البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

سالت له العين عين القطر فائضة

فيها عطاء جليل غير مصرود

وقال للجنّ ابنوا منه لي أثرا

يبقى إلى الحشر لا يبلى ولا يؤدي

فصيّروه صفاحا ثمّ ميل به

إلى السماء بأحكام وتجويد

وأفرغوا القطر فوق السور منحدرا

فصار صلبا شديدا مثل صيخود

وردّ فيها كنوز الأرض قاطبة

وسوف يظهر يوما غير محدود

لم تبق من بعدها في الملك شارفة

حتّى يضمّن رمسا بطن أخدود

وصار في قعر بطن الأرض مضطجعا

مضمّنا بطوابيق الجلاميد

هذا لتعلم أنّ الملك منقطع

إلا من الله ذي التّقوى وذي الجود

ثم سرت حتى وافيت البحيرة عند مغيب الشمس فإذا هي مقدار ميل في ميل ، وهي كثيرة الأمواج ، فنظرنا فإذا رجل قائم فناديناه من أنت؟ قال : أنا رجل من الجنّ ، وكان سليمان بن داود حبس والدي فوق الماء في (١) هذه البحيرة ، فأتيته لأنظر ما حاله ، قلنا : فما لك قائما فوق الماء؟ قال : سمعت صوتا فظننته صوت رجل يأتي هذه البحيرة في كل عام مرة فهذا أوان مجيئه. فيصلّي على شاطئ هذه البحيرة أيّاما ويهلّل الله ويمجده ، قلنا : فمن تظنّه؟ قال : أظنّه الخضر ، ثم غاب عنا ، فبتنا تلك الليلة على شاطئ البحيرة ، وقد كنت أخرجت معي عدّة من الغوّاصين ، فغاصوا في البحيرة فأخرجوا منها حبّا من صفر مطبّقا رأسه بصفر ، مسمورا بمسامير من صفر ، فأمرت بقلع الصفر فخرج منه رجل من صفر على فرس من صفر بيده مطرد من صفر ، فطار في الهواء وهو يقول : يا نبيّ الله لا أعود ، ثم غاصوا ثانية وثالثة فأخرجوا عدّة من أولئك ، ثم ضجّ أصحابي وخافوا أن ينقطع بهم الزاد ، فأمرت بالرحيل وانصرفت بالطريق الذي سلكته ، وأقبلت حتى نزلت القيروان ، وكتابي منها والحمد لله الذي حفظ لأمير المؤمنين أموره وسلّم له جنده والسلام. فلمّا قرأ عبد الملك بن مروان كتاب موسى بن نصير وكان عنده الزّهريّ قال : ما تظنّ بأولئك الذين صعدوا فوق السور كيف استطيروا؟ قال : أظنّهم خبلوا

__________________

(١) لدى ياقوت (ولدي).

١٤١

فاستطيروا لأن بتلك المدينة جفّا قد وكلوا بها. قال : فمن أولئك الذين خرجوا من الحباب ثم يطيرون؟ قال : أولئك مردة الجنّ الذين حبسهم سليمان بن داود (عليه السلام) في البحار.

[بيرة : جزيرة فيها اثنتا عشرة مدينة وملكها مسلم يقال له في هذا الوقت سودان بن يوسف ، وهي في أيدي المسلمين منذ دهر ، وأهلها يغزون الروم والروم يغزونهم ، ومنها يتوجه إلى القيروان] (١).

__________________

(١) عن ياقوت : ١ : ٧٨٧.

١٤٢

القول في الشام

قال : سمّيت الشام شاما لأنها شأمة للكعبة ، وقالوا : سمّيت لشامات بها حمر وسود ، وقال ابن الأعرابيّ : إذا جزت جبلي طيّء ـ يقال لأحدهما سلمى وللآخر أجأ ـ فقد أشأمت حتى تجوز غزّة ودمشق وفلسطين والأردنّ وقنسرين من عمل العراق. وقالوا : الشام من الكوفة إلى الرملة ، ومن بالس إلى أيلة. وقال عبد الله بن عمرو : قسم الخير عشرة أجزاء فجعل منها تسعة أعشار في الشام ، وجزء في سائر الأرضين. وقال وهب الذماريّ : إن الله جلّ وعزّ أوحى إلى الشام أني باركتك وقدّستك ، وجعلت فيك مقامي ، وإليك محشر خلقي ، فاتّسعي لهم كما يتّسع الرّحم ، إن وضع فيه اثنان وسعهما ، وإن وضع ثلاثة وسعهم ، وعيني عليك من أوّل السنين إلى آخر الدهر ، من عدم فيك المال لم يعدم فيك الخبز والزيت.

وروى جبير بن نفير الحضرميّ قال : شكت الشام إلى ربّها فقالت : يا ربّ فضّلت الأرضين عليّ بالجبال والأنهار وتركتني كظهر الحمار ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليها أن المسكين يشبع فيك ، وعيني عليك ويدي إليك ، وفي خبر آخر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الشام صفوة الله من بلاده ، وإليه يجتبي صفوته من عباده ، يا أهل اليمن عليكم بالشام فإن صفوة الله من الأرض الشام.

وقال الحجّاج لابن القرّيّة : أخبرني عن مكران. قال : ماؤها وشل ، وتمرها دقل ، وسهلها جبل ، ولصّها بطل ، إن كثر بها الجيش جاعوا ، وإن قلّوا ضاعوا. قال : فأخبرني عن خراسان. قال : ماؤها جامد ، وعدوّها جاهد ، وبأسهم شديد ، وشرّهم عنيد. قال : فأخبرني عن اليمن. قال : أرض العرب وأهل بيوتات

١٤٣

وحسب. قال : فأخبرني عن عمان. قال : حرّها شديد ، وصيدها عتيد ، وأهلها بهائم ، ليس بها رائم. قال : فأخبرني عن البحرين. قال : كناسة بين مصرين كثيرة جبالها ، جهلة رجالها. قال : فأخبرني عن مكّة. قال : رجالهم علماء ، وفيهم جفاء ، ونساؤها كساة عراة. قال : فأخبرني عن المدينة. قال : رسخ العلم فيها ثمّ علا وانتشر منها في الآفاق. قال : فأخبرني عن اليمامة. قال : أهل جفاء وجلد وثروة وعدد وصبر ونكر. قال : فأخبرني عن البصرة. قال : حرّها شديد ، وماؤها مالح ، وحربها صالح ، مأوى كلّ تاجر وطريق كل عابر. قال : فأخبرني عن واسط. قال : جنّة بين حماة وكنّة تحسدانها ، ودجلة والزاب يتباريان عليها. قال : فأخبرني عن الكوفة قال : سفلت عن برد الشام وارتفعت عن حرّ اليمن ، فطاب ليلها وكثر خيرها. قال : فأخبرني عن الشام. قال : عروس في نسوة جلوس كلّهن يزفنها ويرفدنها.

وقال عديّ بن كعب في قوله : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) قال : الشام.

١٤٤

القول في بيت المقدس

قال في قول الله عزّ وجلّ : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) قال : بيت المقدس. وقال مقاتل بن سليمان في قول الله تعالى (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) قال : هي بيت المقدس. وقوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) قال : إلى بيت المقدس. وقوله : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) قال : بيت المقدس. وشدّد الله عزّ وجلّ ملك داود بها ، وسخّر الله له الجبال والطير يسبّحن ببيت المقدس ، ووهب الله عزّ وجلّ له سليمان بها ، وغفر لسليمان ذنبه ، وفهّمه الحكمة في بيت المقدس ، وكانت أنبياء بني إسرائيل تقرّب بها ، واصطفى الله عزّ وجلّ مريم بها على نساء العالمين ، وآتى الله عزّ وجلّ يحيى الحكمة بها ، وسرّة الأرض بيت المقدس. وفي الخبر : من صلّى في بيت المقدس فكأنّما صلّى في السماء ، وتزفّ الكعبة بجميع حجّاجها يوم القيامة إلى بيت المقدس ، ويقول لها : مرحبا بالزائر والمزور ، وتزفّ مساجد الله عزّ وجلّ كلّها إلى البيت المقدس ، وأوّل ما انحسر عنه الطوفان صخرة بيت المقدس ، وينفخ في الصور يوم القيامة بها ، ويحشر الله عزّ وجلّ الخلائق إليها ، وتزفّ الجنّة عند بيت المقدس ، وباب السماء مفتوح على بيت المقدس ، ويغفر الله عزّ وجلّ لمن أتى إلى بيت المقدس ، ويخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه. قال الله عزّ وجلّ لموسى : انطلق إلى بيت المقدس فإنّ بها نوري ، وناري. وتكفّل الله عزّ وجلّ لمن أتاها أن لا يفوته الرزق. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا : ستهاجرون هجرة إلى مهاجر إبراهيم ـ يعني بيت المقدس ـ فمن صلّى في بيت المقدس ركعتين خرج من ذنوبه مثل يوم ولدته أمّه ، وكان له بكلّ شعرة في جسده مائة نور عند الله عزّ وجلّ ، وحشره الله عزّ وجلّ يوم القيامة مع الأنبياء. وقال لسليمان بن

١٤٥

داود حين فرغ من بنائها. سلني أعطك قال : يا ربّ أسألك أن تغفر لي ذنبي. قال الله عزّ وجلّ : لك ذلك. قال : يا ربّ وأسألك من جاء إلى هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه أن تخرجه من ذنوبه كيوم ولدته أمّه. قال جلّ وعزّ : ولك ذلك. قال : وأسألك من جاءه فقيرا أن تغنيه ، أو سقيما أن تشفيه. قال : ذلك لك. قال : وأسألك أن تكون عينك عليها إلى يوم القيامة. قال : ولك ذلك.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تشدّ الرحال إلى أفضل من ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجدي ومسجد بيت المقدس ، وصلاة في بيت المقدس خير من ألف صلاة في سواه ، ومن صبر على لأوائها وشدّتها جاءه الله برزقه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن يساره ومن فوقه ومن تحته فأكل رغدا ثم دخل الجنّة ، وهي أوّل أرض بارك الله جلّ وعزّ فيها ، وبشّر الله عزّ وجلّ إبراهيم وسارة بإسحاق بها ، وبشّر الله جلّ وعزّ زكريّاء بيحيى بها ، وتسوّر الملائكة المحراب على داود بها ، ويمنع الدجّال عدوّ الله أن يدخلها ، ويهلك يأجوج ومأجوج حول بيت المقدس ، وأوصى آدم أن يدفن بها ، إسحاق ويعقوب ، وحمل يعقوب من أرض مصر إليها ، ودفنت مريم بها ، وبها موضع الصراط ووادي جهنّم والسّكينة ، وإليها المحشر والمنشر ، وتاب الله جلّ وعزّ على داود بها ، وصدّق إبراهيم الرؤيا بها ، وكلّم عيسى الناس في المهد بها ، وتقاد الجنّة والنار إليها يوم القيامة.

وقال كعب : من زار بيت المقدس دخل الجنّة وزاره جميع الأنبياء وغبطوه ومن صام يوما ببيت المقدس كان له براءة من النار ، وما من ماء عذب إلّا يخرج من تحت الصخرة التي بيت المقدس. وقال ابن عبّاس في قوله (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) قال : أربعة أنهار : سيحان وجيحان والفرات والنيل الذي بمصر ، فأما سيحان فدجلة ، وأما جيحان فنهر بلخ ، وأما الفرات فبالكوفة قال.

وقال كعب : كان لسليمان بن داود النبي صلى الله عليه وسلم سبع مائة سرّيّة وثلاث مائة محصنة (١) ، وأن الله عزّ وجلّ أوحى إليه أن يبني بيت المقدس فكان يعمله بالجنّ

__________________

(١) في العهد القديم (الملوك الأول ١١ : ٣) (وكان له سبعمائة زوجة وثلاثمائة سرّية).

١٤٦

والأنس ، فكان طعامهم الذي يطعمهم كلّ يوم من اللحم ستّين ألف شاة وعشرين ألف عجل وعشرين ألف فدّان ، والذي يصلح لذلك من الحنطة.

وقال كعب : هبط آدم بالهند فخرّ ساجدا ، فوقعت جبهته على صخرة بيت المقدس.

وقال كعب : لا تسمّوها إيلياء ولكنها بيت المقدس ، إنما إيلياء امرأة بنت بيت المقدس.

وقال كعب : من أتى بيت المقدس يسأل الله عزّ وجلّ فيها حاجة لا يسأله غيرها إلّا أعطاه الله إيّاها وقالت ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفتنا عن بيت المقدس. قال : نعم المصلّى ، هو أرض المحشر وأرض المنشر ايتوه فصلّوا فيه ، فإنّ الصلاة فيه كألف صلاة. قلت : بأبي وأمي أنت من لم يطق أن يأتيه؟ قال : فليهد إليه زيتا يسرج فيه. فإنه من أهدى إليه كان كمن صلّى فيه. وقال كعب : دخلت امرأة الجنّة في مغزل شعر أهدته إلى بيت المقدس.

وعن ابن عبّاس قال : بيت المقدس بنته الأنبياء وعمرته الأنبياء ، ما فيه موضع شبر إلّا وقد صلّى فيه نبيّ وقام عليه ملك.

وقال فضيل بن عياض : لمّا صرفت القبلة نحو الكعبة قالت صخرة بيت المقدس : إلهي لم أزل قبلة لعبادك حتى بعثت خير خلقك فصرفت قبلتهم عني ، فقال : أبشري فإني واضع عليك عرشي ، وحاشر إليك خلقي ، وقاض عليك أمري وناشر منك خلقي.

وقال وهب : أهل بيت المقدس جيران الله عزّ وجلّ ، وحقّ على الله ألا يعذّب جيرانه.

وقال كعب : من زار بيت المقدس شوقا إليها دخل الجنّة ، ومن صلّى فيه ركعتين خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه ، وأعطي قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا ، ومن تصدّق فيها بدرهم كان فداءه من النار ، ومن صام فيها يوما واحدا كتبت له براءة من النار.

١٤٧

وقال كعب : قرأت في التورية أن الله جلّ وعزّ يقول للصخرة : أنت عرشي الأدنى ، منك ارتفعت إلى السماء ، ومن تحتك بسطت الأرض ، ومن أحبّك أحبّني ومن أبغضك أبغضني ومن مات فيك فكأنّما مات في السماء. أنا جاعل لمن يسكنك أن لا يفوته الخبز والزيت أيّام حياته وكلّ ماء عذب من تحتك يخرج ، لا تذهب الأيّام حتى يزفّ إليك البيت الحرام. وكلّ بيت يذكر فيه اسمي ، يحفّون بك كما يحفّ الركب بالعروس.

وقال بعضهم : ردّ الله جلّ وعزّ على سليمان ملكه بعسقلان ، فمشى إلى بيت المقدس على قدميه تواضعا لله وشكرا ، ويقول الله عزّ وجلّ لبيت المقدس : أنت نصب عيني لا أنساك ، أنت مني بمنزلة الولد من والديه ، فيك جنّتي وناري ، وإليك محشري ، وفيك موضع ميزاني.

وقال يحيى بن كثير : لا تقوم الساعة حتى يضرب على بيت المقدس سبع حيطان : حائط من ذهب ، وحائط من فضّة ، وحائط من لؤلؤ ، وحائط من ياقوت ، وحائط من زبرجد ، وحائط من نور.

وبيت المقدس افتتحه عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه).

وعن وهب بن منبّه قال : أمر إسحاق ابنه يعقوب ألّا ينكح امرأة من الكنعانيّين ، وأن ينكح من بنات خاله لابان ، وكان مسكنه الفدان (١) ، فتوجّه إليه يعقوب فأدركه في بعض الطريق تعب ، فبات متوسّدا حجرا ، فرأى فيما يرى النائم كأنّ سلّما منصوبا إلى باب السماء عند رأسه ، والملائكة تنزل منه وتعرج فيه ، وأوحى الله عزّ وجلّ إليه أنّي أنا الله لا إله إلّا أنا إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، وقد ورّثتك هذه الأرض المقدّسة وذرّيّتك من بعدك ، وباركت فيك وفيهم ، وجعلت فيكم الكتاب والحكم والنبوّة ، ثم أنا معك حتى أردّك إلى هذا المكان ، فأجعله بيتا تعبدني فيه وذرّيّتك ، فيقال : إن ذلك بيت المقدس ، ومات عنه داود (عليه السلام) فلم يتمّ بناءه ، وأتمّه سليمان ، فأخرجه

__________________

(١) في التكوين ٢٨ : ٢ فدان آرام وتقع فيما بين النهرين.

١٤٨

بخت نصّر ، فمرّ عليه شعيا فرآه خرابا فقال : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) وابتناه ملك من ملوك فارس يقال له كوشك.

وقال وهب بن منبّه : لمّا أراد الله جلّ وعزّ أن يبني بيت المقدس ألقى على لسان داود فقال : يا ربّ ما هذا البيت؟ فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : يا داود هذا محلّة رسلي. وأهل مناجاتي ، وأقرب الأرض إلى فصل القضاء يوم القيامة ، ضمنت ألّا يأتيه عبد كثرت ذنوبه وخطاياه إلّا غفرت له ، ولا يستغفرني إلا غفرت له وتبت عليه ، قال : يا ربّ وارزقني أن آتية. فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : يا داود لا يخالط من التبست كفّاه بالدنيا. قال : يا ربّ أما قبلت توبتي وأعطيتني رضائي ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه : أن البيت طاهر طهّرته من الذنوب ، وغسلته من الخطايا ، فلذلك منعتك بناءه حتى يجرى بناؤه على يدي نبيّ من أنبيائي تقي الكفّين ، وقد كان داود أسّس أساس المسجد حتى ارتفعت الجدر ، فأوحى الله جلّ وعزّ إليه يأمره أن يمسك عن البناء ، ويعلمه أن الذي يتولّى بناءه من بعده ابنه سليمان وأنه قد جعل له اسم ذلك البناء وبشّره بما يعطي سليمان بعده من عظيم الملك ، فلمّا أوحى الله جلّ وعزّ إلى داود بذلك أمسك عن البناء ، فلمّا توفّي داود وملك سليمان أمر ببناء البيت ، وأمر أن يجري في كل سنة من البر عشرون ألف كرّ ، ومن الزيت عشرون ألف كرّ زيتون ، وكان له سبعون ألف رجل أصحاب مساح ومرور ، وثمانون ألف رجل ممن ينحت الحجارة ، فبناه بالحجارة ، وبطّنه بألواح من خشب مزخرف ، وبطّن البيت الذي كان يقرّب فيه بصفائح من ذهب ، ووضع في البيت الذي كان يقرّب فيه مثال ملكين من خشب منقوشين ، وألبسهما صفائح الذهب ، وجعلها عن يمين المذبح وعن يساره في الحائط ، واتّخذ له أبوابا منقوشة بالذهب ، واستتمّ عمله في ثلاث عشرة سنة ، ثم وجّه إلى الصين فأتي برجل يعمل الشبه والنحاس ، فاتّخذ أمتعة للبيت لا تحصى عددا ، واتّخذ عمودين من نحاس ، طول كلّ واحد ثمانية عشر ذراعا في غلظ اثني عشر ذراعا ، واتخذ على رأسهما إجّانتين كل واحدة في طول خمسة أذرع ، واتّخذ لهما أغطية وسلاسل ، وعلّق فيهما أربع مائة رمّانة شبه صفّين ، يقابل بعضها بعضا ، واتّخذ حوضا من نحاس ، يحمله اثنا عشر ثورا

١٤٩

مستديرا مع تماثيل وعجائب ، وفصّص سقوفه وحيطانه بألوان الياقوت وسائر الجواهر ، فلمّا فرغ من بنائه اتّخذ سليمان ذلك اليوم عيدا في كلّ سنة ، وجمع عظماء بني إسرائيل وأحبارهم فأعلمهم أنه بناه لله جلّ وعزّ ، وأن كلّ شيء فيه خالص لله ، ثم قام على الصخرة رافعا يديه إلى الله جلّ وعزّ وحمده ومجّده وقال : اللهمّ أنت قوّيتني على بناء هذا المسجد ، وأعنتني عليه ، وسخّرت لي الجنّ والشياطين والريح والطير ، اللهمّ أوزعني شكر نعمتك عليّ وعبادتك وأعنّي ، وتوفّني على ملّتك ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لي ذلك ، اللهمّ إني أسألك لمن دخل هذا المسجد خمس خصال فاستجبها لي يا إله العالمين ، لا يطلبه مذنب بطلب التوبة إلّا غفرت له ذنبه وتبت عليه ، ولا يدخله خائف إلّا أمّنت روعته وخوفه ووقّيته شرّ ما يخاف ويحذر ، ولا يدخله سقيم إلّا وهبت له الشفاء والعافية ، ولا يدخله فقير يطلب من فضلك إلّا أغنيته ورزقته من حيث لا يحتسب من حلال رزقك ، والخامسة يا ربّ لا تصرف بصرك عمن يدخله حتى يخرج منه إلّا من أراد إلحادا وظلما يا ربّ العالمين.

ويقال : إن طول مسجد بيت المقدس ألف ذراع وعرضه سبع مائة ذراع ، وفيه أربعة آلاف خشبة ، وسبع مائة عمود ، وخمس مائة سلسلة نحاس ، ويسرج فيه كلّ ليلة ألف وستّمائة قنديل ، وفيه من الخدم مائة وأربعون خادما ، وفي كل شهر له مائة قسط زيت ، وله من الحصر في كلّ سنة ثمان مائة ألف ذراع ، وفيه خمسة وعشرون ألف حبّ للماء ، وفيه ستّة عشر تابوتاً للمصاحف المسبّلة ، وفيها مصاحف لا يستقلّها الرجل ، وفيه أربعة (١) منابر للمطوّعة وواحد للمرتزقة ، وله أربع (٢) مياضئ ، وعلى سطوح المسجد مكان الطين خمس (٣) وأربعون ألف صحيفة رصاص ، وعلى يمين المحراب بلاطة سوداء مكتوب فيها خلقة محمّد صلى الله عليه وسلم ، وفي ظهر القبلة في حجر أبيض كتابة بسم الله الرحمن الرحيم محمّد رسول

__________________

(١) في الأصل : أربع.

(٢) في الأصل أربعة.

(٣) في الأصل : خمسة.

١٥٠

الله نصره حمزة وداخل المسجد ثلاث مقاصير للنساء طول كل مقصورة سبعون ذراعا ، وفيه خمسون بابا داخلا وخارجا ، ووسط المسجد دكّان طوله ثلاثمائة ذراع في خمسين ومائة ذراع وارتفاعه تسعة أذرع ، وله ستّ درجات إلى الصخرة ، والصخرة وسط هذا الدكّان وهي مائة ذراع في مائة ذراع ارتفاعها سبعون ذراعا ودورها ثلاثمائة وستّون ذراعا ، يسرج فيها كلّ ليلة ثلاثمائة قنديل ، وبها أربعة أبواب مطبّقة ، على كل باب أربعة أبواب ، وعلى كل باب دكّانة مرخّمة ، وحجر الصخرة ثلاثة وثلاثون ذراعا في سبعة وعشرين ذراعا ، تحتها مغارة يصلّي فيها الناس يسعها تسعة وستّون نفسا ، وفرش القبّة رخام أبيض ، وسقوفها بالذهب الأحمر ، في دور حيطانها وفي أعلاها ستّة وخمسون بابا مزجّجة بأنواع الزجاج ، والباب ستّة أذرع في ستّة أشبار ، والقبّة بناها عبد الملك بن مروان على اثني عشر ركنا وثلاثين عمودا ، وهي قبّة على قبّة ، عليها صفائح الرصاص وصفائح النحاس مذهّبة ، جدرها من داخل وخارج ملبّس بالرخام الأبيض ومن شرقيّ قبّة الصخرة قبّة السلسلة على عشرين عمودا رخاما ، ملبّسة بصفائح الرصاص ، وأمامها مصلّى الخضر (عليه السلام) وهو وسط المسجد ، وفي الشامي قبّة النبي صلى الله عليه وسلم ومقام جبريل (عليه السلام) ، وعند الصخرة قبّة المعراج ، وفيه من الأبواب : باب داود ، وباب حطّة ، وباب النبيّ ، وباب التوبة ـ وفيه محراب مريم ـ وباب الوادي ، وباب الرحمة ، ومحراب زكريّاء ، وأبواب الأسباط ، ومغارة إبراهيم ، ومحراب يعقوب ، وباب دار أمّ خالد ، ومن خارج المسجد على باب المدينة في الغرب محراب داود ، ومربط البراق في ركن منارة القبلة ، وعين سلوان في قبلة المسجد ، وطور زيتا (١) مشرف على المسجد ، وفيما بينهما وادي جهنّم ، ومنه رفع عيسى (عليه

__________________

(١) طور زيتا : نرجح انه جبل الزيتون الواقع إلى الجنوب الشرقي من أورشليم ويلتقي بوادي جهنم (وادي ابن هنّوم) جنوب أورشليم. وعليه فإن القادم من الشرق سيشرف على المسجد الأقصى إذا جاءه من جهة جبل الزيتون (يبلغ ارتفاعه ٢٦٨٢ قدما فوق سطح البحر). عن هذه المواقع انظر : مفصل العرب واليهود ص ٧٢٤ وهامش كتب التاريخ من العهد القديم (ط دار المشرق) ص ٨١٤ تعليقا على ما ورد في سفر الأخبار الثاني ٢٨ : ٣.

١٥١

السلام) ، وعليه ينصب الصراط ، وفيه مصلّى عمر بن الخطّاب ، وفيه قبور الأنبياء ، وبيت لحم على فرسخ من المدينة ، وهو موضع ولد فيه عيسى ، ومسجد إبراهيم على خمسة عشر ميلا ، وفيه قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويوسف وسارة ونعل النبيّ صلى الله عليه وسلم عند الإمام.

وكانت سلسلة قضاء الخصوم من اتّخاذ سليمان ، وكان ممّا اتّخذ أيضا ببيت المقدس من الأعاجيب أن نصب في زاوية من زوايا المسجد عصا ابنوس ، فكان من مسّها من أولاد الأنبياء لم يضرّه مسّها ومن مسّها من غيرهم احترقت يده ، فلم يزل كذلك على ما بناه سليمان حتى غزا بخت نصّر ، فخرّب بيت المقدس ، ونقض المسجد ، وأخذ ما كان في سقوفه من الذهب والفضّة والجواهر ، فحمله معه إلى دار مملكته بالعراق ، وبقي بيت المقدس خرابا حتى مرّ به شعيا النبيّ ورآه خرابا ، وهو الذي قال الله عزّ وجلّ (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) وابتناه بعد ذلك ملك من ملوك فارس يقال له كوشك (١).

وبين بيت المقدس والرّملة ثمانية عشر ميلا ، وهي من كورة فلسطين ، وكانت دار ملك داود وسليمان ورحبعم بن سليمان وولد سليمان ، ولمّا ملك الوليد بن عبد الملك ولّى سليمان بن عبد الملك جند فلسطين ، فنزل لدّا ثم أحدث مدينة الرملة ومصرها ، وكان أوّل ما بنى فيها قصره ، والدار التي تعرف بدار الصبّاغين ، وجعل في الدار صهريجا متوسّطا لها ، ثم اختطّ المسجد وبناه ، وأذن للناس في البناء فبنوا ، واحتفر لأهل الرملة قناتهم التي تدعى برده ، واحتفر أيضا آبارا عذبة ، وولّى النفقة على بنائه بالرملة ومسجد الجامع كاتبا له نصرانيّا من أهل لدّ يقال له البطريق بن بكا ، ولم تكن مدينة الرملة قبل سليمان ، وكان موضعها رملة وصارت دار الصبّاغين لورثه صالح بن عليّ بن عبد الله بن عبّاس ، لأنها قبضت عن بني أميّة ، وكانت بنو أميّة تنفق على آبار الرملة وقناتها بعد سليمان بن

__________________

(١) هو الملك الفارسي كورش الذي استولى على بابل عام ٥٣٩ ق. م. ثم سمح عام ٥٣٨ ق. م. لليهود الذين سباهم نبوخذ نصر إلى بابل بالعودة إلى أورشليم وإعادة بناء الهيكل الذي هدمه نبوخذ نصر.

١٥٢

عبد الملك ، فلمّا استخلف أبو العبّاس أنفق عليها ، ثم كان ينفق خليفة بعد خليفة ، فلمّا استخلف المعتصم بالله سجلّ بتلك النفقة سجلا فانقطع الاستئمار وصارت جارية يحتسب بها العمّال فتحسب لهم.

ومن كور فلسطين أيضا عمواس ، وكورة لدّ ، وكورة يبنا ، وكورة يافا ، وكورة قيساريّة ، وكورة نابلس ، وكورة سبسطية ، وكورة بيت جبرين ، وكورة غزّة ، وعسقلان ، وسمّيت فلسطين بفيلسين بن كسلوخيم بن صدقيا ابن كنعان بن حام بن نوح النبي (عليه السلام) وقال ابن الكلبيّ في قول الله عزّ وجلّ (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قال : هي فلسطين وفي قوله (الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) قال : فلسطين.

وفلسطين بلاد واسعة كثيرة الخير ، ويقال : إنها من بناء اليونانيّين ، والزيتون التي بها من غرسهم.

وقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : «أبشركم بالعروسين غزّة وعسقلان».

وقال عمر بن الخطاب : لولا أن تعطّل الثغور وتضيق عسقلان بأهلها لأخبرتكم بما فيها من الفضل.

وقال عبد الله بن سلام : لكلّ شيء سراة وسراة الشام عسقلان.

وافتتحها معاوية في خلافة عمر بن الخطّاب.

وعن ابن عبّاس قال : جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال : يا رسول الله إني أريد العراق ، فقال (صلى الله عليه وسلم) : عليك بالشام ، فإن الله جلّ وعزّ قد تكفّل لي بالشام وأهله ، ثم الزم من الشام عسقلان ، فإنه إذا دارت الرحا في أمّتي كان أهل عسقلان في راحة وعافية.

وقال أبو أمامة الباهليّ : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : من رابط بعسقلان يوما وليلة ثم مات بعد ذلك بستّين سنة مات شهيدا ، ولو مات في أرض الشرك.

وخراج فلسطين خمس مائة ألف دينار.

١٥٣

[وكان منزل نوح عليه السلام في جبل الجليل بالقرب من حمص في قرية تدعى سحر ، ويقال إن بها فار التنور. وجبل الجليل بالقرب من دمشق أيضا. يقال إن عيسى عليه السلام دعا لهذا الجبل أن لا يعدو سبعه ولا يجرب زرعه ، وهو جبل يقبل من الحجاز فما كان بفلسطين منه فهو جبل الحمل وما كان بالأردن فهو جبل الجليل ، وهو بدمشق لبنان وبحمص سنير ، وقال أبو قيس بن الأسلت :

فلو لا ربنا كنّا يهودا

وما دين اليهود بذي شكول

ولولا ربنا كنا نصارى

مع الرهبان في جبل الجليل

ولكنا خلقنا إذ خلقنا

حنيف ديننا عن كل جيل] (١)

__________________

(١) عن معجم البلدان ٢ : ١١٠.

١٥٤

القول في دمشق

قال الكلبيّ : دمشق بناها دمشق بن فالي بن مالك بن أرفخشذ بن سام بن نوح. وقال الأصمعيّ : أخذت دمشق من دمشقوها أي أسرعوها. وقال كعب في قول الله عزّ وجلّ : (وَالتِّينِ) قال : الجبل الذي عليه دمشق (وَالزَّيْتُونَ) قال : الذي عليه بيت المقدس (وَطُورِ سِينِينَ) حيث كلّم الله موسى (عليه السلام) (وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) مكّة.

وقال كعب : مربض ثور في دمشق خير من دار عظيمة بحمص. قال في قوله عزّ وجلّ : (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) قال : دمشق. وقال كعب : معقل المسلمين من الملاحم دمشق ، ومعقلهم من الدجّال نهر أبي فطرس ، ومن يأجوج ومأجوج الطور.

وقال هارون الرشيد للحسين بن عمّار : ولّيتك دمشق وهي جنّة تحيط بها غدر تتكفّأ أمواجها على رياض كالدراريّ ، فما برح بك التعدّي لإرفاقهم أن جعلتها أجرد من الصخر ، وأوحش من القفر. قال : والله يا أمير المؤمنين ما قصدت لغير التوفيق من جهته ، ولكنّي رأيت أقواما ثقل الحقّ على أعناقهم فتفرّقوا في ميادين التعدّي ورأوا المراغمة بترك العمارة أوقع بإضرار السلطان ، وأرادوا بذلك المشقّة على الولاة ، وإن سخط أمير المؤمنين فقد أخذ بالحظّ الأوفر من مساءتي. فقال الرشيد : هذا أجزل كلام سمع من خائف.

وقال الأصمعيّ : جنان الدنيا ثلاث : غوطة دمشق ، ونهر بلخ ، ونهر الأبلّة. وحشوش الدنيا ثلاثة : الأبلّة ، وسيراف ، وعمان.

١٥٥

وقال : عروسا الدنيا : الرّيّ ودمشق.

وقال يحيى بن أكثم : ليس في الأرض بقعة أنزه من ثلاث بقاع : قهندز سمرقند ، وغوطة دمشق ، ونهر الأبلّة.

وقال المدائنيّ : دمشق مدينتها الغوطة ، وكورها : إقليم سنير وكورة جبيل ، وبيروت ، وصيدا ، وبثنيّة ، وحوران ، وجولان ، وظاهر البلقاء ، وجبرين الغور ، وكورة مآب ، وكورة جبال ، وكورة الشّراة ، وبصرى ، وعمّان ، والجابية ، والقريتان ، والحولة ، والبقاع ، والسواحل منها ستّة : صيدا ، وبيروت ، وأطرابلس ، وعرقة ، وصور ، منبرها إلى دمشق وخراجها إلى الأردنّ ، وخراج دمشق أربع مائة ألف ونيّف ، ودمشق هي أربعة أخماس صلح وخمس عنوة وهو خمس خالد بن الوليد ، وفتحت سنة ١٤ ، في رجب للنصف منه في خلافة عمر بن الخطّاب. وقال البحتريّ في دمشق :

أمّا دمشق فقد أبدت محاسنها

وقد وفى لك مطريها بما وعدا

إذا أردت ملأت العين من بلد

مستحسن وزمان يشبه البلدا

تمسي السّحاب على أجبالها فرقا

ويصبح النّور في صحرائها بددا

فلست تبصر إلّا واكفا خضلا

ويانعا خضرا أو طائرا غردا

كأنّما القيظ ولّى بعد جيئته

أو الرّبيع دنا من بعد ما بعدا

وقال أبو تمّام :

لولا حدائقها وأنّي لا أرى

عرشا هناك ظننتها بلقيسا

وأرى الزّمان غدا عليك بوجهه

جذلان بسّاما وكان عبوسا

قد نوّرت تلك البطون وقدست

تلك الظهور بقربه تقديسا

وقالوا : عجائب الدنيا أربع (١) : قنطرة سنجة ، ومنارة الإسكندريّة ، وكنيسة

__________________

(١) في الأصل : أربعة.

١٥٦

الرّها ، ومسجد دمشق. ولمدينة دمشق ستّة أبواب : باب الجابية ، وباب الصغير ، وباب كيسان ، وباب الشرقيّ ، وباب توما ، وباب الفراديس ، هذه التي كانت على عهد الروم ولمّا أراد الوليد بن عبد الملك بناء مسجد دمشق دعا نصارى دمشق فقال : إنّا نريد أن نزيد في مسجدنا كنيستكم هذه ، ونعطيكم موضع كنيسة حيث شئتم ، فحذّروه ذلك وقالوا : إنّا نجد في كتبنا أنه لا يهدمها أحد إلّا خنق ، فقال الوليد : فأنا أوّل من يهدمها. فقام عليها وعليه قباء أصفر فهدمها بيده وهدم الناس معه ، ثم زاد في المسجد. فلمّا هدمها كتب إليه ملك الروم أنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها. فإن كان حقّا ما عملت فقد أخطأ أبوك ، وإن كان باطلا فقد خالفت أباك ، فلم يعرف الوليد جوابا فاستشار الناس وكتب إلى العراق فقال الفرزدق : أجبه يا أمير المؤمنين بقول الله جلّ وعزّ : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) ـ الآية إلى قوله ـ (حُكْماً وَعِلْماً) فكتب إليه الوليد بذلك فلم يجبه.

والوليد (١) ممّن زاد في المساجد وبناها ، فبنى المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، ومسجد قبا ، ومسجد دمشق ، وأوّل من حفر المياه في طريق مكّة إلى الشام ، وأوّل من عمل البيمارستانات للمرضى ، وكان في ذلك أنه خرج حاجّا فمرّ بمسجد النبيّ (صلى الله عليه وسلم) فدخله فرأى بيتا ظاعنا في المسجد شارعا بابه فقال : ما بال هذا البيت؟ فقيل : هذا بيت عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) أقرّه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وردم سائر أبواب أصحابه فقال : إن رجلا نلعنه على منابرنا في كلّ جمعة ثم نقرّ بابه ظاعنا في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من بين الأبواب ، اهدم يا غلام. فقال روح بن زنباع الجذاميّ : لا تفعل يا أمير المؤمنين حتى تقدم الشام ، ثم تخرج أمرك بتوسيع مساجد الأمصار مثل : مكّة ، والمدينة ، وبيت المقدس ، وتبني بدمشق مسجدا فيدخل هدم بيت عليّ بن أبي طالب فيما يوسّع من مسجد المدينة. فقبل منه وقدم الشام وأخذ في بناء مسجد دمشق ، وأنفق عليه خراج المملكة سبع سنين. ليكون ذكرا له ، وفرغ من المسجد في ثماني سنين ، فلمّا

__________________

(١) هو الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان حكم من (٨٦ ـ ٩٦ ه‍ ـ).

١٥٧

حمل إليه حساب نفقات مسجد دمشق على ثمانية عشر بعيرا أمر بإحراقها.

قال في كتاب (المسالك والممالك) (١) : أنفق على مسجد دمشق خراج الدنيا ثلاث مرّات ، وبلغ ثمن البقل الذي أكله الصنّاع في مدّة أيّام العمل ستّة آلاف دينار ، وهذا المسجد مقعد عشرين ألف رجل ، وأن فيه ستّمائة سلسلة ذهب للقناديل.

قال زيد بن واقد : وكّلني الوليد على العمّال بمسجد دمشق فوجدنا فيه مغارة فعرّفنا الوليد ذاك ، فنزل في الليل فإذا هي كنيسة لطيفة ، ثلاثة أذرع في مثلها ، وإذا فيها صندوق ، وفيه سفط مكتوب عليه هذا رأس يحيى بن زكريّاء ، فرأيناه فأمر به الوليد أن يجعل تحت عمود معيّن ، فجعل تحت العمود المسقّط الرابع الشرقيّ ويعرف بعمود السكاسك ، وقال أبو مهران رأس يحيى بن زكريّاء تحت عمود السكاسك ، وقال زيد أيضا : رأيت رأس يحيى بن زكريّاء حين وضع تحت العمود والبشرة والشعرة لم تتغيّر.

قالوا : فمن عجائب مسجد دمشق أن لو بقي الرجل فيها مائة سنة لكان يرى فيها في كلّ وقت أعجوبة لم يرها قبل.

وقال كعب : ليبنينّ في دمشق مسجد يبقي بعد خراب الأرض أربعين عاما والمئذنة التي بدمشق كانت ناطمرا للروم في كنيسة يحيى ، فلمّا هدم الوليد الكنائس وأدخلها المسجد تركت على حالها ، وهدم الوليد عشر كنائس واتّخذها مسجدا ، ولمّا ولّي عمر بن عبد العزيز الخلافة قال : إني أرى في مسجد دمشق أموالا أنفقت في غير حقّها ، فأنا مستدرك ما استدركت منها ، ورادّها إلى بيت المال ، أنزع هذا الرخام والفسيفساء وأطيّنه ، وأنزع هذه السلاسل وأصيّر بدله حبالا ، فاشتدّ ذلك على أهل دمشق فخرج أشرافها إليه وكان فيهم يزيد بن سمعان وخالد بن عبد الله القسريّ ، فقال خالد لهم : دعوني والكلام ، قالوا : تكلّم ، فلمّا

__________________

(١) إن كان المقصود ب (والمسالك والممالك) كتاب ابن خرداذبه فهذا النص غير موجود فيه. اللهم ألّا أن تكون هناك نسخة أوسع من هذا الكتاب نقل عنها ابن الفقيه.

١٥٨

دخلوا عليه قال له خالد : بلغنا أنك هممت بمسجدنا بكذا وكذا. قال : نعم. قال : والله ما ذلك لك. قال : فلمن ذلك لأمّك الكافرة؟ وكانت أمّه نصرانيّة. فقال : إن تك كافرة ولدت مؤمنا ، فاستحيى عمرو قال : صدقت. وورد على عمر رسل الروم فدخلوا مسجد دمشق لينظروا إليها فرفعوا رؤوسهم إلى المسجد ، فنكّس رئيس منهم رأسه واصفرّ لونه فقالوا له في ذلك فقال : إنّا كنا معاشر أهل روميّة نتحدّث أن بقاء العرب قليل ، فلمّا رأيت ما بنوا علمت أن لهم مدّة سيبلغونها ، فأخبر عمر بذلك فقال : أرى مسجدكم هذا غيظا على الكفّار ، فترك ما همّ به من أمر المسجد.

والمسجد مبنيّ بالرخام والفسيفساء ، مسقّف بالساج ، منقوش باللازورد والذهب ، والمحراب مرصّع بالجواهر المثمّنة ، والحجارة العجيبة.

وبنى معاوية الخضراء بدمشق في زمن عثمان بن عفّان ، وأمر على الشام وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، واستخلف وهو ابن ثمان وخمسين سنة ، وتوفي لثمان وسبعين سنة ، وهو أوّل من اتّخذ المحاريب والمقاصير والشّرط والحرس والخصيان وأصفى الأموال.

وقد أنكر قوم بناء الدور والأبنية ، والنفقة والتبذير عليها ، وهذا طلحة بنى داره بالآجرّ والقصّة (١) وأبوابه ساج ، وبنى عثمان بن عفّان بالحجارة المنقوشة المطابقة وخشب الصنوبر والساج ، وحمل له من البصرة في البحر ومن عدن في البحر ، وحمل له القصّة من بطن نخل ، وبني الزبير أربعة أدور : دارا بمصر ، وأخرى بالإسكندريّة ، وأخرى بالكوفة ، وأخرى بالبصرة ، وأنفق زيد بن ثابت على داره ثلاثين ألف درهم.

وقال كعب الحبر : أربع مدائن من مدائن الجنّة : حمص ، ودمشق ، وبيت جبرين ، وضفار اليمن ، وأجناد الشام أربعة : حمص ، ودمشق ، وفلسطين ، والأردنّ.

__________________

(١) القص هو الجص (أساس البلاغة).

١٥٩

ولقي كعب رجلا فقال : من أين أقبل الرجل؟ قال : من الشام. قال : أفمن أهله أنت؟ قال : نعم. قال : فلعلّك من الجند الذين ينظر الله إليهم كلّ يوم مرّتين. قال : وأيّ جند هم؟ قال : جند فلسطين. قال : لا. قال : فلعلّك من الجند الذين يلقون الله في الثياب الخضر. قال : وأيّ جند هم؟ قال : جند الأردنّ. قال : لا. قال : فلعلّك من الجند الذين يستظلّون تحت العرش يوم لا ظلّ إلا ظلّه. قال : وأيّ جندهم؟ قال : جند دمشق. قال : لا. قال : فلعلّك من الجند الذين يبعث الله منهم سبعين ألف نبيّ. قال : وأيّ جند هم؟ قال : جند حمص. قال : لا. قال : فمن أين أنت؟ قال : من قنّسرين. قال : ليست تلك من الشام ، تلك قطعة من الجزيرة يفرّق بينهما الفرات.

وخراج حمص ثلاثمائة ألف وأربعون ألف دينار ، وأقاليمها كثيرة منها : إقليما سلمية وتدمر.

قال : ولمّا هدم مروان بن محمّد حائط تدمر وصل إلى بيت مجصّص عليه قفل ففتحه فإذا امرأة مستلقية على قفاها ، في بعض غدائرها صحيفة نحاس مكتوب عليه : بسمك اللهم أنا تدمر بنت حسّان ، أدخل الله الذلّ على من يدخل عليّ في بيتي. قال : فو الله ما ملك مروان بعدها إلّا أيّاما حتى أقبل عبد الله بن عليّ فقتل مروان بن محمّد ، وفرّق خيله ، واستباح عسكره ، فقيل وافق دعاءها.

ويقال : إن مدينة تدمر بناها سليمان بن داود ، وكانت عجيبة البناء ، كثيرة الصور والتماثيل. ويقال : إنه بنى فيها دارا فيها مقاصير وأروقة وحجرات وإيوانات وغير ذلك ، وأن سطح هذه الحجرات والمقاصير وغير ذلك حجر واحد بقطعة واحدة ، وهو باق إلى يومنا هذا ، وبها صورة جاريتين من حجارة من بقايا صور كانت بها ، وقال : فيهما بعض الشعراء(١) :

فتاتي أهل تدمر خبّراني

ألمّا تسأما طول المقام

قيامكما على غير الحشايا

على جبل أصمّ من الرّخام

__________________

(١) هو أوس بن ثعلبة التيمي كما في معجم البلدان مادة (تدمر).

١٦٠