البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

وكان قد ولي الحجاز ثلاث سنين وله ثلاثون سنة ، ثم ولي العراق فمات وله ثلاث وخمسون سنة. ودفن بواسط على النيل. وهو الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن عمرو بن مسعود بن عامر بن معتب. وافتتح السند والهند بخراسان وسجستان ، وولي الحجاز مكة والمدينة ، وحج بالناس في حصار ابن الزبير سنة اثنين وسبعين. وقتل ابن الزبير في جمادى الآخرة وهو أول من ابتنى مدينة ألا وهي واسط ، وأول من اتخذ المحامل وضرب الدراهم وكتب عليها قل هو الله أحد. وقال حميد الأرقط :

أخزى الإله عاجلا وآجلا

أوّل عبد عمل المحاملا

عبد ثقيف ذاك أوّلا فأوّلا

وهو أول من ضرب له الخيس ، وأول من أطعم على ألف خوان على كل خوان عشرة رجال وجنب شوي وثريدة وسمكة وبرنية عسل وبرنية لبن. وكان يقول لمن يحضر غداه وعشاه : رسولي إليكم الشمس ، فإذا طلعت فاغدوا إلى غدائكم وإذا غربت فروحوا إلى عشائكم.

وأول من أجاز بألف ألف درهم للجحاف بن حكيم. وولي العراق بعد بشر بن هارون. وقدم الكوفة وعليه قباء هروي أصفر متقلدا سيفه متنكبا قوسا معتما بعمامة خزّ حمراء لا ترى إلّا عيناه. ولم يسلّم عليه من أصحاب ابن الأشعث إلّا الشعبي والغصبا بن يزيد(١).

وقال بعضهم : صليت خلف الحجاج بالكوفة يوم جمعة فعددت الناس خلفه فكانوا ستين نفسا.

قال : وقدم الحجاج العراق سنة خمس وسبعين ووليه عشرين سنة. وبنى واسط في سنتين وفرغ سنة ست وثمانين وهي السنة التي مات [٢١ أ] فيها

__________________

(١) كذا في الأصل. ويبدو أن الاسم هو (الغضبان بن القبعثرى الشيباني) وهو واحد ممن سجن بعد إخفاق ثورة ابن الأشعث ثلاث سنوات ثم أطلق سراحه (مروج ٣ : ١٤٧ ـ ١٥١).

٢٦١

عبد الملك. ولما فرغ كتب إلى عبد الملك : إني اتخذت مدينة في كرش الأرض بين الجبل والمصرين وسميتها واسط ، فلذلك سمي أهل واسط الكرشين.

وقال الأصمعي : وجه الحجاج الأطباء ليرتادوا له موضعا. فذهبوا يطلبون ما بين عين التمر إلى البحر وجوار العراق. ورجعوا إليه وقالوا : ما أصبنا مكانا أوفق من موضعك هذا في خفوف الريح وأنف البرية.

وكان الحجاج قبل اتخاذه واسط أراد نزول الصين من كسكر وحفر بها نهر الصين وجمع له الفعلة ثم بدا له ، فعمر واسط ونزلها واحتفر النيل والزابي وسماه زابيا لأخذه من الزابي القديم. وأحيا ما على هذين النهرين من الأرضين ، وأحدث المدينة التي تعرف بالنيل ومصّرها ، وعمد إلى ضياع كان عبد الله بن دراج مولى معاوية بن أبي سفيان استخرجها لنفسه أيام ولايته على خراج الكوفة مع المغيرة بن شعبة من موات مرفوض من مغايض وآجام ، فضرب عليها المسنيات ثم قلع قصبها ودخلها فحازه الحجاج لعبد الملك بن مروان.

وقال الوضاح بن عطاء : لقد رأيت المقصورة بواسط وإنه ليغشاها أربعون رجلا شريفا من آل أسلم بن زرعة الكلابي.

وحدث علي بن حرب الموصلي عن أبي البختري وهب بن عمرو بن كعب بن الحارث الحارثي قال سمعت خالي يحيى بن الموفق يحدث عن مسعدة بن صدقة العبدي قال حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن عن سماك بن حرب قال : استعملني الحجاج بن يوسف على ناحية بادوريا. فبينا أنا يوما على شاطئ دجلة ومعي صاحب لي إذا أنا برجل على فرس من الجانب الآخر ، فصاح باسمي واسم أبي. فقلت : ما تشاء [٢١ ب]؟ فقال الويل لأهل مدينة تبنى هاهنا. ليقتلن فيها ظلما سبعون [ألفا] (١). كرر ذلك ثلاث مرات ثم أقحم فرسه في دجلة حتى غاب في الماء. فلم أره. فلما كان قابل ساقني القضاء إلى ذلك الموضع فإذا أنا برجل على فرس ، فصاح كما صاح في المرة الأولى ، وقال كما قال وزاد : سيقتل

__________________

(١) تكملة من ياقوت (واسط).

٢٦٢

فيما حولها ما يستقل الحصى لعددهم. ثم أقحم فرسه في الماء حتى غاب.

قال بعضهم : فكانوا يرون أنها واسط وما قتل فيها الحجاج من الناس. ويقال إنه أحصي في حظيرة الحجاج بن يوسف ثلاثة وثلاثون ألف إنسان لم يحبسوا في دم ولا تبعة ولا دين. وأحصي من قتله صبرا فكانوا مائة وعشرين ألف إنسان.

وقال الحسن بن صالح بن حبي : أول مسجد بني بالسواد ، مسجد المدائن بناه سعد وأصحابه ، ثم وسع بعد وأحكم بناؤه. وجرى ذلك على يدي حذيفة بن اليمان بالمدائن. مات حذيفة سنة ست وثلاثين. ثم بني مسجد الكوفة ثم مسجد الأنبار. وأحدث الحجاج مدينة واسط في سنة ثلاث وثمانين أو سنة أربع ، وبنى مسجدها وقصرها والقبة الخضراء. وكانت أرض قصب فسميت واسط القصب. ولما فرغ من بنائها كتب إلى عبد الملك : اتخذت مدينة في كرش الأرض بين الجبل والمصرين وسميتها واسط. فلذلك سمي أهل واسط الكرشيين.

ونقل الحجاج إلى قصره والمسجد الجامع أبوابا من زندرود والدوقرة ودير ماسرجيس وسرابيط. فضجّ أهل هذه المدن وقالوا قد غصبتنا على مدننا وأموالنا ، فلم يلتفت إلى قولهم. وحفر خالد بن عبد الله القسري المبارك (١).

قال وأنفق الحجاج على بناء قصره والمسجد الجامع والخندقين والسور والقصر ثلاثة وأربعين ألف درهم. فقال له كاتبه صالح بن عبد الرحمن : هذه نفقة كثيرة وإن حسبها لك [٢٢ أ] أمير المؤمنين وجد في نفسه. قال فما تصنع؟ قال الحروب لها أحمل. فاحتسب منها في الحروب بأربعة وثلاثين ألف ألف درهم. واحتسب في البناء تسعة ألف ألف درهم.

ولما فرغ الحجاج من حروبه استوطن الكوفة فأبغضه أهلها وأبغضهم ، فقال لرجل من حرسه : امض فابتغ لي موضعا في كرش من الأرض أبني فيه مدينة ، وليكن ذلك على نهر جار. فأقبل يلتمس ذلك حتى صار إلى قرية فوق واسط بيسير

__________________

(١) من (ونقل الحجاج) إلى هنا في البلاذري ص ٢٨٩.

٢٦٣

يقال لها واسط القصب فبات بها واستطاب ليلها واستعذب أنهارها واستمرأ طعامها وشرابها فقال : كم بين هذا الموضع والكوفة؟ فقيل : أربعون فرسخا. فقال : كم منها إلى المدائن؟ قال : أربعون. قال : فكم إلى الأهواز؟ قال : أربعون. فقال : هذا موضع متوسط. وكتب إلى الحجاج بالخبر ويمدح له الموضع. فكتب إليه : اشتر لي فيه موضعا أبني به مدينة. وكان موضع واسط لرجل من الدهاقين يقال له داوردان. فساومه بالموضع فقال له الدهقان : ما يصلح للأمير؟ قال : ولم؟ قال أخبرك عنه بثلاث خصال ، تخبره بها ثم الأمر إليه. قال : وما هي؟ قال : بلاد سبخة والبناء لا يثبت فيها ، وهي شديدة الحر والسموم ، وإن الطائر ليطير في الجو فيسقط لشدة الحرّ ميتا ، وهي بلاد أعمار أهلها قليلة. فكتب بذلك إلى الحجاج فكتب إليه : هذا رجل يكره مجاورتنا فأعلمه أنّا سنحفر بها الأنهار ، ونكثر فيها من البناء والغرس والزرع حتى تغدوا وتطيب. وأما ما ذكر أنها سبخة وأن البناء لا يثبت فيها فسنحكمه ثم نرحل عنه فيصير لغيرنا. وأما قلّة أعمار أهلها فهذا شيء إلى الله عزّ وجلّ لا إلينا. وأعلمه أنّا نحسن مجاورته ونقضي زمامه بإحساننا إليه.

قال : فابتاع الموضع من الدهقان وابتدأ في البناء سنة ثلاث وثمانين واستتمه في سنة ست وثمانين ومات في سنة خمس وتسعين.

ولما فرغ منه وسكنه أعجب به إعجابا شديدا. فبينا هو ذات يوم في مجلسه [٢٢ ب] إذ أتاه بعض خدمه فقال له : إن فلانة ـ جارية من جواريه ، كان مائلا إليها ـ أصابها لمم (١). فغمّه ذلك ووجه إلى الكوفة في إشخاص عبد الله بن هلال (٢) الذي كان يقال له صديق إبليس. فلما قدم عليه عرّفه الخبر فقال له أنا أحلّ [السحر] عنها. قال : افعل. فلما زال ما كان بها. قال له الحجاج : ويحك إني

__________________

(١) لمم ولمة : مس من الجن (أساس).

(٢) أشهر السحرة في الفولكلور العربي. كان معاصرا للحجاج الثقفي زعموا (أنه صديق إبليس وختنه وأنهم كانوا لا يشكّون أن إبليس جدّه من قبل أمهاته) (الحيوان للجاحظ ١ : ١٩٠ ومواضع أخرى منه) وابن النديم ٣٧١.

٢٦٤

أخاف أن يكون هذا القصر محتضرا (١). قال : أنا أصنع فيه شيئا فلا ترى فيه أمرا تكرهه. فلما كان بعد ثالثة ، جاء عبد الله بن هلال يخطر بين الصفين وفي يده قلّة مختومة. فقال : أيها الأمير تأمر بالقصر أن يمسح ثم تدفن هذه القلة في وسطه فلا ترى فيه شيئا فيما يكره. فقال له الحجاج : يا ابن هلال! وما العلامة في هذه القلة؟ قال : أن يأمر الأمير برجل بعد آخر من أشدّ أصحابه حتى يأتي على عشرة منهم فيستقلّوا بها من الأرض (٢) فإنهم لا يقدرون على ذلك. فأمر الحجاج بذلك ففعل ، فكان كما قال ابن هلال. وكان بين يدي الحجاج مخصرة خيزران فوضعها في عروة القلة ثم قال بسم الله الرحمن الرحيم. إن ربكم الذي خلق السماوات والأرض. ثم شال القلة فارتفعت على المخصرة ، فوضعها ثم فكر منكسا رأسه ساعة. ثم التفت إلى عبد الله بن هلال فقال : خذ قلتك والحق بأهلك. قال : ولم؟ قال : إن هذا القصر سيخرب بعدي وينزله قوم ويحتفر محتفر يوما فيجد هذه القلة فيقول : لعن الله الحجاج إنما كان بدء أمره السحر. قال : فأخذها ولحق بأهله.

قال : وكان ذرع القصر أربعمائة ذراع في مثلها. وذرع المسجد الجامع مائتين في مائتين. وصف الرحبة التي تلي صف الحدادين ثلاثمائة في ثلاثمائة. وذرع الرحبة التي تلي الخرازين والحوض ثلاثمائة في مائة ذراع. والرحبة التي تلي المضمار مائتين في مائة. قال : والأبواب كانت على مدينة قديمة أعجمية يقال لها الدوقرة. وقد قيل عليها وعلى غيرها فقلعت وحملت إلى واسط.

وقال محمد بن خالد : كان محمد بن [٢٣ أ] القاسم الثقفي أيام كان يتقلّد الهند والسند قد أهدى إلى الحجاج فيلا فحمل من البطائح في سفينة ، فلما صار إلى واسط أخرج في المشرعة التي تدعى مشرعة الفيل فسميت به إلى الساعة (٣).

ولما استوطن الحجاج واسط نفى النبط عنها وقال : لا يساكنني أحد منهم فإنهم مفسدة. وكان في طباخيه رجل منهم وكان يطبخ لونا يعجب الحجاج. فلما

__________________

(١) يحضره الجن والشياطين (لسان العرب).

(٢) أي يرفعونها عن الأرض.

(٣) من قوله (وقال محمد بن خالد) إلى هنا في البلاذري ٢٩٠.

٢٦٥

أمر بإخراج النبط فقد ذلك اللون فسأل عنه فقيل إن طباخه نبطي. فلهى عنه مدة ثم قال : اشتروا لي غلاما ومروه أن يعلمه ذلك اللون. ففعلوا فلم يحكمه الغلام. فقال : ادخلوا هذا النبطي نهارا وأخرجوه ليلا. قال : فكان يأتي في كل يوم بقدره ومغرفته فيطبخ ذلك اللون ثم ينصرف.

قال وكتب إلى الحكم بن ثوابة عامله على البصرة : أما بعد. فإذا نظرت في كتابي هذا فأجل من قبلك من الأنباط وألحقهم بسوادهم فإنهم مفسدة الدين والدنيا.

فكتب إليه الحكم : أما بعد. فقد أخليت من في عملي من الأنباط إلّا من قرأ منهم القرآن وفقه في الدين وعلم الفرائض والسنن. فكتب إليه الحجاج : فهمت ما كتبت به فإذا نظرت في كتابي هذا فاجمع من قبلك من الأطباء فليفتشوا عروقك عرقا عرقا ، فإن وجدوا فيك عرقا نبطيا قطعه. والسلام.

ويروى عن مكحول أنه قال : لما أخرب بخت نصر السواد كان أشدّها بكاء كسكر. فأوحى الله إليها أني محدث فيك مسجدا يصلّى فيه. قال مكحول : فكنا نرى أنه مسجد واسط.

وكان بعضهم يقول : كان الحجاج أحمق ، بنى مدينة في بادية النبط وحماهم دخولها ، فلما مات دخلوها من قرب.

وقال المري ذكر الحجاج عند عبد الوهاب الثقفي (١) بسوء فغضب وقال : إنما تذكرون المساوئ ، أوما علمتم أنه أول من ضرب درهما عليه لا إله إلّا الله. وأول من بنى مدينة في الإسلام ، وأول من اتخذ [٢٣ ب] المحامل. وان امرأة من المسلمين سبيت بالهند فنادت يا حجاجاه! فلما اتصل به ذلك أقبل يقول : يا لبيك! وأنفق سبعة ألف ألف حتى افتتح الهند ، وأخذ المرأة وأحسن إليها غاية الإحسان.

واتخذ المناظر بينه وبين قزوين ، فكان إذا دخن أهل قزوين دخنت المناظر ـ إن كان نهارا ـ وإن كان ليلا أشعلوا النيران فتجرد الخيل إليهم. فكانت المناظر

__________________

(١) من محدّثي البصرة توفي عام ١٩٤ ه‍ (العبر ١ : ٢٤٥).

٢٦٦

متصلة بين قزوين وواسط. وكانت قزوين ثغراً في ذلك الوقت.

وأنشد لحميد الأرقط في واسط يهجوها (١).

الله أسقاك من الفرات

النيل ينقضّ من الصراة

وأحدث يعلو المسنّيات

نضرب غرسه بواسقات

سيق إلى المدينة مسفات

داينه الريف من الغداة

بعيدة الأهل من الآفات

طمت عليّ بقصص البغاة

يهدى إليها الرزق من شتات

من البحور ومن الفلاة

وقال حمدان بن السخت الجرجاني : حضرت الحسين بن عمر الرستمي (٢) وكان من أكابر قواد المأمون وقد سئل الموبذ بخراسان ونحن في دار ذي الرياستين عن النوروز والمهرجان وكيف جعلا عيدا وكيف سميا ، فقال الموبذ : نعم أنبيك عنهما. إن واسط كانت تجري على سننها في ناحية بطن جوخى ، فانبثقت في أيام بهرام جور وزالت عن مجراها إلى المذار ، وصارت تجري إلى جانب واسط منصبّة. فغرقت القرى والعمارات التي كانت موضع البطائح وكانت متصلة بالبادية ـ ولم تكن البصرة ولا ما حولها إلّا الأبلّة فإنها من بناء ذي القرنين ، وكان موضع البصرة قرى عادية مخسوف بها لا ينزلها أحد ولا يجري بها نهر إلّا دجلة الأبلّة ـ فأصاب أهل القرى والمدن التي كانت في موضع البطائح ـ وهم بشر كثير ـ وباء فخرجوا هاربين على وجوههم وتبعهم أهاليهم بالأغذية والصلاحات ، فأصابوهم موتى ، فرجعوا [٢٤ أ] فلما كان في أول يوم من فروردين ماه من شهور الفرس أمطر الله عزّ وجلّ عليهم مطرا فأحياهم فرجعوا إلى أهاليهم. فقال ملك ذلك الزمان : هذا نوروز ، ومعناه يوم جديد. فسمي به. وقال الملك : هذا يوم مبارك فإن جاء الله فيه بمطر وإلّا فليصب بعضكم الماء على بعض وتتبركوا به. وصيروه عيدا ، فبلغ المأمون هذا القول فقال إنه لموجود في كتاب الله عزّ وجلّ بقوله (أَلَمْ

__________________

(١) أوردنا الأبيات كما هي ولم نهتد لتصحيح المصحف منها.

(٢) انظر عن الرستمي : الطبري ٨ : ٣٧٥ ، ٣٩٢ ، ٤٣٢ ، ٤٣٣.

٢٦٧

تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ ، فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ)

وقال ابن عباس في قول الله جلّ وعزّ (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ ...) قال : كانت قرية يقال لها داوردان وقع بها الطاعون فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها. فهلك من أقام في القرية وسلم الآخرون. فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين. فقال من بقي ولم يمت في القرية : أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا. لو صنعنا كما صنعوا سلمنا ، ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن. فوقع الطاعون بها قابل. فهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفا حتى نزلوا ذلك المكان وهو وادي فيح ، فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من معلاه أن موتوا ، فماتوا ، فأحياهم الله لحزقيل في ثيابهم التي ماتوا فيها. فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى ، حتى ماتوا بآجالهم التي كتبت لهم.

قال الهيثم بن عدي : سألت عبد الله بن هلال صديق إبليس عن اسم عامر واسط ، فقال : زوبعة.

قلت : فما حدثك عن الحجاج؟

قال : لقد كان كافرا بالله وما رأيته يصلي قط خاليا. وما رأيت أحدا كان أجبن منه ، لقد تراءيت له ذات يوم فبلغ من جنبه أنه عجن الطين بماء القرآن وطيّن به خضراء واسط(١).

قلت : فأخبرني عن خالد بن عبد الله القسري.

قال : أشجع الناس. ولقد كان به النقرس ، فلو أن ذبابة سقطت [٢٤ ب] على رجله لصاح منها. وكان له عمود حديد لا يفارقه ، فتراءيت له يوما فلم يقدر على القيام ونظر إليّ وقال يا خبيث! لقد علمت أني لا أقدر على القيام. ولكن إن

__________________

(١) اشتهر الحجاج بالجبن وكان يعيّر بذلك وأشهر المواقع التي فرّ فيها ، هروبه أمام غزالة (امرأة شبيب الخارجي) (موسوعة الكنايات العامية البغدادية ٢ : ٢٩٥). وعن حياته انظر التخليص المفيد الذي كتبه الشالجي في (موسوعة الكنايات) ٢ : ٣٣٢ ـ ٣٤٣.

٢٦٨

كنت رجلا فادن مني. ثم حذفني بالعمود حذفة لو أصابتني لأوهنتني. ثم ظهرت ليوسف بن عمر ـ وكان جبانا ـ فأدخل رأسه في لحافه وصاح بجارية له يقال لها طائفية : ويلك بادري إليّ ، فما جاءته حتى بال في فراشه ولا أخرج رأسه حتى علم أنها عنده ، وظهرت لابن هبيرة فانتضى سيفه وبادر إليّ فاستترت منه ، فقال : أما والله لو تظهر لعلمت أنك لا تروع أحدا بعدي.

وقال بشار بن برد يهجو واسط :

على واسط من ربّها ألف لعنة

وتسعة آلاف على أهل واسط

أيلتمس المعروف من أهل واسط

وواسط مأوى كلّ علج وساقط

نبيط وأعلاج وخوز تجمّعوا

شرار عباد الله من كلّ غائط

وإنّي لأرجو أن أنال بشتمهم

من الله أجرا مثل أجر المرابط

ذكر النبط وما جاء فيهم (١)

قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : لا تبغضوا قريشا ، ولا تسبّوا العرب ، ولا تذلوا الموالي ، ولا تساكنوا الأنباط فإنهم آفة الدين وقتلة الأنبياء ، إذا هم سكنوا الأمصار وشيدوا الدور ونطقوا بالعربية وتعلموا القرآن ، استولوا على الناس بالمكر والخديعة فعندها يبغون الإسلام غوائله.

ويروى أنه كان لأبي هريرة صديق يكرمه. فقال له ذات يوم : إني قد أحببتك ولست أدري من أنت؟ قال : أنا رجل من أهل السواد. فقال له أبو هريرة : تنحّ عني! فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : أهل السواد قتلة الأنبياء وآفة الدين ،

__________________

(١) يقول معجم الحضارات السامية عن النبط أو الأنباط أنهم (شعب عربي سكن الشمال الغربي من جزيرة العرب وكان على اتصال بعالم البحر المتوسط. عرفت الدولة النبطية ذروة حضارتها في المرحلة الهلّنسية وكانت أهم قواعدها سلع (البطراء) المنيعة ، عاصمة الآدوميين القديمة ، مما جعل النبطيين يحتكرون تجارة القوافل التي كانت تنقل المرّ والتوابل من الجزيرة العربية والحمر من البحر الميت في إيله (ايلات الحالية) ص ٨٣٧ ثم ذكر قائمة بملوكهم امتد حكمهم بين ١٦٩ ق. م. حتى ١٠٦ للميلاد.

٢٦٩

وأعوان الظلمة في كل زمان ، وأكلة الربا وأصحاب الأهواء.

ويروى أن قوما [٢٥ أ] أتوا أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا : يا أمير المؤمنين! إنا نسكن بأرض السواد فنصيب من مرافقها. فقال لهم علي رضي الله عنه : إنكم لتساكنون أهل الغفلة والحسد والبغي والمكر والخديعة ، الذين سهمهم في الإسلام منقوص وحطهم في الآخرة قليل. سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : إذا تفقهت الأنباط في الدين ، ونطقت بالعربية وتعلمت القرآن فالهرب الهرب منهم. فإنهم أكلة الربا ومعدن الرشا وأهل غش وخديعة لا سهم لهم في الإسلام.

ويروى أن الشيطان عشق خنزيرة فوثب عليها فأحبلها فولدت ابنا فسمته مشنوء. فلما كثر نسله أتى سليمان فقال له أرنا أولادنا. فقال : أولادكم الأنباط الذين يستنبطون الأرض أصبر الناس على حرّ وبرد.

ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : لا يدخل الجنة نبطي.

وروي عن عكرمة في قوله (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) قال : كانوا نبط.

وقال عون بن عبد الله : لو كان إبليس من الإنس لكان نبطيا لأنهم أبذخ قوم إذا أمروا ، وأذل شيء إذا قهروا. يغترفون الهوان ويكفّون الإحسان.

ويروى عن عمر أنه قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ثلاثة هم شرار الخلق ، الشيطان الرجيم ، وإمام يخشى غشمه وظلمه ، والنبطي إذا استعرب.

وكان يقال من أحب أن يكثر عياله ويقل خير بنيه فليتزوج نبطية.

ويروى عن أبي هريرة أنه قال : إن إبليس باض سبع بيضات. ثنتان وقعتا بأرض بابل وثنتان وقعتا بميسان وثنتان وقعتا ببلاد الخوز وواحدة وقعت بهمينيا. ففي الثنتين اللتين وقعتا ببابل ذكر وأنثى. اسم الذكر شقتى والأنثى بلعث.

وقال نصر بن محمد : اسم الذكر ميسان واسم الأنثى دلغث. وهما اللتان

٢٧٠

بلبلتا الألسن ودعتا إلى الشرك وعبادة [٢٥ ب] الأوثان.

والثنتان اللتان وقعتا بميسان فذكر وأنثى. اسم الذكر هيما والأنثى همياء. لهم أذناب منكرة وقلوب قاسية وأكباد غليظة لا يتفقهون. لئام وضعة عتاة فجرة ، لا يرقّون للضعيف ولا يجلّون الكبير ولا يستحيون من القبيح.

والثنتان اللتان وقعتا بالخوز فذكر وأنثى اسم الذكر أبو مرة والأنثى شيلث. نسلهما أشر النسل وأقبحه كلاما وأردأه أخلاقا. ويقال إنه بعث إليهم نبي فذبحوه وأكلوه.

وأما التي وقعت بهمينيا فذكر يقال له أحول. نكح جارية من الإنس فأولدها شيطانا مريدا.

ويروى أن أمير المؤمنين عليه السلام قال : لا تناكحوا الأنباط ولا تسترضعوا فيهم ، فإنهم يورثون أولادكم اللؤم النبطي.

وقالوا في قول الله عزّ وجلّ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) قال : هم النبط.

وقال مقاتل بن سليمان : الأنباط من ولد شناص بن إبليس وإن شناص نكح شاة لآدم عليه السلام يقال لها ورسة فولدت أبناء فسماه نباط.

وقال وهب بن منبه : حبس سليمان عليه السلام نبطيا من أهل دستميسان وقيّده. فجاء أهل السجن يشكونه. فدعا به وقال : ويلك! أما يشغلك بما أنت فيه من ضيق المجلس وثقل الحديد حتى يشكوك الناس؟ فقال : لا أعود يا نبي الله. فقال : زيدوه قيدا وردوه. ففعلوا ذلك. فعاود أهل السجن يشكونه. فدعا به وقال له مثل قوله الأول. فقال : لا أعود. فقال : زيدوه قيدا آخر وردوه. ففعلوا. فلم يقم إلّا يوما حتى عاد أهل السجن يشكونه. فأحضره وقال له مثل قوله الأول وزاده قيدا. فلم يكفه ذلك. وعادوا فشكوه. فلما شكوه الرابعة ، نقله عنهم إلى سجن الجن ، فجاء الجن يضجون منه ويشكونه. فدعا به وأمر بضربه فضرب وزاده قيدا

٢٧١

آخر. فشكوه ثلاثا في كل ذلك يزيدونه (١) قيدا. فلما كان في الرابعة قال لهم : ما الذي يصنع بكم حتى ضججتم منه؟ فقالوا : يا نبي الله! أعظم ما نشكو منه السعاية والنميمة. قد تقاتلنا [٢٦ أ] على يده.

فأخرجه عنهم ودعا بصخر المارد ـ وكان ينقل الصخر من فارس إلى الشام ـ فقال له : يا صخر! اكفني مؤونة هذا النبطي وليكن معك في سلسلة. ففعل ذلك. فبينا سليمان في بعض مواكبه وقد حملته الريح ، إذ عارضه صخر في الهواء والنبطي معه في سلسلة ، وصخر يستغيث إلى سليمان ويستوقفه. فأمر سليمان الريح فركدت ودعا به فسأله عن شأنه فقال : يا نبي الله! اعفني من هذا النبطي واقرن معي مائة عفريت في موضعه. قال : وما الذي يصنع بك؟ قال : يا نبي الله! يدعني حتى إذا حملت الصخرة على رأسي ، استقدم في سلسلتي ولفّها على صدره ثم جذبني وطرح نفسه على وجهه ، فأقع على وجهي وتقع الصخرة على عنقي وظهري. فأقول له : ما شأنك؟ فيقول : أثرت ـ ويريد عثرت ـ. ثم أقوم فأجعلها على رأسي وأقول له : تأخر فكن من ورائي حتى لا تعثر ، فيفعل. ثم يقبض على الطوق الذي في عنقه ويستعقد فيطرحني على ظهري وتقع الصخرة على جنبي. فأقول : ويلك! ما ذا دهاك؟ فيقول : أنت شيطان من الشيوط ونهن لا نلهق بك. يريد : أنت شيطان من الشيطان ونحن لا نلحق بك. فضحك سليمان ثم قال : قد جعلتك يا نبطي عريفا على الجن النقالة فخذهم بالجد واستعجلهم في الحمل. فمضى لذلك.

فقال له الجن : إن بيننا وبينك رحما ماسة فانظر لنا في ولايتك ، قال لهم : وأي رحم بيننا وأنتم من الجن وأنا من الإنس؟ قالوا : إن هاهنا امتزاجا آخر لا تعرفه. قال : وما هو؟ قالوا : إنه لما ملك سليمان أتته ملكة دستميسان فسألته أن يوجه معها شيطانين يبنيان لها قصرا من وقت طلوع الشمس إلى الظهر. ففعل ذلك ووجه معها شيطانين يقال لأحدهما أكي ، فبنياه لها إلى قبل الظهر. فلما فرغا منه

__________________

(١) في الأصل يزيدوه.

٢٧٢

قالا لها : أشغلينا في عمل آخر إلى الليل ، فإنا لا نجسر أن نرجع إلى سليمان. قالت : ما لي [٢٦ ب] عمل ، قد فرغتما من عملي الذي أردت. قالا : فإنّا نهدم القصر ونتشاغل بذلك إلى آخر النهار فتحتاجين أن ترجعي إلى سليمان فتعيدي عليه المسألة. فلما رأت الجدّ منهما دفعت إلى أحدهما مسحا أسود وقالت : اغسله حتى يبيضّ. وقالت للآخر : تعال حتى أشغلك في عمل آخر. واستلقت على قفاها وكشفت عن فرجها وقالت : رشّ على هذا الجرح ماء وروّحه حتى يلتحم. وكان الذي فعلت به هذا يسمى أكي. فلما روّحها ساعة ورآه لا يلتحم دعته نفسه إلى مواقعتها. ففعل وأحبلها فولدت الشيصبان وتالي وداقويه. وهم بنو عمك وقرائبك. فلينفعنا هذا عندك.

فقال النبطي : هذه لعمري رحم ماسة وفي دون رعاية وحفاظ ، ولن أدع القيام بشأنكم ، فما الذي تشكون؟

قالوا : ما نحن فيه من التعب ونقل هذا الصخر من فارس إلى الشام.

قال : أو ليس إنما تنقلونه ذاهبين فتستريحون راجعين؟

قالوا : بلى.

قال : فهذا نصف الطريق. فتركهم وانطلق إلى سليمان فقال : يا نبي الله! أتظن أنك قد شغلت هؤلاء الجن الذين ينقلون الصخر وكففتهم عن التولّع ببني آدم؟

قال : نعم.

قال : فاعلم أنهم يرجعون فرّغا يعبثون بالناس في طريقهم ويؤذونهم.

قال : فما ينبغي أن أصنع بهم؟

قال : تحملهم الصخر من فارس إلى الشام لبناء بيت المقدس ، ويحملون من الشام إلى فارس المرمر فيبنى لك به ما تريد وتكفهم عن أذى الناس. ففعل بهم ذلك.

٢٧٣

فقالوا للنبطي : ويحك! زدتنا تعبا على تعبنا. وقد رجونا أن تخفف عنا.

قال : أو ليس عملكم إنما هو بالنهار ، وبالليل أنتم مستريحون؟

قالوا : بلى.

قال : فإنما تعملون نصف الدهر ونصفه تبطلون. ثم انطلق إلى سليمان فقال : يا نبي الله! اعلم أن هؤلاء الجن النقّالة يعملون نهارهم. فإذا كان الليل عرجوا إلى السماء واسترقوا السمع وأتوا [٢٧ أ] الكهان فخبروهم بذلك وعبثوا بالناس والبهائم.

قال : فما الحل؟

قال : تبني حول مدينتك هذه أركانا معلقة على عددهم. فإذا فرغوا من عملهم نهارا أمرتهم فصعدوا ليلهم إلى هذه الأركان وتأمرهم بالتسبيح والتهليل إلى الصباح. فيكون لك ثواب ذلك. ومن فقدت صوته منهم عذبته فإنك تعرف أصواتهم ولا يخفى عليك شيء منها.

ففعل ذلك بهم فشكوا إلى إبليس ما قد حلّ بهم فقال : ليس وراء هذه الشدّة شيء فتوقعوا الآن الفرج. فلم تمض إلّا أيام يسيرة حتى مات سليمان عليه السلام.

وكان رجل من أهل السواد في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه يخلف بعض عمال عمر على السواد. فأتاه غلام من العرب وهو في قرية تدعى براثا من برّ رخسابور فسأله أن يحمله فأبى ، وسأله القرى فالتوى. فلما أكثر عليه قال : يا غلام! أعطه دجاجة. فانصرف الغلام وهو يقول ـ وكان العامل يكنى أبا جبيرة :

أتيت أبا جبيرة في براثا

فقال الحق بأهلك يا غلام

وهاك دجاجة فتعشّ منها

ولا يكثر عليّ لك الكلام

فبلغ خبره عمر ، فجعل على أهل السواد قرى الضيف وحمل المنقطع وإرشاد الضال.

وقال ابن عباس : النبطي والأعرابي لا يقطعان أمرا دون نسائهما.

٢٧٤

وقال المدائني : أمر بعض ملوك العجم رجلا من حاشيته فقال له : صد شرّ الطير واشوه بشر الحطب وأطعمه شر الخلق. فصاد رخمة وشواها ببعرة وقدّمها إلى رجل خوزي. فقال له الخوزي : أخطأت. اذهب فصد بومة واشوها بدفلى وأطعمها نبطيا ولد زنى. ففعل ذلك وعرفه الملك. فقال : لا يحتاج أن يكون ولد زنى. كفاه أن يكون نبطيا.

وعن سعيد بن المسيب قال : كتب سليمان بن داود عليه السلام كتبا إلى الناس وإلى [٢٧ ب] النسناس وإلى أشباه الناس وإلى أولاد الشياطين. فأما الناس فأهل الصلاح والعلم. وأما النسناس فأهل الأسواق. وأما أشباه الناس فأهل الجهل. وأما أولاد الشياطين فالنبط.

وقال إسماعيل بن عبد الله : قال لي المنصور : صف لي الناس. قلت : ليسأل أمير المؤمنين عما أحب. قال : ما تقول في أهل الحجاز؟ قلت : مبدأ الإسلام وبقية العرب. قال : فأهل العراق؟ قلت : قطر الإسلام ومقاتلة الدم. قال : فأهل الشام؟ قلت : حصن الأمة وأسنة الأئمة. قال : فأهل خراسان؟ قلت : فرسان الهيجاء وأعنّة الرجاء. قال : الترك؟ قلت : إخوة السباع وأبناء المغازي. قال : فالهند؟ قلت : حكماء استغنوا ببلادهم واكتفوا بما يليهم. قال : فالروم؟ قلت : أهل كتاب وتدين ، نجاهم الله عن القرب وصيّرهم إلى البعد قال : فالأنباط؟ قلت : شرار الخلق وعبيد من غلب.

وقال شيبة بن عثمان : ما أحد أنقر عن صغيرة ولا أركب لكبيرة من أهل العراق لقربهم من النبط.

وقال إسحاق بن طلحة بن أشعث : بعثني عمر بن عبد العزيز إلى العراق فقال أقرهم ولا تستقرأهم وعلّمهم ولا تعلّم منهم ، وحدثهم ولا تستمع حديثهم. قلت : ولم ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال : لأنهم خالطوا الأنباط ففيهم غشهم ومكرهم وخديعتهم.

ولما غلب أردشير على ملك النبط رأى جمالهم وعقولهم. قال : ما أخوفني

٢٧٥

أن حدث فيّ حدث أن يعود الملك إلى هؤلاء. ففرض لهم فرضا وبعث متهم بعوثا وأغزاهم خراسان. فأهل المرو من النبط ، ففيهم شحّهم وغدرهم.

وقال الهيثم بن عدي : إنما سموا نبطا لأنهم استنبطوا المياه وحفروا الأنهار. فمن ذلك : الصراة ، ونهر سورا ، ونهر أبّا.

وقد قيل إن الصراة حفرها أفريدون جشنش ونهر أبّا حفر أبّا بن المصمغان ونهر الملك حفر أقفور شاه بن بلاش ، قتله أردشير بن [٢٨ أ] بابكان. ونهر الملك حفره شابور.

وكانت سرة الدنيا في يد النبط ، وذلك أن الفرات ودجلة ينصبان جميعا من الشام فلم يكن أحد ينتفع بهما إلّا النبط. وكان حدّ ملكهم الأنبار إلى عانات إلى كسكر وما والاها من كور دجلة. وملك آل ساسان من المدائن إلى نهر بلخ إلى السند إلى الروم إلى حد البادية.

وقال عبد الملك بن الماجشون : قلت لخالي : أخبرني عن أهل العراق. قال : أهل العراق على عقولهم جلدة رقيقة ما لم تزل عنها فلا بأس بعقولهم. فإذا زالت كشفتهم عن الترك أجمع.

وقال ابن عمر : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : اللهم بارك لنا في مكّتنا ، اللهم بارك لنا في مدينتنا ، اللهم بارك لنا في شامنا ، اللهم بارك لنا في يمننا. قالوا : يا رسول الله. وفي () (١) قال : هناك الزلازل ومن هناك يطلع قرن الشيطان.

ولما ملكت النبط الأرض خرجوا إلى الصحراء ومعهم العصيّ يلقونها إلى السماء ويقولون : قد غلبنا أهل الأرض فانزلوا يا أهل السماء حتى نقاتلكم. فبعث الله عليهم أهل ماه في أربعين ألفا فقتلوهم وملكوا بلادهم مائة عام.

وقال ابن عياش : كان آخر ملوك النبط سنحاريب وكان ملكه ثلاثمائة سنة.

__________________

(١) بياض في الأصل.

٢٧٦

وكان بعده بخت نصر. وقال غيره : كان ملكهم ثلاثة آلاف سنة. وكان قبل إبراهيم عليه السلام.

وإنما سموا النبط لأنهم أنبطوا الأرض أي احتفروا أنهارها الكبار.

وقال ابن الكلبي : لما هلكت عاد قيل ثمود أرم. ثم هلكت ثمود قيل لبقايا أرم : أرمان. فهم النبط الأرمانيون.

وقال بعضهم : لما سلب سليمان عليه السلام ملكه ، وثبت مردة الشياطين على نساء من الإنس فولدن منهم أولادا كثيرة. فلما ردّ الله عليه ملكه ، شكا الناس ذلك النسل إلى سليمان. فأمر الشياطين فعملت له بساطا طويلا عريضا. ثم أمر بذلك النسل فحملوا على البساط ثم أمر العاصف من الريح فحملهم [٢٨ ب] حتى ألقاهم بميسان.

وقال ابن عباس : لو كان الشيطان إنسيا لكان نبطيا.

٢٧٧

القول في مدينة السلام بغداد

قال بعض العلماء : بغداد تسمى بغداذ وبغدان (١). قالوا وهي تسمى مدينة السلام أيضا. فأما الزوراء فهي مدينة المنصور خاصة. وسميت مدينة السلام لأن دجلة يقال لها وادي السلام.

وقال موسى بن عبد الحميد النسائي : كنت جالسا عند عبد العزيز بن أبي دؤاد فأتاه رجل فقال : من أين أنت؟ قال من بغداد. قال : لا تقل بغداذ. فإن بغ صنم وداد عطاء. ولكن قل مدينة السلام. فإن الله هو السلام والمدائن كلّها له.

وقالوا : سميت بغداد لأن كسرى أهدي له خصي من المشرق فأقطعه بغداد. وكان لقوم ذلك الخصي صنم بالمشرق يقال له البغ. فقال الخصي : بغداد. يعني ذلك الصنم أعطاه ذلك الموضع.

ويقال إن بغداد كانت سوما يقصدها تجار الصين بتجاراتهم فيربحون الربح الواسع. وكان اسم ملك الصين بغ. فكانوا إذا انصرفوا إلى بلادهم قالوا : بغ داد ، أي ذلك الربح الذي ربحناه أعطاناه الملك.

وداد لقطة بالفارسية وهو الإعطاء.

وقال قوم : سميت مدينة السلام أرادوا أنها مدينة الله. لأن الله هو السلام المؤمن. وقد جرى لها هذا الاسم على ضرب الدنانير والدراهم وما تقع به الأشرية في الكتب ويتبايع به الناس وما يقع فيها من غلّات الطساسيج من الحنطة والشعير

__________________

(١) ورد اسم بغداد في المخطوطة ـ وبالذات في هذا الفصل ـ بالذال (بغداذ) وتكرر ذلك كثيرا. وقد آثرنا أن نكتب الاسم بالدال. انظر مقدمة الكتاب.

٢٧٨

وما يسمى به القفيز ، فيقال قفيز مدينة السلام.

واسمها الأول الزوراء ، والزوراء مدينة أبي جعفر. والناس يسمونها بغداد ، والخلفاء يسمونها مدينة السلام. ومدينة بغداد بناها أبو جعفر المنصور سنة خمس وأربعين ومائة.

وقال عبيد الله بن إسحاق : بنى أبو جعفر بغداد سنة خمس وأربعين ومائة ، وارتفع بناؤها سنة تسع وأربعين.

وقال إبراهيم بن الجنيد : قطن أبو جعفر بغداد سنة تسع وأربعين ومائة. وكان أسسها قبل [٢٩ أ] ذلك بسنة أو ثنتين. وكانت (١) قديمة فمصرها وأخذ في بناء المدينة ، فلما بلغه خروج محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام ، ترك البناء وعاد إلى الكوفة وحوّل بيوت الأموال والخزائن إليها. فلما انقضى أمر محمد وإبراهيم رجع فاستتم بناءها وبنى سورها القديم سنة سبع وأربعين ومائة. وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائة. وقبل ذلك بنى الرصافة في جانب الشرقي للمهدي. وكانت الرصافة تعرف بعسكر المهدي لأنه عسكر به حين شخص إلى الري. فلما قدم من الري نزل الرصافة ، وذلك في سنة إحدى وخمسين ومائة.

وقد كان المنصور أمر ببناء قصر للمهدي. وهو المعروف بقصر الوضاح في الشرقية. فبني ونسب إلى الوضاح ـ والوضاح رجل من أهل الأنبار تولّى النفقة عليه فنسب إليه.

وبنى المنصور مسجدي مدينة السلام ، وبنى القنطرة الجديدة على الصراة وابتاع أرض مدينة السلام من أرباب القرى ببادرويا وقطربل ونهر بوق ونهر بين وأقطعها إلى أهل بيته وقواده وجنده وصحابته وكتّابه ، وجعل مجمع الأسواق

__________________

(١) من قوله (وكانت قديمة فمصرها) إلى قوله الآتي (فابتنوا الحوانيت وألزمهم الغلة) تشبه مادته ـ وأحيانا ألفاظه ـ ما هو موجود في فتوح البلدان ٢٩٣. ولا ذكر لإبراهيم بن الجنيد لدى البلاذري.

٢٧٩

بالكرخ. وأمر التجار فابتنوا الحوانيت وألزمهم الغلة.

وروي أن رجلا من أهل الحيرة جاء إلى المثنى بن حارثة الشيباني فقال : ألا أدلّك على قرية يأتيها تجار من مدائن كسرى والسواد ويجتمعون بها في كل سنة يوما ومعهم من الأحوال مما لا يحد. وهذه أيام سوقهم. فإن أنت أغرت عليهم أصبت فيها مالا يكون غناء للمسلمين وتقوية على عدوهم.

قال : فأي شيء يقال لهذه القرية؟

قال : بغداد.

قال : وكم بينها وبين المدائن؟

قال : بعض يوم.

قال : وكيف لي بها؟

قال : تأخذ طريق البرّ حتى تنتهي إلى الخنافس ، فإن أهل الأنبار سيصيرون إليها ويخبرون عنك فيأمنون. ثم تعرج على أهل الأنبار وتأخذهم بالأولى وتسير ليلتك من الأنبار حتى تأتيهم صبحا فتغير عليهم وهم غارون.

فخرج من أليس إلى [٢٩ ب] الخنافس ثم عرّج حتى رجع إلى الأنبار. فلما أحسّه صاحبها تحصّن وهو لا يدري من هو ـ وذلك ليلا ـ فلما عرفه نزل إليه فأطمعه وخوّفه واستكتمه وقال : إني أريد أن أغير فابعث معي الأدلاء حتى أغير منها على المدائن. قال : أنا أجيء معك. قال : لا ، ولكن ابعث معي من هو أدل منك. فبعث معهم الأدلاء. حتى إذا كانوا بالمنصف قال لهم المثنى : كم بيننا وبين هذه القرية؟ قالوا : أربعة فراسخ. فقال لأصحابه : من ينتدب للحرس؟ فانتدب له قوم. فقال : اذكوا حرسكم ونزل. فلما كان في آخر الليل أسرى إليهم وصبّحهم وهم في أسواقهم فوضع فيهم السيف ، فقتل وأخذ ما شاء. ثم قال : يا أيها الناس! لا تأخذوا إلّا الذهب والفضة ولا تأخذوا من المتاع إلّا ما يقدر الرجل أن يحمله على دابته. وهرب أهل السوق. وملأ المسلمون أيديهم من الصفراء والبيضاء.

٢٨٠