البلدان

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]

البلدان

المؤلف:

أبي عبدالله أحمد بن محمد بن إسحاق الهمذاني [ ابن الفقيه ]


المحقق: يوسف الهادي
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٦٠

فقال الخليل : سقاك الله حميما وغساقا. ثم قال : اللهمّ لا تؤاخذني بهذا الموقف ومضى.

وخرج عمر بن الخطّاب يوما فإذا جوار يضربن بالدفّ ويغنّين ويقلن :

تغنّين تغنّين

فللهو خلقتنّ

فجعل يضرب رؤوسهن بالدّرة ويقول : كذبتنّ كذبتنّ :

فأخزى الله شيطانا

رمى هذا إليكنّ

وقال بعض المتعبّدين : كنت أماشي بعض الصوفيّة بين بساتين. البصرة فسمعنا ضارب طنبور يقول :

يا صباح الوجوه ما تنصفونا

أنتم زدتم القلوب فتونا

كان في واجب الحقوق عليكم

إذ بلينا بكم بأن ترحمونا

قال فشهق شهقة ثم أفاق وقال : يا مغرور قل :

يا صباح الوجوه سوف تموتو

ن وتبلى خدودكم والعيونا

وتصيرون بعد ذاك رميما

فاعلموا ذاك إنّ ذاك يقينا

ومر بعض الشعراء بنسوة فأعجبه شأنهن فأنشأ يقول :

إنّ النّساء شياطين خلقن لنا

أعوذ بالله من شرّ الشياطين

فأجابته واحدة :

إنّ النّساء رياحين خلقن لكم

وكلّكم يشتهي شمّ الرياحين

ومر حسين بن عليّ (رضي الله عنه) بنسوة فقال لهن : لولا أنتنّ لكنّا مؤمنين ،

فأجابته واحدة منهن وقالت : لولا أنتم لكنّا آمنين.

وكان عمرو الجهنيّ ناسكا فدخل المسجد الجامع بالبصرة فوقف على حلقة النّهديّين والقرشيّين وأنشأ يقول :

١٠١

ما جرت خطرة على القلب منّي

منك إلّا استترت من أصحابي

بدموع تجري وإن كنت وحدي

خاليا أتبع الدّموع انتحابي

أنت همّي ومنيتي وهواي

ورجائي وغايتي وارتقابي

قال : فتصوّب الحلق يستمنعون إليه فأقبل عليهم وقال : هذا يقوله مخلوق لمخلوق وتدعون الخيرات الحسان المقصورات في الخيام.

وقال بشر بن أبي قبيصة : قلنا لأبي همّام ـ وقد كان غلب على عقله ـ تأمر في ميراثك عن أبيك؟ فأقبل علينا مغضبا وقال : يا بشر! أو يتوارث أهل ملّتين؟ قلت : ونحن أهل ملّتين؟ قال : نعم ، أنتم تزعمون أن الله قضى الخير ولم يقض الشرّ ، وأنا أزعم أن الله قضى الخير والشرّ ، وأن من عذّبه الله عذّبه غير ظالم له ، ومن رحمه فرحمته وسعت كلّ شيء.

وقال عبد الله بن إدريس : مررت بابن أبي مالك وكان معتوها ذاهب العقل لا يتكلّم حتى يكلّم ، فإذا كلّم أجاب جوابا معجبا ، فقلت : يا ابن أبي مالك ما تقول في النبيذ؟ قال : حلال. قلت : أتشربه؟ قال : إن شربته فقد شربه وكيع وهو قدوة. قلت : تقتدي بوكيع في تحليله ولا تقتدي بي في تحريمه وأنا أسنّ منه؟ قال : قول وكيع مع اتّفاق أهل البلد معه أحبّ إليّ من مقالتك مع خلاف أهل البلد عليك. وقال عبد الله بن إدريس : مررت بابن أبي مالك فناديته فقال : ما تشاء؟ قلت : متى تقوم الساعة؟ قال : ما المسؤول بأعلم من السائل ، غير أن من مات فقد قامت قيامته ، والموت أوّل عدل الآخرة. قلت : فالمصلوب يعذّب؟ قال : إن كان مستحقّا فإن روحه يعذّب وما أدري لعلّ هذا البدن في عذاب من عذاب الله لا تدركه عقولنا وأبصارنا ، فإن لله لطفا لا يدرك.

وكان جالسا في موضع قد كان فيه رماد ومعه قطعة جصّ فكان يخطّ به فيستبين بياض الجصّ في سواد الرماد ، فتبسّم فقلت له : أيّ شيء تصنع؟ قال : ما كان يصنع صاحبنا مجنون بني عامر. قلت : وما كان يصنع؟ قال : أو ما سمعته يقول :

١٠٢

عشيّة ما لي حيلة غير أنّني

بلقط الحصى والخطّ في الدار مولع

أخطّ وأمحو الخطّ ثم أعيده

بكفّي والغزلان حولي ترتع

قلت : ما سمعته ، فتضاحك ثم قال : أما سمعت الله عزّ وجلّ يقول : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) أسمعته أم رأيته؟ يا ابن إدريس هذا كلام العرب.

وقال خلف بن تميم : عدنا مريضا فقال رجل ممن كان في البيت :

ناد ربّ الدار ذا المال الّذي

جمع المال بحرص ما فعل

فأجابه من ناحية البيت :

كان في دار سواها داره

علّلته بالمنى ثمّ ارتحل

إنّما الدنيا كظل زائل

طلعت شمس عليه فاضمحل

وقال بعضهم : أحببت جارية من العرب ذات جمال وأدب ، فما زلت أحتال في أمرها حتى التقينا في ليلة ظلماء شديدة السواد فقلت لها : طال شوقي إليك ، قالت : وأنا كذلك ، وإنّما تجري الأمور بالمقادير. فتحدّثنا ثم قلت : قد ذهب الليل وقرب الصبح ، قالت : وهكذا تنفد اللذّات وتنقطع الشهوات ، قلت : لو أدنيتني منك. قالت : هيهات إني أخاف الله من العقوبات ، قلت : فما دعاك إلى الحضور في هذا الموضع الخالي؟ قالت : شقوتي وبلائي. قلت : فما أراك تذكريني بعد هذا ، قالت : ما أراني أنساك وأمّا الاجتماع فما أراني أراك ثم ولّت عني وقالت :

أخاف الله ربّي من عذاب

شديد لا أطيق له اصطبارا

قال : فاستحييت والله ممّا سمعت منها وانصرفت وقد ذهب عني بعض ما كنت أجد بها.

قال : وكان سليمان بن عبد الملك شابّا وضيئا وكان يعجبه اللباس والخمرة ، فلبس ذات يوم وتهيّأ ثم قال لجارية له حجازيّة : كيف ترين الهيئة؟ قالت : أنت أجمل الناس. قال : أنشديني على ذلك ، فقالت :

١٠٣

أنت خير المتاع لو كنت تبقى

غير أن لا بقاء للإنسان

أنت خلو من العيوب وممّا

يكره الناس غير أنّك فان

قال عبد الملك بن مروان يوما لجارية له : ألقيت على جلسائي صدر بيت فأعياهم إجازته. قالت : وما هو؟ قال :

نروح إذا راحوا ونغدوا إذا غدوا

فقالت : وعمّا قليل لا نروح ولا نغدو

١٠٤

باب في مدح الغربة والاغتراب

قال الله عزّ وجلّ : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ، وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) وقال : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) وقال : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) وقال : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الآية ، قال : وروى الزبير بن العوّام قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : «البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله ، فحيث ما أصبت خيرا فأقم ، واتّق الله» وقال : «سافروا تغنموا» وقال (صلى الله عليه وسلم) : «موت الغريب شهادة». قال أبو المليح : أتيت ميمون بن مهران وقلت له : إني أريد سفرا ، فقال : اخرج لعلّك تصيب من آخرتك أفضل ما تؤمّل من دنياك ، فإن موسى بن عمران خرج يقتبس نارا لأهله فكلّمه الله عزّ وجلّ ، وخرجت بلقيس تطلب ملكها فرزقها الله الإسلام.

وقال عمر (رضي الله عنه) : لا تلثّوا بدار معجزة ـ أي لا تقيموا.

وقال سفيان الثّوريّ : لمّا خرج يوسف (عليه السلام) من الجبّ قال قائل منهم : استوصوا بالغريب خيرا ، فقال يوسف : من كان الله معه فلا غربة عليه.

وعن شريح بن عبيد قال : ما مات غريب في أرض غربة غابت عنه بواكيه إلّا بكت السماء عليه والأرض وأنشد :

إنّ الغريب إذا بكى في حندس

بكت النّجوم عليه كلّ أو ان

وقال معاوية للحارث بن الحباب : أيّ البلاد أحبّ إليك؟ قال : ما حسنت فيه حالي وعرض فيه جاهي ثم أنشأ يقول :

١٠٥

فلا كوفة أمّي ولا بصرة أبي

ولا أنا يثنيني عن الرّحلة الكسل

وقرئ على باب خان طرسوس :

ما من غريب وإن بدى تجلّده

إلّا سيذكر عند الغربة الوطنا

وأسفل منه مكتوب :

أير الحمار وأير البغل في قرن

في است الغريب إذا ما حنّ للوطن

وقال بعضهم : غرس المشقّة مع دوام الغربة يحبّبان الدعة ، وحسن التعب يصيّر إلى محلّ الراحة. وقال بعضهم : اطلبوا الرزق في البعد فإنكم إن لم تغنموا مالا كثيرا غنمتم عقلا كبيرا وأنشد :

لا يمنعنّك خفض العيش في دعة

حنين نفس إلى أهل وأوطان

تلقى بكلّ بلاد إن حللت بها

أهلا بأهل وجيرانا بجيران

هذا كما قيل في الأثر : ليس بينك وبين البلدان عداوة ، فخير البلاد ما احتملك. وقال بعض المحدثين :

وما بلد الإنسان غير الموافق

ولا أهله الأذنون غير الأصادق

وقال آخر :

وإذا الديار تنكّرت عن حالها

فدع الديار وأسرع التحويلا

ليس المقام عليك فرضا لازما

في بلدة تدع العزيز ذليلا

وقال آخر :

إذا كنت في أرض تكرّهت أهلها

فدعها وفيها إن رجعت معاد

وقالوا : الراحة عقلة. وقال أحمد بن المعافى :

إنّ التّواني أنكح العجز بنته

وساق إليها حين زوّجها مهرا

فراشا وطيّا ثمّ قال لها أتّكي

فقصرهما لا شكّ أن يلدا الفقرا

١٠٦

نعوذ بالله منه ، وقال آخر :

أغرّك أن كانت لبطنك عكنة

وأنّك مكفيّ بمكّة طاعم

وقال الحطيئة :

دع المكارم لا ترحل لبغيتها

وأقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي

وقالوا : قناعة الناس بالأوطان من النقص والفشل والطلب من علم التجارب والعقل.

وقال أكثم بن صيفيّ : ما يسرّني أنّي مكفيّ أمر الدنيا ، وأني أسمنت وألبنت.

قالوا : ولم؟ قال : مخافة عادة العجز.

وقالوا : لا توحشك الغربة إذا آنست بالكفاية ، ولا تجزع لفراق الأهل مع لقاء اليسار.

وقالوا : الفقر أوحش من الغربة ، والغنى آنس من الوطن ، وترك الوطن أدنى إلى فرح الإقامة.

وقيل : الفقير في الأهل مصروم ، والغنيّ في الغربة موصول.

وقالوا : أوحش قومك. ما كان في إيحاشهم أنسك ، واهجر وطنك ما نبت عنه نفسك.

وقالوا : إذا عدمت أنكرك قريبك ، وإن أثريت عرفك غريبك.

وقال قسّ بن ساعدة : أبلغ العظات النظر إلى محلّ الأموات ، وأفضل الذكر ذكر الله ، وخير الزاد التقوى ، وأحسن الجواب الصمت ، وأزين الأمور الاحتمال ، والحزم شدّة الحذار ، والكرم حسن الاصطبار ، وفي طول الاغتراب فوز الاكتساب.

وقال آخر : تألّفوا النعم بحسن مجاورتها ، والتمسوا المزيد بحسن الشكر ، واغتربوا لتكسبوا ، ولا تكونوا كالنساء اللاتي قد رضين بالكنّ واقتصرن على

١٠٧

القعود ، فإن الغربة تخرّج الغمر ، وتشجّع الجبان ، وتحرّك المضطجع ، وتزيد في بصيرة الماهر.

وقال :

الفقر في أوطاننا غربة

والمال في الغربة أوطان

وقال آخر : لا يألّف الوطن إلّا ضيّق العطن.

وقال آخر : ما حنّ أحد إلى بلد جمع فيه شمله إلّا لوصمة في عقله ، ولا تنزع بامرء نفسه إلى بلد قلّ به رفده إلّا لاستيلاء الموق عليه.

وقالوا : الحنين إلى الأوطان من أخلاق الصبيان وفي طول الاغتراب فوز الاكتساب ، وفي فائدة صالح الإخوان مع النزوح عن الأوطان سلوّ عن مقارنة الجيران ، ولولا اغتراب الناس عن محالّهم ضاقت بهم البلدان وسئم ألّافهم الإخوان ، ومن طالب أخاه بمحلّه قلّت هيبته وسئمه أهله وتمنّوا الراحة منه. قال : ولولا اغتراب المغتربين ما عرف ما بين الأندلس إلى الصين ، ولا ردم الإسكندر السدود ، ودوّخ الأقاليم ، ومدّن المدن ، وبخع له ملوكها بالطاعة ، ولا قتل دارا بن دارا ، ولا أسر الأساورة ، ولا جمعت الملوك بين الصفائح اليمانية ، والقضب الهنديّة ، والرماح البلوصيّة ، والأسنّة الخزريّة ، والأعمدة الهرويّة ، والأجرزنة (١) الأسروشنيّة ، والخناجر الصّغديّة ، والسروج الصينيّة ، والدروع السابريّة والجواشن الفارسيّة ، والقسيّ الشاشيّة ، والأوتار التركيّة ، والسهام الناوكيّة ، والجعاب السجزيّة ، والدرق المغربيّة ، والأترسة التبّتيّة ، والجلود الزّنجيّة ، والنمور البربريّة ، واللجم الخانبديّة والركب المروزيّة ، والستور الصينيّة ، والخيل الخزريّة ، والكراسيّ القمّيّة ، والشهاريّ البخاريّة والبغال الأرمنيّة ، والحمير المريسيّة ، والكلاب السلوقيّة ، والبزاة الروميّة ، والصوالجة النهاونديّة ، والثياب المنيّرة

__________________

(١) لعلها (الاجرزة) قال ابن منظور : الجرز من السلاح والجمع الجرزة والجرز والجرز : العمود من الحديد ، معروف ، عربي. وقال في برهان قاطع (كرز) عمود حديد ، وتقال للهراوة المصنوعة من الخشب.

١٠٨

الرازيّة ، والأكسية القزوينيّة ، والثياب السعيديّة ، والحلل اليمانية ، والأردية المصريّة ، والملاحم الخراسانيّة ، والثياب الطاهريّة ، والحلل الأندلسيّة ، والدرّ العمانيّ ، والياقوت السّرنديبيّ ، والحرير الصينيّ ، والخزّ السوسيّ ، والديباج التّستريّ ، والبزيون الروميّ ، والكتّان المصريّ ، والوشي الكوفيّ ، والعتّابيّ الأصبهانيّ ، ولا علم أن ببلاد المغرب ومصر عجائب لا تكون إلّا بها مثل منارة الإسكندريّة وعمود عين الشمس ، والهرمان وجسر أذنة ، وقنطرة سنجة ، وكنيسة الرّها ، وسور أنطاكية ، والأبلق الفرد ، وبرهوت ، وهاروت ، والفرس الذي في أقصى المغرب ، والأسد الذي بهمذان ، والسمكة والثور بنهاوند ، وإيوان كسرى بالمدائن ، وتخت شبديز في الطاق ، وبناء قصر شيرين والدكّان ، وأساطين قصر اللصوص ، وعجائب رومية ، والتمساح بالنيل ، والرعّاد والسقنقور ، وغير ذلك مما لا يحصى ولا يعدّ. وقالوا : أبعد الناس نجعة في الكسب بصريّ ، وحميريّ ، ومن دخل فرغانة القصوى ، والسوس الأقصى ، فلا بدّ أن يرى فيها بصريّا ، أو حميريّا على أن أهل إصبهان والخوز معروفون بذلك ، ويجد في كلّ بلد منهما صفّا قائما. وممّا قالوا في التقلّب في البلدان والتباعد في الأطراف قول أبي العتاهية في الرشيد :

ولولا أمير المؤمنين وعدله

إذا لبغى بعض البلاد على بعض

وسيّارة هادون في الأرض بالهدى

ليحكم بالإبرام لله والنّقض

لئن كان ذو القرنين أدرك غاية

لحسبك من هارون ما سار في الأرض

وقال آخر في غزوة خراسان :

وما كان ذو القرنين يبلغ سعيه

ولا غزو كسرى للهياطلة الجرد

وجوّاب آفاق وطلّاع أنجد

وطلّاب وتر لا ينام على حقد

وقال آخر في تقلّبه في البلاد :

خليفة الخضر من يربع على وطن

في بلدة فظهور العيس أوطاني

بالشّأم داري وبغداذ الهوى وطني

بالرّقمتين وبالفسطاط إخواني

١٠٩

وما أظنّ النّوى ترضى بما صنعت

حتّى تسافر بي أقصى خراسان

وقال الطائيّ :

إن تراني ترى حساما صقيلا

مشرفيّا من السّيوف الحداد

ثاني اللّيل ثالث البيد والسّي

ر نديم النّجوم ترب السّهاد

كلّم الخضر لي يصيّرني بع

دك عينا على عيار البلاد

ليلة بالشام ثمّت بالأه

واز يوما وليلة بالسّواد

وطني حيث حطّت العيس رحلي

وذراعي الوساد وهو مهادي

وقال آخر في شبيه هذا المعنى :

قبّح الله آل برمك إنّي

صرت من أجلهم أخا أسفار

إن يك ذو القرنين قد مسح الأر

ض فإنّي موكّل بالعيار

ويقول الشاعر للمعتصم بالله :

تناولت أطراف البلاد بقدرة

كأنّك فيها تبتغي أثر الخضر

قال : وقد كانت للخلفاء فتوح ولكنّه لم يتّسق لأحد ما اتّسق للمأمون وعبد الملك بن مروان والمعتصم بالله ، إلّا أن فتوح المأمون وعبد الملك كانت لمن قصد إلى ملكهما ، فبلغا في ذلك ما لم يبلغه أحد في الإسلام من الملوك ، وللمعتصم ستّ فتوح عظام جليلة ، لم يحارب في واحدة منهن إلّا من قصد المسلمين دون ملكه خاصّة ، فمن ذلك : مازيار ملك طبرستان عبد أن غلب وقتل وتمكّن من تلك القلاع والجبال المنيعة والسبل الوعرة حتى ظفر به وقتله ، ومن ذلك : بابك كسر العساكر وقلّ الأجناد وقتل القوّاد وأخرب البلاد وملأ القلوب هيبة ومخافة فأخذه أسيرا وقتله وصلبه إلى جنب مازيار ، ومن ذلك : فتح عمورية ، وهزيمة الطاغية أمير ياطيس صاحب الضّواحي ، فأسره وصلبه إلى جنب بابك ومازيار ، ومن ذلك : استباحته الزّطّ حتى اجتثّ أصلهم وأباد خضراءهم ، بعد أن منعوا بغداذ الميرة ، وقتلوا القوّاد ، وغلبوا على البلاد ، وبعد أن رامهم خليفة بعد

١١٠

خليفة ، ومن ذلك : أمر جعفر الكرديّ وإخافته السبل فظفر به وقتله ، ومن ذلك : ما كان منه في أمر الهند وشقّ الهند كلّه ، حتى ظفر من عدد البروج ورؤساء الهند وإبطال المقاتلة وأخرب السواحل على يدي عمر بن الفضل الشيرازيّ.

ثم خليفتنا المعتضد بالله اتّسق له من الفتوح الجليلة العظيمة مثل ذلك فمن ذلك : أسره لهارون الخارجيّ الشاري بعد أن كان قد تغلّب على البلاد ومنع الميرة من جميع الآفاق ، ومن ذلك : قصده لآل عبد العزيز بن أبي دلف بناحية الجبل ، حتى اجتثّ أصلهم ، واستباح حريمهم ، ثم ما كان من شأن رافع بن هرثمة وخلعه الطاعة ، فحمل رأسه إلى مدينة السلام ، ثم أمر محمّد بن زيد العلويّ بطبرستان بعد أن تمكّن من القلاع والحصون التي لا ترام ، بعد أن كانت الخطبة قد انقطعت عنهم ثمان وثلاثين سنة بمقامه ومقام الحسن بن زيد ، وكان دخول الحسن بن زيد إليها في المحرّم سنة ٢٥٠ ، وتوفّي في ذي الحجّة سنة ٢٧٠ ، وصار مكانه أخوة محمّد بن زيد ، فقتل (رحمه الله) بجرجان يوم الجمعة لثمان خلون من شعبان سنة ٢٨٧ ، ومن ذلك : عمرو بن الليث الصفّار وقتله إيّاه ، ومن ذلك : فتح آمد وهي أحصن مدينة في بلاد العرب ، وإيقاعه بابن الشيخ ، وأخذه إيّاه أسيرا ، ثم أمر وصيف الخادم وخروجه إليه بنفسه إلى تخوم أرض الروم حتى أوقع به وأخذه أسيرا ، ثم قتله وصلبه(١).

__________________

(١) وقعت الأحداث أعلاه كما يلي :

الظفر بهارون الشاري كان عام ٢٨٣ ه‍.

جيء برأس رافع فنصب ببغداد عام ٢٨٤ ه‍.

تمت السيطرة على طبرستان وخطب للمعتضد على منابرها في ٢٨٧ ه‍.

ألقي القبض على ابن الشيخ في ٢٨٧ ه‍.

هرب وصيف وإلقاء القبض عليه وقتله في ٢٨٨ ه‍.

جيء بعمرو بن الليث أسيرا إلى بغداد عام ٢٨٨. وكان المعتضد وهو على فراش الموت يومئ بيديه إلى أحد خدمه بقتل عمرو إلّا أن ذلك الخادم لم يفعل ، ثم مات المعتضد ٢٨٩ ثم قتل عمرو في نفس العام عند أول دخول المكتفي إلى بغداد. انظر الطبري ١٠ : ٤٣ ـ ٨٨ عن الأحداث أعلاه. وكذلك ابن الأثير ٧ : ٥١٦.

١١١

وكان الحسن بن عليّ (رضي الله عنهما) يتمثّل :

من عاذ بالسّيف لاقى فرصة عجبا

موتا على عجل أو عاش منتصفا

لا تركبوا السّهل إنّ السّهل مفسدة

لن تدركوا المجد حتّى تركبوا عنفا

وقالوا : ليكن اليقين من أفضل سلاحك ، والرضا بالقضاء من أفضل أعوانك والجدّ في طلب الخير من بالك ، وأنشد :

فلا تحسبنّ الرّزق بابا سددته

عليّ ولا أنّي إليك فقير

ففي العيس منجاة وفي الأرض مذهب

وفي الناس أبدال سواك كثير

وكتب بعضهم إلى أهله من بلاده بعيدة :

كتابي إليكم من بلاد بعيدة

تجشّمتها كي لا يضرّ بي الفقر

وأنشد :

اصبر لها فالحرّ صبّار

أو اشكها إن مسّك العار

دائرة دارت على عاقل

لم يخشها والدّهر دوّار

نبت بك الدار فسر آمنا

فللفتى حيث انتهى دار

ولبعضهم :

تبدّل بدار غير دارك موطنا

إذا صعبت فيها عليك المطالب

فما الكرج الدّنيا ولا النّاس قاسم

وفي غيرها للطالبين مكاسب

وللطائيّ :

وطول مقام المرء في الحيّ مخلق

لديباجتيه فاغترب تتجدّد

ألم تر أنّ الشّمس زيدت محبّة

إلى النّاس إذ ليست عليهم بسرمد

وقالوا : العسر في الغربة مع العزّ ، خير من اليسر في الوطن مع الذلّ. وقيل لآخر : ما العيش؟ قال : دوران البلدان ، ولقاء الإخوان ، ومغازلة القيان ، ومرافقة

١١٢

الفتيان ، واستماع النغمات من الزير والمثاني.

وقيل لآخر : ما السرور؟ قال : غيبة بعد غنى وأوبة تعقب منى. وقال آخر :

سرى طيفها نحو امرئ متطوّح

طليح سفار أسفع اللّون شاحب

تراه كنصل السّيف أصدأ صفحة

مقادمه والنّصل ماضي الضرائب

تغرّب يبغي اليسر ليس لنفسه

خصوصا ولكن لابن عم وصاحب

وما عذر ذي العشرين والخمس قاعدا

ولم يبل عذرا في طلاب الرغائب

ومن لا يزل يخشى العواقب لا يزل

مهينا رهينا في حبال العواقب

وأشفق من اسم التنكّر مقترا

فلم ينجه إلّا نجاء الركائب

ولعبد الله بن طاهر :

وا سوءتى لامرئ شبيبته

في عنفوان وماؤها خضل

وهو مقيم بدار مضيعة

طباعه في اصطناعه الفشل

راض بدون المعاش متّضع

على تراث الآباء متّكل

لا حفظ الله ذاك من رجل

ولا رعاه ما حنّت الإبل

كلّا وربّي حتّى يكون فتى

قد نهكته الأسفار والرّحل

تسمو به همّة منازعة

وطرفه بالسّهاد مكتحل

نال بلا منّة ولا ضرع

ولا بوجه تفوته الحيل

إلّا بعض أو مت بشفرته

كفّ تمطّى بها فتى بطل

حتّى متى يصحب الرّجال ولا

يصحب يوما لأمّه الهبل

وكان عمرو بن العاص يقول : عليكم بكلّ أمر مزلفة مهلكة ، أي عليكم بجسام الأمور.

ولمّا نظر معاوية إلى عسكر أمير المؤمنين (عليه السلام) قال : من طلب عظيما خاطر بعظيمته ـ يعني برأسه ـ.

١١٣

وكان يقال : من سرّه أن يعيش مسرورا فليقتنع ، ومن أراد الذكر فليجتهد ، ومن أراد أن يعتبر فليغترب. وقالوا : لا ينبغي للعاقل أن يكون إلّا في إحدى منزلتين : إمّا في الغاية القصوى من الدنيا والطلب لها ، أو في الغاية والنهاية من الترك لها.

وقال آخر : الدنيا مرعى فمن وجد الكلأ في موضع فليلزمه. ولأبي نواس :

أرى النّفس قد أضحت تتوق إلى مصر

ومن دونها جوب الحزونة والوعر

ووالله ما أدري أللخفض والغنى

أساق إليها أم أساق إلى قبري

سأرمي بنفسي عن قريب أمامها

وأترك قول العاذلين ذوي الزّجر

لأنّ الّذي قد قدّر الله كائن

ألا إنّما تجري الأمور على قدر

وقال آخر : السلامة إحدى العصمتين ، والمرأة الصالحة إحدى الكاسبين ، واللبن إحدى اللحمين ، والعادة إحدى الطبيعتين ، والدعاء للسائل إحدى الصدقتين ، وخفّة الظهر أحد اليسارين ، والغربة إحدى اللذّتين.

وأنشدني صديق لابن عبدوس الكاتب :

زعم الّذين تشرّقوا وتغرّبوا

أنّ الغريب وإن أعزّ ذليل

فأجبتهم إنّ الغريب إذا أتّقى

حيث استقلّ به الركاب جليل

قالوا الغريب يهان قلت تجلّدا

إنّ الإله بنصره لكفيل

قالوا إذا مات الغريب ببلدة

أدلي ولم يسمع عليه عويل

قلت الغريب كفاه رحمة ربّه

وغنى البكاء عن الفقيد قليل

وله أيضا :

يقولون لي لا تغترب قلت إنّني

إذا ما اتّقيت الله غير غريب

إذا كنت ذا عسر وحال خسيسة

أمنت شماتات بها لقريب

وإن كنت ذا مال وحال جليلة

فأحذر أن لا يطلبون عيوبي (١)

__________________

(١) لعل الأصل هو : ان لا يطلبوا لعيوبي.

١١٤

القول في مصر والنيل

قال الكلبيّ : سمّيت مصر بمصر بن أينم بن حام بن نوح ، وافتتحها عمرو بن العاص ، وروي في قول الله عزّ وجلّ : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) قال : مصر. قال ابن السّكّيت : سمّيت مصر لأنها الحدّ ، وأهل هجر يكتبون في شروطهم اشترى جميع الدار بمصورها أي بحدودها ، قال عديّ بن زيد التميميّ :

وصيّر الشّمس مصرا لا خفاء به

بين النّهار وبين اللّيل قد فصلا

أي حدّا حاجزا. وقال عبد الله بن عمرو : من أراد أن ينظر إلى الفردوس فلينظر إلى مصر حين تحرث. وروي عن الضحّاك بن مزاحم عن ابن مسعود مرفوعا قال : ينادي يوم القيامة مناد من السماء يا أهل مصر فيقولون جميعا أوّلهم وآخرهم : لبّيك ، فيقال : إن الله عزّ وجلّ يقول ألم أمنن عليكم بسكنى مصر ، وأطعمتكم فيه الخمر (١) والخمير وصيد طير السماء وحيتان البحر والماء العذب؟ فيقولون : بلى ربّنا.

وأرض مصر محدودة أربعين ليلة في مثلها ، وكانت منازل الفراعنة وكان اسمها باليونانيّة مقذونية ، وطول مصر من الشجرتين اللتين بين رفح والعريش إلى أسوان ، وعرضها من برقة إلى أيلة وهي مسيرة أربعين ليلة في أربعين ليلة ، ومن بغداذ إلى مصر خمس مائة وسبعون فرسخا ، يكون ذلك أميالا ألف وسبع مائة وعشرة أميال (٢).

__________________

(١) كذا في الأصل ، ولعلها : الخبز.

(٢) من (وأرض مصر محدودة ...) إلى (وعشرة أميال) في ابن خرداذبه ص ٨٠ ، ٨٣.

١١٥

قال : وقال عبد الله بن عمرو بن العاص : البركة عشر بركات ، في مصر تسع بركات وفي الأرضين بركة واحدة. والشرّ عشرة أجزاء ، بمصر جزء واحد ، وفي الأرض كلّها تسعة أجزاء وأما معنى قولهم : عمر مصّر الأمصار فإنه لم يحدث إلّا البصرة والكوفة ، وقد تفعل العرب هذا فتسمّي الاثنين باسم الجميع ، وقال الحسن : مصّر عمر سبعة أمصار : المدينة ، والبحرين ، والبصرة ، والكوفة ، والجزيرة ، والشام ، ومصر. وقال أبو الخطّاب : لم يذكر الله جلّ وعزّ شيئا من البلدان باسمه في القرآن ما ذكر مصر حين قال : (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ) وقال عزّ وجلّ : (اهْبِطُوا مِصْراً) ، (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) وكنّاها فقال عزّ وجلّ : (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) وسمّاها الله عزّ وجلّ الأرض فقال : (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها) الآية وسمّى الله جلّ وعزّ ملكها العزيز فقال : (قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ) وقال : (يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً) وأخبرني شيخ من آل أبي طالب قال : رأيت بمنف من كور مصر دار فرعون ، ودرت في مجالسه ، ومشارفه وغرفه وصفافه فإذا كلّه حجر واحد منقور ، فإن كانوا لا حكوا بينه حتى صار في الملامسة لا يستبين فيه مجمع حجرين ، ولا ملتقى صخرتين ، فهذا عجب ، وإن كان حجرا واحدا فنقرته الرجال بالمناقير حتى تخرّقت فيه تلك المخارق إن هذا لأعجب ، والنيل قد سمّاه الله بحرا قال الله : (فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ) واليمّ هاهنا النيل ، وهي ذات عيون سفّاحة.

ومن مفاخر أهل مصر مارية القبطيّة أمّ إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، وتزوّج خمس عشرة امرأة ، وتوفيّ (صلى الله عليه وسلم) عن تسع ، وحرّم الله جلّ وعزّ مارية على الرجال بعد أن ولدت إبراهيم من بعد وفاة النبيّ (عليه السلام) كما حرّم سائر نسائه. من مفاخر مصر هاجر أمّ إسماعيل (صلى الله عليه وسلم) الصادق الوعد. وقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : «إذا استفتحتم مصر فاستوصوا بالقبط خيرا ، فإني لهم صهر». وقالوا : لو عاش إبراهيم ما ملكت قبطيّة أبدا. قالوا : وأرض مصر محدودة في الكتاب. إنها مسيرة أربعين ليلة في مثلها ، وأرض السودان مسيرة سبع سنين ، فما فضل عنهم من مائها صار

١١٦

إلى مصر ، وأرض مصر جزء من ستّين جزءا من أرض السودان ، وأرض السودان جزء من ستّين جزءا من الأرض.

ومن مفاخر مصر وسكّانها من القبط مؤمن آل فرعون ، والسحرة وأصحاب التوبة النصوح ، وهاجر ، وآسية ، وأمّ إبراهيم ، وفي نسائهم ملح وهن يشبهن في الحظوة البربريّات ، والقبط أحذق في الكمانكيّة (١) واللعب من السند ، ومع القبط خفّة عجيبة.

وبمصر جبل المقطّم ، ويروى عن كعب أنه قال : جبل مصر مقدّس من القصير إلى اليحموم ، وسأل كعب رجلا يريد مصر فقال : أهد لي تربة من سفح مقطّمها ، فأتاه بجراب ، فلمّا توفّي أمر به ففرش تحت جنبه في قبره. وقالوا : جبل الزمرّد من جبال البجة موصول بالمقطّم ، والمقطّم جبل مصر. وقال ابن لهيعة : سأل المقوقس عمرو بن العاص أن يبيعه سفح المقطّم كلّه بسبعين ألف دينار ، فكتب عمرو إلى عمر فقال عمر : سله لم أعطانا بها وهي لا تستنبط ، ولا تزرع فقال : إني أجد في الكتب أن فيه غرس الجنّة ، فأعلم عمرو عمر ذلك فكتب إليه : إنّا لا نعلم غراس الجنّة إلّا للمؤمنين ، فاقبر فيه من مات من المسلمين ، ولا تبعه بشيء ، فكان أوّل من قبر فيه رجل من المعافر ، يقال له عامر ، فقيل عمرت.

ومدينة فسطاط : هي مدينة مصر سمّيت بذلك لأن عمرو بن العاص ضرب فسطاطه بذلك المكان بباب أليون ، وسويقة وردان بمصر ، وبمصر حائط العجوز على شاطئ النيل ، بنته عجوز كانت في أوّل الدهر ذات مال ، وكان لها ابن وكان واحدها فقتله السبع فقالت : لأمنعنّ السباع أن ترد النيل ، فبنت ذلك الحائط حتى لا تصل السباع إلى النيل ، ويقال : إن ذلك الحائط كان طلسما وكان فيه تماثيل ، كلّ إقليم على هيئتهم وزيّهم ، والدوابّ والسلاح ، وكلّ أمّة مصوّرة في طرقها التي تجيء منها ، فإذا أراد أهل إقليم غزو مصر وانتهوا إلى تلك الصور انصرفوا ، ويقال : بني ذلك ليكون حاجزا بين أهل الصعيد والنوبة ، لأنهم كانوا يغيرون على

__________________

(١) لم نهتد إلى معناها.

١١٧

أهل الصعيد ولا يستعرفون ، فبني ذلك من أهل النوبة. وقيل أمر بعض الملوك أفلاطون فبني بناحية مصر ممّا يلي البرّ حائطا طوله ثلاثون فرسخا ما بين الفرما إلى أسوان حاجزا بينهم وبين الحبشة.

وبالفسطاط صورة امرأة من حجر عظيمة قاعدة ، على رأسها إجّانة وعلى كلّ واحدة من ركبتيها درجة إلى غرفة ، تسمّى أمّ يزيد الخولانيّة.

وقالوا : البطّ ترعى بمصر كما ترعى الغنم ، وبها الثعابين وليس هي في بلد غيرها ، وإليها حوّل الله عصا موسى ، قال الله عزّ وجلّ : (فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) يعني أنه حوّلها ثعبانا. ومن أعاجيب مصر النمس ، وليس ذلك لأحد غيرهم ، وهي من عجائب الدنيا ، وذلك أنها دويبّة متحرّكة كأنها قديرة ، فإذا رأت الثعبان دنت منه ، فينطوي الثعبان عليها يريد أن يعضّها ويأكلها ، فتزفر زفرة تقدّ الثعبان بقطعتين ، وربّما قطعته قطعا ، ولولا النمس لأكلت الثعابين أهل مصر ، وهي هناك أنفع لأهلها من القنافذ لأهل سجستان ، وسجستان بلد كثير الأفاعي وفي شروطهم أن لا يقتل لهم قنفذ ولا يصاد. وبمصر أعجوبة أخرى وهي التمساح ، لا يكون إلّا في النيل ، ويكون في نهر السند مهران (١) ، فإذا عضّ أوغل أسنانه واختلفت ، فلم يدع ما أخذه حتى يقطع بأسنانه ما قبض من شيء ، وحنكه الأعلى يتحرّك ولا يتحرّك الأسفل ، وليس ذلك في غيره من الدوابّ ، ولا يعمل الحديد في جلده ، وما بين رأسه وذنبه عظم واحد ، وليس يلتوي ولا ينقبض لأنه ليس في ظهره خرز ، وإذا انقلب لم يستطع أن يتحرّك ، وإذا سفد الذكر الأنثى خرج من النيل فيلقيها على ظهرها ثم يأتيها مثل ما يفعل الرجل بالمرأة ، فإذا فرغ أقلبها ، وإن أقرّها على ظهرها صيدت ، لأنها لا تقدر أن تنقلب ، وذنب التمساح حاد جدا ، فربّما قتل من الضربة ، وربّما جرّ الثور إلى نفسه فيأكله ، وله بيض مثل بيض الأوزّ ، ويبيض ستّين بيضة ، وله ستّون فإذا سفد ففي ستّين مرّة ، فإذا خرج التمساح من بيضة خرج مثل الحرذون في خلقه وجسمه ، فيعظم حتى يكون عشرة أذرع أو

__________________

(١) في معجم البلدان ٤ : ٧٦٦ (ويقال إنه أيضا بنهر السند إلّا أنه ليس في عظم المصري ، فإذا عضّ ...).

١١٨

أكثر ، وهو يزيد كلّما عاش ، وإن أخذ من جانب حنكه الأيمن ، أوّل سنّ في الحنك وعلّق على من به حمّى نافض تركته من ساعته ، وربّما دخل اللحم في خلال أسنانه فيفتح فاه ، وله صديق من الطير يشبّه بالطيطوى ، يجيئه حتى يسقط على شدقه فيخلّل بمنقاره ذلك اللحم ، فيكون ذلك طعاما للطير ، وترفيها للتمساح لأنه ينقّى ما في أسنانه من اللحم ويحرسه هذا الطائر ما دام ينقّى أسنانه فإن رأى صيّادا أو إنسانا يريده. أو ابن عرس فإنه عدوّه أعلمه ذلك وذلك إن ابن عرس يجيء إلى التمساح وهو نائم ويحبّ النوم على شطّ النهر فيستحمّ في الماء ويتمرّغ في الطين ثم ينتفض حتى يقوم شعره في فم التمساح فيقتله قتلا عنيفا أو يأكل ما في جوفه فلذلك الطير يحرس التمساح وإذا رأى ابن عرس مقبلا أنبه التمساح وآذنه فيهرب التمساح إلى الماء وليس هذا بأعجب من الخلد وهي دابّة عمياء فتخرج من جحرها فتفتح فاها فيتساقط الذبّان في فيها وأشداقها ولا تزال تضمّ فاها على الذبّان وتبلعه حتى تشبع ثم تدخل جحرها وليس هذا بأعجب من طائرين يراهما الناس من أدنى حدود البحر من شقّ البصرة إلى غاية البحر من شق السند أحدهما كبير والآخر صغير يقال لأحدهما جوانكرك ويسمّى الآخر جرشي فلا يزال الصغير يرنّق على رأس الكبير ويعبث به ويطوف حوله ويخرج من بين رجليه ويغمّه ويكربه حتى يتّقيه بذرقة فإذا ذرق الجرشي تلقّاه الجوانكرك فلا يخطئ أقصى حلقه حتى كأنه ردى به في بئر فإذا استوفى ذلك الذرق رجع شبعان ريّان بقوت يومه ومضى ذلك الكبير لطيّته وأمرهما مشهور ظاهر ، وأعجوبة أخرى وهو إن الدّخس من دوابّ الماء مما يقايس السمك وليس بسمك يعرض للغريق فيدنو منه حتى يضع الغريق يده على ظهره فيسبح والغريق يذهب معه ويستعين بالاتّكاء عليه والتعلّق به حتى ينجّيه ، وهو عند البحريّين مشهور ، قالوا ومن ادّهن بشحم حرذون ثم ألقى نفسه على التمساح في الماء صاده والحرذون دويّبة تكون بمصر وزبله ينفع من وجع العين ويقاتل العقرب وإذا ظفر بالجدي أكل أذنه ، وأهل مصر يعدّون كون التمساح في النيل من غرائب ما عندهم وهو كثير في خلجان سندان والزنج ولكنهم لا يعرفون له هناك هذا الطائر الذي يخلّل أسنانه ، وكون التمساح موصول في نيل

١١٩

مصر بوادي مهران وهو وادي السند ومن هناك أتاه. وبمصر من العجائب الفرس الذي يكون في النيل يأكل التماسيح وغيره من الدوابّ ويربّي هذا الفرس إذا كان فلوا في البيوت مع النساء والصبيان وفي سنّه شفاء من وجع المعدة. والنوبة والحبشة تتعالج به لأنهم يأكلون الأطعمة الغليظة فيشرفون على الموت من وجع المعدة فيأخذون سنّ هذا ويتعالجون به فيبرؤون وأعفاجه تبرئ من الجنون الذي يأخذ في الأهلّة. ومن عجائب النيل دابّة تسمّى ذا القرن تكون في النيل على أنفها مثل السيف الحادّ تقطع الصخرة إذا ضربتها وربّما قتلت به الفيل.

وأهل مصر يعدّون النيل من أحد عجائبهم وذلك أنه مخالف لجميع الأودية التي عليها ضبع العالم وكلّ سرب ومغيض فإنّما استقباله من ناحية الشمال وليس النيل كذلك لأن مجراه من ناحية الجنوب وليست التماسيح في شيء من هذه الأودية المعروفة لا ترى بالفرات ولا دجلة ولا سيحان ولا جيحان ولا نهر بلخ ، ولا فيها من الفساد والدواب الخبيثة ، وشرب أهل مصر في البواقيل (١) ، وقال النبيّ (صلى الله عليه وسلم) : «تغور المياه كلّها وترجع إلى أماكنها ، إلّا نهر الأردنّ ونيل مصر والحجرات وعرفات ومنا». وقال ابن الكلبيّ : إذا طلع العيّوق غارت المياه كلّها ونقصت إلّا نيل مصر ، ويمتدّ النيل لسبع من أيّار. وقال عبد الله بن عمرو : نيل مصر سيّد الأنهار ، سخّر الله له كلّ نهر بين المشرق والمغرب ، فإذا أراد الله أن يجريه أمر كلّ نهر أن يمدّه ، فأمدّته الأنهار بمائها ، فإذا فجّر الله به الأرض عيونا وانتهى من جريته إلى ما أراد الله ، أوحى الله عزّ وجلّ إلى كلّ ماء أن يرجع إلى عنصره ، وفي الخبر أربعة أنهار من الجنّة : النيل ، والفرات ، وسيحان ، وجيحان. وقال بعضهم : النيل يخرج من خلف خطّ الاستواء من بحيرتين يقال لهما بحيرتا النيل ، وهو يطيف أرض الحبشة ويجيء فيمرّ بين بحر القلزم ـ وهو بحر الفرما ـ وبين المفازة ، فيجيء فيصبّ بدمياط ، ويخرج إلى البحر الروميّ المغربيّ ، ودمياط على البحر الروميّ المغربيّ. وقال أبو الخطّاب : قال المشتري ابن الأسود : غزوت بلاد أنبية عشرين غزاة ، من السوس الأقصى ، فرأيت النيل بينه وبين البحر الأجاج

__________________

(١) جمع باقول ، وهو الكوب (أساس البلاغة ، بقل).

١٢٠