البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

قالوا : ومن عجائبنا : الجبل الذي بآمد ، يراه جميع أهل البلدة فيه صدع ، فمن انتضى سيفه فأولجه فيه وقبض على قبيعته بجميع يديه اضطرب السيف في يديه ، وأرعد القابض. وإن كان أشدّ الناس. وفيه أعجوبة أخرى : أنه متى يحكّ بذلك الجبل سكّين ، أو حديد ، أو سيف ، حمل ذلك السيف والسكّين الحديد وجذب الإبر والمسالّ بأكثر من جذب المغناطيس. وأعجوبة أخرى : أن ذلك الحجر نفسه لا يجذب الحديد فإن حكّ عليه سكّين ، أو سيف جذب الحديد. وفيه أعجوبة أخرى : وذلك أنه لو بقي مائة سنة لكانت تلك القوّة قائمة فيه.

وبالرقّة دهن الخطّارة ، وفيه أعجوبة وذلك أنه لا يتّخذ إلّا في حانوت بها معروف ، فإن اتّخذ في غيره من الحوانيت فسد وخاصّيّته أنه نافع للرياح والنقرس.

قالوا : ومخرج الخابور من رأس العين ، ويستمدّ من الهرماس ، ويصبّ في الفرات ، ومخرج الثرثار من الهرماس ، ويمرّ بالحضر ، ويصبّ في دجلة قالوا : ولنا الأفراس الجزيريّة.

وسأل معاوية ابن الكوّاء (١). عن أهل الكوفة فقال : أبحث الناس عن صغيرة وأضيعهم لكبيرة ، قال : فأخبرني عن أهل البصرة. قال : غنم وردن جميعا ، وصدرن شتّى. قال : فأخبرني عن أهل الحجاز. قال : أسرع الناس إلى فتنة ، وأضعفهم فيها ، وأقلّهم غناء. قال : فأخبرني عن أهل الموصل. قال : قلادة أمة فيها من كلّ خرزة. قال : فأخبرني عن أهل الجزيرة. قال : كناسة بين المصرين ، ثم سكت معاوية. فقال ابن الكوّاء : لتسألني أو لأخبرنّ أو ما عنه تحيد ، قال : أخبرني عن أهل الشام قال : أطوع الناس لمخلوق ، وأعصاهم لخالق لا يدرون ما بعده.

__________________

(١) هو عبد الله بن أوفى اليشكري ممن كان في جيش الإمام علي وخرج عليه بعد موقعة صفين (الطبري ٥ : ٦٣ ، ٦٥) وقصة وفوده على معاوية ذكرها الطبري (٥ : ٢١٢). إلّا أنه لم يذكر هذا الحديث.

١٨١

وقال الهيثم بن عديّ : كانت دار إياد ظهر الكوفة ودير الأعور ودير قرّة ودير الأعور هو دير الجماجم.

وقال الأصمعيّ : كانت قريش تسأل في الجاهليّة عن خصب باعربايا وهي الموصل لقدرها عندهم ، ولم ينلهم في خصبها شيء قطّ ، وعن ريف الجزيرة وما يليها ، لأنها تعدل في الخصب باعربايا ، وفي التمر البصرة وفي السمك عمان.

وخراج كور الجزيرة وديار ربيعة تسعة آلاف ألف وسبع مائة ألف وخمسة عشر ألفا وثمان مائة درهم. أرزن : ألف ألف وستّة وخمسون ألفا. آمد : ألف ألف ومائة وخمسون ألفا ، ديار ربيعة : ميّار فارقين : ثمان مائة ألف وستّة وخمسون ألفا. وكذلك سائر المدن مثل : ماردين ، ودارا ، وبلد ، وسنجار ، وقردى ، وبزبدى ، وطور عبدين ، ورأس العين ، وقد أجمل خراجها. ديار مضر : حرّان سبع مائة ألف وأربعون ألفا. الرّها : ألف ألف وثلاثمائة ألف درهم. سميساط ألف ألف درهم. سروج : ستّمائة ألف درهم. قريات الفرات : ستّون ألف درهم. رأس كيفا : ثلاثمائة ألف وخمسون ألف درهم. أرض البيضاء : مائة ألف وخمسون ألف درهم. الرقّة : مائة ألف درهم وستّون ألف درهم. الرافقة والرّوابي : سبعة وخمسون ألف درهم. المازحين والمديبر : مائة ألف وخمسة وثمانون ألف درهم.

١٨٢

القول في الروم

وإنما ذكرنا الروم في هذا الموضع لأنها تحاذي الشام والجزيرة.

قال يحيى بن خالد البرمكيّ : الملوك خمسة : ملك الأثاث ، وملك الدوابّ ، وملك المال ، وملك الفيلة ، وملك الإكسير. فأما ملك الأثاث فملك الصين ، وملك الدوابّ ملك الترك ، وملك المال ملك العرب ، وملك الفيلة ملك الهند ، وملك الإكسير فملك الروم. فأرض الروم غربيّة دبوريّة ، وهي من أنطاكية إلى صقليّة ، ومن قسطنطنيّة إلى توليّة. والغالب عليهم روميّ وصقلبيّ ، والأندلس صقالبة ، والروم كلّهم : نصارى ملكانيّة ، ويقرءون الإنجيل بالجرمقانيّة ، وهم أصحاب بقر وخيل وشاء ، ويحكمون بحكم التوراة ، وهم أهل صناعات وحكم وطبّ ، وهم أحذق الأمّة بالتصاوير ، يصوّر مصوّرهم الإنسان حتى لا يغادر منه شيئا ، ثم لا يرضى بذلك حتى يصيّره شابّا وإن شاء كهلا ، وإن شاء شيخا ، ثم لا يرضى بذلك حتى يجعله جميلا ثم يجعله حلوا ثم لا يرضى حتى يصيّره ضاحكا وباكيا ، ثم يفصل بين ضحك الشامت وضحك الخجل ، وبين المستغرق والمبتسم والمسرور وضحك الهاذي ، ويركّب صورة في صورة ، ولمّا توادع قباذ وقيصر ملك الروم أهدى إليه قيصر هدايا كثيرة ، فكان فيما أهدى إليه تمثال جارية من ذهب ، كان إذا كان وقتا من الليل يسمع لها ترنّم لا يطنّ على أذن أحد إلّا أرقده ، وفسطاط عظيم من كيمخار ، وسفط جوهر.

وأوفد بعض الخلفاء عمارة بن حمزة (١) ، إلى ملك الروم ، وكتب يتوعّده

__________________

(١) عمارة بن حمزة تنسب إليه دار عمارة بالجانب الغربي من بغداد وهو مولى المنصور (معجم ـ

١٨٣

بالخيل والرجال ، قال عمارة ، فانتهيت إلى مكان يحجب منه الرجل على مسافة بعيدة ، فجلست حتى أتى الأذن ، فسرت إلى مكان آخر فجلست حتى أتى الأذن ثلاث مرّات ، ثم وصلت إلى داره فأدخلت دارا ، وإذا على طريقي أسدان عن جنبي الطريق ، وطريقي عليهما لا أجد من ذلك بدّا ، فقلت : لا بدّ من الموت ، فلن أموت عاجزا فحملت نفسي فلمّا صرت بينهما سكنا فجزت ودخلت دارا أخرى ، وإذا سيفان يختلفان على طريقي ، فحزرت أنه لو مرّ بينهما ذبابة لقطّعاها ، فقلت : الذي سلّمني من الأسدين يسلّمني من السيفين ، فاستخرت الله ومضيت ، فلمّا صرت بينهما سكنا ، ثم دخلت دارا ثالثة وفيها الملك فلمّا صرت إلى بهوه ، إذا هو في بهو فسيح أكاد أن لا أبصره لبعد مسافة البصر بيني وبينه ، فمشيت حتى انتهيت إلى قدر ثلثة فغشيتني سحابة حمراء لم أبصر شيئا فجلست مكاني ساعة ، ثم تجلّت عني فقمت فمشيت ، فلمّا بلغت نحو الثلثين غشيتني سحابة خضراء فغشي بصري منها ، فجلست حتى تجلّت ، ثم قمت فمشيت فانتهيت إلى الملك فسلّمت عليه ، والترجمان بيني وبينه ، فأدّيت الرسالة وأوصلت الكتاب ، فأمرني بالجلوس وسألني عن الخليفة وعن أشياء من أمر الأقاليم ، ثم أمر بمنزل وإقامة ما أحتاج إليه ، وأمرني بالانصراف والبكور عليه ، فكنت لأغبّه وآنس بي ، فركبت معه يوما فانتهينا إلى حائط عليه باب وحفظه ، فدخلنا فإذا أصول طرفاء فقال : أتعرف هذه الشجرة؟ فقلت : لا ، وظننت أن عنده فيها معنى ، فقال : هذه شجرة ينفع دخانها من الخراج وتمرئ الطعام ، فقلت في نفسي : لو يعلم أنها ببلادنا حطب الأراذل منا ، ثم مضى إلى حائط آخر عليه باب وحفظه ، فدخل ودخلنا معه فإذا مقدار قفيز من أرض فيه كبر ، فقال : أتعرف هذا؟ قلت : لا ، وظننت به ظنّي الأوّل فقال : هذا نبت وهو جوارشن ، وينفع من أصابه الحرق (١) ، ويدخل في أدوية الجراحات. فقلت في نفسي : لو يعلم هذا أن عندنا لا يكون إلّا في أخرب المواضع والمفاوز ،

__________________

ـ البلدان ٢ : ٥٢٢) توفي عام ١٦٠ ه‍.

(١) قرأها دي خويه (الخرق) ونرى أنها (الحرق) من الحريق. خاصة وان فيه خاصية تجفيف القروح الرطبة إذا وضع عليها من خارج (المعتمد ص ٤٠٨).

١٨٤

وأنه مباح لمن أراده ، فلمّا آنست به قلت : أيها الملك أريد أن أسأل عن شيء قال : سل عما بدا لك. قلت : إني رأيت أسدين وسيفين وسحابتين كان من قصّتهما كيت وكيت ، ولم أعرف السبب. قال : أما الأسدان والسيفان فإنهما حيلة تحتال لمن ورد علينا من رسل الملوك لنروّعهم بذلك ، وإذا قرب الرجل منهم سكنت كما رأيت ، وأما السحابتان فإني أعلمك خبرهما ، ثم ضرب بيده إلى ثني فراشة فاستخرج قطعة ياقوت أحمر كالنعل ، فإذا السحابة قد غشيتنا من ضوءها ثم ردّها واستخرج أختها من زمرّد أخضر فغشيتنا السحابة الخضراء ، فلمّا أزف خروجي وأجاب عن الكتاب قال : امض بنا إلى قصري فخرجنا حتى انتهينا إلى قصر عليه حفظة فدخلنا فإذا بيوت مختومة ، فأمر بباب منها ففتح ، فإذا جرب بيض منضّدة حوالي البيت ، ثم قال : أشر إلى ما شئت منها ، فأشرت إلى جراب منها فأمر ببرنيّة فملئت منها ، ثم أمر بختمها ، ثم استفتح بابا آخر كالأول في طوله ، فإذا جرب حمر فقال : أشر إلى ما شئت منها ، فأشرت إلى جراب منها فملئت منه برنيّة ثم ختمها وانصرفنا إلى القصر ، فدعا بكير ومنفاخ ورطل نحاس ورطل رصاص ، فأمر بأحدهما فأذيب ، وأمر أن يلقى عليه من الدواء الأبيض ما يحمل ظفر الإبهام ، ثم أفرغه فخرج فضّة بيضاء ، ثم أذيب النحاس وألقي عليه من الأحمر مثل ذلك فخرج ذهبا أحمر فقال : أعلم صاحبك أن هذا مالي ، وأما الخيل والرجال فإنك تعلم أنهم أكثر وأكبر ، فقال عمارة : فحدّثت المنصور بهذا الحديث ، فكان هذا الذي حداه على طلب الكيمياء. قال عمارة : وأعجب ما رأيت في مجلسه أنه كان إذا أراد أن يصرف الناس خرجت في ظهر كلّ رجل كفّ من الحائط فيدفعه فيعلم أنه قد أمر بالقيام.

وقال سيف بن عمر : كان ملك الروم الأوّل من آل بالع بن بعور ، وبنى قرية دنحب ، ثم ملك بعده يوبب بن زرح ، ثم ملك بعده هوشم ، ونزل التّيمن ، ثم ملك بعده هدد بن بدد الذي قتل المدنيّين ، ثم ملك سمل بن مسرق ، ثم عدّة كثيرة.

وقال حذيفة : كان على الروم ملك يقال له مورق سيّء السيرة ، فاجتمع إليه

١٨٥

من المؤمنين اثنان وسبعون رجلا على أن يأمروه بالمعروف وينهوه عن المنكر فانتدب منهم رجلان لذلك فكلّماه فأمر بهما ليصلبا ، فاجتمع السبعون فقال بعضهم لبعض : نقضتم العهد وأسلمتم إخوانكم للقتل ، وأمركم الآن أشدّ من أمركم الأوّل ، فائتمروا ليأخذوا السلاح ويفتكوا لمورق. حتى يقتلوه ، فلمّا أبرز المورق بالرجلين شدّوا عليه فقتلوه ، ونادوا : أيّها النّاس لا بأس فإنما غضبنا لله ، فاجتمع إليهم الناس وقالوا لهم : قد قلّدناكم أمورنا ، فولّوا من أنفسكم من شئتم ، فملّكوا عليه رجلا يقال له فوق ، فهو الذي ضرب الدنانير الفوقيّة ، ثم ملك فوق وكان سيّء السيرة ، فأرادت الروم أن تخلعه ، فعمد إلى خزائنهم وأموالهم فرمى بها في البحر ، وشحن منها السفن ، وأسرعها تحملها الريح حتى جاءت بها إلى الشام ، وكان شهر براز غلاما لكسرى على الشام ، فخرج إلى الساحل فرأى السفن ، فأمر بها فأخذت واستخرج ما فيها من الأموال ، فسمّى ذلك المال كنج باذاورد ، فبطلت أموال الروم منذ حينئذ ، فليس في الأرض روميّ له عطاء أكثر من خمسة دنانير وعشرة دنانير هذا للشريف منهم فهم إلى يومنا هذا على هذا.

وقال ابن دأب (١) عن موسى بن عقبة قال : كان عبادة بن الصامت يحدّث أن بعض الخلفاء بعثه وهشام بن العاص ونعيم بن عبد الله إلى ملك الروم يدعوه إلى الإسلام ، قال : فخرجنا حتى جئنا جبلة ابن الأيهم الغسّانيّ وهو بالغوطة ، فأدخلنا إليه فإذا هو على فرش مع السقف ، فأجلسنا بعيدا فأرسل إلينا رسولا نكلّمه ، فقلنا لا والله لا كلّمناه برسول ، فأدنينا منه فكلّمه هشام ودعاه إلى الله ، فإذا عليه ثياب سود فقال له هشام : ما هذه المسوح التي لبستها؟ قال : لبستها وعليّ نذر ألّا أنزعها حتى أخرجكم من الشام ، قلنا : والله لنخرجنّك من فرشك ومن دار مملكتك ونملك الملك الأعظم إن شاء الله ، أخبرنا بذلك نبيّنا (صلى الله عليه وسلم) ، قال : إذا أنتم السّمراء. قلنا : وما السمراء؟ قال : الذين يصومون النهار ويقومون الليل. قلنا : فنحن والله هم. قال : وكيف صومكم؟ فأخبرناه بذلك. قال : فرطن لأصحابه

__________________

(١) هو عيسى بن يزيد بن دأب الكناني الليثي. قال ابن النديم ص ١٠٣ (والأغلب على آل دأب الأخبار).

١٨٦

وقال : قوموا وعلاه سواد ثم بعث معنا رسولا إلى ملك الروم ، فلمّا دنونا من مدينته قال الذين معنا : إن دوابّنا هذه لا تدخل مدينة الملك ، وكنّا على رواحل فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال ، قلنا : لا والله لا ندخل إلّا عليها ، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ، فأرسل أن خلّوا عنهم ، فدخلنا معتمّين علينا السيوف على الرواحل ، وإذا غرفة مفتوحة ينظر منها إلينا ، وأقبلنا حتى أنخنا تحت الغرفة ، قلنا : لا إله إلّا الله والله أكبر ، قال : والله يعلم لقد انتفضت الغرفة حتى كأنها عذق سعفة ضربها الريح ، وأرسل أنه ليس لكم أن تجهروا بدينكم على بابي ، فأرسل أن ادخلوا فدخلنا ، فإذا عليه ثياب حمر ، وإذا كلّ شيء عنده أحمر ، والبطارقة حوله فدنونا منه ، فإذا هو يفصح العربيّة ، فقال لنا وضحك : ما منعكم أن تحيّوني بتحيّة نبيّكم؟ فإن ذلك أجمل بكم ، قلنا : تحيّتنا لا تحلّ لك ، وتحيّتك التي تحيّا بها لا تحلّ لنا. قال : وما هي؟ قلنا السلام عليك. قال : فما تحيّون ملككم؟ قلنا : بهذا نحيّيه. قال : فكيف يردّ عليكم؟ قلنا : كما نقول له. قال : أفما يرثكم؟ قلنا : لا إنما يرث منا الأقرب فالأقرب. قال : وكذلك ملككم؟ قلنا : نعم. قال : فما صومكم وصلاتكم؟ فوصفنا له. قال : فما أعظم كلامكم؟ قلنا : لا إله إلّا الله والله أكبر ، فالله يعلم أنه انتفض سقفه حتى ظنّ هو وأصحابه أن سيسقط عليهم ، ثم قال : هذه الكلمة هي التي نفضت الغرفة؟ قلنا : نعم. قال : وكلّما قلتموها نفضت سقوفكم؟ قلنا : لا. قال : فإذا قلتموها في بلاد عدوّكم تفعل ذلك؟ قلنا : لا ، قلنا : وما رأيناها صنعت ذلك إلّا عندك. قال : ما أحسن الصدق ، أما أني وددت أني خرجت إليكم من نصف ملكي ، وأنكم كلّما قلتموها ينفض كلّ شيء. قلنا : ولم ذاك؟ قال : كان ذاك أيسر لشأنها وأجدر ألّا يكون نبوّة ، وأن يكون من حيلة الناس. قال : فما كلمتكم التي تقولون لا إله إلّا الله ليس معه غيره. قلنا : نعم. قال : والله أكبر أكبر من كلّ شيء؟ قلنا : نعم. ثم سألنا سؤالا شافيا وخرجنا من عنده ، وقد أمر لنا بمنزل حسن ، ونزل كثير فمكثنا ثلاثا ، ثم أرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه ، فإذا ليس عنده أحد فاستعادنا القول ، فأعدنا عليه ، ودعا بشيء كهيئة الرّبعة العظيمة مذهّبة فيها بيوت صغار ، عليها أبواب ، ففتح بيتا فأخرج منه خرقة سوداء

١٨٧

حريرا ، فنشرها فإذا فيها صورة ، وإذا رجل ضخم العينين ، عظيم الأليتين ، طويل العنق ، فقال : أتدرون من هذا؟ قلنا : لا. قال : هذا آدم (عليه السلام) ، ثم فتح بيتا آخر فأخرج منه خرقة سوداء فنشرها ، فإذا صورة بيضاء فإذا رجل له شعر كشعر القبط ، أحمر العينين ، عظيم الهامة ، قال : أتدرون من هذا؟ قلنا : لا ، قال : هذا نوح (عليه السلام) ، ثم فتح بيتا آخر فاستخرج خرقة مثل الأوليين ، فإذا صورة بيضاء شديدة البياض ، وإذا رجل حسن العينين ، طويل الخدّ ، شارع الأنف ، مختلط شيب الرأس أبيض اللحية ، والله لكأنه يتبسّم ، قال : أتعرفون هذا؟ قلنا : لا. قال : هذا إبراهيم (عليه السلام) ، ثم أخرج خرقة سوداء مثلها ، فنشرها فإذا صورة وإذا والله رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال : أتعرفون هذا؟ قلنا : نعم ، وبكينا وقلنا : هذا نبيّنا محمّد (صلى الله عليه وسلم) فالله يعلم أنه قام قائما ثم جلس فقال : الله لهو هو ، قلنا : والله لهو هو ، كأنّا ننظر إليه حيّا ، فأمسك ساعة ينظر ثم قال : أما والله إنه آخر البيوت ولكني عجلته لكم لأعلم ما عندكم ، فأعاده وفتح بيتا آخر فأخرج خرقة سوداء فإذا فيها صورة صحماء أدماء رجل كثير الشعر جعد قطط ، غائر العينين ، حديد النظر ، عابس ، متراكب الأسنان ، مقلّص الشفة ، وإلى جنبه صورة شبيه به غير أنه مدوّر الرأس عظيم الجبين في عينه قبل ، فقال : هذا موسى وأخوه هارون ، ثم فتح بابا آخر فاستخرج خرقة سوداء فإذا فيها صورة بيضاء أشبه ما خلق الله بصورة امرأة عجيزة وساقا ، قال : هذا داود (عليه السلام) ، ثم استخرج خرقة سوداء فيها صورة بيضاء ، فإذا رجل أوقص طويل الرجلين قصير الظهر وإذا هو راكب على فرس لكلّ شيء منه جناح ، قال : أتعرفون هذا؟ قلنا : لا ، قال : هذا سليمان ، وهذه الريح تحته ، ثم أخرج لنا خرقة سوداء فيها صورة صفراء وإذا رجل شديد سواد الشعر سبطه كثيرة حسن الوجه والعينين مشتبه كلّ شيء ، قال : أتعرفون هذا؟ قلنا : لا. قال : هذا عيسى (عليه السلام) ، قلنا : ومن أين هذه الصور هكذا؟ فإنّا نعمل أن هذه الصور على ما صوّرت ، لأن صورة نبيّنا (صلى الله عليه وسلم) مثله ، قال : إن آدم (عليه السلام) سأل ربّه جلّ وعزّ أن يريه أنبياء بنيه ، فأنزل عليه صورهم فاستخرجها ذو القرنين من خزانة آدم في مغرب الشمس ، فصوّرها دانيال على تلك الصور في

١٨٨

خرق حرير ، فهي هذه بعينها ، وو الله لوددت أن نفسي تطيب بالخروج من ملكي وأكون عبدا لأشرككم ملكه ، ولكن نفسي لا تطيب ثم أجازنا وأحسن جائزتنا وسرّحنا.

قال : ولمّا دخل أنوشروان أرض الروم وخرج منها فقد بها رجلا من متطبّبيه يسمّونه الزرسبيذ ، فاشتدّ على أنوشروان ذلك ، وغبر الرجل بأرض الروم سنين ، حتى عرف كلامهم ، وقرأ كتبهم ، وعظم شأنه ، فلمّا أحكم ما يريد انصرف إلى أنوشروان ، فعظّم موقعه لما رجا أن يجده عنده ما يحبّ أن يعرف من حال الروم ، فخلا به فسأله عن شدّة ما رأى من بأس القوم ونجدتهم ، فقال الزرسبيذ : إنّا لم نزل نسمع من الملك أن النجدة قسم شريف ، وقد يجمع قسمه أقساما لا تتمّ إلّا بها ، وأنه لا يستحقّ أحد اسم البأس والشدّة إلّا بما يشيّعه من الصبر الذي به يحتمل الإخطار بالنفس ، والأنفة التي بها يقدم على ما أقدم به ، وحسن الذكر والبصيرة الذي هو ملاك ذلك كلّه ، ورباطة الجأش التي بها يوطّن على ما ناله من إحراز المكرمة وحسن الثناء ، وقلّ من رأيته فيهم ممن يستحقّ هذه الصفة ، وذلك لمخالفتهم دينهم الذي يدينون به.

قال : فكيف حظّهم من العلم؟ فوصفهم بقلّته وزعم أن مفتخرهم إنما يفتخر بكتب الفلاسفة في المنطق ، وإنما هي غايتهم ، قال : فأين مبلغهم من الطبّ؟ قال : أما الطبّ فمعرفتهم بالطبائع ، والجواهر ، وعلاج الحرارة والبرودة ، وفضول المرّة والبلغم ، بالعقاقير المسمّاة لهم ، لا يعرفون غير ذلك ممّا بسط لأهل الهند من علاج الأرواح ، والأدواء الغليظة ، والرقى ، والاستعانة ببعض الأرواح على بعض ، قال : فالنجوم؟ قال : قلّ حظّهم منه جدّا ، قال كسرى : فما بلغك فيما يدّعيه بعضهم من صنعة الذهب والفضّة ، وعن الأصباغ التي يصبغ بها الجوهر ، فينقل إلى غير طبائعه ، وما حكي لنا عن طلسماتهم؟ قال : كان ذلك من أهمّ أمورهم عندي أن أظفر به ، فلم أجد لشيء من ذلك حقيقة ، فأما الطلسمات فإنها أمور قديمة ، كان على الأرض من قوى بشيء لشيء قد ألّف من الكلام والرقى والعقد على تماثيل قد رأيتها بها ، ممّا تقادم عمله في الأزمنة الماضية قبل مخرج عيسى

١٨٩

(عليه السلام) ، فأما اليوم فقد ذهب من يدّعيها وبطل من يعملها.

وفي الخبر (١) : أن الروم لمّا أخربت بيت المقدس كتب الله عليهم السبي في كلّ يوم ، فليس يمرّ يوم من أيّام الدهر إلّا وأمّة من الأمم المطيفة بالروم يسبون من الروم سبايا.

وبحر الروم من أنطاكية إلى قسطنطينيّة ، ثم يدور آخذا من ناحية الدبور ، حتى يخرج خلف الباب والأبواب من ناحية الخزر ، حتى يبلغ قيروان إفريقية وأطرابلس إفريقية ، حتى يبلغ الأندلس إلى السوس الأقصى إلى جزائر السعادة. وأرض الروم غربيّة دبوريّة ، وهي من أنطاكية إلى صقلّيّة ، ومن قسطنطينيّة إلى تولية ، الغالب عليها روسيّ وصقلبيّ وأندلسيّ ، والصقالبة صنفان : سمر وأدم ، وهو ممّا يلي البحر ، ومنهم بيض فيهم جمال ، وهم في البرّ ، ومدينة الملك ، قسطنطينيّة ، وأنطاكية على ساحل البحر ، وفيها مجمع البطارقة ، ومن طرسوس إلى خليج قسطنطينيّة مائة ميل ، فيه مسجد مسلمة بن عبد الملك حيث حصر قسطنطينيّة ، ويمرّ خليج قسطنطينيّة حتى يصبّ إلى بحر الشام ، وعرض الخليج بأبدس قدر غلوة ، وإذا صار إلى بحر الشام فعرضه عند مصبّه أيضا قدر غلوة ، وهناك صخرة عظيمة عليها برج فيه سلسلة تمنع سفن المسلمين من دخول الخليج وعمورية دون الخليج ، وبينها وبين قسطنطينيّة ستّون ميلا ، وذكر أن بطارقة الروم الذين هم مع الملك اثنا عشر بطريقا بقسطنطينيّة ، وأن خيلها أربعة آلاف ، ورجّالتها أربعة آلاف.

وروي عن كعب قال : شمتت قسطنطينيّة بخراب بيت المقدس فتعزّزت وتجبّرت فدعيت المستكبرة ، وقالت : إن كان عرش ربّي جلّ جلاله على الماء ، فقد بنيت على الماء ، فوعدها الله العذاب قبل يوم القيامة ، فقال الله جلّ وعزّ لها : وعزّتي وجلالي لأنزعنّ حليك وحريرك وخمرك وخميرك ، ولأتركنّك لا يصيح فيك ديك ، ولا أجعل لك عامرا إلّا الثعالب وبنات آوى ، ولأنزلنّ عليك ثلاث

__________________

(١) هذا الخبر لدى ابن خرداذبه ص ١١٧.

١٩٠

نيران : نارا من زفت ، ونارا من كبريت ، ونارا من نفط ، ولأتركنّك جلحاء قرعاء لا يحول بينك وبين السماء شيء ، وليبلغنّ صوتك عنان السماء ، فإنه طال ما أشرك بي فيك ، وعبد فيك غيري ، وليفترعن فيك جواري ما كدن أن ترى الشمس من حسنهن ، ولأسمعنّ خرير البحر صوتك ، فلا يعجز من بلغ منكم ذلك أن يمشي إلى بيت بلاطة ملكهم ، فإنكم ستجدون فيه كنز اثني عشر ملكا من ملوكهم ، كلّهم يزيد فيه ولا ينقص منه ، فتقسمون ذلك كيلا بالأترسة قطعا بالفؤوس فتحملون ما استطعتم من كنوزها فتقسمونه بالغدقدونيّة ، فيأتيكم آت من قبل الشام أن الدجّال قد خرج ، فترفضون ما في أيديكم ، فإذا بلغتم الشام وجدتم الأمر باطلا ، وإنما هي نفحة كذوب.

قال خالد بن معدان : ليس في الجنّة كلب إلّا كلب أصحاب الكهف ، وحمار بلعم ، واسم كلب أصحاب الكهف دين ، وقال غيره : بل اسمه حمران ، واسم الكهف جيرم ، وأصحاب الرّقيم بقسطنطينيّة في جبل هناك في شعب وهم ثلاثة عشر رجلا.

وخراج الروم مساحة كلّ مائتي مدى ثلاثة دنانير في كلّ سنة ، ويأخذ عشر الغلّات فيصير في الأهراء للجيوش ، ويأخذ من اليهود والمجوس من كلّ رجل دينارا في السنة ، ويؤخذ له في كلّ بيت يوقد فيه كلّ سنة درهم ، وديوانه مقسوم على مائة ألف وعشرين ألف رجل ، على كلّ عشرة آلاف رجل بطريق ، وأجلّ البطارقة خليفة الملك ووزيره ، ثم اللّغثيط صاحب ديوان الخراج ، ثم اللغثيط صاحب عرض الكتب ، ثم الحاجب وصاحب ديوان البريد ، ثم القاضي ، ثم صاحب الحرس ، ثم المرقّب (١).

والروم أصحاب بقر وخيل وشاء ، ولهم البزيون العجيب ، والديباج الروميّ ، ولهم من العطر الميعة والمصطكى والجواري الروميّات ، والخدم وينبت في قعر

__________________

(١) المعلومات عن خراج الروم أعلاه موجودة لدى ابن خرداذبه ص ١١١. كما أن بعض المعلومات التي سبقت عن بلاد الروم موجودة لدى ابن خرداذبه.

١٩١

بحرهم البسّذ ، وبها القبّة التي من الرصاص وهي في بعض مفاوزها ، وذكر بعضهم أنه دخلها وعيان ما فيها ، ووجد على لوح بها مكتوب عليه : يا ابن آدم خف الموت ، وبادر الفوت ، واستكثر من ادّخار صالح الأعمال ، واعلم أن ذكر الموت يهون على اللسان ، وأن الموت على الفراش أشدّ من ألف ضربة بالسيف ، يا ابن آدم داو الموت بالطاعة ، واعلم أن ملك الموت رؤوف بأهل الطاعة. يا ابن آدم إن كنت تحبّ نفسك فصنها عن المعاصي ، واحملها على التعب الذي يعقبك الراحة ، وأعدّ للسفر البعيد زادا ، فإنّ من رحل بلا زاد عطب. يا ابن آدم ما أقسى قلبك تعمر دارا تخرب ، وتخرب دارا تبقى ، يا ابن آدم خذ لنفسك من نفسك ، واعرف المذاهب بالأسباب ، فإن سبب العقل المداراة ، وسبب المزيد الشكر ، وسبب زوال النعمة البطر ، وسبب المروّة الأنفة ، وسبب الأدب المواظبة ، وسبب البغضاء الحسد ، وسبب المحبّة الهديّة ، وسبب الأخوّة البشاشة ، وسبب القطيعة المعاتبة ، وسبب الفقر إسراف المال ، وسبب العداوة المراء ، وسبب المحبّة السخاء ، وسبب قضاء الحوائج الرفق ، وسبب المذلّة مسألة الناس ، وسبب الحرمان الكسل ، وسبب الريبة مصاحبة الريب ، وسبب النبل العفاف ، وسبب ثياب العقل المرأة الصالحة ، وسبب الغناء قلّة الفساد ، وسبب الغضب الصّلف ، والخير كلّه يجمعه العقل ، ومن لا عقل له ولا حياء فلا خير في صحبته قال : وإذا خوان موضوع هناك من ملح قدر ما يأكل عليه ألف رجل مكتوب عليه : يا ابن آدم قد أكل على هذا الخوان مائة ملك ، كلّهم مصاب بعينه اليسرى ، فكم كان الأصحّاء؟ يا ابن آدم قد قضم في هذه القبّة مائتا ألف ملك ، وقد رام حمل هذا الخوان واللوح ألف ملك فماتوا كلّهم. قال : فدعاني قيصر فسألني عنه ففسّرته له فبكى ثم قال : لله درّ العرب ما أعظم أحلامها ، وأكرم فروعها ، ثم وصلني وأحسن جائزتي ، ووجّه معي من أخرجني من بلاده.

قال أبو المنذر : سمّيت الروم بني الأصفر لأنه لمّا مات ملكهم لم يبق منهم من يصلح للملك إلّا امرأة ، فأجمعوا أن يملّكوا عليهم أوّل طالع من الفجّ فطلع

١٩٢

حبشيّ قد أبق من مولاه ، فأخذوه فزوّجوه الملكة فولدت له ابنا فسمّي الأصفر لأنه من أسود وأبيض.

ومن عجائب الروم : رومية الداخلة ، فإنها عجيبة البناء ، كثيرة الأهل ، وبينها وبين قسطنطينيّة مسيرة سنة. وقال جبير بن مطعم : لولا صوت أهل رومية لسمع الناس وجبة الشمس من حيث تطلع وقال حسن بن عطيّة : يفتح على المسلمين مدينة خلف قسطنطينيّة يقال لها رومية فيها مائة ألف سوق ، في كلّ سوق مائة ألف رجل وقال بعض العلماء : ينقّس برومية في كلّ يوم عشرون ومائة ألف ناقوس ، لولا وجبة أهلها لسمع الناس تسبيح الملائكة ووقع غروب الشمس.

روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : حلية بيت المقدس أهبطت من الجنة فأصابتها الروم فانطلقت بها إلى مدينة لهم يقال لها رومية. قال : وكان الراكب يسير بضوء ذلك الحلي مسيرة خمس ليال.

وقال رجل من آل أبي موسى : أخبرني رجل يهودي قال : دخلت رومية وان سوق الطير فيها فرسخ.

وقال مجاهد : في بلد الروم مدينة يقال لها رومية فيها ستمائة ألف حمّام.

وقال الوليد بن مسلم الدمشقي : أخبرني رجل من التجار قال : ركبنا البحر وألقتنا السفينة إلى ساحل رومية فأرسلنا إليهم : إنّا إياكم أردنا ، فأرسلوا إلينا رسولا. فخرجنا معه نريدها. فعلونا جبلا في الطريق فإذا بشيء أخضر كهيئة اللّج فكبّرنا فقال لنا الرسول : لم كبّرتم؟ قلنا : هذا البحر ، ومن سبيلنا أن نكبر إذا رأيناه. فضحك وقال : هذه سقوف رومية وهي كلها مرصصة.

قال : فلما انتهينا إلى المدينة إذا استدارتها أربعون ميلا في كل ميل منها باب مفتوح.

قال : فانتهينا إلى أول باب وإذا سوق البياطرة وما أشبهه. ثم صعدنا درجا فإذا سوق الصيارفة والبزازين. ثم دخلنا المدينة فإذا في وسطها برج عظيم واسع في أحد جانبيه كنيسة قد استقبل بمحرابها المغرب وببابها المشرق وفي وسط البرج

١٩٣

بركة مبلطة بالنحاس يخرج منها ماء المدينة كله. وفي وسطها عمود من حجارة عليه صورة رجل من حجارة. قال : فسألت بعض أهلها فقلت : ما هذا؟ فقال : إن الذي بني هذه المدينة قال لأهلها لا تخافوا على مدينتكم حتى يأتيكم قوم على هذه الصفة ، فهم الذين يفتحونها.

وذكر بعض الرهبان ممن دخلها وأقام بها أن طولها ثمانية وعشرون ميلا في ثلاثة وعشرين ميلا ولها ثلاثة أبواب من ذهب. فمن باب الذهب الذي في شرقيها إلى البابين الآخرين ثلاثة وعشرون ميلا ، ولها ثلاثة جوانب في البحر ، والرابع في البر. والباب الأول الشرقي والآخر الغربي والآخر اليمنى. ولها سبعة أبواب سوى هذه الثلاثة الأبواب من نحاس مذهب. ولها حائطان من حجارة رخام ، وفضاء طوله مائتا ذراع بين الحائطين.

وعرض السور الخارج ثمانية عشر ذراعا وارتفاعه اثنان وستون ذراعا. وبين السورين نهر ماؤه عذب يدور في جميع المدينة ويدخل دورهم مطبّق برفوف النحاس ، كل دفة منها ستة وأربعون ذراعا. وعدد الرفوف مائتان وأربعون ألف دفة. وهذا كله من نحاس.

وعمود النهر ثلاثة وتسعون ذراعا في عرض ثلاثة وأربعين ذراعا. فكلما همّ بهم عدو وأتاهم ، رفعت تلك الرفوف فيصير بين السورين بحر لا يرام.

وفيما بين أبواب الذهب إلى باب الملك اثنا عشر ميلا وسوق ماد من شرقيها إلى غربيها بأساطين النحاس ، مسقف بالنحاس وفوقه سوق آخر ، وفي الجميع التجار.

وبين يدي هذا السوق سوق آخر على أعمدة نحاس ، كل عمود منها ثلاثون ذراعا. وبين هذه الأعمدة نقيرة من نحاس في طول السوق من أوله إلى آخره فيه لسان تجري من البحر ، فتجيء السفينة في هذا النقير وفيها الأمتعة حتى تجتاز في السوق بين يدي التجار فتقف على تاجر تاجر فيبتاع منها ما يريد ثم ترجع إلى البحر.

١٩٤

وفي داخل المدينة كنيسة مبنية على اسم مار فطرس ومار فولس الحواريين وهما مدفونان فيها. وطول هذه الكنيسة ألف ذراع في خمسمائة ذراع في سمك مائتي ذراع. وفيها ثلاث باسليقات بقناطر نحاس.

وفيها أيضا كنيسة بنيت باسم اصطفانوس رأس الشهداء طولها ستمائة ذراع في عرض ثلاثمائة ذراع في سمك مائة وخمسين ذراعا. وثلاث باسليقات بقناطرها وأركانها. وسقوف هذه الكنيسة وحيطانها وأرضها وأبوابها وكواؤها كلها وجميع ما فيها حجر واحد.

وفي المدينة كنائس منها أربع وعشرون كنيسة للخاصة وفيها كنائس لا تحصى للعامة.

وفي المدينة عشرة آلاف دير للرجال والنساء وحول سورها ثلاثون ألف عمود للرهبان.

وفيها اثنا عشر ألف زقاق يجري في كل زقاق منها نهران ، واحد للشرب والآخر للحشوش.

وفيها اثنا عشر ألف سوق ، في كل سوق قناة ماء عذب.

وأسواقها كلها مفروشة بالرخام الأبيض منصوبة على أعمدة النحاس مطبقة برفوف النحاس وفيها عشرون ألف سوق بعض هذه الأسواق صغار.

وفيها ستمائة ألف وستون ألف حمّام.

وليس يباع في هذه المدينة ولا يشترى من ست ساعات من يوم السبت حتى تغرب الشمس من يوم الأحد.

وفيها مجامع لمن يلتمس صنوف العلم من الطب والنجوم وغير ذلك ، يقال إنها مائة وعشرون موضعا.

وفيها كنيسة الأمم إلى جانبها قصر الملك وتسمى هذه الكنيسة صهيون ، بصهيون بيت المقدس ، طولها فرسخ في فرسخ وفي سمك مائتي ذراع ومساحة

١٩٥

هيكلها ستة أجربة ، والمذبح الذي يقدس عليه القربان من زبرجد أخضر طوله عشرون ذراعا في عرض عشرة أذرع يحمله عشرون تمثالا من ذهب طول كل تمثال ثلاثة أذرع ، أعينها يواقيت حمر ، وإذا قرّب على هذا المذبح قربان في الأعياد لا يطفأ إلّا يصاب.

وفي رومية من الثياب الفاخرة ما يليق به. وفي الكنيسة ألف ومائتا أسطوانة من المرمر الملمع ومثلها من النحاس المذهب ، طول كل أسطوانة خمسون ذراعا. وفي الهيكل ألف وأربعمائة وأربعون أسطوانة ، كل أسطوانة ستون ذراعا لكل أسطوانة رجل معروف من الأساقفة. وفي الكنيسة ألف ومائتا باب كبار من النحاس الأصفر المفرّغ وأربعون بابا كبارا من ذهب سوى أبواب الابنوس والعاج وغير ذلك. وفيها ألف باسليق طول كل باسليق أربعمائة وثمانية وعشرون ذراعا في عرض أربعين ذراعا ، لكل باسليق أربعمائة وثمانية وعشرون ذراعا ، لكل باسليق أربعمائة وأربعون عمودا من رخام مختلف ألوانه طول كل واحد ستة وثلاثون ذراعا.

وفيها أربعمائة قنطرة يحمل كل قنطرة عشرون عمودا من رخام.

وفيها مائة وثلاثون ألف سلسلة ذهب معلق في السقف ببكر ذهب تعلق فيها القناديل سوى القناديل التي تسرج يوم الأحد. وهذه القناديل تسرج يوم أعيادهم وبعض مواسمهم. وفيها الأساقفة ستمائة وثمانية عشر أسقفا. ومن الكهنة والشمامسة ممن يجري عليهم الرزق من الكنيسة دون غيرهم خمسون ألف ، كلما مات واحد أقاموا مكانه آخر.

وفي المدينة كنيسة الملك وفيها خزائنه التي فيها أواني الذهب والفضة مما قد جعل للمذبح ، وفيها عشرة آلاف جرة ذهب يقال لها الميزان ، وعشرة آلاف خوان ذهب وعشرة آلاف كأس وعشرة آلاف مروحة ذهب. ومن المنائر التي تدار حول المذبح سبعمائة منارة كلها ذهب ، وفيها من الصلبان التي تخرج يوم الشعانين ثلاثون ألف صليب ذهب ، ومن صلبان الحديد والنحاس المنقوشة المموهة بالذهب ما لا يحصى ، ومن المقطوريات عشرون ألف مقطورية وفيها ألف مقطرة

١٩٦

من ذهب يمشون بها أمام القرابين. ومن المصاحف الذهب والفضة عشرة آلاف مصحف. وللبيعة وحدها سبعة آلاف حمّام سوى غير ذلك من المستغلات.

ومجلس الملك المعروف بالبلاط يكون مساحته مائة جريب وخمسين جريبا ، والإيوان الذي فيه مائة ذراع في خمسين ذراعا ملبّس كله ذهبا. وقد مثّل في هذه الكنيسة مثال كل نبي منذ آدم عليه السلام إلى عيسى ابن مريم عليه السلام ، لا يشك الناظر إليهم أنهم أحياء. وفيها ثلاثة آلاف باب نحاس مموّه بالذهب ، وحول مجلس الملك مائة عمود مموّهة. بالذهب على كل واحد منها صنم من نحاس مفرّغ ، في يد كل صنم جرس مكتوب عليه ذكر أمّة من الأمم وجميعها طلسمات ، فإذا همّ بغزوها ملك من الملوك تحرك ذلك الصنم وحرك الجرس الذي في يده فيعلمون أن ملك تلك الأمة يريدهم فيأخذون حذرهم.

وحول الكنيسة حائطان من حجارة طولهما فرسخ وارتفاع كل واحد منهما مائة ذراع وعشرون ذراعا. لهما أربعة أبواب. وبين يدي الكنيسة صحن يكون خمسة أميال في مثلها في وسطه عمود من نحاس ارتفاعه خمسون ذراعا. وهذا كله قطعة واحدة مفرغة وفوقه تمثال طائر يقال له السوداني (١) ، من ذهب على صدره نقش طلسم وفي منقاره مثال زيتونه وفي كل عشرين واحدة من رجليه مثال ذلك. فإذا كان أوان الزيتون لم يبق طائر في الأرض إلّا وأتى وفي منقاره زيتونه وفي كل واحدة من رجليه زيتونة حتى يطرح ذلك على رأس الطلسم. فزيت أهل رومية وزيتونهم من ذلك. وهذا الطلسم عمله لهم بليناس صاحب الطلسمات. وهذا الصحن عليه أمناء وحفظة من قبل الملك ، وأبوابه مختومة ، فإذا امتلأ وذهب أصل الزيتون اجتمع الأمناء فعصروه فيعطى الملك والبطارقة ومن يجري مجراهم قسطهم من الزيت ويجعل الباقي للقناديل التي للبيع. وهذه القصة ـ أعني قصة السوداني ـ مشهورة قلما رأيت كتابا تذكر فيه عجائب البلاد إلّا وقد ذكرت فيه.

وقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : من عجائب الدنيا شجرة

__________________

(١) السودانية والسودانة : طائر من الطير الذي يأكل العنب والجراد (لسان العرب ، سود).

١٩٧

برومية من نحاس عليها صورة سودانية في منقارها زيتونة ، فإذا كان أوان الزيتون صفرت فوق الشجرة فيوافي كل طائر في الأرض من جنسها بثلاث زيتونات في منقاره ورجليه حتى يلقي ذلك على تلك الشجرة فيعصر أهل رومية ما يكفيهم لقناديل بيعتهم وأكلهم لجميع الحول.

وفي بعض كنائسهم نهر يدخل من خارج المدينة ، في هذا النهر من الضفادع والسلاحف والسراطين أمر عظيم. فعلى الموضع الذي تدخل منه الكنيسة صورة صنم من حجارة وفي يده حديدة معقفة كأنه يريد أن يتناول بها شيئا من الماء. فإذا انتهت إليه هذه الدواب المؤذية رجعت مصاعدة ، ولم يدخل الكنيسة منها شيء البتة.

١٩٨

القول في العراق

قال أبو عبيدة : سمّي العراق عراقا لأنه سفل على نجد ، ودنا من البحر ، كعراق القربة وهو الخرز المثنيّ الذي في أسفلها وهو الذي يضعه السقّاء في صدره وقال الأصمعيّ : ما دون الرمل عراق وقال المدائنيّ : عمل العراق من هيت إلى الصين والسند والهند ، ثم كذلك الريّ وخراسان ، والديلم وجيلان والجبال ، وإصبهان سرّة العراق ، ومن ولي العراق فقد ولي البصرة والكوفة والأهواز وفارس وكرمان والهند والسند وسجستان وطبرستان وجرجان. والعراق في الطول من عانة إلى البصرة ، والبصرة تتاخم الأهواز ، والأهواز تتاخم فارس ، وفارس تتاخم كرمان ، وكرمان تتاخم كابل ، وكابل تتاخم زرنج ، وزرنج تتاخم الهند.

وقال بعض أهل النظر : أهل العراق هم أهل عقول صحيحة ، وشهوات محمودة ، وشمائل موزونة ، وبراعة في كلّ صناعة ، مع اعتدال الأعضاء ، واستواء الأخلاط ، وسمرة الألوان ، وهي أعدلها وأقصدها ، وهم الذين أنضجتهم الأرحام ، فلم تخرجهم بين أشقر وأصهب وأمهق ومغرب ، وكالذي يعتري أرحام نساء الصقالبة وما ضارعها وصاقبها ، وهم الذين لم تتجاوز أرحام نسائهم في النضج إلى الإحراق ، فيخرج الولد بين أسود وحالك ومنتن الريح ذفر ومفلفل الشعر مختلف الأعضاء ناقص العقل فاسد الشهوة كالزنج والحبشان ومن أشبهها من السودان ، فهم بين فطير لم يختمر ونضيج قد احترق.

وقالوا : مناكحة الغرائب أنجب ، ومناكحة القرائب أضوى.

وقالوا : اغتبروا ولا تضووا. وقالوا : فارس أعقل والروم أعلم وللروم صناعات.

١٩٩

القول في الكوفة

قال قطرب : سميت الكوفة من قولهم : تكوّف الرمل أي ركب بعضه بعضا. والكوفان : الاستدارة. وقال أبو حاتم السجستاني : الكوفة رملة مستديرة ، يقال كأنهم في كوفان.

وقال المغيرة بن شعبة : أخبرنا الفرس الذين كانوا بالحيرة قالوا : رأينا قبل الإسلام في موضع الكوفة فيما بين الحيرة إلى النخيلة نارا تأجج. فإذا أتينا موضعها لم نر شيئا. فكتب في ذلك صاحب الحيرة إلى كسرى فكتب إليه أن أبعث إليّ من تربتها. قال : فأخذنا من حواليها ووسطها وبعثنا به إليه ، فأراه علماءه وكهنته فقالوا : يبنى في هذا الموضع قرية يكون على يدي أهلها هلاك الفرس. قال : فرأينا ـ والله ـ الكوفة في ذلك الموضع.

قالوا : وأول من اختط مسجد الكوفة سعد بن أبي وقاص.

وقال غيره : اختط الكوفة السائب بن الأقرع وأبو الهيّاج الأسدي.

وكانت العرب تقول : أولع البرّ لسانه في الريف. فما كان يلي الفرات فهو الملطاط ، وما كان يلي الطين فهو الخيف.

ويروى عن أمير المؤمنين أنه قال : الكوفة كنز الإيمان وجمجمة الإسلام وسيف الله ورمحه ، يضعه حيث يشاء. والذي نفسي بيده لينصرن الله جلّ وعزّ بأهلها في شرق الأرض وغربها كما انتصر بالحجاز.

وكان (عليه السلام) يقول : حبذا الكوفة ، أرض سهلة معروفة ، تعرفها جمالنا المعلوفة.

٢٠٠