشمال على إزائه فإن مياهها فاسدة رطبة ثقيلة النضج. وأهلها أقوياء أشدّاء عراض الصدور دقاق السوق رؤوسهم صحيحة يابسة وأعمارهم طويلة لصحة أبدانهم وكثرة فضول الرءوس. وتكون أخلاقهم وحشية. ويقل حمل نسائهم ، لكنهن لا يسقطن لبرد الماء ويبسه ويلدن بشدة وصعوبة وتتسع لذلك صدورهن. وإنما رقّت سوقهن لارتفاع الحرارة عنها. ويكثرون الأكل ولا يكثرون الشراب.

قال : وسكان ناحية الجنوب سود جعاد دقاق الكعوب كحل العيون سود الشعور خفاف اللحوم. فيهم الحفظ والذكاء والبرّ والطرب والحرص والسرقة.

وسكان ناحية الصبا أقرب شبها بأهل ناحية الجنوب وهم دونهم فيما وصفت. وسكان ناحية الدبور أقرب شبها بأهل ناحية الجنوب وهم دونهم.

وأهل المغرب مختلفون في هيئاتهم ، فأما سكان سواحل البحر منهم فقريب

٤٣٥

شبههم من سكان ناحية الجنوب. وسكان ناحية الصبا قريب شبههم بناحية الشمال.

وأهل [١٠١ ب] الهند ممتزجون لأن بلادهم من بلاد الشمال والجنوب. ولذلك حسنت أخلاقهم وأجسامهم ووجوههم واعتدلت. وكذلك من كانت محلته بين الشمال والجنوب وهم أعدل مزاجا وأحسن عقولا.

وأهل مصر أهل غفلة وقلة فطنة.

والبربر الفطنة فيهم فاشية ، وليس فيهم كبر ولا لهم مكر.

والروم أهل صلف وتكلف.

وأهل الشام أهل غفلة وسلامة.

وأهل الحجاز أهل معازف ولهو ومداعبة وتأنيث.

وأهل العراق أهل فطنة وغدر.

وأهل الهند أهل غفلة وشجاعة ولين.

وأهل الصين أهل طلب وخفة وجبن وحذق بالصناعات.

وأهل اليمن أهل غفلة وخفة ولين.

وأهل خراسان أهل غفلة وبخل وحرص وشجاعة.

وقال بقراط في كتاب الأهوية والأبدان : إنّ ما كان من الأمصار مقابل شرق الشمس. فرياحه سليمة وماؤه عذب وأهله قلّما يضرهم تغير الهواء. وكان يقول : المياه التي تنبع من مواضع مشرقة ومن تلاع وروابي ، أفضل المياه وأصحها ، وهي عذبة. وبلدها أصح البلاد ، لا يحتاج إلى كثرة مزج الشراب ، ولا سيما الشرقي الصيفي. لأنها تكون براقة طيبة الريح اضطرارا.

وقال فسطوس في كتاب الفلاحة : أصلح مواضع البنيان أن يكون على تلّ أو كبس (١) وثيق ليكون مطلا. وأحقّ ما جعلت إليه أبواب المنازل وأفنيتها وكواها ،

__________________

(١) الكبس : الغار في أصل الجبل (المنجد).

٤٣٦

المشرق واستقباله الصبا. فإن في ذلك صلاح الأبدان لسرعة طلوع الشمس ومرّها عليهم. وأن توسع البيوت ويرفع سمكها وتكون أبوابها إلى المشرق. لأن ريح الجنوب أشدّ حرا وأثقل وأسقم.

وأصح البلدان ما كانت على رؤوس الجبال والأماكن التي تواجه مهبّ الصبا. وما كان في قعور وأغوار ومواجهة لريح الجنوب أو الدبور ، فهي مواضع رديئة مولدة للأمراض.

والصواب أن تتخذ الدور بين الماء والمشرق وأن تكون شرقية ، والبساتين غربية. ومن قرب منزله من النهر كان أقل انية ممن [١٠٢ أ] بعد عنه. وقالوا : لتكن دوركم شرقية وضياعكم غربية. وقال ابن كلدة : جميع خصال الدار ، أن تكون على طريق نافذ وماؤها يخرج ، وليس عليها متشرّف ، وحدودها لها ، وتكون بين الماء والسوق. وتصلح أفنيتها لحط الرجال وبلّ الطين وموقف الدواب. وإن كان لها بابان فذلك أمثل.

وكان إياس بن معاوية يقول : شرقي كل بلد خير وأفضل من غربيه.

وكان يقال : الجار ثم الدار ، كما الرفيق قبل الطريق.

وقال يحيى بن خالد : دار الرجل دنياه. فينبغي أن يتنوّق في دهليزه فإنه وجه داره ومنزل ضيفه ومجلس صديقه إلى أن يؤذن له. ومستراح خدمه وموضع مؤدب ولده ومنتهى حدّ المستأذن.

ولما قدم موسى بن جعفر على المهدي ، كلّمه في ردّ فدك. فقال له : أنا ناظر في ذلك ، ولكن أين حدودها؟ قال : أما الأول فعريش مصر. والثاني : دومة الجندل. والثالث : أحد ، والرابع : سيف البحر. فقال المهدي : هذه الدنيا كلها. فقال موسى بن جعفر : هذا كان في أيدي اليهود ، فأفاءه الله على رسوله (صلى الله عليه وسلم) (١).

__________________

(١) توجد رواية أخرى لهذا الخبر في بحار الأنوار ٤٨ : ١٤٤ وفيه ان هذه المسألة جرت بين هارون الرشيد وموسى بن جعفر ـ الإمام السابع للشيعة الاثني عشرية ـ وأما الحدود ـ

٤٣٧

وكان على رجل من ثقيف دين فطولب به. فقال له الحسن البصري : بع أرضك واقض دينك وأربح نفسك. فقال : يا أبا سعيد! إنا أهل بيت لا نبيع التراب حتى نصل إلى التراب.

وقال عيسى بن بشر الكوفي : أردت شراء دار فسألت جعفر بن محمد رضي الله عنه (١) عن ذلك ، فقال : اشترها. فإن الدار مكرمة.

وفي بعض الخبر قال : من قدم بلدا فأخذ من ترابه وجعله في مائه وشربه ، عوفي من وبائه.

وقال قتيبة بن مسلم للحصين بن المنذر : ما السرور؟ قال : امرأة حسناء ودار قوراء وفرس مرتبط بالفناء.

وقيل لرجل بنى دارا وأعظم النفقة عليها : ما أشدّ ما مرّ عليك في بناء هذه الدار؟ قال : أشد ذلك جمعا قائما ، الفعلة. وأسهل الأمور النفقة.

وقال بعضهم : سعة الدار تزيد في عقل الرجل ، كما أن ضيقها ينقص من عقله. وذلك أن الرجل إذا كان ضيق المسكن فدخل إليه داخل قصف عقله عند حرمه مخافة أن تبدو منهن عورة أو يظهر منهن ما لا يحب ظهوره. فإذا كان واسع المسكن [١٠٢ ب] فجميع عقله معه.

وذكر بهبود بن القردمان أنه لما فرغ من بناء الدار التي بنيت لأنوشروان بالمدينة العتيقة أعلم بذلك فأمر المنجمين باختيار يوم لينتقل إليها فيه. ففعلوا ذلك. فلما دخلها وقد نصب سريره وسدلت ستوره وهيئ له تاجه. فلما استوى

__________________

ـ فهي : الأول : عدن. والثاني : سمرقند. والثالث : إفريقية. والرابع سيف البحر مما يلي الجزر (لعلها الخزر) وأرمينية. ثم ذكر بعد ذلك الرواية التي ذكرها ابن الفقيه.

(١) هو الإمام جعفر الصادق (ع). أما عيسى بن بشير فقد روى عنه علي بن حسان الواسطي القصير المعروف بالمنمس الذي روى عن الإمام الصادق أيضا. انظر : جامع الرواة ١ : ٥٦٦ و ٦٤٩.

٤٣٨

على السرير ورأى بهاءها وحسنها وجلالة فرشها وآلتها ، استعبر عند ذلك باكيا لخطرة خطرت بباله من ذكر الموت وقال : إذا كان سرور الدنيا الذي يمنعه فناؤه وكثرة ما ينوبه من العاهات ، فكيف بسرور الآخرة مع بقائه وخلوصه من كل مكروه؟ وإن في هذا لعبرة ينبغي أن لا تسقط على ذي حجى فيرفض الكثير الفاني القليل الباقي (١). وما أحسبنا إلّا ونجد أشرفنا من الدنيا فيما رفضنا من مخفوض مخايلها وأشخصنا الأبصار إلى ما تطأطأ من أعلام غرورها. ونحن أحرياء أن نوجه ذلك جهته ، فيكون غفرانا لما بلغته الدنيا فينا من نهمتها.

ثم قال : أيها الناس! إن الذي بلغنا منه بأقصى قدرتنا لا يمتنع من الخراب والبلى بتوزيعنا إياه وفقده إيانا ، وان مداه قليل الغناء عند طول الأجل منا.

ثم نادى مناديه ان الملك يعزم على كل من حضر إلّا قام فأخبر بعيب ان عرفه في بناء الملك فأحجم الناس جميعا عن ذلك. فقام رجل ذميم المنظر رث الهيئة فقال : إن الملك قد عزم علينا بما عزم علينا. فلو لا التأثم من عزمه لكان موضوعا عاما ما أمر به. فلذلك نستجيز أن نقول ما وافقنا وخالفه. ومن عيوب بنائه ، أنه بني في غيطة من الأرض لا تقع عليه العيون حتى تقرب منه. وأولى المواضع ببناء المدن والدور ، المشرف من الأرض لتعلو على ما حولها ، وتنظر [ها] الوفود من بعد. ومنها : ان منزل نسائه أعلى منازله. وذلك دليل في الطيرة على أن أمر النساء سيعلو على أمور الرجال. ومنها : ان حق صحن الدار أن يعمر بالخدم والحاشية وكثرة من يدخل ويخرج. وهذا الصحن يفضل عن حاشية الملك وخواصه ويتسع عنهم. وأخرى لم أشأ ذكرها. فإن يكن الملك قد عرفها [١٠٣ أ] وإلّا فليعفني من ذكرها. فقال له أنوشروان : كأنك تقول إني لم أنفق فيما عملت من هذا درهما من بيوت أموالنا ، وإنما عملت ذلك مما أفاءت علينا أطراف الأسنّة ونحور الخيل من أموال أهل حربنا وأعداء أهل ملتنا المكتنفين لحوزتنا. قال : لئن قال الملك ذلك فما أفاد رسما إلّا بإتلاف رأس من رؤوس أساورته ولا عوض

__________________

(١) الصواب فيما يبدو هو : فيرفض الكثير الباقي للقليل الفاني.

٤٣٩

منهم بما خطر بهم فيه وعرضهم له. فهذا الذي عندي من عيوب هذا البناء.

فقام رجل آخر فقال : قد سمعت مقالة هذا في عيب ما عاب في بناء الملك. وأنا أقول مثل قوله عن فضل طاعته منه ، ورضا منه عنه. فقد بلغ غاية الاسخاط للذي رضاه خلاف رضاها. وإن كان الملك أباه بجهاله بما فيه ، فليس بأصغر الخطأين ولا أقلهما فيما ألزمه من وزره. بل لو كان ذلك على معرفة فيما لا يشك فيه من التقصير عن شكره لكان الملك هو الجاني على نفسه. وأشد من هذا وأفحش ، ان الملك عسى أن يقول : إني إنما أردت بما شيدت من هذا البناء إعزاز الدين وتفخيم أمره. فلينظر ، فإن كان شيء من أمر الدنيا موافقا لأمر الدين ، فقد صدق في ظنه. وكذلك العائب له. وإلّا فالعيب في ذلك لازم له دون غيره.

وقام آخر فقال : قد سمعت أيها الملك ما قالا وسبقاني به. وأشد منه وأعيب أن كان خاصّة الملك وأحباؤه لم يجهلوا هذا وأغضوا عليه فلم يؤدّ أحد منهم إليه شيئا من حقه في تبيينه له أو جهلوه ولم يعرفوه. فكل أحد أغنى له وأفصح منهم له وأحق بالموضع الذي وضعهم به. ثم أطرق الناس. فقال الملك خافضا صوته : قد علمنا أن أم الفواحش لم تكن تسوغنا ما هجينا به من مجلسنا هذا حتى يكدّره علينا من طمع في ذلك من وانها (١) فقد لزمته الخبرة والخطأ. ثم سأل عن النفر المتكلمين فإذا هم قوم متظلمون : اثنان من أهل تستر والآخر من أهل أردشير خرة. فأمر بإنصافهم.

وأنشد أبي لمحمد بن القاسم بن يحيى المرتجى في بناء دار [١٠٣ ب]

أتمّها الله من دار وأكملها

وبالأمان من الآفات ظلّلها

لله ما هي أبهاها وأنبلها

لله ما هي أحلاها وأشكلها

هذا تلؤلؤها قبل التمام فلو

تمّت حمت كلّ ذي طرف تأمّلها

الله جلّلها نورا وجمّلها

وبالحسين فتى الإفضال فضّلها

سبحان خالقه سبحان خالقها

سبحان من منه بالتشريف سربلها

__________________

(١) كذا في الأصل.

٤٤٠