الموسوعة القرآنيّة - ج ١

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ١

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

ومسعود بن عمرو بن عمير ، وحبيب بن عمرو بن عمير ، فجلس إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعاهم إلى الله ، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه. فقال له أحدهم : هو ينزع ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك. وقال الآخر : أما وجد الله أحدا يرسله غيرك؟ وقال الثالث : والله لا أكلمك أبدا ، لئن كنت رسولا من الله كما تقول ، لا أنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ، ما ينبغى لى أن أكلمك. فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف ، وقد قال لهم : إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنى. وكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبلغ قومه عنه فيثيرهم ذلك عليه.

فلم يفعلوا ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، وألجئوه إلى بستان لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، وهما فيه ، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل شجرة من عنب ، فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ، ويريان ما لقى من سفهاء أهل الطائف.

فلما اطمأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : اللهم إليك أشكو ضعف قوّتى ، وقلّة حيلتى ، وهوانى على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربى ، إلى من تكلنى؟ إن لم يكن بك علىّ غضب فلا أبالى ، ولكن عافيتك هى أوسع لى ، أعوذ بنور وجهك الذى أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تنزل بى غضبك ، أو يحل على سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك.

فلما رآه ابنا ربيعة : عتبة وشيبة ، وما لقى ، تحركت له رحمهما (١) ، فدعوا

__________________

(١) الرحم : الصلة والقرابة.

(م ٦ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١).

٨١

غلاما لهما نصرانيّا ، يقال ، له : عدّاس ، فقالا له : خذ قطفا من هذا العنب ، فضعه فى هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه. ففعل عداس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال له : كل. فلما وضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه يده قال : باسم الله ، ثم أكل ، فنظر عداس فى وجهه ، ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ومن أهل أى البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك؟ قال : نصرانى ، وأنا رجل من أهل نينوى. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من قرية الرجل الصالح يونس بن متى. فقال له عداس : وما يدريك ما يونس بن متى؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ذاك أخى ، كان نبيّا وأنا نبى. فأكب عدّاس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه. فلما جاءهما عداس قالا له : ويلك يا عداس! مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه؟ قالا : يا سيدى ، ما فى الأرض شىء خير من هذا ، لقد أخبرنى بأمر ما يعلمه إلا نبى. قال له : ويحك يا عداس! لا يصرفنك عن دينك ، فإن دينك خير من دينه.

* * *

٤٨ ـ عرض الرسول نفسه على قبائل مكة

ثم قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة ، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافة وفراق دينه ، إلا قليلا مستضعفين ، ممن آمن به ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعرض نفسه فى المواسم ، إذا كانت ، على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ، ويخبرهم أنه نبى مرسل ، ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين لهم الله ما بعثه به.

٨٢

ويحدث ابن عباس فيقول : إنى لغلام شاب مع أبى بمنى ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقف على منازل القبائل من العرب ، فيقول : يا بنى فلان ، إنى رسول الله إليكم ، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد ، وأن تؤمنوا بى ، وتصدقوا بى وتمنعونى ، حتى أبين عن الله ما بعثنى به. قال : وخلفه رجل أحول وضىء ، له غديرتان عليه حلة عدنية. فإذا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله وما دعا إليه ، قال ذلك الرجل : يا بنى فلان ، إن هذا يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.

قال : فقلت لأبى : يا أبت ، من هذا الذى يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال : هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب ، أبو لهب.

* * *

وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى عامر بن صعصعة ، فدعاهم إلى الله عزوجل ، وعرض عليهم نفسه ، فقال له رجل منهم : أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك ، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال : الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. فقال له : أفنهدف (١) نحورنا للعرب دونك ، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك ، فأبوا عليه.

فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم ، قد كانت أدركته السن ، حتى لا يقدر أن يوافى معهم المواسم ، فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه

__________________

(١) تهدف ، بالبناء للمجهول : تصير هدفا.

٨٣

بما يكون فى ذلك الموسم ، فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان فى موسمهم ، فقالوا : جاءنا فتى من قريش ، ثم أحد بنى عبد المطلب ، يزعم أنه نبى ، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا : فقال : فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال : يا بنى عامر ، هل لهما من تلاف؟ والذى نفس فلان بيده ، ما تقوّلها إسماعيلى (١) قط ، وإنها لحق ، فأين رأيكم كان عنكم؟

* * *

فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك من أمره ، كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ، ويعرض عليهم نفسه ، وما جاء به من الله من الهدى والرحمة ، وهو لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب ، له اسم وشرف إلا تصدى له ، فدعاه إلى الله ، وعرض عليه ما عنده.

* * *

٤٩ ـ إسلام الانصار

وقدم أنس بن رافع مكة ومعه فتية من بنى عبد الأشهل ، فيهم إياس بن معاذ ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج. فسمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم : هل لكم فى خير مما جئتم له؟ فقالوا له : وما ذاك؟ قال : أنا رسول الله بعثنى إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا ، وأنزل على الكتاب ، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. فقال إياس بن معاذ ، وكان غلاما حدثا : أى قوم ، هذا والله خير مما جئتم له. فأخذ أنس بن رافع حفنة

__________________

(١) إسماعيل : أى ما ادعى النبوة كاذبا أحد من بنى إسماعيل.

٨٤

من تراب البطحاء ، فضرب بها وجه إياس بن معاذ ، وقال : دعنا منك ، فلعمرى لقد جئنا لغير هذا. فصمت إياس ، وقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم ، وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج.

* * *

فلما أراد الله عزوجل إظهار دينه وإعزاز نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنجاز موعده له ، خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الموسم الذى لقيه فيه النفر من الأنصار ، فعرض نفسه على قبائل العرب ، كما كان يصنع فى كل موسم ، فبينما هو عند العقبة وجد رهطا من الخزرج أراد الله بهم خيرا.

ولما لقيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من أنتم؟ قالوا : نفر من الخزرج. قال : أمن موالى يهود؟ قالوا : نعم. قال : أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله عزوجل ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن.

وكان مما صنع الله بهم فى الإسلام ، أن يهود كانوا معهم فى بلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم فكانوا إذا كان بينهم شىء قالوا لهم : إن نبيّا مبعوث الآن ، قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. فلما كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلى الله ، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلموا والله إنه للنبى الذى توعدكم به يهود ، فلا تسبقكم إليه. فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا : إنا قد تركه قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم ، فعسى أن يجمعهم الله بك ، فسنقد

٨٥

عليهم ، فتدعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذى أجبناك إليه من هذا الدين فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك.

ثم انصرفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا.

فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة فبايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلما انصرف عنه القوم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم مصعب ابن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصى ، وأمره أن يقرئهم القرآن ، ويعلمهم الإسلام ، ويفقههم فى الدين ، فكان يسمى المقرئ بالمدينة : مصعب ، وكان ينزل على أسعد بن زرارة بن عدس أبى أمامة ، وهو أول من جمع بمن أسلم بالمدينة ، وكانوا أربعين رجلا.

* * *

٥٠ ـ مبايعة الأنصار للرسول

وخرج من خرج من الأنصار من المسلمين إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك ، حتى قدموا مكة ، فواعدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٨٦

العقبة ، من أوسط أيام التشريق ، حين أراد الله بهم ما أراد من كرامته ، والنصر لنبيه ، وإعزاز الإسلام وأهله ، وإذلال الشرك وأهله.

* * *

يقول كعب بن مالك : ثم خرجنا إلى الحج ، وواعدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العقبة من أوسط أيام التشريق ، قال : فلما فرغنا من الحج ، وكانت الليلة التى واعدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها ، ومعنا أبو جابر عبد الله ابن عمرو بن حرام ، سيد من سادتنا ، وشريف من أشرافنا ، أخذناه معنا ، وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا ، فكلمناه وقلنا له : يا أبا جابر ، إنك سيد من سادتنا ، وشريف من أشرافنا ، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا ، ثم دعوناه إلى الإسلام ، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيانا العقبة ، فأسلم وشهد معنا العقبة ، وكان نقيبا.

فنمنا تلك الليلة مع قومنا فى رحالنا ، حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نتسلل تسلل القطا مستخفين حتى اجتمعنا فى الشعب عند العقبة ، ونحن ثلاثة وسبعون رجلا ، ومعنا امرأتان من نسائنا.

فاجتمعنا فى الشعب ننتظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه ، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له ، فلما جلس كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب ، فقال : يا معشر الخزرج ـ وكانت العرب إنما يسمون هذا الحى

٨٧

من الأنصار : الخزرج ، خزرجها وأوسها ـ إن محمدا منا حيث قد علمتم ، قد منعناه من قومنا ، ممن هو على مثل رأينا فيه ، فهو فى عز من قومه ومنعة فى بلده ، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم ، واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ، ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم ، فمن الآن فدعوه ، فإنه فى عز ومنعة من قومه وبلده. فقلنا له : قد سمعنا ما قلت ، فتكلم يا رسول الله ، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.

فتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتلا القرآن ، ودعا إلى الله ، ورغب فى الإسلام ، ثم قال : أبايعكم على أن تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : نعم ، والذى بعثك بالحق نبيّا ، لتمنعك مما نمنع منه أزرنا (١) ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة (٢) ، ورثناها كابرا عن كابر. فاعترض القول ـ والبراء يكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أبو الهيثم بن التيهان ، فقال : يا رسول الله ، إن بيننا وبين الرجال حبالا ، وإنا قاطعوها ـ يعنى اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : بل الدم الدم ، والهدم الهدم (٣) ، أنا منكم وأنتم منى ، أحارب من حاربتم ، وأسالم من سالمتم.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخرجوا إلى منكم اثنى عشر نقيبا ،

__________________

(١) أزرنا : نساءنا.

(٢) الحلقة : السلاح.

(٣) الهدم : أى حرمتى حرمتكم.

٨٨

ليكونوا على قومهم بما فيهم. فأخرجوا منهم اثنى عشر نقيبا ، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للنقباء : أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ، ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم ، وأنا كفيل على قومى ـ يعنى المسلمين ـ قالوا : نعم.

وكان أول من ضرب على يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البراء بن معرور ، ثم بايع بعده القوم.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارفضوا إلى رحالكم. فقال له العباس بن عبادة بن نضلة : والله الذى بعثك بالحق ، إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لم نؤمر بذلك ، ولكن ارجعوا إلى رحالكم ، فرجعنا إلى مضاجعنا ، فنمنا عليها حتى أصبحنا.

فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش ، حتى جاءونا فى منازلنا ، فقالوا : يا معشر الخزرج ، إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا ، وتبايعونه على حربنا ، وإنه والله ما من حى من العرب أبغض إلينا ، أن تنشب الحرب بيننا وبينهم ، منكم. فانبعث من هناك من مشركى قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شىء ، وما علمناه.

ونفر الناس من «منى» ، فبحث القوم الخبر ، فوجدوه قد كان ، وخرجوا فى طلب القوم ، فأدركوا سعد بن عباد بأذاخر (١) ، والمنذر بن عمرو ، أخا

__________________

(١) أذاخر : موضع قريب من مكة.

٨٩

بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج وكلاهما ، كان نقيبا. فأما المنذر فأعجز القوم وأما سعد فأخذوه ، فربطوا يديه إلى عنقه بنسع رحله ، ثم أقبلوا به حتى أدخلوه مكة يضربونه ، ويجذبونه بجمته ، وكان ذا شعر كثير.

* * *

٥١ ـ الهجرة إلى المدينة

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل بيعة العقبة لم يؤذن له فى الحرب ، إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى ، والصفح عن الجاهل. وكانت قريش قد اضطهدت من اتبعه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم ، فهم من بين مفتون فى دينه ومن بين معذب فى أيديهم ، ومن بين هارب فى البلاد فرارا منهم ، منهم من بأرض الحبشة ، ومنهم من بالمدينة ، وفى كل وجه. فلما عتت قريش على الله عزوجل ، وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة ، وكذبوا نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعذبوا ونفوا من عبده ، ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه ، أذن الله عزوجل لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى القتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليه.

فلما أذن الله تعالى له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الحرب ، وبايعه هذا الحى من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه ، وأوى إليهم من المسلمين ، أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه ، ومن معه بمكة من المسلمين ، بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها ، واللحوق بإخوانهم من الأنصار ، وقال : إن الله عزوجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها. فخرجوا أرسالا ، وأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ينتظر أن يأذن له ربه فى الخروج من مكة ، والهجرة إلى المدينة.

٩٠

فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المهاجرين من قريش ، من بنى مخزوم : أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، هاجر إلى المدينة قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة ، وكان قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة من أرض الحبشة ، فلما آذته قريش وبلغه إسلام من أسلم من الأنصار ، خرج إلى المدينة مهاجرا.

وتقول أم سلمة : لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لى بعيره ، ثم حملنى عليه ، وحمل معى ابني سلمة فى حجرى ، ثم خرج بى يقود بعيره ، فلما رأته رجال بنى المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قاموا إليه فقالوا : هذه نفسك غلبتنا عليها ، أرأيت صاحبتك هذه؟ علام نتركك تسير بها فى البلاد! فنزعوا خطام البعير من يده فأخذونى منه. وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد ، رهط أبى سلمة ، فقالوا : لا والله لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموها من صاحبنا ، فتجاذبوا ابني سلمة بينهم حتى خلعوا يده ، وانطلق به بنو عبد الأسد ، وحبسنى بنو المغيرة عندهم ، وانطلق زوجى أبو سلمة إلى المدينة ففرق بينى وبين زوجى وبين ابني ، فكنت أخرج كل غداة أجلس بالأبطح فما أزال أبكى حتى أمسى ، سنة أو قريبا منها ، حتى مربى رجل من بنى عمى ، أحد بنى المغيرة ، فرأى ما بى فرحمنى ، فقال لبنى المغيرة : ألا تخرجون هذه المسكينة! فرقتم بينها وبين زوجها وبين ولدها! فقالوا لى : الحقى بزوجك إن شئت. ورد بنو عبد الأسد إلى عند ذلك ابني ، فارتحلت بعيرى ، ثم أخذت ابني فوضعته فى حجرى ، ثم خرجت أريد زوجى بالمدينة ، وما معى أحد من خلق الله ، فقلت أتبلغ بمن لقيت

٩١

حتى أقدم على زوجى ، حتى إذا كنت بالتنعيم (١) لقيت عثمان بن طلحة بن أبى طلحة ، فقال لى : إلى أين يا بنت أبى أمية؟ فقلت : أريد زوجى بالمدينة. قال : أو ما معك أحد؟ فقلت ، لا والله ، إلا الله وبنى هذا. قال : والله مالك من مترك ، فأخذ بخطام البعير ، فانطلق معى يهوى بى ، فو الله ما صحبت رجلا من العرب قط ، أرى أنه كان أكرم منه ، كان إذا بلغ المنزل أناخ بى ، ثم استأخر عنى ، حتى إذا نزلت استأخر ببعيرى ، فحط عنه ، ثم قيده فى الشجرة ، ثم تنحى عنى إلى شجرة ، فاضطجع تحتها ، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيرى فقدمه فرحله ، ثم استأخر عنى ، وقال : اركبى ، فإذا ركبت واستويت على بعيرى أتى فأخذ بخطامه ، فقاده ، حتى ينزل بى. فلم يزل يصنع ذلك بى حتى أقدمنى المدينة ، فلما نظر إلى قرية بنى عمرو بن عوف بقباء ، قال : زوجك فى هذه القرية ـ وكان أبو سلمة بها نازلا ـ فادخليها على بركة الله ، ثم انصرف راجعا إلى مكة.

فكانت تقول : والله ما أعلم أهل بيت فى الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبى سلمة ، وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.

* * *

ثم خرج عمر بن الخطاب ، وعياش بن أبى ربيعة المخزومى ، حتى قدما المدينة. قال عمر بن الخطاب : اتعدت ، لما أردنا الهجرة إلى المدينة ، أنا وعياش ابن أبى ربيعة ، وهشام بن العاصى بن وائل السهمى ، التناضب (٢) ، وقلنا

__________________

(١) التنعيم : موضع على فرسخين من مكة.

(٢) التناضب : موضع.

٩٢

أينا لم يصبح عندها فقد حبس فليمض صاحباه ، فأصبحت أنا وعياش ابن أبى ربيعة عند التناضب ، وحبس عنا هشام ، وفتن فافتتن.

فلما قدمنا المدينة نزلنا فى بنى عمرو بن عوف بقباء ، وخرج أبو جهل ابن هشام ، والحارث بن هشام ، إلى عياش بن أبى ربيعة ، وكان ابن عمهما وأخاهما لأمهما ، حتى قدما علينا المدينة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، وقالا :

إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك ، ولا تستظل من شمس حتى تراك ، فرق لها. فقلت له : يا عياش ، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك فاحذرهم ، فو الله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت ، ولو قد اشتد عليها حر لاستظلت. فقال : أبر قسم أمى ، ولي هنالك مال آخذه. فقلت : والله إنك لتعلم أنى لمن أكثر قريش مالا ، فلك نصف مالى ولا تذهب معهما. فأبى علىّ إلا أن يخرج معهما ، فلما أبى إلا ذلك ، قلت له : أما إذا فعلت ما فعلت ، فخذ ناقتى هذه ، فإنها ناقة نجيبة ذلول ، فالزم ظهرها ، فإن رابك من القوم ريب ، فانج عليها.

فخرج عليها معهما ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال له أبو جهل : يا ابن أخى ، والله لقد استغلظت بعيرى هذا ، أفلا تعقبنى على ناقتك هذه؟ قال : بلى. فأناخ ، وأناخا ليتحول عليها ، فلما استوى بالأرض عدوا عليه ، فأوثقاه وربطاه ، ثم دخلا به مكة ، وفتناه فافتتن.

ثم إنهما حين دخلا به مكة دخلا به نهارا موثقا ، ثم قالا : يا أهل مكة ، هكذا فافعلوا بسفهائكم ، كما فعلنا بسفيهنا هذا.

* * *

٩٣

٥٢ ـ هجرة الرسول إلى المدينة

وأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يؤذن له فى الهجرة ، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا من حبس أو فتن ، إلا على بن أبى طالب ، وأبو بكر بن أبى قحافة الصديق رضى الله عنهما ، وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الهجرة ، فيقول له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا ، فيطمع أبو بكر أن يكونه.

ولما رأت قريش أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم ، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا ، وأصابوا منهم منعة ، فحذروا خروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم ، فاجتمعوا له فى دار الندوة ـ وهى دار قصى بن كلاب التى كانت قريش لا تقضى أمرا إلا فيها ـ يتشاورون فيها ما يصنعون فى أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. حين خافوه.

* * *

فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم ، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا ، فأجمعوا فيه رأيا. فتشاوروا ثم قال قائل منهم : احبسوه فى الحديد ، وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله ، زهيرا ، والنابغة ، ومن مضى منهم ، من هذا الموت ، حتى يصيبه ما أصابهم. ثم قال

٩٤

قائل منهم : نخرجه من بين أظهرنا ، فننقيه من بلادنا ، فإذا أخرج عنا فو الله ما نبالى أين ذهب ، ولا حيث وقع. إذا غاب عنا فرغنا منه ، فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. فقال أبو جهل بن هشام : والله إن لى فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا : وما هو يا أبا الحكم؟ قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابّا جليدا نسيبا وسيطا فينا ، ثم نعطى كل فتى منهم سيفا صارما ، ثم يعمدوا إليه ، فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه ، فنستريح منه ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه فى القبائل جميعا ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ، فرضوا منا بالعقل (١) ، فعقلناه لهم. وتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.

فأتى جبريل عليه‌السلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : لا تبت هذه الليلة على فراشك الذى كنت تبيت عليه. فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام ، فيثبون عليه. فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكانهم قال لعلى بن أبى طالب : نم على فراشى وتسج ببردى هذا الحضرمى الأخضر ، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شىء تكرهه منهم. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينام فى برده ذلك إذا نام.

وخرج عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلا يرونه ، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب ، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم ، فقال : ما تنتظرون هاهنا؟

قالوا : محمدا. قال : خيبكم الله! قد والله خرج عليكم محمد ، ثم جعلوا

__________________

(١) العقل : الدية.

٩٥

يتطلعون فيرون عليّا على الفراش متسجيا يبرد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقولون : والله إن هذا لمحمد نائما ، عليه برده ، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا ، فقام على رضى الله عنه عن الفراش ، فقالوا : والله لقد كان صدقنا الذى حدثنا.

* * *

وكان أبو بكر رضى الله عنه رجلا ذا مال ، فكان حين استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الهجرة ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تعجل ، لعل الله يجعل لك صاحبالا ، قد طمع بأن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما يعنى نفسه ، حين قال له ذلك ، فابتاع راحلتين ، فاحتبسهما فى داره ، يعلفهما إعدادا لذلك.

* * *

تقول عائشة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخطئ أن يأتى بيت أبى أحد طرفى النهار إما بكرة وإما عشية ، حتى إذا كان اليوم الذى أذن فيه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الهجرة ، والخروج من مكة بين ظهرى قومه ، أتانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالهاجرة ، فى ساعة كان لا يأتى فيها. فلما رآه أبو بكر ، قال : ما جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا لأمر حدث.

فلما دخل صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأخر له أبو بكر عن سريره ، فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وليس عند أبى بكر إلا أنا وأختى أسماء بنت أبى بكر ، فقال ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخرج عنى من عندك ،

٩٦

فقال : يا رسول الله إنما هنا ابنتاى ، وما ذاك؟ فداك أبى وأمى. فقال : إن الله قد أذن لى فى الخروج والهجرة.

فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله. قال : الصحبة. ثم قال : يا نبى الله ، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا. فاستأجرا عبد الله بن أريقط ، رجلا من بنى الدئل بن بكر ، وكانت أمه امرأة من بنى سهم بن عمرو ـ وكان مشركا ـ يدلهما على الطريق ، فدفعا إليه راحلتيهما ، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما. ولم يعلم بخروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحد حين خرج ، إلا على بن أبى طالب. وأبو بكر الصديق ، وآل أبى بكر ، أما على ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخبره بخروجه ، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الودائع التى كانت عنده للناس وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بمكة أحد عنده شىء يخشى عليه إلا وضعه عنده ، لما يعلم من صدقه وأمانته ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

فلما أجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخروج ، أتى أبا بكر بن أبى قحافة ، فخرجا من خوخة لأبى بكر فى ظهر بيته ، ثم عمدا إلى غار بثور ـ جبل بأسفل مكة ـ فدخلاه ، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله بن أبى بكر أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون فى ذلك اليوم من الخبر ، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ، ثم يريحها عليهما ، يأتيهما إذا أمسى فى الغار. وكانت أسماء بنت أبى بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما.

وانتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا ، فدخل

(م ٧ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)

٩٧

أبو بكر رضى الله عنه قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلمس الغار ، لينظر أفيه سبع أو حية ، يقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه.

فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الغار ثلاثا ومعه أبو بكر ، وجعلت قريش فيه ، حين فقدوه ، مائة ناقة ، لمن يرده عليهم. وكان عبد الله بن أبى بكر يكون فى قريش نهاره معهم ، يسمع ما يأتمرون به ، وما يقولون فى شأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر ، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر. وكان عامر بن فهيرة ، مولى أبى بكر رضى الله عنه ، يرعى فى رعيان أهل مكة ، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبى بكر فاحتلبا وذبحا ، فإذا عبد الله بن أبى بكر غدا من عندهما إلى مكة ، اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفى عليه. حتى إذا مضت الثلاث ، وسكن عنهما الناس ، أتاهما صاحبهما الذى استأجراه ببعيريهما وبعير له ، وأتتهما أسماء بنت أبى بكر رضى الله عنها بسفرتها ، ونسيت أن تجعل لها عصاما (١) ، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس لها عصام ، فتحل نطاقها فتجعله عصاما ، ثم علقتها به.

فكان يقال لأسماء بنت أبى بكر : ذات النطاق ، لذلك.

فلما قرب أبو بكر ، رضى الله عنه ، الراحلتين إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قدم له أفضلهما ، ثم قال : اركب ، فداك أبى وأمى. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنى لا أركب بعيرا ليس لى. قال : فهى لك يا رسول الله بأبى أنت وأمى. قال : لا ، ولكن ما الثمن الذى ابتعتها به؟ قال : كذا

__________________

(١) العصام. ما تعلق به السفرة.

٩٨

وكذا. قال : قد أخذتها به. قال : هى لك يا رسول الله فركبها وانطلقا ، وأردف أبو بكر الصديق رضى الله عنه عامر بن فهيرة مولاه خلفه ، ليخدمهما فى الطريق.

* * *

وتقول أسماء : لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو بكر رضى الله عنه ، أتانا نفر من قريش ، فيهم أبو جهل بن هشام ، فوقفوا على باب أبى بكر ، فخرجت إليهم ، فقالوا : أين أبوك يا بنت أبى بكر؟ قلت : لا أدرى والله أين أبى؟ فرفع أبو جهل يده ـ وكان فاحشا خبيثا ـ فلطم خدى لطمة طرح منها قرطى ثم انصرف ، فمكثنا ثلاث ليال وما ندرى أين وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا أربعة : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبو بكر ، الصديق رضى الله عنه ، وعامر بن فهيرة مولى أبى بكر ، وعبد الله بن أريقط دليلهما.

وتقول أسماء : ولما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله ، ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف ، فانطلق بها معه. قالت : فدخل علينا جدى أبو قحافة ، وقد ذهب بصره ، فقال : والله إنى لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه. قلت : كلا يا أبت! إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا. قالت : فأخذت أحجارا فوضعتها فى كوة فى البيت الذى كان أبى يضع ماله فيها ، ثم وضعت عليها ثوبا ، ثم أخذت بيده ، فقلت : يا أبت ، ضع يدك على هذا المال ، فوضع يده عليه ، فقال : لا بأس ، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن ، وفى هذا بلاغ لكم ، ولا والله ما ترك لنا شيئا ، ولكنى أردت أن أسكن الشيخ بذلك.

* * *

٩٩

ويقول سراقة بن مالك : لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة ، جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن يرده عليهم. قال : فبينا أنا جالس فى نادى قومى إذ أقبل رجل منّا ، حتى وقف علينا ، فقال : والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علىّ آنفا ، إنى لأراهم محمدا وأصحابه فأومأت إليه بعينى : أن اسكت ، ثم قلت : إنما هم بنو فلان ، يتبعون ضالة لهم. قال : لعله ، ثم سكت ، ثم مكثت قليلا ، ثم قمت فدخلت بيتى ، ثم أمرت بفرسى ، فقيد لى إلى بطن الوادى ، وأمرت بسلاحى ، فأخرج لى من دبر حجرتى ، ثم أخذت قداحى التى أستقسم بها ، ثم انطلقت ، فلبست لأمتى (١) ، ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها ، فخرج السهم الذى أكره «لا يضره» ، وكنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة الناقة ، فركبت على أثره ، فبينما فرسى يشتد بى عثر بى فسقطت عنه ، فقلت : ما هذا؟ ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها ، فخرج السهم الذى أكره «لا يضره» ، فأبيت إلا أن أتبعه ، فركبت فى أثره ، فبينما فرسى يشتد بى عثر بى فسقطت عنه ، فقلت : ما هذا؟ ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها ، فخرج السهم الذى أكره «لا يضره» فأبيت إلا أن أتبعه ، فركبت فى أثره ، فبينما فرسى يشتد بى عثر بى فسقطت عنه فقلت : ما هذا؟ ثم أخرجت قداحى فاستقسمت بها ، فخرج السهم الذى أكره «لا يضره» ، فأبيت إلا أن أتبعه ، فركبت فى أثره. فلما بدا لى القوم ورأيتهم ، عثر بى فرسى ، فذهبت يداه فى الأرض ، وسقطت عنه ، فعرفت حين رأيت ذلك ، أنه قد منع منى ، فناديت القوم فقلت : أنا سراقة بن جعشم ، انظرونى أكلمكم ، فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم منى شىء تكرهونه فقال رسول

__________________

(١) اللأمة : الدرع والسلاح.

١٠٠