البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

وادعى النبوة من أهل الكوفة جماعة منهم المختار بن عبيد. كتب إلى الأحنف بن قيس : بلغني أنكم تكذّبونني. ولئن كذبتموني فقد كذبت الأنبياء قبلي. ولست خيرا من كثير منهم.

قيل لابن عمر : إن المختار يزعم أن الوحي يأتيه ، فقال : صدق ، وحي الشيطان. قال الله تعالى (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) ويروى أن المختار قال لرجل دخل إليه : اجلس على وسادة كانت في مجلسه : أتدري من قام عن هذه الوسادة آنفا؟ قال : لا ، قال جبريل.

وكان منهم أبو منصور الخنّاق (١) ، وكان يتولّى سبعة أنبياء من بني قريش وسبعة من بني عجل.

وكان منهم المغيرة بن سعيد (٢). وسأله رجل عن أمير المؤمنين علي. فقال لا تحتمله. قال : بل أحتمله. قال فذكر آدم ومن دونه من الأنبياء فلم يذكر أحدا منهم إلّا فضّل عليا رضي الله عنه حتى انتهى إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال فقلت كذبت. قال قد أخبرتك أنك لا تحتمل. وحج راشد الهجري وأتى المدينة وذلك في ولاية زياد [٢ ب] العراق ، فقال للحسن رضي الله عنه : استأذن لي على أمير المؤمنين. قال : أو ليس قد مات؟ قال : لا والله ما مات ، وإنه ليتنفس تنفس حيّ ، ويعرق تحت الدثار الثقيل. فقال له الحسن : كذبت يا عدو الله. واتصل الخبر بزياد فقتله وصلبه على باب داره.

وكانت فيهم هند الأفاكة.

__________________

(١) رأس الفرقة المنصورية وهي من فرق الشيعة الغالية.

انظر المقالات والفرق ٤٦ ـ ٤٨ والحيوان للجاحظ ٢ : ٢٦٨ و ٦ : ٣٩١ وكذلك ٦ : ٣٨٩ (الخناقون) ، والملل والنحل ١ : ١٥٨.

(٢) رأس الفرقة المغيرية من الشيعة الغالية. انظر الملل والنحل ١ : ١٥٧ والمقالات والفرق ٧٤ والحيوان للجاحظ ٦ : ٣٩٠ ومواضع أخرى من الكتاب. ورجال الكشي ٢٢٣ ومواضع أخرى منه.

٢٢١

وقال أصغر بن حسان المازني ـ مازن مذحج ـ وقد قدم الكوفة يلتمس الإحسان من أهلها فلم يفعلوا به جميلا ، وقالوا : أقم حتى يقفل الجيش من جرجان. فلم يقم ورحل عنهم وقال :

رحلت إلى قوم أؤمّل رفدهم

وما سائل الكوفيّ إلّا مقاتله

لصوص إذا مارستهم في بيوتهم

منيت بخصم لا تزال تجادله

وقالوا تربّص أوبة الجيش إنّه

بجرجان لم نحبس عليك مجاهله

وإنّ عطاء دونه ما زعمتم

على سائل الأعراب قد راث جائله

فأدنيت حرجوجا كأنّ سنامها

من الأين (؟ ..........؟) (١)

ورحت كما راح النجاشيّ منهم

خفيفا من النقد الجياد رواحله

فويل أمّها من قرية غير أنّها

قليل بها معطي الجزيل وفاعله

وفيهم يقول شاعر من بني عمرو بن عامر :

يا أيها الراكب الغادي لطيّبة

يؤمّ بالقوم أهل البلدة الحرم

أبلغ قبائل عمرو إن لقيتهم

لو كنت من دارهم يوما على أمم

إنّا وجدنا فقرّوا في بلادكم

أهل الكتاب وأهل اللوم والعرم

أرض تغيّر أحساب الرجال بها

كما رسمت بياض الرّيط بالحمر (٢)

وخرج جيش من أهل الكوفة إلى حبيش بن دلجة بالربذة فخافوا ورجعوا. وخرج جيش من أهل البصرة فقتلوه فقال الشاعر في ذلك : [٣ أ]

ألسنا بأصحاب ابن دلجة إذ عبا

هنالك خيلا كالسّراحين ضمّرا

تقاد بفرسان إذا حمس الوغى

أحلّوا الحرام واستباحوا المنكرا

فلاقتهم خيل لنا فارسيّة

أساورة تدعو يزيد المسوّرا

__________________

(١) فراغ في الأصل.

(٢) بيت من قصيدة أخرى على نفس الوزن وقافية مختلفة.

٢٢٢

فلما التقوا ولّى المشامون هرّبا

عزيز (؟) وأخلوا عن حبيش مقطّرا

ويروى عن مجاهد أنه قال : لما أوحى الله عزّ وجلّ إلى الأرض أيام نوح فقال يا أرض ابلعي ماءك ، كانت أرض الكوفة آخرها ابتلاعا وأشدها تقعسا. فمن هناك سائر الأرضين تكرب على حمارين وثورين وأرض الكوفة على ستة.

وقال إبراهيم التيمي : لما أمرت الأرض أن تغيض الماء ، أغاضت إلّا أرض الكوفة. فلعنت فسائر الأرض تكرب على ثورين وأرض الكوفة على أربعة.

وقالت أم العلاء الأوذية : مرّوا بزيد بن علي في سوق كندة على حمار قد خولف بوجهه. فقاموا إليه يبكون. فأقبل عليهم وقال : يا شرار خلق الله! أسلمتموني للقتل ثم جئتموني تبكون؟

وقال علي رضي الله عنه لأهل الكوفة : اللهمّ كما نصحتهم فغشّوني ، وائتمنتهم فخانوني ، فسلّط عليهم فتى ثقيف الذيال الميال يأكل خضرتها ، ويلبس فروتها ، ويحكم فيهم بحكم الجاهلية.

وقال أبو عبد الله القشيري : قام أهل الكوفة إلى علي رضي الله عنه فقالوا : العطاء يا أمير المؤمنين. فقال : ما لهم ميث الله قلوبهم كما يماث الملح في الماء. أتطلقوني ولادة من غير زوج؟ أما والله لو تجتمعون على حقكم كما تجتمعون على باطلكم ما غلّ على أموالكم حلب شاة. اللهمّ إني قد كرهتهم وكرهوني. فأرحهم مني وأرحني منهم. قال : فأصيب في ذلك العام.

وقدم رجل من أهل المدينة يكنى أبا مريم الكوفة فلقيه علي رضي الله عنه. فقال : يا أبا مريم ما أقدمك هذه البلاد؟ فقال : ما كانت لي حاجة ، ولكن عهدي بك وأنت تقول : لو ولّيت هذا الأمر لفعلت وفعلت. قال : فأنا على العهد الذي عهدت. ولكني بليت بأخبث قوم في الأرض. ما دعوتهم قطّ إلى حق فأجابوني [٣ ب] إليه. ولا يدعوني إلى أمر فأجيبهم إلّا اختلفوا (١).

__________________

(١) في الغارات للثقفي ١ : ٦٨ مع اختلاف يسير في بعض ألفاظها.

٢٢٣

وقال جرير بن سيير (١) : قدمت الكوفة وقد انصرف علي بن الحسين من كربلاء ، فرأيت نساء أهل الكوفة يلتدمن مهتكات الجيوب. فسمعت علي بن الحسين يقول بصوت صبي وقد نهكته العلة : ألا إنّ هؤلاء قتلونا.

ورأيت زينب بنت علي رضي الله عنها وقد أومأت إلى الناس أن انصتوا. فارتدت الأنفاس وسكنت الأجراس ، ثم قالت : الحمد لله والصلاة على نبيه. أما بعد يا أهل الكوفة. يا أهل الختل والخذل. فلا رقأت العبرة ولا هدأت الرنّة. إنما مثلكم كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا. تتخذون أيمانكم دخلا بينكم. ألا وهل فيكم إلّا الصلف والصدف والشنف. ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم ان سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون. أتبكون؟ اي والله. فابكوا كثيرا واضحكوا قليلا. فلقد فزتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبدا. وأنى ترحمون بعد قتل سليل خاتم الرسالة وسيد شبيبة أهل الجنة وملاذ خيرتكم ومفزع نازلتكم. ألا ساء ما تزرون. تعسا ونكسا. فلقد خاب السعي وتبت الأيدي وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله وضربت عليكم الذلة والمسكنة. ويلكم أتدرون أي كبد لمحمد (صلى الله عليه وسلم) فريتم؟ وأي دم سفكتم؟ وأي حرمة له أضعتم؟ لقد جئتم شيئا إدّا. تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الجبال وتخر الجبال هدّا. ولقد أتيتم بها خرقاء شوهاء طلاع الأرض والسماء. فعجبتم أن قطرت السماء دما. فلعذاب الآخرة أخزى ولا تنصرون. فلا يستخفنكم المهل ، فإنه لا يخاف فوت الثار. كلّا. إن ربك لبالمرصاد.

قال : فرأيت الناس حيارى ولهى قد ردّوا أيديهم في أفواههم.

ودخل اليقظان بن ظهير على عائشة فقالت : ممن أنت؟ فقال : من أهل الكوفة. فقالت : وددت أن الله سلّط على أهل الكوفة عذابا مثل عذاب يوم الظلة.

ولما قتل مصعب بن الزبير ، وكانت امرأته سكينة بنت الحسين. أرادت

__________________

(١) خبر هذه الخطبة في مقتل الحسين للخوارزمي ٢ : ٤٠ عن بشير بن حذيم الأسدي. وفي فتوح ابن أعثم ، المجلد الثالث ١٣٩ عن خزيمة الأسدي.

٢٢٤

الرحيل إلى المدينة وكانت بالكوفة. فقالت لها أهل الكوفة : يا بنت رسول الله ، أحسن الله صحابتك [٤ أ] وفعل بك وفعل. فقالت : يا أهل الكوفة! لا أحسن الله صحابتكم. فلقد قتلتم جدي عليا وعمي الحسن وأبي الحسين وبعلي مصعبا. فأيتمتموني صغيرة وآيمتموني كبيرة. فلا أحسن الله عليكم الخلافة ولا رفع عنكم السوء.

وقال عمر بن الخطاب : أعضل بيّ أهل الكوفة ما يرضون بأمير ، ولا يرضاهم (أمير) ولا يصلحون لأمير ولا يصلح لهم.

ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، بلغه عن أهل الكوفة خصب وقيل له : ما تقول في الضب والنون يجتمعان في سفود؟ فقال إنكم لتنعتون أرضا برية بحرية. وأعجبه ذلك فقال : ما أراني إلّا سآتيهم فآمرهم بمعروف. فكتب إليه كعب : يا أمير المؤمنين لا تعجل فإنه بلغني أن بها الداء العضال وبها تسعة أعشار الشر. وبلغني أنه كان إذا كل شيء يتكلم اجتمع ثمانية أشياء في واد : الإيمان والحياء والهجرة والموت والغناء والعيّ والشقاء والصحة. فقال بعضهم لبعض : تعالوا نتفرق في الأرض. فقال الإيمان : أنا ألحق بأرض اليمن. فقال الحياء : أنا معك. قالت الهجرة : أنا ألحق بأرض الشام. قال الموت : وأنا معك. قال الغنى : أنا ألحق بأرض العراق. قال التقى : أنا معك. قالت الصحة : ما تركتم لي شيئا من البلاد إلّا وقد أخذتموه ، فأنا ألحق بالبرية. قال الشقاء : وأنا معك.

وقالوا : السدير ما بين نهر الحيرة إلى النجف إلى كسكر من هذا الجانب. وعيون (١) الطف منها مثل عين الصيد والقطقطانة والرهيمة وعين جمل وذواتها ، وبها عيون كانت للموكّلين بالمسالح التي وراء خندق سابور الذي حفره بينه وبين العرب وغيرهم. وذلك أن سابور أقطعهم أرضها فاعتملوها من غير أن يلزمهم خراجا. فلما كان يوم ذي قار ونصر الله العرب بنبيه (صلى الله عليه وسلم) ، غلبت العرب على

__________________

(١) من هنا إلى آخر الفصل هذا وهو المتعلق بالكوفة موجود بنصه في فتوح البلاذري ص ٢٩٦ ـ ٢٩٧. و (عين الرحمة) الواردة هنا هي (عين الرحبة) لدى البلاذري. و (عيون تدعى الغرق) في البلاذري (تدعى العرق).

٢٢٥

طائفة من تلك العيون وبقي بعضها في أيدي الأعاجم. ثم لمّا قدم المسلمون الحيرة وهربت الأعاجم بعد أن طمّت عامة ما كان في أيديها منها وبقي الذي في أيدي العرب. فأسلموا عليه ، وصار ما عمروه من الأرض [٤ ب] عشرا. ولما انقضى أمر القادسية والمدائن دفع ما جلا عنه الأعاجم من أرض تلك العيون إلى المسلمين وأقطعوه ، فصارت عشرية أيضا.

وكان مجرى عيون الطف وأرضها مجرى أعراض المدينة وقرى نجد. وكانت صدقتها على عمال المدينة. فلما ولي إسحاق بن إبراهيم بن مصعب السواد للمتوكل ضمها إلى ما في يده. فتولى عمالة عشرها وصيرها سوادية. فهي على ذلك إلى اليوم. وقد استخرجت فيها اليوم عيون إسلامية تجري ما عمرتها من الأرضين هذا المجرى.

وسألت بعد المشايخ عن عين جمل لم سميت بهذا الاسم؟ فذكر أن جملا مات عندها فنسبت العين إليه.

وذكر بعض أهل واسط أن المستخرج لهذه العين يسمى جملا. قال : وسميت عين الصيد لأن السمك كان كثيرا جدا فيها ، فيصطاد فسميت بهذا الاسم.

وكانت عين الرحمة مما طمّتها وغوّرتها الأعاجم. فيقال إن رجلا من أهل كرمان اجتاز بها وهو يريد الحج. فنظر إليها ـ وكان بصيرا باستنباط المياه ـ فلما قضى حجه ورجع ، أتى عيسى بن موسى فدلّه عليها وقال أنا أستنبطها لك. فكاتب السلطانيّ في أن يقطعه إياها وأرضها ، ففعل. واستخرجها له الكرماني فاعتمل ما عليها من الأرض وغرس النخل الذي في طريق العذيب. وعلى فراسخ من هيت عيون تدعى الغرق تجري لهذا المجرى وأعشارها إلى صاحب هيت.

٢٢٦

القول في البصرة

قال أبو عبيدة معمر بن المثنى (١) : سميت البصرة لأنه كان فيها حجارة رخوة. والبصرة : الحجارة الرخوة تضرب إلى البياض. قال ذو الرمة :

[تداعين باسم الشيب في متثلّم] (٢)

جوانبه من بصرة وسلام

وقالوا : سميت البصرة لأنه كان فيها حجارة سود بصرة. وقال محمد بن شرحبيل بن حسنة إنما سميت البصرة لأن فيها حجارة سوداء صلبة وهي البصرة. قال خفاف بن ندبة :

إن تلك جلمود بصر لا أوبّسه

أوقد عليه فأحميه فينصدع

وقال الطرماح : [٥ أ]

مؤلّفة تهوي جميعا كما هوى

من النيق فوق البصرة المتطحطح

وقال نافع بن كلدة : كان عمر بن الخطاب قد همّ أن يتخذ للمسلمين مصرا. وكان المسلمون قد غزوا من قبل البحرين وتوّج ونوبندجان وطاسان. فلما فتحوها كتبوا إليه : إنّا وجدنا بطاسان مكانا لا بأس به : فكتب إليهم : إن بيني وبينكم دجلة فلا حاجة لي في كل شيء بيني وبينه دجلة أن تتخذوه مصرا. فقدم عليه رجل من بني سدوس يقال له ثابت فقال : يا أمير المؤمنين. إني مررت بمكان دون دجلة فيه قصر وفيه ديادبة الأعاجم يقال له الخريبة ويسمى أيضا البصيرة. بينه وبين دجلة

__________________

(١) لأبي عبيدة كتابان في البصرة (فهرست ابن النديم ٥٩).

(٢) زيادة من لسان العرب (بصر).

٢٢٧

أربعة فراسخ له خليج يجري فيه الماء إلى أجمة قصب. فأعجب ذلك عمر فدعا عتبة بن غزوان فبعثه في أربعين رجلا فيهم نافع بن الحارث بن كلدة. وأبو بكرة وزياد. فلما خرجوا قالت لهم أختهم : احملوني معكم. فحملوها. قال : فلما بصر بنا الديادبة (١) خرجوا هرّابا وجئنا فنزلنا القصر. فقال عتبة : ارتادوا لنا شيئا نأكله. قال : فدخلنا الأجمة فإذا زنبيلان في أحدهما تمر وفي الآخر أرز بقشره. فجبذناهما حتى أدنيناهما من القصر وأخرجنا ما فيهما. فقال عتبة هذا سمّ أعدّه لكم العدو ـ يعني الأرز ـ فلا تقربنه. فأخرجنا التمر وجعلنا نأكل منه. فإنّا لكذلك إذا نحن بفرس قد قطع. قيادة فأتى ذلك الأرز يأكل منه. فلقد رأيتنا نسعى إليه بشفارنا نريد ذبحه قبل أن يموت. فقال صاحبه أمسكوا عنه. احرسه الليلة فإن أحسست بموته ذبحته. فلما أصبحنا إذا الفرس يروث لا بأس عليه. فقالت أختي : يا أخي. إني سمعت أبي يقول إن السمّ لا يضر إذا نضج. فأخذت من الأرز تطبخه وجعلت توقد تحته ثم نادت : ألا إنّه يتفصّى عن حبيبة حمراء. ثم قالت : قد جعلت تكون بيضاء. فما زالت تطبخه حتى أنماط قشره فألقيناه في الجفنة. فقال عتبة : اذكروا اسم الله عليه وكلوه. فأكلوا منه فإذا هو طيب. قال [٥ ب] : فجعلنا بعد نميط عنه قشره ونطبخه. فلقد رأيتني بعد ذلك وما أجد منه شيئا إلّا وأنا أعدّ لولدي منه.

ثم إنّا التأمنا فبلغنا ستمائة رجل وست نسوة إحداهن أختي. فقلنا ألا نسير إلى الأبلة فإنها مدينة حصينة ، فسرنا إليها ومعنا العنز (٢) وعليها الخرق وسيوفنا. وجعلنا للنساء رايات على قصب وأمرناهنّ أن يثرن التراب وراءنا حين يرون أنّا قد دنونا من المدينة. فلما دنونا منها صففنا أصحابنا. قال : وفيها ديادبتهم وقد أعدوا السفن في دجلة. فخرجوا علينا في الحديد مسومين لا ترى منهم إلّا الحذق. قال : فو الله ، ما خرج آخرهم حتى [رجع] (٣) بعضهم على بعض قتلا. وما قتلوا هم

__________________

(١) ديدبان : فارسية معناها الراصد أو المراقب الذي يوضع في المسالح لرصد ما يحدث وإخبار المركز العسكري بذلك. وقد جمعها المؤلف جمع تكسير.

(٢) العنز : جمع عنزة وهي أطول من العصا وأقصر من الرمح وفي رأسها زج (ياقوت : البصرة).

(٣) زيادة من ياقوت.

٢٢٨

أنفسهم كان أكثر. ونزلت الديادبة فعبروا إلى الجانب الآخر. وانتهى إلينا النساء. وقد فتح الله علينا ودخلنا المدينة وحوينا متاعهم وأموالهم وسألناهم ما الذي هزمكم من غير قتال؟ فقالوا : عرّفتنا الديادبة أن كمينا لكم قد ظهر وعلا رهجه ـ يريدون النساء في إثارتهن التراب ـ.

قال : فاستعمل عتبة بن غزوان زيادا على قسمة الغنائم وجمعها. ورزقه كل يوم درهما. واستجمع الناس وأقبلت أعاريب بني تميم وبكر بن وائل إلينا فصرنا ثلاثة آلاف في الديوان. فتزوجنا فكان أول مولود ولد بالبصرة عبد الرحمن بن أبي بكرة.

ثم قدم عتبة بن غزوان على عمر فأعلمه بما فتح الله عليه. فأرسل مكانه المغيرة بن شعبة فسار بنا فافتتح الفرات وميسان ودستميسان وأبرقيان. ثم وجّه مكانه أبا موسى الأشعري.

وفي بعض الجند إن أول من اختط البصرة عتبة بن غزوان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكانت تسمى يومئذ أرض الهند. فكتب عمر إلى سعد بن أبي وقاص أن حطّ قيروانك بالكوفة وابعث عتبة بن غزوان إلى أرض الهند ، فإن له من الإسلام مكانا ، وقد شهد بدرا ـ والبصرة يومئذ تسمى أرض الهند ـ فينزلها ويتخذها المسلمون قيروانا. ولا تجعل [٦ أ] بيني وبينك بحرا. فدعا سعد بعتبة فأخبره بكتاب عمر فأجاب. وخرج من الكوفة في ثمانمائة رجل ، فسار حتى نزل البصرة وضرب قيروانه وضرب المسلمون أخبيتهم. وكانت خيمة عتبة من أكسية. ثم رماه عمر بالرجال. فلما كثروا بنى رهط منهم فيها سبع دساكر من لبن. منها في الخريبة اثنتان وفي الأزد اثنتان (١). وفي الزابوقة واحدة. وفي بني تميم اثنتان. وكان ذلك في سنة سبع عشرة.

وقال أبو عبيدة في روايته : الذي بصّر البصرة لعمر بن الخطاب عتبة بن غزوان كتب إلى عمر : لا بد للمسلمين من منزل إذا شتوا ، شتوا فيه. وإذا رجعوا

__________________

(١) في الأصل (سبعة دساكر ... في الخريبة اثنان وفي الأزد اثنان)

٢٢٩

من غزوهم سكنوا فيه. فكتب إليه عمر : أن أوتد لهم منزلا قريبا من المراعي والماء واكتب إليّ بصفته. فكتب إلى عمر : إني قد وجدت أرضا كثيرة القضّة (١) في طرف البر إلى الريف ودونها مناقع فيها ماء وفيها قصباء. فلما قرأ عمر كتابه قال : هذه أرض بصرة قريبة من المشارب والمراعي والمحتطب. وكتب إليه أن أنزلها. فنزلها وبنى مسجدها من قصب وبنى دار إمارتها دون المسجد في الرحبة التي يقال لها رحبة بني هاشم وكانت تسمى الدهناء ، وفيها السجن والديوان وحمام الأمراء بعد ذلك لقربها من الماء. فكانوا إذا غزوا نزعوا ذلك القصب ثم حزموه ووضعوه حتى يعودوا من الغزو. فإذا عادوا أعادوا بناءه. فلم يزل كذلك حتى استعمل عمر أبا موسى الأشعري وعزل المغيرة بن شعبة فبنى المسجد بلبن وكذلك دار الإمارة. فلم تزل على تلك الحال. فكان الإمام إذا أراد أن يصلي تخطّى الناس حتى ينتهي إلى القبلة. فلما استعمل معاوية زيادا على البصرة ، قال زياد : لا ينبغي للأمير أن يتخطى رقاب الناس. ولكني أحول دار الإمارة إلى قبلة المسجد. فحوّل دار الإمارة من الدهناء وزاد في المسجد زيادة كثيرة وبنى دار الإمارة باللبن وبنى المسجد بالجص والآجر وسقفه [٦ ب] بالساج. فلما فرغ من بنائه جعل يطوف فيه وينظر إليه ومعه وجوه أهل البصرة. فقال : هل ترون خللا؟ قالوا : لا نعلم بناء أحكم منه. قال : بلى ، هذه الأساطين التي على كل واحدة أربعة (٢) عقود ، لو كانت أغلظ من سائر الأساطين كان أحكم لها.

وقال أبو عبيدة عن يونس : ولم يؤت منهن قط صدع ولا ميل ولا عيب. وقال حارثة بن بدر الغداني :

بنى زياد لذكر الله مصنعة

بالصخر والجصّ لم يخلط من الطين

لو لا تعاور أيدي الرافعين له

إذا ظنّناه أعمال الشياطين

وجاء بسواريه من الأهواز. وكان ولي بناءه الحجاج بن عتيق الثقفي.

__________________

(١) القضة : حصى صغار مكسرة (أساس).

(٢) في الأصل : أربع.

٢٣٠

فظهرت له أموال وحال لم تكن قبل. ففيه قيل : حبذا الإمارة ولو على الحجارة.

والذي اختط أيام عتبة بن غزوان مسجد البصرة حجر بن الأوزع أمره عتبة بن غزوان بذلك. وكان المنبر في وسط المسجد فأول من حوّله إلى القبلة زياد. وكان في جانب المسجد الشمالي منزويا ، وذلك أنه كان دارا لنافع أخي زياد أبي أن يبيعها ، فلم تزل على تلك الحال حتى ولى معاوية عبيد الله بن زياد البصرة. فقال عبيد الله لبعض وكلائه : إذا شخص عبد الله بن نافع إلى أقصى ضيعة له فأعلمني ، فشخص إلى قصره الأبيض. فأعلمه ذلك. فبعث فهدم الدار وأخذ في بناء الحائط الذي يستوي به تربيع المسجد. وقدم عبد الله بن نافع فضجّ. فقال : إني أثمّن لك وأعطيك مكان كل ذراع خمسة أذرع وادع لك خوخة في حائطك إلى المسجد وأخرى في غرفتك. فرضي. فلم تزل الخوختان في حائطه حتى زاد المهدي فيه ما زاد. فدخلت الدار كلها في المسجد ثم دخلت دار الإمارة كلها في المسجد. أمر بذلك الرشيد.

ولما قدم الحجاج خبّر ان زيادا بنى دار الإمارة بالبصرة. فأراد أن يذهب ذكر زياد [٧ أ] منها فقال : ابنيها بالآجرّ. فهدمها. فقيل له : إنما غرضك أن تذهب ذكر زياد فما حاجتك إلى أن تعظم النفقة وليس يزول ذكر زياد عنها؟ فتركها مهدومة.

قال يونس (١) : فعامّة التي حولها إنما بنيت من طينها وجمع أبوابها. فلم تكن للأمراء دار ينزلونها حتى قام سليمان بن عبد الملك فاستعمل صالح بن عبد الرحمن على خراج العراقين. فقال له صالح : إنه ليس بالبصرة دار إمارة ، وحدثه بحديث الحجاج. فقال له سليمان : أعدها. فأعادها بالآجر والجص على أساسها الذي كان ورفع سمكها. فلما أعادوا أبوابها عليها قصرت. فلما مات سليمان وقام عمر بن عبد العزيز استعمل عدي بن أرطاة على البصرة ، فبنى فوقها غرفا. فبلغ ذلك عمر ، فكتب إليه : هبلتك أمك يا ابن أم عدي! أتعجز عنك مساكن وسعت زيادا وابن زياد؟ فأمسك عدي عن بنائها.

__________________

(١) هو يونس بن حبيب (ابن النديم ٤٧).

٢٣١

فلما قدم سليمان بن علي البصرة عاملا للسفاح أنشأ فوق البناء الذي كان عدي أراد أن يجعله غرفا ، بناه بطين. ثم إنه تحول إلى المربد.

فلما قدم الرشيد هدمها وأدخلها في قبلة المسجد. فليس اليوم للأمراء بالبصرة دار إمارة.

وقال الواقدي : أنشئت البصرة سنة سبع عشرة من التاريخ ، قبل الكوفة بسنة وأشهر. وأول مولود ولد بالبصرة في الإسلام ، عبد الرحمن بن أبي بكرة فنحر عليه أبوه جزورا ، فكفت أهل البيت وذلك لقلتهم يومئذ. وأبو بكرة أول من غرس النخل بالبصرة وقال هذه أرض نخل ثم غرس الناس من بعده.

وقال هشام بن الكلبي : أول دار بنيت بالبصرة دار نافع بن الحارث ثم دار معقل بن يسار المزني. وكان عثمان بن عفان أخذ دار عثمان بن العاص الثقفي بالمدينة وكتب أن يعطى أرضا بالبصرة. فأعطي أرضه المعروفة بشاطئ عثمان حيال الأبلة وكانت سجنة فاستخرجها وعمرها وإليه تنسب [٧ ب].

[وأول حمام اتخذ بالبصرة حمام عبد الله بن عثمان بن أبي العاص وهو موضع بستان سفيان بن معاوية الذي بالخريبة. ثم الثاني ، حمام فيل مولى زياد ثم الثالث حمام مسلم بن أبي بكرة ، وحمام منجاب ينسب إلى منجاب بن راشد الضبي. وقال الشاعر :

يا ربّ قائلة يوما وقد لغبت

كيف الطريق إلى حمّام منجاب

وقصر أنس بالبصرة ينسب إلى أنس بن مالك خادم رسول الله (صلى الله عليه وسلم).

وقدم الأحنف بن قيس على عمر بن الخطّاب فقال : يا أمير المؤمنين إنّ مفاتيح الخير بيد الله وإن إخواننا من أهل الأمصار نزلوا منازل الأمم الخالية ، بين المياه العذبة والجنان الملتفّة ، وإنّا نزلنا أرضا نشّاشة ، لا يجفّ ثراها ، ولا ينبت مرعاها ، ناحيتها من قبل المشرق البحر الأجاج ، ومن قبل المغرب الفلاة ، فليس لنا زرع ولا ضرع ، تأتينا منافعنا وميرتنا في مثل مريء النعامة ، يخرج الرجل الضعيف فيستعذب الماء من فرسخين ، وتخرج المرأة كذلك فتربق ولدها كما يربق

٢٣٢

العنز ، تخاف بادرة العدوّ وأكل السبع ، فإلّا ترفع خسيستنا وتجبر فاقتنا نكن كقوم هلكوا ، فألحق عمر ذراريّ أهل البصرة في العطاء ، وكتب لهم إلى أبي موسى يأمره أن يحفر لهم نهرا.

فحدث جماعة من أهل البصرة قالوا : كان لدجلة العوراء ـ وهي دجلة البصرة ـ خور ، والخور طريق للماء لم يحفره أحد يجري إليها فيه ماء الأمطار ، ويتراجع ماؤها فيه عند المدّ ، وينضب في الجزر ، وكان طوله قدر فرسخ ، ونهر الإجّانة احتفره أبو موسى وقاده ثلاثة فراسخ حتى بلغ به البصرة ، فكان طول نهر الأبلّة أربعة فراسخ ، ثم إنه انطمّ منه ما بين البصرة وبثق الحيريّ ، وذلك على قدر فرسخ من البصرة ، فلمّا شخص ابن عامر إلى خراسان استخرج زياد نهر أبي موسى ، فرجع ابن عامر وغضب عليه وتباعد ما بينهما وقال : إنما أردت أن تذهب بذكر النهر دوني.

وكانت البصرة أيّام خالد بن عبد الله طولها فرسخان (١) وعرضها فرسخان (١).

وتذاكروا عند زياد البصرة والكوفة فقال زياد : لو ضلّت البصرة لجعلت الكوفة لمن يدلّني عليها ، وقال ابن سيرين : كان الرجل منّا يقول : غضب الله عليك كما غضب أمير المؤمنين على المغيرة ، عزله عن البصرة وولّاه الكوفة ، وقال أبو بكر الهذليّ : نحن أكثر منكم ساجا وعاجا وديباجا ونهرا عجّاجا وخراجا ، وأنشد لابن أبي عيينة في البصرة :

يا جنّة فاقت الجنان فما

يبلغها قيمة ولا ثمن

ألفتها فاتّخذتها وطنا

إنّ فؤادي لحسنها وطن

وقالوا : بالبصرة أربع بيوتات ليس بالكوفة مثلها : بيت بني المهلّب ، وبيت بني مسلم بن عمرو الباهليّ من قيس ، وبيت بني مسمع من بكر بن وائل ، وبيت آل الجارود من عبد القيس ، ودخل فتى من أهل المدينة البصرة فلمّا انصرف قالوا : كيف رأيت البصرة؟ قال : خير بلاد الله للجائع والغريب والمفلس ، أما الجائع

__________________

(١) في الأصل : طولها فرسخين وعرضها فرسخين.

٢٣٣

فيأكل خبز الأرزّ والصّحناء ولا ينفق في الشهر إلّا درهمين ، وأما الغريب فيتزوّج بشقّ درهم ، وأما المحتاج فلا عيلة عليه ما بقيت استه يخرأ ويبيع. وقالوا : بالبصرة ستّة ليس بالكوفة مثلهم : الحسن البصريّ ، والأحنف ، وطلحة بن عبد الله ، وابن سيرين ، ومالك بن دينار ، والخليل بن أحمد.

وبنى زياد بالبصرة دار الرزق ، وحفر نهر الأبلّة ونهر معقل ، وبنى داره ، وبنى البيضاء والحمراء فلم يضافا إليه ، وبنى سكّة فأسكنها أربعة آلاف من البخاريّة فقيل سكّة البخاريّة فأضيفت إليهم ، وبنى سبعة مساجد فلم يضف إليه شيء منها : مسجد الأساورة ، ومسجد بني عديّ ، ومسجد بني مجاشع ، ومسجد حدّان ، وكلّ مسجد بالبصرة كانت رحبته مستديرة فإنه من بناء زياد ، وكلّ الذي بنى فيها أو صنع فإنه نسب إلى غيره مثل : مسنّاة مصعب ، ونهر عديّ ونهر بلبل ، وباب الأصفهانيّ ، وحفيرة مطيع ، وقصر ابن عمّار ، وحمّام سياه ، وحمّام فيل ، وحمّام منجاب ، وقصر أوس ، وباب عثمان ، ومقبرة حصن ، ومقبرة بني شيبان ، ونهر مرّة ، ونهر بشّار.

وبنى عبيد الله بن زياد داره بها وفيها باب إلى السكّة التي تنفذ إلى سكّة اصطفانوس ، وباب آخر إلى السكّة التي تعرف بالبخاريّة ، وبالبصرة دور كثيرة كانت لمواليهم فأضيفت إلى دينارزاذ ودينار بنده ، ولهم دار عجلان ودار القطن ونهر والس ونهر شيطان.

ودخل بعض الدهاقين البصرة فرأى ما اجتمع فيها فقال : قاتلك الله فو الله ما صرت هكذا حتى أخربت بلادا وبلادا.

وقال ابن الأهتم البصريّ : يأتيها ما يأتيها عفوا صفوا ، ولا يخرج منها إلّا سائق أو ناعق أو قائد. وقالوا : أبعد الناس نجعة في الكسب بصريّ وخوزيّ ، ومن دخل فرغانة القصوى والسوس الأقصى فلا بدّ من أن يرى بها بصريّ أو خوزيّ أو حيريّ.

وأهدي إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) طبق من تمر ، فجعل يأكل منه البرنيّ والقريثاء

٢٣٤

ثم قال : اللهمّ إنك تعلم أني أحبّهما فأنبتهما في أحبّ البلاد إليك ، واجعل عندهما آية بيّنة ، قال الحسن : فو الله ما أعلمهما في بلد أكثر منهما بالبصرة ، وقد جعل الله عزّ وجلّ عندها آية بيّنة المدّ والجزر.

وقال عليّ بن محمّد المدائنيّ : وفد خالد بن صفوان على عبد الملك بن مروان فوافق عنده وفد جميع الأمصار ، وقد اتّخذ مسلمة مصانع له ، فسأل عبد الملك أن يأذن لهم بالخروج معه إلى تلك المصانع فأذن لهم ، فلمّا نظروا إليها أقبل مسلمة على وفد أهل مكة فقال : يا أهل مكّة هل فيكم مثلها؟ قالوا : لا ، إلّا أن فينا بيت الله المستقبل. ثم قال لوفد المدينة : هل فيكم مثل هذا؟ قالوا : لا ، إلا أن فينا قبر نبيّ الله المرسل. ثم أقبل على وفد الكوفة فقال : هل فيكم مثلها؟ فقالوا : لا ، إلّا أن فينا تلاوة القرآن العظيم. ثم أقبل على وفد البصرة فقال : هل فيكم مثل هذا؟ فتكلم خالد بن صفوان فقال : أصلح الله الأمير إن هؤلاء أقرّوا على بلادهم ، ولو أن عندك من له خبرة ببلادهم لأجاب عنهم قال : أفعندك في بلادك غير ما قالوا؟ قال : نعم ، أصف لك بلادنا قال : هات. قال : يغدو قانصانا فيجيء هذا بالشبّوط والشيم ، ويجيء هذا بالطير والظليم ، ونحن أكثر الناس عاجا وساجا وخزّا وديباجا وبرذونا هملاجا وخريدة مغناجا ، بيوتنا الذهب ، ونهرنا العجب ، تمام هذا الخبر في باب افتخار الشاميّين على البصريّين ، وفضل الحبلة على النخلة] (١).

ونحن قتلنا أحمرا في جموعه

وقد كان قتّال الكماة مظفّرا (٢)

غداة علا الإسكاف بالسيف رأسه

فخرّ صريعا لليدين معفّرا

وكان ابن سيرين يقول : تكون فتنة أعفى الناس فيها أهل البصرة.

وقال رجل لعبد الله بن عمرو بن العاص : بلغني أنك تقول البصرة أسرع خرابا. قال : ليس كذاك قلت. إنما قلت هي أبطأ الأرض خرابا ، لأنها أقومها

__________________

(١) إلى هنا ينتهي المقطع الذي نقلناه عن المختصر وهو غير موجود في النسخة الأصل.

(٢) حدث في المخطوط قطع ، ثم بدأ مرة أخرى بهذين البيتين.

٢٣٥

قبلة ، وهي حيال البيت والمقام والحجر وزمزم. فهي أبطأها خرابا.

وقال أبو بكر رحمه الله : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : ينزل ناس من أمتي غائطا من الأرض يقال له البصرة أو البصيرة ، لها نهر يقال له دجلة يعقد عليه جسر وهو من أمصار المهاجرين ، ويكثر أهله.

وقال كعب الأحبار : وجدت في كتب الله المنزلة إن بالبصرة كنز الله أربعون ألفا يردّون الناس إلى المهدي بعد انهزامهم عنه.

قال وحج ابن عمر وحج في ذلك العام ناس كثير من أهل الكوفة واليمن ، ولم يحج من أهل البصرة أحد. فقال ابن عمر : ما بال أهل البصرة؟ قالوا : أصابهم وباء. فقال : أهل البصرة خير من أهل الكوفة.

وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : ما رأيت أهل بلد أبكر إلى ذكر الله من أهل البصرة.

وقال أبو ظبيان : سمعت ابن عمر ، وأتاه رجل فقال : أخبرني عن البصرة فإنه بلغني أنها أول الأرض خرابا. فإن كان كذلك حوّلت أهلي منها. قال : فإنها أبطأ الأرض خرابا.

ومدح عمر بن درّاك أهل البصرة فقال : هم أعظم الناس أخطارا وأكرمهم جوارا وأبعدهم في الأرض آثارا. أهل البصرة أعظم إمرة ، وأوسع هجرة ، وأعطى للبررة. وهم أعظم أعلاما ، وأوفى زماما وأكثر أعلاما ، وأجود كفّا ، وأحسن عطفا ، وأيمن لواء ، وأصدق حياء ، وأكرم إخاء. صبر تحت الرايات ، وأكرم عند البيات.

أهل البصرة أكثر عدة ، وأجود عدة ، وأكرم سجية ، وأقسم بالسوية ، وأحسن سياسة للرعية. وأقرب من ورع ، وأحضر للجمع ، وأقل عند الطمع. أهل البصرة أسمع وأطوع وأرضى وأمنع. وهم أطيب ثمارا ، وأكثر أشجارا ، وأكرم أنهارا. وأجزل عطية ، وأكرم بقية ، وأشد عصبية ، وأكثر غنما ، وأحسن سلما ، وأطيب طعما ، وأصدق ثبات ، وأكرم هبات ، وأقضى للحاجات. وأحسن أخلاقا ، وأشد

٢٣٦

إشفاقا ، وأملى رواقا. وأحلم في الغضب ، وأصبر في الكرب ، وأجمل في الطلب. أهل البصرة أصبر للبلية ، وأحمل للرزية ، وأكرم خبية. وهم أحمل للديات ، وأسرع في الخيرات ، وأطعم في الفلوات. وهم أكنز للذهب ، وأركب للقتب ، وأشهر في العرب. وهم أركب للبحور وأحسن في الأمور ، وأصبر في الثغور.

ذم أهل البصرة :

قال كعب لأبي مسلم : من أين أنت؟ قال : من أهل العراق. قال : من أيها؟ قال : من أهل البصرة. قال : إذا رأيت نخلها قد أطعم فاخرج منها. قال : فإن لم أستطع ذاك؟ قال : فإذا رأيت آجامها قد اتخذت بساتين فاخرج منها. قال : فإن لم أستطع. قال : إذا تطاول أهلها في بناء المدر فاخرج. قال : فإن لم أستطع. قال : فعليك بضواحيها وإياك وسباخها فإنه سيكون بسباخها خسف.

وقال قتادة : يخسف بالدار وتنجو الدار. ويخسف بالحي وينجو الحي.

وروي عن أسود العدوي ، قال : قال عمر بن الخطاب : أريد أن آتي البصرة فأقيم فيها شهرا. فقال له كعب : لا تأتها (١). فإن بها تسعة أعشار الشر والداء العضال ، وبها تكون الفتن ، وفيها يخرج الدجال.

وعن أبي مجلز قال : ائتفكت البصرة مرتين ولتأتفكن الثالثة.

وقال أبو موسى : للبصرة أربعة أسماء ، الخريبة والبصيرة وتدمر والمؤتفكة.

وكان كعب الأحبار يقول لتشبعن الضبع من النو (٢) في مسجد البصرة والقرى حولها عامرة.

وقال أبو غيلان : البصرة يسلط عليهم القتل الأحمر ، والجوع الأغبر. وأما مصر فينضب [٩ ب] نيلها.

__________________

(١) في الأصل : لا تأتيها.

(٢) كذا في الأصل.

٢٣٧

وكان ابن عمر يقول : البصرة أسرع أرض الله خرابا ، وأخبثه ترابا. قيل : فما بال الكوفة؟ قال : يأتي الله بأمره إذا شاء.

وكان أمير المؤمنين عليه السلام يقول لتغرقنّ البصرة أو لتحرقن إلّا بيت مالها ومسجدها.

وقال عبد الله الضبعي : سمعت عليا عليه السلام يقول : ويحك يا بصرة لتغرقن أو لتحرقن حتى يرى بيت مالك ومسجدك كجؤجؤ سفينة (١).

وقال قتادة : لتحرقن البصرة وأهلها كثير. قيل له : وكيف ذلك؟ قال : يظهر منافقوها على مؤمنيها فيخرجون منها رجالا وركبانا. وأنشد لمحمد بن حازم :

ترى البصري ليس به خفاء

لمنخره من النتن انتشار

ربا بين الحشوش وشبّ فيها

فمن ريح الحشوش به اصفرار

يعتّق سلحة كيما يغالي

به عند المبايعة التجار

ولما افتتح أمير المؤمنين عليه السلام البصرة ارتقى منبرها فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال : يا أهل البصرة! يا بقايا ثمود ويا جند المرأة ويا أتباع البهيمة. رغا فاتّبعتم ، وعقر فانهزمتم. دينكم نفاق ، وأخلاقكم رقاق ، وماؤكم زعاق. يا أهل البصرة والبصيرة والسبخة والخريبة! أرضكم أبعد الأرض من السماء ، وأقربها من الماء ، وأسرعها خرابا وغرقا (٢).

وكان خالد بن ميمون يقول : البصرة أشد الأرض عذابا ، وأسرعه خرابا وشره ترابا.

وسأل الحجاج بن يوسف ، ابن القرية عن البصرة فقال : حرّها شديد ، وخيرها بعيد. وماؤها ملح ، وحربها صلح. مأوى كل فاجر ، وطريق كل عابر.

وكان الأوزاعي يقول : نظرت فيما اختلف فيه العلماء من أهل البلدان وفتنوا

__________________

(١) نهج البلاغة ٥٦.

(٢) نهج البلاغة ٥٥.

٢٣٨

به ، فرأيت أهل البصرة قد فتنوا بخصلتين : الخضخضة والقدر. وفتن أهل الكوفة بخصلتين : شرب المسكر وتأخير السحور. وفتن أهل الشام بخصلتين : طاعة [١٠ أ] الظلمة ، وأخذ الجوائز ، وفتن أهل مكة بخصلتين : تزويج المتعة والدرهم بالدرهمين. وفتن أهل المدينة بخصلتين : حب السماع وإتيان النساء في الأدبار.

وقال ابن شبرمة لأهل البصرة : لنا أحلام ملوك المدائن ، وسخاء أهل السواد ، وظرف أهل الحيرة. ولكم سفه السند وبخل الخوز وحمق أهل عمان.

وقال ابن شوذب : أول منبر يصعده الدجال منبر البصرة فيقول : أيها الناس من كان غنيا زدناه ، ومن كان فقيرا موّلناه.

وقال عبد الله بن عباس : إذا كثرت القدرية بالبصرة ائتفكت بأهلها ، وإذا كثرت السبائية (١) بالكوفة ائتفكت بأهلها.

واستشار رجل ابن مسعود في سكون البصرة فقال له : إن كنت لا بدّ فاعلا ، فاسكن رابيتها ولا تسكن سبختها فإنه قد خسف بها مرة ، وسيخسف بها أخرى. والخسف الذي كان بها ، أنه كان بها خمسة حكّام أسماؤهم : جائر وجابر وخاطئ ومخطي وحمّال الخطايا. فخرج رجل معه امرأة له حامل على حمار له حتى أتاها ، فلما دخلها منعه جائر وقال : لا تدخل حتى تؤدي درهمين. فأخذ منه درهمين. فتظلم وقال : أنا رجل فقير وقد أخذ مني درهمان (٢). فما أحد يعديني على من أخذهما مني؟ فقالوا : بلى ، جابر. فأتاه فشكا إليه. فقال له هات أربعة دراهم. فأخذها منه مكرها. فأتى خاطئ يشكوهما إليه ، فقال : هات ثمانية دراهم. فأخذها منه فأتى مخطئ فقال : هات ستة عشر درهما. فقال أنا إنسان مسكين لا شيء لي. فضربه وضرب امرأته حتى أسقطت ، وقطع ذنب حماره. فأتى حمال الخطايا فشكا إليه ما حلّ به من إسقاط امرأته وقطع ذنب حماره. فقال

__________________

(١) في الأصل : السبابية.

(٢) في الأصل درهمين.

٢٣٩

لأصحابه : انكحوا امرأته حتى تحبل ، واعملوا على حماره حتى ينبت ذنبه. فخسف الله بها.

ويروى أن أمير المؤمنين عليه السلام لما دخل البصرة صعد المنبر وخطب وقال في خطبته : يا أهل البصرة! إن الله لم يقسم خيرا [١٠ ب] لأحد من أهل الأرض إلّا وقد جعل فيكم أكثر منه. فعابدكم أعبد الناس ، وقارئكم أقرأ الناس. غير أن حكم الله فيكم وفيمن مضى قبلكم جائز بقوله عزّ من قائل (وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً. كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) والله ، ما ابتدأتكم بما ابتدأتكم به من المدح رغبة مني لما في أيديكم. غير أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول : أما علمت أن جبريل عليه السلام حمل جميع الأرضين على منكبه الأيمن فأتاني بها. ألا وإني وجدت البصرة أبعد بلاد الله من السماء وأقربها من الماء وأخبثه ترابا وأسرعه خرابا ، ليأتينّ عليها يوم لا يؤتى منها إلّا شرفات مسجدها كجؤجؤ السفينة في لجة البحر ، فقال المنذر بن الجارود : ولذاك يا أمير المؤمنين ، وممّ ذاك؟ قال : إذا رأيتم آكامها خدورا ، وآجامها قصورا ، فلا بصرة ، ثم قال : كم بينكم وبين أرض يقال لها الأبلّة؟ قالوا : أربعة فراسخ. فقال : صدقني والذي عجّل روحه إلى الجنة وأكرمه بالنبوة فقال : يا علي أما علمت أن بين البصرة وبين أرض يقال لها الأبلة أربعة فراسخ ، يكون في ذلك الموضع العشور ، ينبغي أن يقتل فيه سبعون ألفا هم نظراء قتلى بدر ، فقيل ومن يقتلهم يا أمير المؤمنين؟ قال : إخوان الجنّ ، إخوان الجنّ ، ثم قال : ويحك يا بصرة! ويحا لك من جيش لا غبار له. قيل : يا أمير المؤمنين ما الويح؟ قال : الويح والويل بابان ، فالويح رحمة والويل عذاب.

مجلس الكوفيين والبصريين عند المأمون (١)

كان المأمون يوما جالسا وعنده نفر من خاصته وذوي المنزلة عنده. فأفاض معهم في الحديث ثم قال : قد قرأت القرآن فحفظته وسمعت الحديث وعلمت

__________________

(١) عن مفاخرة البصرة والكوفة والبصريين والكوفيين انظر أيضا مروج الذهب ٣ : ٣٣٠ ـ ٣٣١.

٢٤٠