البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

كثيب من رمل ، يخرج النيل من تحته. وقال بعض الفلاسفة : أقول إنه قد يكون البحر في موضع من بعض المواضع ثم ينضب الماء عنه حتى يصير أرضا يابسة ثم يعود بحرا ، والعلّة في ذلك أن قرار الأرض يشبه أجسام الحيوانات والنبات ، وأن لها نهاية وغاية بمنزلة الشباب والهرم ينقص ويزيد ، فإذا قربته الشمس حينا طويلا حلّلته فارتفع وجفّ ذلك الموضع ، فإذا بعدت الشمس هنة رطب ذلك الموضع وندي واجتمعت فيه المياه من الندى والأمطار ، ذكروا أن أرض مصر كانت بحرا ، وكذلك جميع الأرض عليها فنضب ذلك الماء قليلا ، فجفّت تلك المواضع في مدّة من الزمان ، فظهر اليبس وغرس فيه الأشجار وزرع فيه الزرع.

ولما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص حين دخل بوونه ، فقالوا : أيّها الأمير لنيلنا هذا سنّة لا يجري إلّا بها ، قال : وما ذاك؟ قالوا : إذا كان لاثنتي عشرة ليلة تخلوا من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضيناهما وجعلنا عليها من الحليّ والحلل والثياب أفضل ما يكون ، ثم ألقيناها في هذا النيل. قال عمرو : إن هذا أمر لا يكون أبدا في الإسلام ، وإن الإسلام يهدم ما قبله ، فهمّوا بالجلاء فلمّا رأى ذلك عمرو كتب إلى عمرو بن الخطّاب ، فكتب إليه أنك قد أصبت وأني قد بعثت إليك بطاقة في داخل كتابي هذا ـ يعني رقعة ـ فألقها في النيل ، فلمّا قدم كتاب عمر على عمرو أخذ البطاقة ففتحها ، فإذا فيها من عبد الله عمر إلى نيل مصر أما بعد : فإن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر ، وإن كان الله العزيز الغفّار الواحد القهّار هو الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهّار أن يجريك ، فألقى البطاقة في النيل قبل الصليب بيوم ، وقد تهيّأ أهل مصر للجلاء لأنهم لا تقوم مصلحتهم إلّا بالنيل ، فأصبحوا يوم الصليب وقد أجراه الله ستّة عشر ذراعا في ليلة واحدة ، وقطع الله تلك السنّة عن أهل مصر ، وقال ابن الكلبيّ : كتاب عمر إلى نيل هو الطلسم الأكبر.

ومن عجائب مصر : حشيشة يقال لها الدقس ، يتّخذ منها حبال للسفن ، تسمّى تلك الحبال القرقس ، يؤخذ من القرقس قطعة فيشعل بين أيديهم كالشمع ، ثم يطفي فيمكث سائر الليل ، فإذا احتاجوا إليه أخذوا طرفه فأداروه كالمخراق

١٢١

فيشتعل. ومن أعاجيب مصر : الشجرة التي تدعى باليونانيّة المومقس ، يرى بالليل من بعيد كأنه حريق ، فإذا دنا منه الإنسان لم يجد عنده شيئا بتّة. ومن أعاجيب مصر : الرماد الذي يقال له رماد السنط ، وهو خشب يوقد نهارهم كلّه ، ولو جمع الإنسان ذلك الرماد لما ملأ راحته. ولهم حجارة الواحات ، كلّ من تناول منها حجرا فحرّكه فكأنّما يحرّك مقلة نواتها في جوفها ، ولهم القراطيس التي لا يشركهم فيها أحد ، ولهم دابّة يقال لها الأسقنقور يهيج الجماع إذا أكل ، وفيه أعجوبة أخرى وذلك أن ثلاثة من الحيوان للذكر منها أيران : الأسقنقور والورل والضبّ.

ومن مفاخرهم : شراب العسل وهو هناك يختار على الخمر البابليّ للذّته وطيبه وشدّة أخذه ، وموضع الأعجوبة فيه أنه يتّخذ في زمان مدود النيل ، ويعمل من ذلك الماء الخاثر الكدر ، ولو عمل من الصافي لم يخرج على صفاء هذا ولا جودته ، ولا تزيده تلك الكدورة إلّا صفاء وحسنا ، ولهم البلسان ، ودهن الفجل ، ودهن الخردل ، ولهم الخيش والريش، ولهم أن كلّ واد في الأرض مخالف لواديهم ، لأنه يستقبل الشمال وماؤها يجري من الجنوب، وأعجوبة أخرى أنها لا تمطر مطرا ، وأعجوبة أخرى أن اسمها مصر، وعلى اسمها سمّيت الأمصارمثل : الكوفة والبصرة ـ وإنّما سمّيت البصرة فسطاطا على التشبيه بفسطاط مصرـ.

وقال الكلبيّ : كان لفرعون ما بين مصر إلى مغرب الشمس وهي مملكة إفريقية والأندلس ، وإنّما هو مثل أرض واسط أربعون في مثلها وأعجوبة أخرى بمصر وهي الأترجّ ، ربّما وضع الرجل الأترجّة بينه وبين صاحبه فلا يرى أحدهما الآخر لكبرها ، وبمصر من الأعاجيب السمك الرّعاد ، ومن صاد منه سمكة لم تزل يده ترعد وتنتفض ما دام في شبكته وشصّه ، وليس هذا بأعجب من الجبل الذي بآمد ، يراه جميع أهل البلد فيه صدع فمن انتضى سيفه فأولجه فيه ثم قبض على قبيعته بجميع يديه ، اضطرب السيف في يديه وارتعد هو ولو كان أشدّ الناس ، وفيه أعجوبة أخرى لأنه متى حكّ بهذا الجبل سيف أو سكين حمل ذلك السكّين الحديد ، وجذب الأبر والمسالّ بأكثر من جذب المغناطيس ، وأعجوبة أخرى أن ذلك الحجر بعينه لا يجذب الحديد ، فإن حكّ عليه سكّين أو حدّ به جذب

١٢٢

الحديد ، وفيه أعجوبة أخرى أنه لو بقي مائة سنة لكانت تلك القوّة قائمة فيه ، ولو سقي كما تسقى السكاكين ، والمغناطيس نفسه إذا حكّ عليه الثوم لم يجذب الحديد ، وذلك شبيه بناب الأفعى ، لأنهم إذا حشوا فيه حمّاض الأترجّ ، ثم عضّ وانقلب لم يكن له سمّ قاتل.

وقد بارك رسول الله (عليه السلام) في بنها قرية مصر. وقال أهل مصر : اتّخذ يوسف (عليه السلام) الفيّوم بالشرقي في جبل شرب أسفلها وأعلاها ووسطها بماء واحد لا تعدم الثمرة فيها رطبة شتاء ولا صيفا.

قالوا : وإذا جاوزت بلاد غانة إلى أرض مصر انتهيت إلى أمّة من السودان يقال لها كوكو ، ثم إلى أمّة يقال لها مرندة ، ثم إلى أمّة يقال لها مراوة ، ثم إلى واحات مصر بملسانة.

صفة الهرمين

وبمصر ، الهرمين (١) الذي يرى أصحابه كأنهم دفنوا حديثا ، إلّا أنهم في عمق من الأرض ، وهي ثلاثة أهرام ، كلّ هرم أربع مائة ذراع طول في أربع مائة ذراع عرض ، في سمك أربع مائة ذراع في الهواء ، مبنيّة بحجارة المرمر والرخام ، غلظ كلّ حجر وطوله وعرضه عشرة أذرع مهندز مهندم ، لا يستبين هندامه إلّا الحادّ البصر ، منقور في كلّ حجر بالكتاب المسند ، يقرأه كلّ من يقرأ المسند ، كلّ سحر وكلّ عجب من الطبّ وكلّ طلسم وكلّ خلقة طير. وحدّث بعض المشايخ بمصر أنه قرئ لبعض خلفاء بني العبّاس على الهرمين مكتوب أنّي بنيتهما فمن كان يدّعي قوّة في مله فليهدمهما ، فإن الهدم أيسر من البناء ، فأرادوا هدمهما فإذا خراج الأرض لا يقوم به فتركوهما. وقال عبد الله بن طاهر : رأيت بمصر من عجائب الدنيا ثلاثة أشياء : النيل ، والهرمين ، وابن عفير. وكان ابن عفير هذا كثير العلم ، واسمه سعيد بن كثير بن عفير. قالوا : ووجد في أهرام مصر حيّة من ذهب في شدقها صفيحة فضّة مكتوب فيها :

__________________

(١) الصواب : وبمصر ، الهرمان.

١٢٣

إنّي وربّ البدن والقلاص

عملتها من خالص الرّصاص

وقرئ عليه أيضا : أنّي نقبتها وكسوتها الأنطاع ، ثم كسوتها الحبر اليمانية ، ثم كسوتها الديباج ، فمن ادّعى القوّة في ملكه فليكسها الحصر ، فأراد المأمون أن يكسوها الحصر فكان (١) يخرج فيها خراج مصر أجمع.

وبمصر الرمل المحبوس ، والطور الذي كلّم الله عزّ وجلّ موسى (عليه السلام) بها ، وهو في صحراء التيه فيما بين القلزم وأيلة ، وفيها الصّرح الذي لم ير قطّ شيء مثله ، وهم يقولون نحن أكثر الناس عبدا وشهدا وقتدا ونقدا ، قالوا : والصوف والكتّان لنا ليس لأحد من أهل البلدان مثلها ، وقالوا : ولنا الحمير المريسيّة ، والبغال المصريّة ، والخيل العتاق ، والمطايا من الإبل ، قالوا : ولنا الأودية والمراتع التي ليس لأحد مثلها ، وربّما خيف على الإبل الهلاك من السمن ، لأنها إذا بلغت الغاية في السمن ، فربّما انصدعت كراكرها عن شحمة كالسنام ، حتى يخرّ البعير ميّتا ، قالوا : ولنا الشمع والعسل والريش والخيش ، ولنا ضروب الرقيق والجواهر.

وبمصر ، الإسكندريّة ، قال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : «خير مسالحكم الإسكندريّة» ، وهي من بناء الإسكندر وبه سميت ، ويروى في قول الله عزّ وجلّ : (إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) قال : هي الإسكندريّة ، وقال الحسن البصريّ : لأن أبيت بالإسكندريّة ليلة على فراشي أحبّ إليّ من عبادة سبعين ليلة ، كلّ ليلة منها ليلة القدر بمقدارها. وروى زهرة بن معبد القرشيّ قال : قال لي عمر بن عبد العزيز : أين تسكن بمصر؟ قلت : الفسطاط. قال : تسكن المدينة الخبيثة وتذر الطيّبة. قلت : أين؟ قال : الإسكندريّة ، فإنك تجمع دينا ودنيا وهي طيّبة الموطأ ، والذي نفسي بيده لوددت أن قبري فيها ولمّا همّ الإسكندر ببنائها دخل هيكلا لليونانيّين عظيما ، فذبح فيه ذبائح كثيرة ، وسأل أحبارها أن تبيّن له أمر المدينة هل يتمّ بناؤها ، وكيف يكون؟ فرأى في المنام كأن جدار ذلك الهيكل يقول له : إنك تبني مدينة يذهب صوتها في

__________________

(١) لعلها : فكادّ.

١٢٤

أقطار الأرض ، ويسكنها من الناس ما لا يحصى عددهم ، ويختلط الرياح الطيّبة بهوائها ، ويثبت حكمة أهلها ، ويصرف عنها سورة السموم والحرّ ، ويطوى عنها قسوة البرد والزمهرير ، ويظعن عنها الشرور حتى لا يصيبها خبل من الشيطان ، وإن جلب إليها الملوك والأمم بجنودهم وحاصروها لم يدخل عليها ضرر. فبناها وسمّاها الإسكندريّة ، ثم رحل عنها فيقال : إنه مات ببابل وحمل إلى الإسكندريّة فدفن بها ويقال : إنها عملت في ثلاثمائة سنة ، وخمّرت نورتها ثلاث سنين ، وضربت ثلاثمائة سنة. ولقد غبر أهلها سبعين سنة ما يمشون بالنهار فيها إلّا بخرق سود ، فرق أن تذهب أبصارهم من بياض جدرها ، وما أسرج فيها أحد سراجا بليل من ضوئها ، ومنارة الإسكندريّة على سرطان من زجاج في البحر (١).

والجوف بمصر وباليمامة وهما جوفان ، مثل الطوخ بالعراق ، وحلوان بمصر على فرسخ من الفسطاط ، وبه نخل كثير والكريون على ثلاثة فراسخ منها.

فأما منارة الإسكندريّة فلها عمودان من نحاس على صورتين أحدهما من زجاج والآخر من نحاس ، أما النحاس فعلى صورة عقرب ، والزجاج على صورة سرطان ، والمنظرة إلى جنبهما ويقال لها المنارة.

وعين الشّمس على ثلاثة فراسخ من الفسطاط ومنف مساكن فرعون بينها وبين عين الشمس ثلاثة فراسخ.

وقد اختلفوا في الإسكندر فزعم بعضهم أنه ذو القرنين ، وقال آخرون : ليس هو ذو القرنين ابن فيلفوس ، ولكنه لكثرة جولانه في الأرض وطيّه الأقاليم شبّهه من لا علم له بذي القرنين ، وبينه وبين ذي القرنين المعمّر صاحب سدّ يأجوج ومأجوج وباني مدينة مرو ومنارة الإسكندريّة المركّزة على سرطان من زجاج ، وباني مدينة البهت بالمغرب وتعرف بالبها ، وهي مبنيّة من حجر يسمّى حجر البهت ، من تطلّع فيها تاه واستغرب ضحكا حتى يتلف نفسه دهر طويل ، وذو القرنين المعمّر هو الذي وقف على صاحب الصور حين دخل الظلمات ، وبلغ

__________________

(١) سيتحدث المؤلف فيما بعد عن ثلاث عشرة مدينة باسم الاسكندرية.

١٢٥

مكانا لم ينفذ وراءه ، فصوّر فرسا من نحاس عليه فارس من نحاس ممسك على عنان فرسه بيسرى يديه ، ومادّ يده اليمنى مكتوب فيها بالحميريّة ليس ورائي مسلك ، فهذا عمّر عمرا طويلا حتى عاش سبع مائة سنة ، وأوتي من كلّ شيء سببا ، ورفع إلى السماء وكان يسمّى عيّاشا ، والروميّ عمّر عمرا قليلا وكانت سيرته أخبث سيرة.

وقال عطاء بن أبي خالد المخزوميّ : كانت الإسكندريّة بيضاء تضيء بالليل والنهار ، فكانوا إذا غربت الشمس لم يخرج منهم واحد من بيته ، ومن خرج اختطف ، وكان لهم راع يرعى الغنم على شاطئ البحر ، وكان يخرج من البحر شيء فيأخذ من غنمه فكّمن له الراعي في بعض المواضع حتى خرج ، فإذا جارية فتشبّث بشعرها ومانعته فذهب بها إلى منزله ، فآنست بهم فرأتهم لا يخرجون بعد غروب الشمس ، فسألتهم عن ذلك فأخبروها أن من خرج في ذلك الوقت اختطف ، فعملت لهم الطلسمات وكانت أوّل من وضع الطلسمات بمصر.

ويروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : عجائب الدنيا أربع (١).

مرآة معلّقة بمنارة الإسكندريّة ، كان يجلس الجالس تحتها فيرى من بالقسطنطينيّة ، وبينهما عرض البحر.

وفرس نحاس : عليه راكب من نحاس بأرض الأندلس باسط يده رافعها ، عليه مكتوب ليس خلفي مسلك ، ولا يطأ تلك البلاد أحد إلّا ابتلعه النمل.

ومنارة من نحاس بأرض عاد ، عليها راكب من نحاس ، فإذا كان الأشهر الحرم هطل منه الماء ، فشربوا منه وسقوا وصبّوا في الحياض والآبار ، فإذا انقضت الأشهر الحرم انقطع ذلك الماء.

وشجرة من نحاس : عليها سودانيّة من نحاس بأرض روميّة ، فإذا كان أوان الزيتون صفرت السودانيّة التي من نحاس ، فتجيء كلّ سودانيّة من الطيارات بثلاث زيتونات زيتونة في منقارها وزيتونتان في رجليها حتى تلقيها على الشجرة فيعصر

__________________

(١) في الأصل أربعة.

١٢٦

أهل روميّة ما يكفيهم لأدامهم وسرجهم إلى قابل.

وبعين شمس من أرض مصر بقايا أساطين كانت هناك ، في رأس كلّ أسطوانة طوق من نحاس ، يقطر من أحدهما ماء من تحت الطوق إلى نصف الأسطوانة لا يجاوزه ولا ينقطع قطره ليلا ولا نهارا ، فموضعه من الأسطوانة أخضر ، ولا يصل الماء إلى الأرض ، وهو من بناء هوشنك. وبالإسكندريّة موضع فيها سوار وأساطين من حجارة من بقيّة بناء قديم ، وفيها سارية تعرف بسارية سليمان (عليه السلام) فيها أعجوبة ، وذلك أن الرجل فيها يجيء إليها ومعه زجاج أو خزف أو غير ذلك فيلقيه على السارية ويقول : بحقّ سليمان بن داود إلّا انكسرت فيتفتّت الزجاج والخزف وليس هذا إلّا في هذه السارية ، وإن لم يقل بحقّ سليمان لم ينكسر.

وبمصر منف مدينة فرعون ، لها سبعون بابا ، وحيطان المدينة من حديد وصفر ، وفيها كانت الأنهار التي تجري من تحته وهي أربعة.

[انصنا : مدينة قديمة على شرقي النيل بأرض مصر. أهل هذه المدينة مسخوا حجرا فيها رجال ونساء مسخوا حجرا على أعمالهم فالرجل نائم مع زوجته ، والقصّاب يقطّع لحمه ، والمرأة تخمر عجينها ، والصبيّ في المهد ، والرغفان في التنور. كلها انقلبت حجرا صلدا] (١).

ومن كور مصر : منف ، ووسيم ، ودلاص ، وبوصير ، والفيّوم ، وأهناس ، والقيس ، وطحا ، وأسيوط ، وأشمونين ، قهفا ، البهنسى ، هو وقنى ، قفط الأقصر ، أسنى ، أرمنت ، سوان ، الإسكندريّة ، المليدس ، الطور ، مصيل ، قرطسا ، خربتا ، اليدقون ، صاوشباس ، تيده ، الأفراحون ، لوبيا ، الأوصية ، منوف العليا ، منوف السفلى ، دمسيس ، أتريب ، عين شمس ، فرخطشا ، الجوف الشرقيّ ، الجوف الغربيّ.

وبمصر نهر اللاهون ، ويقال : إن يوسف (عليه السلام) احتفره وهو يأخذ من

__________________

(١) عن آثار البلاد ص ١٤٩.

١٢٧

النيل ، وآخر عمل مصر من حدّ النوبة أسوان ، ودمقلة مدينة النوبة وبينهما مسيرة أربعين ليلة.

ومن عيوب مصر أنها لا تمطر ، ويكرهون المطر ، والله عزّ وجلّ يقول : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) ومن عيوبها الريح الجنوب التي يدعونها المريسيّة ، وذلك أنهم يسمّون أعلى الصعيد إلى بلد النوبة مريس ، فإذا هبّت الريح المريسيّة ثلاثة عشر يوما تباعا اشترى أهل مصر الأكفان والحنوط ، وأيقنوا بالوباء القاتل والفناء العاجل نسأل الله العافية. ومن عيوبها اختلاف هوائها ، لأنه في يوم واحد يختلف عليهم أهوية برد وحرّ ، وإذا أجدبوا انقرضوا لأنه ليست لهم ميرة من وجه من الوجوه ، والناس من عندهم يمتارون فإذا انقطعت من عندهم فنوا نسأل الله العافية. وهم قتلوا عثمان بن عفّان وعليّ بن أبي طالب وعميرا المأمونيّ. ونساء أهل مصر والقبط ضدّ نساء خراسان ، لأن نساء خراسان يلدن أذكارا ، ونساء القبط لا يكاد يرى منهن إلّا مئناث ، وتلد الاثنين والثلاثة والأربعة ، ولا نعلم ناسا في الأرض أكثر ذكرانا من آل أبي طالب.

وتربة مدينة الرسول (عليه السلام) طيّبة والغالية والطيب بها يزداد على العبق وطول الأيّام طيبا ، والغالية الثمينة الخطيرة بالأهواز تنقلب في أيّام يسيرة ، وحمّاها على الصغير منهم والكبير لا تزايله حتى على المولود ساعة يولد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «إن مصر ستفتح بعدي فانتجعوها ولا تتّخذوها دارا فإنه يساق إليها أعجل الناس أعمارا» فحمّاها أخبث من حمّى الأهواز ، ووباؤه أشدّ من ذلك. وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «انتجعوا خيرها واسكنوا غيرها ، فإنها معدن السحر والزنا ودار الفاسقين ، ولا تغسلوا رؤوسكم بطينها الأسود ، فإنه يميت القلب ويكثر الهمّ ، ويذهب بالغيرة نعوذ بالله منه». قال : وكشف عن حجر بمصر فإذا فيه كتابة : ويلك يا مصر خرابك سيلك ، ملوكك غرباء لا يسود منك فيك ولا منك في غيرك. وقال وهب المعافريّ : إذا رأيتم منبر الفسطاط قد حوّل عن مكانه فتحوّلوا منها. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : ليأتينّ على الناس زمان قتب على جمل دبر خير من دار بمصر ، وقال يحيى بن محفوظ : خلق الله العقل وخلق معه المكر

١٢٨

وأسكنه العراق ، وخلق المكر وخلق معه الجفاء فأسكنه الشام ، وخلق الفقر وخلق معه القنوع وأسكنه الحجاز ، وخلق الغناء وخلق معه الذلّ وأسكنه مصر ، وقال كعب القرظيّ : خلق الله السرقة تسعة أجزاء سبعة منها في القبط.

ومن عجائب مصر : الشبّ وهو حجر أسود مجدّر يطفو فوق الماء ، والأبنوس يرسب في الماء ، فأيّ شيء أعجب من خشب يرسب في الماء ، وحجر يطفو على الماء؟ وضروب من الخشب ترسب في الماء : الأبنوس ، والشيز ، والعنّاب ، والآهندال ، وحجر المغناطيس عجب وإن شأن الألماس لعجب ، ومن أعاجيب الحجارة الحصاة التي في صورة النواة ، تسبح في الخلّ كأنها سمكة ، والخرزة التي تجعل في حقو المرأة لئلّا تحبل ، والحجر الذي يوضع على حرف التّنور فيساقط خبز التنّور كلّه ، ويدّعون أن كعب الأرنب إذا شدّ بساق الملسوع لم يضرّه.

قال : وخراج مصر وحدها يضعف على جميع خراج الروم ، وحمل منها موسى بن عيسى في دولة بني العبّاس ألفي ألف ومائة ألف وثمانين ألف دينار.

وعلى أعلى مصر ، النوبة والحبشة والبجة. وكان عثمان صالح النوبة على أربع مائة رأس في السنة ، وفي الخبر قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : من لم يكن له أخ فليتّخذ أخا من النوبة. وقال : خير سبيكم النوبة ، وللنوبة كفّ ووفاء وحسن عهد ، وبها الأبنوس الأبيض يتّخذ منه الأسرّة ، وبها الكركدن وهو مثل العجل ، وفي جبهته قرن يقاتل به ، وآخر صغير أسفل منه بين عينيه ، يقلع به الحشيش ويطعن الأسد بالذي في جبهته فيقتله ، وله ظلف كظلف البقر ، ويهرب منه الأسد والفيل ، وبالنوبة الزرّافة وذكروا أنها بين النمر والناقة ، وأن النمر ينزو على الناقة فتلد الزرّافة ، ولا تغتذي إلّا بما تستخرجه من البحر ، فخلق الباري جلّ وعزّ لها عنقا طويلا لتبلغ الموضع الذي تستخرج منه الغذاء ، ومثله في الحيوان فيما يشاكله ويقرب منه في النتاج ، كما يلقح الفرس الحمار ، والذئب الضبع ، والنمر اللبوة ، فيخرج من بينهما الفهد ، فالزرّافة لها جثّة جمل ، ورأس إيّل ، وأظلاف بقر ، وذنب طير ، وليديها ركبتان وليس لرجليها ركبة ، وجلدها منمّر ، وهو منظر عجيب

١٢٩

وتسمّى بالفارسيّة أشتركا وبلنك أي إنها بين الجمل والثور والنمر والزرّافة في اللغة الجمع ، وسمّيت هذه الدابّة لاجتماع هذه المشابة فيها ، وذكر بعض الحكماء أن الزرافة نتاجها من فحول شتّى وهذا باطل ، لأن الفرس لا يلقح الجمل ولا الجمل يلقح البقرة وبالحبشة دابّة يقال لها الرعقى ، تقبض على خرطوم الجمل فتصرعه وتشرب دمه ولا تأكل لحمه.

والنوبة يعقوبيّة ، وللصقالبة صلبان ـ الحمد لله على الإسلام ـ وكذلك أهل علوا وتكريت والقبط والشام كلّها نصارى يعقوبيّ وملكي ، ونسطوريّ ، ونيقلائيّ ، وركوسيّ ، ومرقيونيّ ، وصابئ ، ومنانيّ ـ الحمد لله على الإسلام.

والنوبة أصحاب ختان لا تطأ في الحيض ، ولا تغتسل من الجنابة ، وهم نصارى يعقوبيّة ، يهذون الإنجيل ، والروم ملكانيّة يقرءون الإنجيل بالجرمقانيّة ، وأهل بجة عبّاد أوثان ، يحكمون بحكم التورية ودمقلة مدينة النوبة وبها منزل الملك ، وهي على ساحل البحر ، ولها سبع حيطان وأسفلها بالحجارة ، وطول بلادهم مع النيل ثمانون ليلة ، وطول علوا إلى بلاد النوبة مع المغرب مسيرة ثلاثة أشهر ، ومن دمقلة إلى أسوان أوّل مصر مسيرة أربعين ليلة ، ومن أسوان إلى الفسطاط خمس عشرة ليلة ومن أسوان إلى أدنى بلاد النوبة خمس ليال ، وفي الشرق من بلاد النوبة البجة ما بين النيل وبحر اليمن ، وهو بحر القلزم بمصر ، وبحر الجار بالمدينة ، وبحر جدّة بمكّة ، وبحر اليمن بالشحر ، وعمان وفارس والأبلّة وفيما بين أرض النوبة والبجة جبال منيعة ، وهم أصحاب أوثان ، وفي بلادهم معدن الزبرجد يحفر التراب من معدنه ، ثم يغسل فيوجد فيه قطع الزبرجد.

والبجة أصناف : فالنوبة والبجة تسمّي الله عزّ وجلّ بحير ، وبالزنجيّة لمكلوجلو ، والقبطيّة أبنوذه ، وبالبربريّة مذيكش ، ومن خلف بلاد علوا أمّة من السودان تدعى تكنة ، وهم عراة مثل الزنج وبلادهم تنبت الذهب ، وفي بلادهم يفترق النيل ، وقد ذكرنا مخرجه ، وقالوا : من وراء مخرج النيل الظلمة ، وخلف الظلمة مياه تنبت الذهب في تكنة وغانة.

[بلاد التبر : هذه البلاد حرّها شديد جداً. أهلها بالنهار يكونون في السراديب

١٣٠

تحت الأرض ، والذهب ينبت في رمل هذه البلاد كما ينبت الجزر بأرضنا. وأهلها يخرجون عند بزوغ الشمس ويقطفون الذهب. وطعامهم الذرة واللوبيا ، ولباسهم جلود الحيوانات وأكثر ملبوسهم جلد النمر ، والنمر عندهم كثير] (١).

__________________

(١) عن آثار البلاد ص ١٨. ولا ندري هل يتوقف القزويني في النقل عن ابن الفقيه إلى هذا الحد ، أم أن الكلام الذي يلي هذا المنقول تابع لابن الفقيه أيضا؟ لا نملك دليلاً يقيناً في ذلك. وكان القزويني قد حدد موقع بلاد التبر بقوله (هي بلاد السودان في جنوب المغرب). وقد نقل ياقوت ١ : ٨٣٢ عن ابن الفقيه معلومة (بلاد التبر) هذه أيضا.

١٣١

القول في المغرب

أسفل الأرض من الفسطاط إلى برقة ستّمائة وستّون ميلا. وبرقة مدينة حسناء في صحراء ، وهي صلحيّة صالح عليها عمرو بن العاص وجبر أهلها على الجزية ، وهي خصبة ممتّعة ، ومن برقة إلى القيروان مدينة إفريقية ستّمائة وثمانية وثلاثون ميلا ، وسمّيت بأفريقش بن أبرهة الرائش ، وهو الذي بناها ، وإفريقية افتتحها عقبة بن نافع بن عبد القيس الفهريّ (رحمه الله) وجّهه معاوية وهي الآن في يدي ابن الأغلب (١) ، وفي يديه أيضا : قابس ، وجلولاء ، وسبيطلة مدينة جرجير الملك وكان روميا ، وبينها وبين القيروان سبعون ميلا ـ وزرود ، وقفصة ، وقصطلية ، ومدينة الزاب ، وودّان ، وضفرجيل ، وزغوان ، وتونس ، وبينها وبين إفريقية مرحلتان على البغال ، واسم مدينة تونس قرطاجنّة ، وهي على ساحل البحر ، يحيط بسورها أحد وعشرون ألف ذراع ، ومن مدينة تونس إلى الأندلس ستّة فراسخ ، وإلى قرطبة مدينة الأندلس مسيرة خمسة أيّام.

وفي يدي الرّستميّ الإباضيّ ، وهو أفلح بن عبد الوهّاب بن عبد الرحمن بن رستم من الفرس ، يسلّم عليه بالخلافة بقيروة ، وسلمة ، وسلمية ، وتاهرت ، وما والاها ، وبين إفريقية وتاهرت مسيرة شهر على الإبل ، ومدينة سبتة إلى جانب الخضراء.

وملك سبتة اليان وفي يدي ابن صفير البربريّ خلقاية إلى وادي الرمل ووادي الزيتون وقصر الأسود بن الهيثم إلى أطرابلس.

__________________

(١) من هنا وما بعده يوجد بعضه لدى ابن خرداذبه ٨٧ ـ ٩٠.

١٣٢

وفي يدي الخارجيّ الصّفريّ مدينة كبيرة تدعى درعة ، فيها معدن الفضّة ، وهي ممّا يلي الحبشة في ناحية الجنوب ، ومدينة تدعى زيز.

وفي يدي إبراهيم بن محمّد بن محمود البربريّ المعتزليّ مدينة تلي تاهرت تدعى أيزرج.

وفي يدي ولد إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) مدينة تلمسين ، ومن تاهرت إليها مسيرة خمسة وعشرين يوما عمران كلّه ، وطنجة ، وفاس وبها منزله ، وو ليلة ، ومدركة ، ومتروكة ، ومدينة زفور ، وغزّة ، وغميرة ، والحاجر وماجراجرا ، وفنكور ، والخضراء ، وأوراس ، وما يتّصل ببلاد زاغي بن زاغي ، وطنجة خلف تاهرت بأربع وعشرين ليلة ، وخلف طنجة السّوس الأدنى ، وخلف السوس الأدنى السوس الأقصى على بحر اليمن في شرقيّ النيل ، ومدينة السوس الأقصى تدعى طرقلة ، ومدينة الأندلس تدعى قرطبة ، وبلاد أنبية من السوس الأقصى على مسيرة سبعين ليلة في براريّ ومفاوز ، وأهلها وأهل لمطة أصحاب الدرق ، ينقعونها في اللبن حولا مجرّدا ، فينبو عنها السيف وإن قطع السيف منها شيئا نشب السيف في الدرقة ، ولم يمكن أن ينزع من الدرقة ، والدرقة اللّمطيّة ليس عليها قياس.

وكان سبب خروج إدريس ووقوعه إلى هذه النواحي ما حكاه صالح بن عليّ (١) قال : أخبرنا مشايخنا أن إدريس بن عبد الله بن حسن الطالبيّ أفلت من وقعة العبّاسيّين بالطالبيّين بفخّ مكّة ، وذلك في خلافة الهادي ، فوقع بمصر وعلى بريدها يومئذ واضح مولى المنصور ، وكان رافضيّا فحمله على البريد إلى أرض المغرب ، فوقع بأرض طنجة بمدينة يقال لها وليلة ، فاستجاب له من بها وبأعراضها من الناس ، فلمّا استخلف الرشيد أعلم بذلك فضرب عنق واضح وصلبه ، ودسّ إلى إدريس الشمّاخ اليماني مولى المهديّ ، وكتب له كتابا إلى

__________________

(١) نرجح أنه صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور أحد أفراد الأسرة العباسية. وقد توفي عام ٢٦٢ ه‍ ـ (ابن الأثير ٧ : ٣٠٥).

١٣٣

إبراهيم بن الأغلب عامله على إفريقية ، فخرج حتى وصل إلى وليلة ، وذكر أنه متطبّب وأنه من أوليائهم ، فاطمأنّ إليه إدريس وأنس به ، فشكا إليه إدريس علّة في أسنانه ، فأعطاه سنونا مسموما ليلا ، وأمره أن يستنّ به عند طلوع الفجر ، وهرب من الليل ، فلمّا طلع الفجر استنّ إدريس بالسنون فقتله وطلب الشمّاخ فلم يظفر به ، وقدم على إبراهيم بن الأغلب فأخبره بما كان منه ، ولحقت الأخبار بعد مقدمه بموته فكتب بذلك إلى الرشيد فولّى الشمّاخ بريد مصر ، ثم ملك من بعد إدريس ابنه ، وإلى هذه الغاية هي ثابتة في ولده.

وفي يدي محمّد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أميّة ما وراء بحر الأندلس ، وفي يديه قرطبة وبينها وبين الساحل مسيرة خمس ليال ، ومن ساحل قرطبة إلى أربونة آخر الأندلس ممّا يلي فرنجة ألف ميل ، وطليطلة وبها كان ينزل الملك ، ومن طليطلة إلى قرطبة عشرون ليلة ، وللأندلس أربعون مدينة ، ويجاور الأندلس فرنجة وما والاها من بلاد الشرك ، والأندلس مسيرة أكثر من شهر في شهر ، وهي خصبة كثيرة الخير والفواكه وممّا يلي الشمال والروم فرنجة ، والأندلس افتتحها طارق بن زياد وموسى بن نصير ، فأصاب بها مائدة سليمان (عليه السلام) فيها جواهر لم ير خلق مثلها فقطع طارق قائمة من قوائم المائدة وصيّر مكانها أخرى لا تشبهها ، فلمّا قدموا بها على الوليد بن عبد الملك وكان موسى وجّهها إليه فقال طارق : أنا أصبتها فكذّبه موسى فقال طارق للوليد : ادع بالمائدة فنظر إلى قائمته فإذا هي لا تشبه القوائم ، فقال طارق : سله عنها ، فسأله فقال : كذا أصبتها فأخرج طارق إليه القائمة فصدّقه الوليد وقوّمت المائدة مائتي ألف دينار.

ومن العجائب بيتان وجدا بالأندلس عند فتحها في مدينة الملوك ، في أحدهما عدد تيجان لملوكها ، وفي هذا البيت وجد مائدة سليمان بن داود (عليه السلام) ، وعلى البيت الآخر أربعة وعشرون قفلا ، كلّما ملك منهم ملك زاد عليه قفلا ، ولا يدرون ما في البيت حتى ملك لدريق ، وهو آخر ملوكهم فقال : لا بدّ أن أعرف ما في هذا البيت ، وتوهّم أن فيه مالا ، فاجتمعت الأساقفة والشمامسة

١٣٤

وأعظموا ذلك عليه فأبى فقالوا له : انظر ما يخطر ببالك من مال تراه فيه ، فنحن ندفعه إليك ولا تفتحه ، فعصاهم وفتح الباب فإذا في البيت تصاوير العرب على خيولهم بعمائمهم ونعالهم وقسيّهم ونبلهم ، فدخلت العرب بلدهم في السنة التي فتح فيها ذلك البيت ، وكان ملك الأندلس حين فتحت يسمّى لوذريق من أهل إصبهان ، وبأصبهان يسمّى أهل قرطبة الأسبان ، ويسلّم على الأمويّ بها السلام عليك يا ابن الخلائف ، وذلك أنهم لا يرون اسم الخلافة إلّا لمن ملك الحرمين.

أعراض البربر : هوارة ، وزنانة ، وضريسة ، ومغيلة وورفجومة ، وأحياء كثيرة ، فدوابّ هوارة غاية في الفراهة ، وكانت دار البرابرة فلسطين وملكهم جالوت ، فلمّا قتله داود انتقلت البربر إلى المغرب ، ثم انتشرت إلى السوس الأدنى خلف طنجة ، والسوس الأقصى وهي من مدينة قمونية من موضع القيروان على ألفين وخمسين ميلا ، وكرهت البربر نزول المدائن فنزلوا الجبال والرمال وبرجان وبلدان الصقالب. والإبر ، شمالي الأندلس.

والذي يجيء من هذه الناحية الخدم الصقالبة ، والغلمان الروميّة والأفرنجيّة والجواري الأندلسيّات ، وجلود الخزّ والوبر والسمّور ، ومن الطيب الميعة والمصطكي ، ويقع من بحرهم البسّذ ، وهو الذي تسمّيه العامّة المرجان (١) ، ولهم الخيل العراب ، والإبل العراب ، والقسيّ العربيّة ، وهم أهل غفلة وقلّة فطنة ، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : نساء البربر خير من رجالهم بعث إليهم نبيّ فقتلوه ، فتولّت النساء دفنه ، والحدّة عشرة أجزاء تسعة منها في البربر وجزء في الناس.

[ويروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال : ما تحت أديم السماء ولا على الأرض خلق شر من البربر ، ولئن أتصدق بعلامة سوطي في سبيل الله أحب إليّ من أن أعتق رقبة بربري] (٢).

__________________

(١) من قوله (اعراض البربر : هوارة ...) أعلاه ، إلى هنا (المرجان) موجود في ابن خرداذبه ٩٠ ـ ٩٢ إلّا أنه مختصر هنا.

(٢) عن معجم البلدان ١ : ٥٤٣ (بربر).

١٣٥

قالوا : وبلاد طنجة مدينتها وليلة ، والغالب عليها المعتزلة ، وعميدهم اليوم إسحاق بن محمّد بن عبد الحميد ، وهو صاحب إدريس بن إدريس ، وإدريس موافق له ، وأمّ إدريس بربريّة مولّدة ، وبربر أخواله ، واسم أمّ إدريس كنز ، وهي التي كانت تتولّى طعامه وطبيخه خوفا من السمّ. ومن وليلة إلى طنجة إلى ناحيتي مدينة السوس الأدنى مسيرة عشرين ليلة ، وليس في بلادهم نخل ، ولا كرم ، ولا زيتون. ولهم القمح ، والشعير ، والأغنام ، والرماك ، والبقر ، والعسل ، وليس لهم قطن ولا كتّان ، لباسهم الصوف ، وزرعهم على ماء السماء ، ومن آخر مدينة السوس إلى آخر طرقلة مدينة السوس الأقصى شهران ، وليس وراء طرقلة أنس.

ومن عجائبهم وادي الرمل ومدينة البهت ، وهي في بعض مفاوزها ، قال : لمّا فرغ الإسكندر من فتح مصر أخذ متيامنا نحو المغرب حتى انتهى إلى أمّة من بني إسرائيل قوم موسى بمدينة لهم وكانوا عبّادا أتقياء ، فلمّا انتهى إلى تخوم أرضهم بلغهم وروده عليهم فاجتمع عظماؤهم وأحبارهم وكتبوا إليه : بسم الله ذي الطول والمنّ ، من البرجمانيّين الفقيرين إلى الله وذوي التواضع لله إلى الإسكندر المغترّ بالدنيا ، أما بعد فقد بلغنا مسيرك إلينا ، فإن كنت محاربا كما حاربت غيرنا لتأخذ من دنيانا ، فارجع فما لك عندنا طائلة ، ولا لك في قتالنا نفع ، لأنّا أناس مساكين ، ليست لنا أموال ، ولا للملوك في أرضنا أرب ، وإن كنت إنما تقصد نحونا لتطلب العلم فارغب إلى الله أن يفقّهك ويهديك ، مع علمنا أنك لا تحبّ ذلك ، لأن انهماكك في طلب الدنيا بلا فكرة في زوالها وانقطاعها عنك ، يدلّ أنك غير راغب فيها ، فأما نحن فقد خلّينا الدنيا ورفضناها ، ورغبنا في الآخرة وتشوّقناها ، فانصرف أيّها العبد عنّا ، ولا تؤذينا وتخرّب بلادنا ، ولا أرب لك فينا.

فلمّا أتاه الكتاب عزم على إتيانهم في مائة فارس من علماء أصحابه وزهّادهم ، وقد كان بينه وبينهم بحر رمل يجري كما يجري الماء ، ويسكن كلّ يوم سبت فلا يتحرّك إلى الليل ، ومدينتهم تسمّى مقيارات ، وحولها تسع قريات ، وهم متفرّقون فيها ، وأسماؤها : عطروت ، وربعون ، ويمحون ، وقنوا ، وحسنون ، وبعلى ، وسبام ، وبنوا ، وبنعون ، ودورهم مستوية ، وليس فيهم رجل أغنى من

١٣٦

الآخر ، وقبورهم على أبواب دورهم ، فأقام الإسكندر على حافّة ذلك البحر حتى إذا كان يوم السبت سكن ذلك الرمل ، فسلكه وسار يومه كلّه إلى اصفرار الشمس ، حتى جاز النهر في أصحابه ، فاستقبلوه وسلّموا عليه ، فلمّا دنا منهم نزل فاجتمع إليه من أفاضلهم وعلمائهم زهاء مائة رجل ، فدعوا له بالصلاح فرحّب بهم الإسكندر ، ودخل معهم المدينة. فجلس على الأرض ، وجلس أولئك الأحبار حوله ، ثم قال : ما بال قبوركم على أبواب منازلكم؟ قالوا : ليكون ذكر الموت نصب أعيننا. قال : فهل فيكم مسكين؟ قالوا : ما فينا أحد أغنى من الآخر. قال : فمن شرّ عباد الله؟ قالوا : من أصلح دنياه وأخرب آخرته. قال : فمن أقسى الناس قلبا؟ قالوا : من أغفل أمر الموت ونسي الحساب والعقاب. قال : فالبرّ أقدم أم البحر؟ قالوا : لا بل البرّ لأن البحر إنما يحول إلى البرّ. قال : فالليل أقدم أم النهار؟ قالوا : بل الليل أقدم لأن الخلق إنما خلقوا في الظلمة في بطون الأمّهات ، ثم خرجوا بعد ذلك إلى النور. قال الإسكندر : طوبى لكم ، لقد رزقتم زهادة وعلما. قالوا : بل طوبى لمن وقاه الله فتنة الدنيا ، وأخرجه منها سالما. قال : فإني أحبّ أن تعظوني. قالوا : وما يغني وعظنا إيّاك مع انهماكك على الدنيا وحرصك عليها بلا فكرة منك في زوالها. قال : فسلوني حوائجكم. قالوا : نسألك الخلد. قال : هل يقدر على ذلك أحد إلّا الله؟ قالوا : فإن كنت موقنا بالموت فما تصنع بقتل أهل الأرض؟ قال : نعم إني موقن بذلك غير أني لا أملك لنفسي ضرّا ولا نفعا ، ثم قال : يا معشر البرجمانيّين إن الله قد خصّكم بالعلم ، وحلّاكم بالزهادة ، وزيّنكم بالحكمة ، وصرف قلوبكم عن الشهوات ، فسلوني حكمكم من زهرة الدنيا. قالوا : لا حاجة لنا في شيء من ذلك. قال : فأحبّ أن تقبلوا مني شيئا فإن معي يواقيت وجواهر حسانا. قالوا : أحضره لننظر إليه ، فأمر بإخراج أسفاط فيها جواهر مثمّنة ، ففتحت فلمّا نظروا إليها قالوا له : أيّها الملك ويعجبك مثل هذا؟ قال : ليس شيء من عرض الدنيا أحبّ إلينا منه. قالوا : فانطلق بنا حتى نريك ما هو أحسن منه وأكثر ، وليس عليك فيها مؤونة ، فانطلقوا إلى نهر عظيم فيه صنوف الجواهر واليواقيت ، وفيه من الجواهر ما لم ير مثله ، فقالوا : هذا أكثر أو ما معك؟

١٣٧

قال : بل هذا. فقالوا : بالذي نزع عن قلوبنا الشهوات ، ووفّقنا لطاعته ، وقوّانا على العبادة ، ما تزيّنت امرأة منّا قطّ بشيء من هذا ، ولا انتفعنا به بفصّ خاتم. فأقام عندهم إلى السبت الآخر حتى سكن البحر فجازه حتى أتى معسكره فيقال : إنهم القوم الذين ذكرهم الله جلّ وعزّ في كتابه فقال وقوله الحقّ : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) قال : فلمّا ملك ناشر ينعم تجهّز وسار في جمع لا يحصى عددهم نحو المغرب ، حتى إذا بلغ وادي الرمل أراد أن يجوزه فلم يجد مجازا ، فأقام إلى يوم السبت ، فلمّا سكن الرمل يوم السبت أرسل نفرا من أصحابه وأمرهم أن يقطعوه ، ثم يقيموا من ذلك الجانب إلى السبت الآخر ، ثم ينصرفوا إليه بخبر ما رأوه ، فساروا يرمهم ذلك حتى هجم عليهم الليل قبل أن يقطعوه ، فجرى ذلك الرمل فغرقوا فيه ، فلمّا رأى ذلك ولم يرجع إليه من أصحابه أحد ، أمر بصنم فنصب على حافّة الوادي ، وكتب على جبهته : ليس ورائي لامرئ مذهب فلا يتكلّفنّ أحد المضيّ إلى الجانب الآخر ، ثم انصرف إلى مملكته.

ومن طرقلة إلى مدينة غانة مسيرة ثلاثة أشهر مفاوز وقفار ، وبلاد غانة ينبت فيها الذهب نباتا في الرمل ، كما ينبت الجزر ويقطف عند بزوغ الشمس ، وطعامهم الذرة واللوبياء ، ويسمّون الذرة الدخن ، ولباسهم جلود النمور وهي هناك كثيرة.

ومعدن الفضّة والذهب بموضع يقال له تدمير ، بينه وبين قرطبة عشرة أيّام ، ومعدن الفضّة في أعلى مدينة يقال لها جيّان ، وبها معدن الزيبق في موضع يقال له فحص البلّوط ، ومن معدن الزيبق إلى قرطبة خمسة أيّام ، وأهلها بربر وهم في سلطان الأمويّ.

ويتاخم الشرك أمّة يقال لها علجشكش وهي قريبة من البحر.

وبقرطبة دار الضرب في موضع يقال له باب العطّارين ، وليس في دراهمهم مقطّعة ، ولهم فلوس يتعاملون بها ستّين فلسا بدرهم ، ودراهم تسمّى طبليّا. وللأمويّ جند وديوان يعطيهم أرزاقهم من العرب والموالي وغيرهم. قرطبة طيّبة الهواء لا يحتاجون في الصيف إلى خبش ، وبها عيون وآبار ، وعندهم ثلج يقع على جبل يقال له شلير ، بينه وبين قرطبة أربعة أيّام ، وبقرطبة آبار طيّبة عذبة باردة ،

١٣٨

يشربون في الصيف من تلك الآبار لشدّة بردها.

ويروى عن عامر الشّعبيّ قال : إن الله جلّ وعزّ خلق خلقا خلف الأندلس ليس بينهم وبين الأندلس إلّا كما بيننا وبين الأندلس ، لا يرون أن الله عصاه أحد ، لا يحرثون ، ولا يزرعون ، ولا يحصدون ، على أبوابهم شجر ينبت لهم ما يأكلون منه ، وللشجرة أوراق عراض ، يوصلون بعضها إلى بعض فيلبسونها ، وفي أرضهم الدرّ والياقوت ، وفي جبالهم الذهب والفضّة ، فأتاهم ذو القرنين فخرجوا إليه فقالوا له : ما جاء بك ، تريد أن تملكنا ، فو الله ما ملكنا أحد قطّ ، وإن كنت تريد المال فخذ. فقال : والله ما واحدة من هاتين أريد ، ولكن سألت ربّي أن يسيّرني فيما بين مطلع الشمس إلى مغربها ، فهذا حيث جئتكم من المطلع قالوا : هذا المغرب عندك.

وبالأندلس نخل قليل ، وبها زيتون كثير ، وزيت وقطن وكتّان.

حديث البهت : فمن عجائب الأندلس ، البهت ، وهي المدينة التي في بعض مفاوزها ، ولمّا بلغ عبد الملك بن مروان خبر هذه المدينة وأن فيها كنوزا ، كتب إلى موسى بن نصير ـ وكان عامله على المغرب ـ يأمره بالمسير إليها ، ودفع الكتاب إلى طالب بن مدرك ، فسار حتى انتهى إلى مدينة القيروان ، وموسى مقيم بها ، فأوصل كتاب عبد الملك إليه فلمّا قرأه تجهّز وسار في ألف فارس من أبطال قومه وأشرافهم ، وحمل معه من الزاد لأربعة أشهر ، ومن الماء لنفسه وأصحابه ما يكفيهم ، وأخرج رجالا أدلّاء بذلك الطريق ، فسار ثلاثة وأربعين يوما حتى انتهى إليها ، فأقام ثلاثا حتى علم كنه علمه ، ثم ارتحل إلى البحيرة ، وكانت على ميلين من المدينة ، وتفهّم أمرها ثم انصرف إلى القيروان ، وكتب إلى عبد الملك بن مروان مع طالب بن مدرك ، بسم الله الرحمن الرحيم : أصلح الله أمير المؤمنين صلاحا يبلغ به شرف الدنيا والآخرة ، أخبرك يا أمير المؤمنين أني تجهّزت لأربعة أشهر ، وسرت في مفازة الأندلس في ألف رجل من أصحابي ، حتى أوغلت في طرق قد انطمست ومناهل قد اندرست وعفت فيها الآثار ، وانقطعت عنها الأخبار ، أحاول بلوغ مدينة لم ير الراءون مثلها ولم يسمع السامعون بمثلها ، فسرنا ثلاثة

١٣٩

وأربعين يوما فلاح لنا بريق شرف تلك المدينة من مسيرة خمسة أيّام ، فهالنا منظرها وامتلأت قلوبنا منها رعبا من عظمها وبعد إقطارها ، فلمّا قربنا منها إذا أمرها عجيب هائل ، ومنظرها مخيف موجل كأنّ المخلوقين لم يصنعوها ، فنزلنا عند ركنها الشرقيّ فصلّينا عشاء الآخرة ، ثم بتنا بأرعب ليلة بات بها أحد من المسلمين ، فلمّا أصبحنا كبّرنا استئناسا بالصبح وسرورا به ، ثم أرسلت رجلا من أصحابي في مائة فارس ، وأمرته أن يدور مع سور المدينة ليعرف لنا موضع بابها ، فغاب عنّا يومين ، ثم أتانا صبيحة يوم الثالث فأخبر أنها مدينة لا باب لها ، ولا مسلك إليها ، فجمعت أمتعة أصحابي إلى جانب سورها وجعلت بعضها إلى بعض لأنظر من يصعد إليها فيأتيني بخبر ما فيها فلم تبلغ أمتعتنا ربع الحائط لارتفاعه في الهواء فأمرت فاتّخذ سلاليم كثيرة ، ووصلت بعضها إلى بعض بالجبال ونضبتها على الحائط ، وناديت في المعسكر من يتعرّف لي خبر هذه المدينة ، ويصعد هذه السلاليم فله عشرة آلاف درهم ، فانتدب رجل من أصحابي فتسنّم السلّم وهو يتعوّذ ويقرأ ، فلمّا صار في أعلاها وأشرف على المدينة قهقه ضاحكا ، ثم هبط إليها فناديناه : أخبرنا بما رأيت فيها ، فلم يجبنا ، فجعلنا أيضا لمن يصعد إليها ويأتينا بخبرها وخبر الرجل ألف دينار ، فانتدب رجل من حمير وأخذ الدنانير وجعلها في رحله ، ثم صعد فلمّا استوى على السور قهقه ضاحكا ، ثم نزل إليها فناديناه : أخبرنا بما وراءك وما الذي ترى فلم يجبنا أحد ، حتى صعد ثلاثة رجال كلّهم يقهقه ضاحكا ويتطيّر ، فامتنع أصحابي بعد ذلك من الصعود وأشفقوا على أنفسهم ، فلمّا يئست من أولئك الرجال ومن معرفة المدينة ، رحلت نحو البحيرة ، فسرت مع سور المدينة فانتهينا إلى مكان من السور فيه كتابة بالعربية (١) ، فوقفت حتى أمرت باستنساخه وهي :

ليعلم المرء ذو العزّ المنيع ومن

يرجو الخلود ولا حيّ بمخلود

لو أنّ خلقا ينال الخلد في مهل

لنال ذاك سليمان بن داود

__________________

(١) معجم البلدان (بالحميرية) وقد أكملنا بعض الفجوات في خبر هذه المدينة اعتمادا عليه إذ ان ياقوت الحموي كان يعتمد على النسخة الكاملة من كتاب ابن الفقيه. انظر ٤ : ٤٥٥ ـ ٤٥٧.

١٤٠