البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

يموت أهلها في الصيف حرقا ، وفي الشتاء غرقا. الميت فيها مطروح لا يجد من يحمله ، والمسكين بها ما يصيب أحدا يصدّق عليه. والغريب فيها مسلور والغرب بها أهل (١) شيوخها (٢) يتصافعون وشبابها يتناهدون. وصبيانها يؤاجرون. ونساؤها يزنون ويساحقون. البغاء منهم غير منكر ، والقرون من رجالهم لا تستر. وهم مع هذا يتامى أمير المؤمنين. وقد قال فيهم الشاعر :

أذمّ بغداد والمقام بها

من بعد خبرة وتجريب

ما عند أملاكها لمختبط

خير ولا فرجة لمكروب

يحتاج باغي النوال عندهم

إلى ثلاث من بعد تثريب

كنوز قارون أن تكون له

وعمر نوح وصبر أيوب

[٧٠ ب]

قوم مواعيدهم مزخرفة

بزخرف القول والأكاذيب

خلّوا سبيل العلى لغيرهم

ونافسوا في الفسوق والحوب

وقال آخر :

أقمت ببغداد مذ أشهر

وكنت ببغداد ذا غيرة

فما إن قطعت بها شعرة

وما ان فتتّ بها بعرة (؟)

وما ان ترفّق لي حاجة

كأني وطيت على نشرة

وعاندني الخير مذ جئتها

معاندة الضرّة للضرّة

وإني بها عاشق درهما

ومن لي يا صاح بالزهرة

فعجبي بسيري إلى بلدتي

كعجب الطفيلي بالسفرة

ولو كنت ممّن يجيد الغناء

لأحرزت مذ جئتها بدرة (؟)

__________________

(١) الجملة غامضة.

(٢) في الأصل : شيوخنا.

٣٦١

فإن ردّني الله من صيفها

سليما إلى () (١) البصرة

وعدت إليها فعرسي طلاق

ثلاثا وجاريتي حرّة (؟)

وقال آخر :

لقد طال في بغداد ليلي ومن يبت

ببغداد يصبح ليله غير راقد

بلاد إذا ولّى النهار تقافزت

براغيثها من بين مثنى وواحد

ديازجة شهب البطون كأنّها

بغال بريد أرسلت في مذاود

وقال آخر :

زعم الناس أن ليلك يا بغداد

ليل يطيب فيه النسيم

ولعمري ما ذاك إلّا لما

خالفهم بالنهار منه السموم

وقليل الرخاء يتّبع الشدة

عند العباد أمر عظيم

وقال آخر :

ترحّل فما بغداد دار إقامة

ولا عند من يرجى ببغداد طائل

محلّ أناس سمتهم في أديمهم

وكلّهم من حلية المجد عاطل

وقال بعض الصالحين : ما أحب أن أسكن أحد المصرين على أن أتصدق كل يوم على مائتي مسكين. فقيل له أي مصرين هما؟ قال : مصر وبغداد.

وقال يعقوب بن إسحاق (٢) : سمعت أبي يقول : سمعت يزيد بن هارون (٣) ـ وسأله رجل أيام الفتنة ، فقال : إن أبويّ يكرهان أن أخرج عن بغداد. فقال يزيد : إن أحب أبواك أن يقيما بأرض الشرك أتقيم معهما؟ قال : ثم رأيته [٧١ أ] بعد هذا القول مقيما ببغداد.

__________________

(١) كلمة مطموسة.

(٢) هو ابن السكيت المقتول عام ٢٤٤ ه‍.

(٣) يزيد بن هارون ابن خالد الواسطي المتوفى عام ٢٠٦ ه‍ ـ انظر ترجمته في العبر ١ : ٢٧٥.

٣٦٢

وقال ابن الكلبي : سميت البردان التي فوق بغداد بأربعة فراسخ بردانا لأن ملوك الفرس كانوا إذا أتوا بالسبي فنقّوا شيئا منه قالوا : برده. أي ذهبوا به إلى القرية البردان فسميت بذلك. قال : وكانت بردان الكوفة لوبرة بن رومانس أخي النعمان بن المنذر لأمّه فمات ودفن فيها. ولذلك قال مكحول بن حارية يرثيه :

فما الدنيا بباقية لحيّ

وما حيّ على الدنيا بباق

لقد تركوا على البردان قبرا

وهمّوا للتفرّق بانطلاق

قال : وأنشدني الهيثم بن عيسى الكاتب لبعضهم :

كفى حزنا والحمد لله أنني

ببغداد قد أعيت عليّ مذاهبي

أصاحب من لا أستلذّ صحابه

وآلف قوما لست فيهم براغب

ولم أثو في بغداد حبا لأهلها

ولا أنّ فيها مستفادا لطالب

سأرحل عنها قاليا لسراتها

وأتركهم ترك الملول المجانب

فإن ألجأتني النائبات إليهم

فأير حمار في حر أمّ النوائب

وقال آخر :

اركب ببغداد وجوّل بها

واقصد لمن شئت من الناس

تجده من كان إذا جئته

مستترا عنك بإفلاس

يبدي لك الفقر ويطوي الغنى

منك ويدنيك من الياس

يخضع في المنطق من بخله

وقلبه كالحجر القاسي

وأنشد لمطيع بن إياس :

حبّذا عيشنا الذي زال عنا

حين نلنا المنى ولا حبّذا ذا

أين هذا من ذاك سقيا لها

ذاك ، ولسنا نقول سقيا لهذا

زاد هذا الزمان شرا وعرّا

عندنا إذ أحلّنا بغداذا

بلدة تمطر التراب على النا

س كما تمطر السماء الرذاذا

٣٦٣

[٧١ ب]

فإذا ما أعاذ ربي بلادا

من عذاب كبعض ما قد أعاذا

خربت عاجلا كما خرّب الله

بأعمال أهلها كلواذى

وقال محبوب بن أبي العشنّط النهشلي :

لروضة من رياض أو طرف

من القرنة جرد غير محروث

يفوح منه إذا مجّ الندى أرج

يشفي الصداع ويشفي. كلّ ممغوث

أملا وأحلى لعيني إن مررت به

من كرخ بغداد ذي الرمّان والتوث

الليل نصفان : نصف للهموم فما

أقضي الرقاد. ونصف للبراغيث

أبيت حين تساميني أوائلها

أنزو وأخلط تسبيحا بتغويث

سود مداليج في الظلماء مؤذية

وليس ملتمس منها بمشبوث

وقال بعض الكلابيين ـ وكان ببغداد فآذته البراغيث ـ :

أصبحت سالمت البراغيث بعد ما

مضت ليلة مني وقلّ رقودها

فيما ليت شعري هل ازورنّ بلدة

قليل بها أوباشها وعبيدها

وهل اسمعنّ الدهر أصوات ضمّر

تطالع بالركبان صعرا خدودها

تراطن حولي كلّما ذرّ شارق

ببغداد أنباط القرى وعبيدها

وهل أرينّ الدهر نارا بأرضها

بنفسي وأهلي أرضها ووقودها

قال عياش بن باغان الرقي : مبتدأ دجلة من تحت حصن في جبل بآمد وعرضها عند منبعها أقل من عشرة أذرع ، ثم تمر بجبال السلسلة. وفي جبال السلسلة عيون كثيرة يصب في دجلة ثم تخالطها أنهار عظيمة منها الخابور والزرم وغيرهما من الأنهار. ثم تصب إلى جزيرة ابن عمر التغلبي. وتخالطها أيضا أنهار كبار من نواحي [٧٢ أ] أرمينية ثم تصير إلى بلد ثم إلى الموصل. فإذا أجازت الموصل بسبعة فراسخ ، صب إليها الزاب الكبير. ومن تل فافان تحمل فيها السفن

٣٦٤

والأطواف. فإذا بلغت السنّ ، صب إليها الزاب الصغير. ثم تخالطها ببغداد أنهار من الفرات منها الصراة ونهر عيسى وغيرهما حتى تصير إلى البطائح.

وروي عن كعب أنه قال : النيل نهر العسل في الجنة ، ودجلة نهر اللبن والفرات نهر الخمر ، وسيحان نهر الماء وهي التي ذكرها الله في القرآن.

وقال أحمد بن محمد الحاسب (١) : أمر المتوكل بتسهيل أبواب دجلة من الموصل إلى بغداد وقلع الحجارة التي في الطريق لها الأبواب. فقيل له : يا أمير المؤمنين! إن عمك المأمون قد كان أمر بمثل ما أمرت فقيل له ان الله جلّ وعز إنما جعل هذه الصخور وفي هذه المواضع. وان كان فيها بعض الضرر على المجتازين لما في ذلك من الصلاح لعباده وعمارة بلاده من جهة معايشهم. وذلك انها ترد حمية الماء عن حافتي دجلة. ومقامها مقام الشكور. ويحتاج إليها أيضا لينضمّ الماء ولا يتفرق فيحمل على الأنهار. ولولا هذه الحجارة لفقر الماء دجلة حتى تخطّ وأضر ذلك بالناس وبطلت العمارة. فأمسك عما كان همّ به.

قال : وبأسفل واسط تسكن جرية دجلة وتخف. وهناك تأخذ منها أنهار كسكر ونواحيها. فأما ما يأخذ منها ويسقي الجانب الشرقي ، فالقناتان الشتوية والصيفية وهما اللتان عملهما المتوكل لسرمرى كانتا تدخلان المسجد الجامع وتتخللان شوارع سامرا. ثم النهر الذي قدّره أيضا وعمل على أن يدخل الخير فلم يتم. وقد كان أنفق عليه سبعمائة ألف دينار. وكان السبب في أنه لم يتم ، ان المتوكل قتل قبل الفراغ منه. وقد حاول المنتصر أن يتمه ، فلقصر أيامه لم يستو ذلك.

ثم القاطول الكسروي يسقي [٧٢ ب] النهروان وعليه شاذروان فوقه يسقي رستاق بين النهرين من طسوج بزرجسابور. ثم القاطول المعروف بأبي الجند ، يأخذ من دجلة ويصب أسفل الشاذروان الذي أحدثه الرشيد عند عمله ذلك

__________________

(١) أحمد بن محمد الحاسب القرصاني (انظر عنه ابن خلكان ٣ : ١١٢ ، ١١٤) حيث ذكر أن عمله هذا قد تمّ عام ٢٤٧ ه‍.

٣٦٥

الشاذروان عوضا لأهل النهروان بسبب ما سدّ عنهم الشاذروان.

ثم نهر السلام يأخذ من دجلة ويسقي كلواذى ونهر بين بزرج سابور ونهر بوق.

وفي الجانب الغربي ، النهر المعروف بالإسحاقي في مبتدأه من تكريت وهو يسقي العمارات. والقناة القديمة يسقي أيضا العمارات. ودجيل يسقي قطربل ومسكن.

[بنى الأكاسرة بين المدائن التي على عقبة همذان وقصر شيرين مقبرة آل ساسان. وعقرقوف كانت مقبرة الكيانيين وهم أمة من النبط كانوا ملوكا بالعراق قبل الفرس](١).

__________________

(١) معجم البلدان ١ : ٨٦٨ (تل عقرقوف).

٣٦٦

القول في سرمرى

قال الشعبي : كان سام بن نوح له جمال ورواء وعقل ومنظر ، وكان يصيف بالقرية التي ابتناها نوح عند خروجه من السفينة ببازبدى وسماها ثمانين ، ويشتو بأرض جوخا. وكان ممره من أرض جوخا إلى بازبدى على شاطئ دجلة من الجانب الشرقي. فيسمى ذلك المكان إلى الآن سام [راه ، يعني طريق سام].

وقال إبراهيم بن الجنيد (١) : سمعتهم يذكرون أن سامرا بناها سام بن نوح ودعا أن لا يصيب أهلها سوء. فأراد السفاح أن يبنيها فبنى مدينته بالأنبار بحذائها. وأراد المنصور بعد ما أسس بغداد وسمع في الرواية ببركة هذه المدينة أن يبنيها. فابتدأ بالبناء في البردان ثم بدا له وبنى بغداد. وأراد الرشيد أيضا بناءها ، فبنى بحذائها قصرا وسماه المبارك وهو بحذاء أثر بناء قديم كان للأكاسرة. ثم بناها المعتصم ونزلها سنة إحدى وعشرين ومائتين.

وروى ليث عن مجاهد قال : حيثما اجتمع المسلمون فهو مصر.

ولم يبن أحد من الخلفاء من الأبنية الجليلة ما بناه المتوكل. فمن ذلك القصر المعروف بالعروس ، أنفق عليه ثلاثين ألف ألف درهم. والمختار ، خمسة ألف ألف درهم. والوحيد ، ألفي ألف درهم. والمسناة [٧٣ أ] عشرين ألف ألف درهم. والبرج ثلاثين ألف ألف درهم. والجوسق الإبراهيمي ، ألفي ألف درهم. والجعفري المحدث عشرة ألف ألف درهم. والغريب عشرة ألف ألف درهم. والشيدار عشرة ألف ألف درهم. والبرج عشرة ألف ألف درهم. والصبح خمسة

__________________

(١) من أفراد بلاط المتوكل. انظر تاريخ الطبري ٨ : ١٦٢.

٣٦٧

ألف ألف درهم. والمليح خمسة ألف ألف. والقصر في بستان الإيتاخية عشرة ألف ألف. والتل علوه وسفله خمسة ألف ألف. والجوسق في ميدان الصخر خمسمائة ألف. والمسجد الجامع خمسة عشر ألف ألف درهم. وبركوان للمعتز عشرين ألف ألف درهم. والقلائد خمسين ألف دينار ، وجعل فيها أبنية بمائة ألف دينار. والفرد في دجلة ألف ألف درهم. والقصر بالمتوكلية وهو الذي يقال له الماحوزة خمسين ألف ألف درهم. والبهو خمسة وعشرين ألف ألف. واللؤلؤ خمسة ألف ألف درهم. فذلك الجميع مائتا ألف ألف وأربعة وتسعون ألف ألف درهم.

وكان المعتصم والواثق والمتوكل إذا بنى أحدهم بناء من قصر أو غيره ، أمر الشعراء أن يعملوا فيه [شعرا](١). فمن ذلك قول علي بن الجهم في الجعفري الذي بناه المتوكل

وما زلت أسمع أنّ الملوك

تبني على قدر أقدارها

وأعلم أنّ عقول الرجال

يقضى عليها بآثارها

فلما رأينا الإمام

رأينا الخلافة في دارها

بدائع لم ترها فارس

ولا الروم في طول أعمارها

وللروم ما شيّد الأولون

وللفرس آثار أحرارها

وكنا نحسّ لها نخوة

فطامنت نخوة جبّارها

وأنشأت تحتج للمسلمين

على ملحديها وكفّارها

صحون تسافر فيها العيون

إذا ما تجلّت لأبصارها

وقبة ملك كأنّ النجوم

تفضي إليها بأسرارها

تخرّ الوفود لها سجّدا

سجود النصارى لكبّارها

لها شرفات كأنّ الربيع

كساها الرياض بأنوارها

__________________

(١) تكملة من ياقوت.

٣٦٨

نظمن النسانس نظم الحليّ

أمون النساء وأبكارها

فهنّ كمصطحبات برزن

لفصح النصارى وأقطارها

فمن بين عاقصة شعرها

ومرسلة عقد زنّارها

وأروقة شطرها للرخام

وللتبر أكرم أشطارها

إذا رمقت تستبين العيو

منها منابت أشفارها

[٧٣ ب]

وسطح على شاهق مشرف

عليه النخيل بأثمارها

إذا الريح هبّت لها أسم

عتك عزيف القيان بأوتارها

أطاعتك دجلة فاستنجدت

عليك بأغزر أنهارها

وفوارة ثأرها في السماء

فليس تقصّر عن ثارها

تردّ على المزن ما أنزلت

إلى الأرض من صوب مدارها

لو أنّ سليمان أدّت له

شياطينه بعض أخبارها

لأيقنّ أنّ بني هاشم

يقدّمها فضل أخطارها

فلا زالت الأرض معمورة

بعمرك تأخير أعمارها

قال : وحدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد البيهقي (١) ، قال : أنشدني حماد بن إسحاق الموصلي (٢) لأبيه في الواثق ويصف سرمرى وصيده بها ويذكر النجف ويزعم أنه كتبها عنه كل ذي نعمة وأدب ببغداد. أوّلهم ابن أبي داود. وفيها عدة ألحان صاغها المغنّون:

يا راكب العيس لا تعجل بنا وقف

نحيّ دارا لسعدى ثم ننصرف

وابك المعاهد من سعدى وجارتها

ففي البكاء شفاء الهائم الكلف

__________________

(١) له ترجمة في تاريخ بيهق ١٥١ ـ ١٥٤

(٢) ترجم له ابن النديم ١٥٩.

٣٦٩

لا تمنع العين من دمع تجود به

في دار سعدى ولكن خلّها تكف

أشكوا إلى الله يا سعدى جوى كبد

حرّى عليك متى ما تذكري تجف

أهيم وجدا بسعدى وهي تصرمني

هذا لعمرك شكل غير مؤتلف

أما أنالك أن تنهاك تجربة

عنها وما كان من وعد ومن خلف

دع عنك سعدى فسعدى عنك نازحة

واكفف هواك وعدّ القول في لطف

ما ان أرى الناس في سهل ولا جبل

أصفى هواء ولا أغدى من النجف

كأنّ تربته مسك يفوح به

أو عنبر دافه العطار في الصدف

حفّت ببرّ وبحر من جوانبها

فالبرّ في طرف والبحر في طرف

وبين ذاك بساتين يسيح بها

نهر يجيش بجاري سيله القصف

وما يزال نسيم من أيامنه

يأتيك منه بريّا روضة أنف

تلقاك منه قبيل الصبح رائحة

تشفي السقيم إذا أشفى على التلف

لو حلّه مدنف يرجو الشفاء به

إذا شفاه من الأسقام والدنف

[٧٤ أ]

يؤتى الخليفة منه كلّما طلعت

شمس النهار بأنواع من التحف

الصيد منه قريب إن هممت به

يأتيك مؤتلفا في زيّ مختلف

من كلّ أقرن ممشوق قوائمه

وكلّ مخرجه (؟) مشقوقة الظلف

وطير ماء ودرّاج يساوره

بأن يغلّقه في جوّ مختطف (؟)

فيا له منزلا طابت مساكنه

بخير من حاز بيت العز والشرف

خليفة واثق بالله همّته

تقوى الإله بحقّ الله معترف

ساس البرية فانقادت لطاعته

طوعا بلا خرق منه ولا عنف

أقام فيهم قناة العدل فانتصبت

وسار فيهم بلا ميل ولا جنف

وقال الحسين بن الضحاك في سرمرى من شعر طويل :

٣٧٠

رحلنا غرابيب زيّافة

بدجلة في موجها الملتطم

سوانح أيقنّ أن لا قرار

دون مباركة المعتصم

فلمّا دفعن لقاطولها

ودهم قراقيرها تصطدم

سكنّ إلى خير مسكونة

تقسمها راغب من أمم

مباركة شاد بنيانها

بخير المواطن خير الأمم

كأنّ بها نشر كافوره

لبرد ثراها وطيب النسم

كظهر الأديم إذا ما السحاب

صاب متنها وانسجم

مبرأة من وحول الشتاء

إذا بجره وانتظم (؟)

فما ان يزلّ بها راجل

بغيث سماء ولا يرتطم

يمرّ على رسله آمنا

نقيّ الشراك نقيّ القدم

بجرعاء لا صيفها ساطع

بنقع ولا آخذ بالكظم

تخرّق في برّها بحرها

فأجدف جوادنها بالسلم

فللضبّ والنون في بطنها

جوار ومرتبع للنعم

إذا ما الربيع بأنوائه

كساها زخارف ممّا نجم

وعمّم أعلامها زهره

وجلّل قيعانها والأكم

غدوت على الوحش منظومة

رواتع في نورها المنتظم

ورحت عليها وأسرابها

شوارع في غدرها تزدحم

كأنّ شوادن غزلانها

نجوم بأكنافها تبتسم

فلا أين عن وطن خصّه

عقيد السماح وأسّ الكرم

وقال فيها أيضا [٧٤ ب] :

كلّ البلاد لسرّمرّى شاهد

أنّ المصيف بها كفصل سواها

فيحاء طاب مقيلها ومبيتها

وغدوّها ورواحها وضحاها

٣٧١

وإذا الرياح تنفست برباعها

وجرت بطيب نسيمها ونشاها

فكأنما سبقت إليك بنفحة

من جنّة حصباؤها وثراها

وقال أيضا :

على سرّمرى والمصيف تحية

مجللة من مغرم بهواهما

ألا هل لمشتاق ببغداد رجعة

تقرّب من ظلّيهما وذراهما

محلّان لقّى الله خير عباده

عزيمة رشد فيهما فاصطفاهما

وقولا لبغداد إذا ما تسنّمت

على أهل بغداد جعلت فداهما

أفي بعض يوم شفّ عينيّ بالقذى

حرورك حتى رابني ناظراهما

وقال أيضا :

أحد بما تسمعه يا حادي

وقل بترتيلك في الإنشاد

جادك يا بغداد من بلاد

إلى تمارى من قرى السواد

فقبة السيب فبطن الوادي

فالعرصة الطيبة المراد

حبيب كل رائح وغاد

يا ليت شعري والحنين زادي

هل لي إلى ظلّك من معاد

لله ما هجت على البعاد

لقلب حرّان إليك صاد

بدّل من ريفك بالبوادي

بقفرة موحشة الأطواد

مجهولة مجدبة حماد

بعيدة الورد من الورّاد

وقال فيها أيضا [٧٥ أ] :

سرّمرّى أسرّ من بغداد

فاله عن ذكر ذكرها المعتاد

حبذا مسرح لها ليس يخلو

أبدا من طريدة وطراد

ورياض كأنما نشر الزهر

عليها محبّر الأبراد

واذكر المشرف المطلّ

من التلّ على الصادرين والورّاد

٣٧٢

وإذا روّح الرعاء فلا

تنس دواعي فواقد الأولاد (١)

وقال فيها أيضا :

سقى الله ما والى المصيف وما انطوى

على سرّمرّى مستهلّا مبكرا

فلم أر أيّاما تسرّ قصارها

أسرّ من الأيام فيها وأقصرا

بلاد خلت من كل ريب فلا ترى

بلادا توازيها غذاء ومنظرا

أصبّ بمشتاها ولين مصيفها

ورقّة فصليها إذا الأفق أسفرا

كأنّ حصاها بثّ في عرصاتها

فرائد مرجان ودرّا مسطّرا

تريك إذا الوسمي جاد متونها

وعاد عليهنّ الوليّ فأمطرا

رياضا تحار العين في جنباتها

إذا صفّر الأرض الربيع وحمّرا

كأنّ بها في كلّ فجّ سلكته

نمارق زرياب ووشيا محبّرا

تراعى بها عفر الظباء سواكنا

أوامن في أكنافها أن تنفّرا

سكن إلى جار حماهنّ رأفة

فمدّ حمى من دونهنّ وحيّرا

كفاهنّ روعات الطراد ذمامه

فما تعرف الطرّاد إلّا تذكرا

يهادين بالحيرين من كل مذهب

حدائق جنّات وماء مفجّرا

كأنّ مرابيع السجال خلالها

نجوم تهادى منجدات وعوّرا

تراهنّ من فرط المراح شوامخا

من العجب ما يمشين إلّا تبخترا

فلا برحت دار الإمام بغبطة

ولا زال شانيها بأصلد أوعرا

تخيّرها دون البقاع موفّق

أصاب طريق الرشد فيما تخيّرا

[٧٥ ب] وكان المتوكل قد انتقل من سرمرى إلى الجعفري وانتقل معه عامة أهل سرمرّى حتى كادت أن تخلو. فقال في ذلك أبو علي البصير :

إنّ الحقيقة غير ما تتوهّم

فاختر لنفسك أيّ أمر تعزم

__________________

(١) في ياقوت (رواعي فراقد) ولا معنى لها.

٣٧٣

أتكون في القوم الذين تأخروا

عن حظّهم أم في الذين تقدّموا

لا تقعدنّ تلوم نفسك حين لا

يجدي عليك تأسف وتندّم

أضحت قفارا سرّمرّى ما بها

إلّا لمنقطع به متلوّم

تبكي بظاهر وحشة وكأنها

إن لم تكن تبكي بعين تسجم

كانت تظلّم كلّ أرض مرة

عنها ، فصارت بعد وهي تظلّم

رحل الإمام فأصبحت وكأنها

عرصات مكة حين يمضي الموسم

وكأنما تلك الشوارع بعض ما

أخلت إياد من البلاد وجرهم

كانت مرادا للعيون فأصبحت

عظة ومعتبرا لمن يتوسّم

وكأنّ مسجدها المشيد بناؤه

ربع أحال ومنزل متوهّم

وإذا مررت بسوقها لم تنء عن

سنن الطريق ولم تجد من يزحم

وترى الذراري والنساء كأنّهم

خلف أقام وغاب عنه القيّم

فارحل إلى الأرض التي يحتلّها

خير البرية انّ ذلك أحزم

وانزل مجاورة بأكرم منزل

وتيمّم الجهة التي يتيمّم

أرض تسالم صيفها وشتاؤها

فالجسم بينهما يصحّ ويسلم

وصفت مشاربها ورق أوارها

والتذّ برد نسيمها المتنسّم

سهلية جبلية لا تجتوي

حرا ولا قرا ولا تستوخم

[٧٦ أ] ويقال إن المعتصم ملك ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام. وكان ملكه في سنة ثمان عشرة ومائتين. وكان له من الفتوح ثمانية. وبنى ثمانية قصور. وولد له ثمانية ذكور وثماني إناث وخلف في بيت المال ثمانمائة ألف دينار وثمانية ألف ألف درهم.

فمن القصور ، الجوسق والقيد المللي وقصر الجص وقصر القصور وعمورية وقصر المطامير والقصر السماني والقصر الخاقاني.

٣٧٤

والفتوح : الزط والمحمرة وبابك وعمورية والمازيار وجعفر الكردي والحسن بن خيلويه والحوف بمصر.

وكتب عبد الله بن المعتز إلى بعض إخوانه يذكر سرمرى بعد خرابها ويذم بغداد وأهلها : كتبت إليك من بلدة قد أنهض الدهر سكّانها ، وأقعد جدرانها. فشاهد اليأس فيها ينطق ، وحبل الرجاء فيها يقصر. فكأن عمرانها يطوى ، وكأن خرابها ينشر. قد وكلت إلى الهجر نواحيها وحث باقيها إلى فانيها. وتمزقت بأهلها الديار ، فما يجب فيها حق جوار. فالظاعن عنها ممحوّ الأثر ، والمقيم بها على طرف سفر. نهاره إرجاف ، وسروره أحلام. ليس له زاد فيرحل ، ولا مرعى فيربع. فحالها تصف للعيون الشكوى ، وتسير إلى ذم الدنيا. بعد ما كانت بالمرأى جنة الأرض وقرار الملك ، تفيض بالجنود أقطارها ، عليهم أردية السيوف وغلائل الحديد. كأن رماحهم قرون الوعول ، ودروعهم زبد السيول. على خيل تأكل الأرض بحوافرها ، وتمدّ بالنقع ستائرها. قد نشرت في وجوهها غرر كأنها صحائف البرق ، وأمسكها تحجيل كأسورة اللجين. وقرّطت عذرا كالشنوف. في جيش تتلقف الأعداء أوائله ولم تنهض أواخره. قد صب عليه ذمار الصبر ، وهبت له ريح النصر. يصرّفه ملك يملأ العين جمالا والقلوب جلالا. لا تختلف مخيلته ولا تنقض [٧٦ ب] مريرته. ولا يخطئ بسهم الرأي غرض الصواب ، ولا يقطع بمطايا اللهو سفر الشباب. قابضا بيد السياسة على أقطار ملك لا ينتشر حبله ، ولا تتشظى عصاه ، ولا تطفى جمرته في سن شباب لم يجن مأثما ، وشيب لم يراهق هرما. قد فرش مهاد عدله ، وخفض جناح رحمته. راجما بالعواقب [الظنون](١). لا يطيش عن قلب فاضل الحزم بعد العزم. ساعيا على الحق يعمل به. عارفا بالله يقصد إليه. مقرّا للحلم ويبذله. قادرا على العقاب ويعدل فيه. إذ الناس في دهر غافل قد اطمأنت بهم سيرة لينة الحواشي خشنة المرام ، تطير بها أجنحة السرور ، ويهب فيها نسيم الحبور ، فالأطراق على مسرّة والنظر إلى مبرّة. قبل أن تخبّ مطايا

__________________

(١) تكملة من ياقوت (سامراء).

٣٧٥

الغير ، وتسفر وجوه الحذر. وما زال الدهر مليئا بالنوائب ، طارقا بالعجائب ، يؤمن يومه ويغدر غده.

على أنها وإن جفيت ، معشوقة السكنى ، رحيبة المثوى. كوكبها يقظان ، وجوها عريان. وحصاها جوهر ونسيمها معطّر. [وترابها مسك أذفر ، ويومها غداة وليلها سحر](١) وطعامها هنيء ، وشرابها مريء ، وتاجرها مالك ، وفقيرها فاتك ، لا كبغدادكم الوسخة السماء ، الومدة الهواء. جوّها نار ، وأرضها خبار. وماؤها حميم وترابها سرجين. وحيطانها نزوز ، وتشرينها تموز. فكم في شمسها من محترق ، وفي ظلها من عرق. ضيقة الديار ، قاسية الجوار. ساطعة الدخان ، قليلة الضيفان. أهلها ذئاب ، وكلامهم سباب. وسائلهم محروم ، ومالهم مكتوم. لا يجوز إنفاقه ، ولا يحلّ خناقه. وحشوشهم مسائل ، وطرقهم مزابل. وحيطانهم اخصاص ، وبيوتهم أقفاص. ولكل مكروه أجل ، وللبقاع دول. والدهر يسير بالمقيم ، ويخرج البؤس بالنعيم. وبعد اللجاجة انتهاء والهمّ إلى فرجة. ولكل سائلة قرار. وبالله أستعين وهو محمود على كل حال.

وفي خراب سرمرى يقول ابن المعتز :

غدت سرّمرى في العفاء كأنها

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

وأصبح أهلوها شبيها بحالها

لما نسجتهم من جنوب وشمال

إذا ما امرؤ منهم شكا سوء حاله

يقولون لا تهلك أسى وتجمّل

[٧٧ أ].

__________________

(١) تكملة من ياقوت (سامراء).

٣٧٦

القول في السواد وصفته

وأعلام حدوده وكوره وطساسيجه

وسبب مساحة الأرض

وتقدير خراجه وطوله وعرضه

قال المدائني : السواد عشر كور ، وهو من لدن القادسية إلى أول حدّ الجبل دون حلوان.

والسواد الذي وقعت عليه المساحة من لدن تخوم الموصل مادّا مع الماء إلى ساحل البحر إلى بلاد عبادان من شرقي دجلة. هذا طوله.

فأما عرضه : فحد منقطع الجبل من أرض حلوان إلى منتهى طرف القادسية المتصل بأرض العذيب. فهذه حدود السواد وعليها وضع الخراج.

وقال الأصمعي : السواد سوادان. فسواد البصرة ، الأهواز ودستميسان وفارس. وسواد الكوفة ، كسكر إلى الزاب وحلوان إلى القادسية.

وقال أبو معشر : إن الكلدانيين هم الذين كانوا ينزلون بابل في الزمان الأول. ويقال : إن أول من سكنها وعمرها ، نوح عليه السلام. وذلك أنه نزلها بعقب الطوفان. فصار هو ومن خرج معه من السفينة إليها لطلب الرفاء. فأقاموا بها وتناسلوا فيها وكثروا من بعد نوح وملكوا عليهم ملوكا وابتنوا بها المدائن واتصلت مساكنهم بدجلة والفرات إلى أن بلغوا من دجلة إلى أسفل كسكر ، ومن الفرات إلى ما وراء الكوفة. وموضعهم هو الذي يقال له السواد. وكانت ملوكهم تنزل بابل.

٣٧٧

وكان الكلدانيون جنودهم. فلم تزل مملكتهم قائمة إلى أن قتل دار آخر ملوكهم. ثم قتل منهم خلقا فذلّوا وانقطع ملكهم.

وذكر ابن الكلبي : ان مدينة بابل كانت اثني عشر فرسخا في مثل ذلك. وكان بابها مما يلي الكوفة. وكان الفرات يجري ببابل حتى صرفه بخت نصر إلى موضعه الآن مخافة أن يهدم عليه سور المدينة لأنه كان يجري معه.

قال : ومدينة بابل بناها بيوراسب واشتق اسمها من اسم المشتري. لأن بابل باللسان البابلي الأول اسم للمشتري. ولما بناها جمع فيها كل من قدر عليه من العلماء وبنى لهم اثني عشر قصرا على عدد [٧٧ ب] البروج وسماها بأسمائهم. فلم تزل عامرة حتى خرج الإسكندر فأخربها.

وقال الله عزّ وجلّ (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ). فروي عن الأعمش قال : كان مجاهد لا يسمع بشيء من الأعاجيب إلّا مضى حتى ينظر إليه. وانه صار إلى حضرموت حتى نظر إلى بئر برهوت ، وأتى بابل فلقيه رجل من رؤساء أهلها كان عارفا به. فلما لقيه أكبره وقال له : أبا الحجاج ما تصنع هاهنا؟ قال حاجة لي إلى رأس الجالوت ، أحب أن تدخلني إليه وتعرّفه من أنا. فأدخله إليه وعرّفه محلّه وموضعه وقال : له حاجة إليك. قال وما حاجتك؟ قال : تأمر بعض اليهود أن يريني هاروت وماروت. فامتنع عليه طويلا ثم قال له : أخشى أن لا تتماسك. قال : أرجو أن لا يكون إلّا ما تحب. فأرسل إلى رجل من اليهود فقال : اذهب بهذا فأدخله إلى هاروت وماروت. فقال له اليهودي : كيف تجد قلبك؟ قال : ما شئت. فانطلق به إلى مكان غامض في الصحراء ، وإذا صخرة عظيمة. فتكلم عليها كلاما ذكر أنه من التوراة ، فأقبلت تهتز. ثم رفعها وأزالها عن مكانها. وكانت لا يقلّها مائة رجل. وإذا تحتها شبيه بالسرب. فقال له اليهودي : تعلق بي وانظر أن لا تذكر الله. فنزل معه مجاهد ، فلم يزل يهوي به حتى صارا إلى فضاء عظيم. وإذا هما مثل الجبلين العظيمين ، منكوسان على رؤوسهما وعليهما الحديد من أعناقهما إلى أقدامهما مصفدين. فلما رآهما مجاهد لم يملك نفسه أن ذكر الله عزّ وجلّ. فاضطربا اضطرابا شديدا حتى كادا أن يقطعا ما عليهما من

٣٧٨

الحديد ، وخر اليهودي ومجاهد على وجوههما وقتا طويلا ثم أفاقا. فقال اليهودي لمجاهد : ألم أتقدم إليك أن لا تذكر الله؟ كدنا والله أن نهلك ولا نقدر على الخروج. فتعلق به مجاهد ، فلم يزل يصعد به حتى خرجا إلى الأرض.

ويقال إن عمر بن الخطاب سأل دهقان الفلوجة عن عجائب بلادهم فقال : كان بها [عجائب](١) بجميع مدنها في كل مدينة أعجوبة ليست في [٧٨ أ] الأخرى. فكان في المدينة التي ينزلها الملك بيت فيه صورة الأرض كلها برساتيقها وقراها وأنهارها. فمتى التوى بحمل الخراج أو غيره أهل بلد من جميع البلدان ، خرق أنهارهم فغرقتهم وأتلفت زروعهم وجميع ما في بلدهم حتى يرجعوا عمّا همّوا به. ثم يسدّ بإصبعه تلك الأنهار فتنسد في بلدهم.

وفي المدينة الثانية حوض عظيم. فإذا جمعهم الملك لحضور مائدته ، حمل كل رجل ممن يحضر من منزله شرابا يختاره ثم صبه في ذلك الحوض. فإذا جلسوا على الشرب شرب كل واحد شرابه الذي حمله من منزله.

وفي المدينة الثالثة طبل معلق على بابها فإذا غاب من أهلها إنسان وخفي أمره على أهله ، وأحبوا أن يعلموا أحيّ أم ميت ، ضربوا ذلك الطبل. فإن سمعوا له صوتا ، فإن الرجل حي. وإن لم يسمعوا صوتا فإن الرجل قد مات.

وفي المدينة الرابعة مرآة من حديد ، فإذا غاب الرجل عن أهله فأحبوا أن يعرفوا خبره على صحته ، أتوا تلك المرآة فنظروا فيها فيرونه على الحال التي هو فيها.

وفي المدينة الخامسة اوزّة من نحاس على عمود من نحاس منصوب على باب المدينة فإذا دخلها جاسوس صوتت الأوزة بصوت يسمعه سائر أهل المدينة فيعلمون أن قد دخلها جاسوس.

وفي المدينة السادسة قاضيان جالسان على الماء. فإذا تقدم إليهما الخصمان وجلسا بين أيديهما غاص المبطل منهما في الماء وثبت المحق.

__________________

(١) زيادة يقتضيها السياق.

٣٧٩

وفي المدينة السابعة شجرة من نحاس ضخمة كثيرة الغصون لا تظل ساقها. فإذا جلس تحتها واحد أظلّته إلى ألف نفس ، فإنها تظلهم كلهم. فإذا زادوا على ألف صاروا كلهم في الشمس.

وقال يزيد بن عمر الفارسي : كانت ملوك الفرس تعد السواد اثني عشر استانا وتحسبه ستين طسوجا وتفسير الاستان إجارة وترجمة الطسوج : ناحية. وكان الملك من ملوكهم إذا عني بحيّز من الأرض عبره وسماه باسمه.

وكانوا ينزلون [٧٨ ب] السواد لما جمع الله في أرضه من مرافق الخيرات وما يوجد فيها من غضارة العيش وخصب المحل وطيب المستقر ، ولما ينصب إليها من مواد الأطراف ومنافعها وسعة ميرها من أطعمتها وأدواتها وأمتعتها وعطرها ولطيف صناعاتها. وكانوا يشبّهون السواد بالقلب وسائر الدنيا بالبدن ، ولذلك سموه : دل إيرانشهر ، أي قلب إيرانشهر. وإيرانشهر : الإقليم المتوسط لجميع الأقاليم. وإنما سموه بذلك لأن الآراء تتشعب عن أهله بصحة الفكر والروية كما تتشعب من القلب بدقائق العلوم ولطائف الآداب والأحكام الكتابية. فأمّا ما حولها من البلاد فأهلها يستعملون أطرافهم بالمباشرة والعلاج. وخصب بلاد إيرانشهر بسهولة. لا عوائق فيها ولا شواهق تشينها ولا مفاوز موحشة ولا براري منقطعة عن تواصل العمارة والأنهار المطردة في رساتيقها وبين قراها. مع قلة جبالها وآكامها وتكاثف عمارتها وكثرة أصناف غلاتها وثمارها. والتفاف أشجارها وعذوبة مائها وصفو هوائها وطيب تربتها مع اعتدال طينتها وتوسط مزاجها وكثرة أجناس الصيد في ظلال شجرها وبين عشبها ، وخلال زهرتها. من طائر [بجناح] وماش على ظلف وسابح في البحر. امنه مما ينال البلدان من غارات الأعداء وبوائق المخالفين. مع ما خصت به من الرافدين دجلة والفرات. إذ هما مادان لا ينقطعان شتاء ولا صيفا على بعد منابعهما ونزوح مبتدأهما. [فإنه](١) لا ينتفع منهما بكثير عمارة حتى يدخلاها فيسيح ماؤهما في جنباتها وينبطح بين

__________________

(١) تكملة من ياقوت (السواد).

٣٨٠