الموسوعة القرآنيّة - ج ١

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ١

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

فبعثوا عبد الله بن أبى ربيعة ، وعمرو بن العاص بن وائل ، وجمعوا لهما هدايا للنجاشى ، ولبطارقته ، ثم بعثوا إليه فيهم وقالوا لهما : ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشى فيهم ، ثم قدما إلى النجاشى هداياه ، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم.

فخرجا حتى قدما على النجاشى. فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن بكلما النجاشى ، وقالا لكل بطريق منهم : إنه قد لجأ إلى بلد الملك غلمان منّا سفهاء ، فإذا كلمنا الملك فيهم ، فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم. فقالوا لهما : نعم.

ثم إنهما قدّما هدايا هما إلى النجاشى ، فقبلها منهما ، ثم كلماه وكلمه البطارقة ، فغضب النجاشى وقال : لا أسلمهم أبدا حتى أدعوهم فأسألهم عما يقولون ، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما ، وأحسنت جوارهم ما جاورونى.

فأرسل النجاشى إلى أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدعاهم فقال لهم : ما هذا الدين الذى فارقتم فيه قومكم؟

فقال له جعفر بن أبى طالب : أيها الملك ، كنا قوما أهل جاهلية ، نعبد الأصنام حتى بعث الله إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته ، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان ، فصدقناه وآمنا به ، فعدا علينا قومنا فعذبونا ليردونا إلى عبادة الأوثان ، فلما قهرونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك.

فقال لهما النجاشى : انطلقا ، فلا والله لا أسلمهم إليكما ، ولا يكادون.

* * *

٦١

٣٧ ـ إسلام عمر بن الخطاب

ولما قدم عمرو بن العاص ، وعبد الله بن أبى ربيعة على قريش ، ولم يدركا ما طلبا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وردهما النجاشى بما يكرهون ، وأسلم عمر بن الخطاب ـ وكان رجلا ذا شكيمة لابرام ما وراء ظهره ـ امتنع به أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبحمزة ، حتى غلبوا قريشا.

* * *

وكان إسلام عمر بعد خروج من خرج من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الحبشة.

وتقول أم عبد الله بنت أبى حثمة : والله إنا لنترحل إلى أرض الحبشة ، وقد ذهب عامر زوجى فى بعض حاجاتنا ، إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف علىّ وهو على شركه ـ وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا ـ فقال : إنه للانطلاق يا أم عبد الله! قلت : نعم ، والله لنخرجن فى أرض الله آذيتمونا وقهرتمونا ، حتى يجعل الله مخرجا. فقال : صحبكم الله. ورأيت له رقة لم أكن أراها. ثم انصرف وقد أحزنه خروجنا.

فجاء عامر بحاجته تلك فقلت له : يا أبا عبد الله. لو رأيت عمر آنفا ورقته وحزنه علينا! قال : أطمعت فى إسلامه؟ قلت : نعم. قال : فلا يسلم الذى رأيت حتى يسلم حمار الخطاب ..... يأسا منه ، لما كان يرى من غلظته وقسوته على الإسلام.

* * *

وكانت أخته فاطمة بنت الخطاب ، عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ، وكانت قد أسلمت ، وأسلم بعدها سعيد بن زيد ، وهما مستخفيان بإسلامهما من عمر.

٦٢

وكان نعيم بن عبد الله النحام ، من بنى عدى بن كعب ، قد أسلم ، وكان أيضا يستخفى بإسلامه خوفا من قومه.

وكان خبّاب بن الأرت يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب يقرئها القرآن ، فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورهطا من أصحابه قد ذكروا أنهم قد اجتمعوا فى بيت عند الصفا ، وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء ، ومع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمه حمزة ابن عبد المطلب ، وأبو بكر ، وعلى بن أبى طالب ، فى رجال من المسلمين ، ممن كان أقام مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة.

فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له : أين تريد يا عمر؟ فقال : أريد محمدا هذا الذى فرق أمر قريش فأقتله. فقال له نعيم : والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر ، أترى بنى عبد مناف تار كيك تمشى على الأرض ، وقد قتلت محمدا؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم! فقال : وأى أهل بيتى؟ قال : ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو ، واختك فاطمة بنت الخطاب ، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما. فرجع عمر عائدا إلى أخته وختنه ، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها (طه) يقرئهما إياها ، فلما سمعوا صوت عمر ، تغيب خبّاب فى مخدع لهم ، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها.

وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما ، فلما دخل قال :

٦٣

ما هذه الهيمنة (١) التى سمعت؟ قالا له : ما سمعت شيئا ، قال : بلا والله ، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه.

وبطش بختنه سعيد بن زيد. فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها ، فضربها فشجها. فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه : نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله ، فاصنع ما بدا لك.

فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى ، وقال لأخته : أعطنى هذه الصحيفة التى سمعتكم تقرءون آنفا أنظر ما هذا الذى جاء به محمد ، وكان عمر كاتبا ، فلما قال ذلك ، قالت له أخته : إنا نخشاك عليها. قال : لا تخافى ، وحلف لها بآلهته ليردنها ـ إذا قرأها ـ إليها.

فلما قال ذلك طمعت فى إسلامه ، فقالت له : يا أخى ، إنك نجس ، على شركك ، وإنه لا يمسها إلا الطاهر.

فقام عمر فاغتسل ، فأعطته الصحيفة ، وفيها (طه) ، فقرأها ، فلما قرأ منها صدرا قال : ما أحسن هذا الكلام وأكرمه.

فلما سمع ذلك خباب خرج إليه ، فقال له : يا عمر ، والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه ، فإنى سمعته أمس وهو يقول : «اللهم أيّد الإسلام بأبى الحكم بن هشام ، أو بعمر بن الخطاب ، فالله الله يا عمر».

فقال له عند ذلك عمر : فدلنى يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم. فقال له خباب : هو فى بيت عند الصفا ، معه فيه نفر من أصحابه.

__________________

(١) الهينمة : الصوت الذى لا يفهم.

٦٤

فأخذ عمر سيفه فتوشحه ، ثم عمد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فضرب عليهم الباب. فلما سمعوا صوته ، قام رجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنظر من خلال الباب فرآه متوشحا السيف. فرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو فزع ، فقال : يا رسول الله ، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف.

فقال حمزة بن عبد المطلب : فأذن له ، فإن كان يريد خيرا بذلناه له ، وإن كان يريد شرّا قتلناه بسيفه.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائذن له. فأذن له الرجل. ونهض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لقيه فى الحجرة ، فأخذ بمجمع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة ، وقال : ما جاء بك يا بن الخطاب؟ فو الله ما أرى أن تنتهى حتى ينزل الله بك قارعة.

فقال عمر : يا رسول الله ، جئتك لأؤمن بالله ورسوله ، وبما جاء من عند الله.

فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عمر قد أسلم.

فتفرق أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكانهم ، وقد عزوا فى أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة ، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينتصفون بهما من عدوهم.

وكان عمر يقول : لما أسلمت تلك الليلة تذكرت أى أهل مكة أشد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عداوة حتى آتيه فأخبره أنى قد أسلمت؟ قلت : أبو جهل ، فأقبلت حين أصبحت حتى ضربت عليه بابه ، فخرج إلىّ

(م ٥ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)

٦٥

أبو جهل فقال : مرحبا وأهلا يا ابن أختى ، ما جاء بك؟ قلت : جئت لأخبرك أنى قد آمنت بالله وبرسوله محمد وصدقت بما جاء به.

فضرب الباب فى وجهى وقال : قبحك الله وقبح ما جئت به.

* * *

٣٨ ـ تحالف الكفار وحديث الصحيفة

ولما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نزلوا بلدا أصابوا به أمنا وقرارا ، وأن النجاشى قد منع من لجأ إليه منهم ، وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، وجعل الإسلام يفشو فى القبائل ، اجتمعوا وائتمروا بينهم أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بنى هاشم ، وبنى المطلب ، على ألا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ، ولا يبيعوهم شيئا ، ولا يبتاعوا منهم.

فلما اجتمعوا لذلك كتبوه فى صحيفة ، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ، ثم علقوا الصحيفة فى جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم.

فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبى طالب ابن عبد المطلب فدخلوا معه فى شعبه واجتمعوا إليه ، وخرج من بنى هاشم أبو لهب إلى قريش فظاهرهم.

ولقى أبو جهل حكيم بن حزام ، معه غلام يحمل قمحا يريد به عمته خديجة بنت خويلد ، وهى عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومعه فى الشعب ، فتعلق به ، وقال : أتذهب إلى بنى هاشم! والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة.

فجاءه أبو البخترى بن هاشم فقال : ما لك وله؟ فقال : يحمل الطعام إلى

٦٦

بنى هاشم. فقال له أبو البخترى : طعام كان لعمته عنده بعثت إليه فيه ، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خلّ سبيل الرجل.

فأبى أبو جهل حتى نال أحدهما من صاحبه. فأخذ له أبو البخترى عظم بعير فضربه فشجه ، ووطعه وطعا شديدا.

وحمزة بن عبد المطلب قريب يرى ذلك ، وهم يكرهون أن يبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فيشمتوا بهم.

ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك يدعو قومه ليلا ونهارا ، سرّا وجهرا ، مناديا بأمر الله لا يتقى فيه أحدا من الناس.

* * *

٣٩ ـ ما لقى الرسول من اذى قومه

فجعلت قريش حين منعه الله منها ، وقام عمه وقومه من بنى هاشم وبنى المطلب دونه وحالوا بينهم وبين ما أرادوا من البطش به ، يهمزونه ويستهزءون به ويخاصمونه ، وجعل القرآن ينزل فى قريش بأحداثهم وفيمن نصب لعداوته منهم ، فمنهم من سمى لنا ، ومنهم من نزل فيه القرآن فى عامة من ذكر الله من الكفار ، فكان ممن سمى لنا من قريش ممن نزل فيه القرآن : أبو لهب بن عبد المطلب ، وامرأته أم جميل بنت حرب بن أمية حمالة الحطب ، وإنما سماها الله تعالى حمالة الحطب لأنها كانت تحمل الشوك فتطرحه على طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث يمر ، فأنزل الله تعالى فيها : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ. سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ ، وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ. فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ).

ثم إن أم جميل حمالة الحطب حين سمعت ما نزل فيها وفى زوجها من القرآن أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس فى المسجد عند الكعبة ومعه

٦٧

أبو بكر الصديق ، وفى يدها فهر من حجارة ، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا ترى إلا أبا بكر. فقالت : يا أبا بكر ، أين صاحبك؟ فقد بلغنى أنه يهجونى ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه.

وكانت قريش إنما تسمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذمما ، ثم يسبونه. فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ألا تعجبون لما يصرف الله عنى من أذى قريش؟ يسبون ويهجون مذمما ، وأنا محمد.

* * *

وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح ، إذا رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم همزه ولمزه ، فأنزل الله تعالى فيه : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ. الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ. يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ. كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ. وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ. نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ. الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ. إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ. فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ).

* * *

وكان خباب بن الأرت صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قينا بمكة يعمل السيوف ، وكان قد باع من العاص بن وائل سيوفا عملها له ، حتى كان له عليه مال ، فجاءه يتقاضاه. فقال له : يا خباب ، أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذى أنت على دينه أن فى الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب ، أو فضة أو ثياب ، أو خدم؟ قال خباب : بلى فقال : فأنظرنى إلى يوم القيامة يا خباب حتى أرجع إلى تلك الدار فأقضيك هنا لك حقك فو الله لا تكون أنت وصاحبك يا خباب آثر عند الله منى ولا أعظم حظّا فى ذلك. فأنزل الله تعالى فيه :

٦٨

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً. أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) إلى قوله تعالى : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً).

* * *

وجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوما مع الوليد بن المغيرة فى المسجد فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم فى المجلس ، وفى المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أفحمه.

ثم قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمى حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة لعبد الله بن الزبعرى : والله ما قام النضر ابن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد ، وقد زعم محمد أنا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم. فقال عبد الله بن الزبعرى : أما والله لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمدا : أكل ما يعبد من دون الله فى جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا ، والنصارى تعبد عيسى بن مريم «عليهما‌السلام» فعجب الوليد ومن كان معه فى المجلس من قول عبد الله بن الزبعرى ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قول ابن الزبعرى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشياطين ، ومن أمرتهم بعبادته. فأنزل الله تعالى عليه فى ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ).

٦٩

وكان الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفى ، حليف بنى زهرة ، وكان من أشراف القوم وممن يستمع منه ، فكان يصيب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويرد عليه ، فأنزل الله تعالى فيه : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) ، إلى قوله تعالى (زَنِيمٍ)

* * *

وكان أبىّ بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح ، وعقبة بن أبى معيط ، متصافيين ، حسنا ما بينهما ، فكان عقبة قد جلس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمع منه ، فبلغ ذلك أبيّا ، فأتى عقبة فقال له : ألم يبلغنى أنك جالست محمدا وسمعت منه؟ وجهى من وجهك حرام أن أكلمك ـ واستغلظ من اليمين ـ إن أنت جلست إليه أو سمعت منه ، أو لم تأته فتتفل فى وجهه. ففعل ذلك عدو الله عقبة بن أبى معيط. لعنه الله. فأنزل الله تعالى فيهما. (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) إلى قوله تعالى : (لِلْإِنْسانِ خَذُولاً).

ومشى أبىّ بن خلف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعظم بال قد تكسّر ، فقال : يا محمد ، أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما رمّ ، ثم فتّه فى يده ثم نفخه فى الريح نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ، أنا أقول ذلك ، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ، ثم يدخلك الله النار. فأنزل الله تعالى فيه : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ).

* * *

واعترض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يطوف بالكعبة : الأسود بن

٧٠

المطلب بن أسد بن عبد العزى ، والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل السهمى ـ وكانوا ذوى أسنان فى قومهم ـ فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت فى الأمر ، فإن كان الذى تعبد خيرا مما نعبد ، كنا قد أخذنا بحظّنا منه ، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد ، كنت قد أخذت بحظك منه. فأنزل الله تعالى فيهم : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ. لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). أى إن كنتم لا تعبدون الله إلا أن أعبد ما تعبدون ، فلا حاجة لى بذلك منكم ، لكم دينكم جميعا ولي دينى.

* * *

ووقف الوليد بن المغيرة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكلمه وقد طمع فى إسلامه ، فبينا هو فى ذلك إذ مر به ابن أم مكتوم الأعمى ، فكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجعل يستقرئه القرآن ، فشق ذلك منه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أضجره ، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد ، وما طمع فيه من إسلامه ، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا وتركه. فأنزل الله تعالى فيه : (عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) إلى قوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ).

* * *

٤٠ ـ رجوع مهاجرى الحبشة

وبلغ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الذين خرجوا إلى أرض

٧١

الحبشة إسلام أهل مكة ، فأقبلوا لما بلغهم من ذلك ، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا ، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفيا.

فجميع من قدم عليه مكة من أصحابه من أرض الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلا.

* * *

٤١ ـ ابن مظعون ورده لجوار الوليد

ولما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البلاء ـ وهو يغدو وبروح فى أمان من الوليد بن المغيرة ـ قال : والله إن غدوى ورواحى آمنا بجوار رجل من أهل الشرك ، وأصحابى وأهل دينى يلقون من البلاء والأذى فى الله ما لا يصيبنى ، لنقص كبير فى نفسى ، فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له : لم يا أبا عبد شمس ، وفت ذمتك ، قد رددت إليك جوارك. فقال له : لم يا ابن أخى؟ لعله آذاك أحد من قومى. قال : لا ، ولكنى أرضى بجوار الله ، ولا أريد أن أستجير بغيره. قال : فانطلق إلى المسجد فاردد علىّ جوارى علانية كما أجرتك علانية. فانطلقا فخرجا حتى أتيا المسجد ، فقال الوليد : هذا عثمان قد جاء يرد علىّ جوارى. قال : صدق وجدته وفيّا كريم الجوار ، ولكنى قد أحببت ألا أستجير بغير الله ، فقد رددت عليه جواره. ثم انصرف عثمان ، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب فى مجلس من قريش ينشدهم ، فجلس معهم عثمان ، فقال لبيد :

ألا كل شىء ما خلا الله باطل

قال عثمان : صدقت. قال لبيد :

وكل نعيم لا محالة زائل

٧٢

قال عثمان : كذبت ، نعيم الجنة لا يزول. قال لبيد بن ربيعة : يا معشر قريش ، والله ما كان يؤذى جليسكم ، فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم : إن هذا سفيه فى سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا فلا تجدن فى نفسك من قوله. فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما ، فقام إليه ذلك الرجل فلطم عينه فخضرها. والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان ، فقال : أما والله يا بن أخى إن كانت عينك عما أصابها لغنية ، لقد كنت فى ذمة منيعة. فيقول عثمان : بل والله ، إن عينى الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها فى الله ، وإنى لفى جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس. فقال له الوليد : هلم يا ابن أخى ، إن شئت فعد إلى جوارك. فقال : لا.

* * *

٤٢ ـ استجارة أبى سلمة بأبى طالب

ثم إن أبا سلمة لما استجار بأبى طالب ، مشى إليه رجال من بنى مخزوم ، فقالوا له : يا أبا طالب ، لقد منعت منا ابن أخيك محمدا ، فمالك ولصاحبنا تمنعه منا؟ قال : إنه استجار بى ، وهو ابن أختى ، وإن أنا لم أمنع ابن أختى لم أمنع ابن أخى. فقام أبو لهب فقال : يا معشر قريش ، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ، ما تزالون تتواثبون عليه فى جواره من بين قومه ، والله لتنتهن عنه أو لتقومن معه فى كل ما قام فيه ، حتى يبلغ ما أراد. فقالوا : بل تنصرف عما تكره يا أبا عتبة ، وكان لهم وليّا وناصرا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأبقوا على ذلك. فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول ، ورجا أن يقوم معه فى شأن رسول الله صلى الله

٧٣

عليه وسلم ، وقال شعرا يحرضه على نصرته ونصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

٤٣ ـ أبو بكر ورده لجوار بن الدغنة

وقد كان أبو بكر الصديق رضى الله عنه ، حين ضاقت عليه مكة وأصابه فيها الأذى ، ورأى من تظاهر قريش على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ما رأى ، استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الهجرة فأذن له ، فخرج أبو بكر مهاجرا ، حتى إذا سار من مكة يوما أو يومين ، لقيه ابن الدغنة أخو بنى الحارث بن عبد مناة بن كنانة ، وهو يومئذ سيد الأحابيش ، فقال ابن الدغنة : أين يا أبا بكر؟ قال : أخرجنى قومى وآذونى وضيقوا علىّ. قال : ولم؟ فو الله إنك لتزين العشيرة ، وتعين على النوائب ، وتفعل المعروف ، وتكسب المعدوم ، ارجع فأنت فى جوارى. فرجع معه ، حتى إذا دخل مكة قام ابن الدغنة فقال : يا معشر قريش ، إنى قد أجرت ابن أبى قحافة ، فلا يعرضن له أحد إلا بخير. فكفوا عنه.

وكان لأبى بكر مسجد عند باب داره فى بنى جمح ، فكان يصلى فيه ، وكان رجلا رقيقا ، إذا قرأ القرآن استبكى ، فيقف عليه الصبيان والعبيد والنساء يعجبون لما يرون من هيئته. فمشى رجال من قريش إلى ابن الدغنة ، فقالوا له : يا ابن الدغنة ، إنك لم تجر هذا الرجل ليؤذينا ، إنه رجل إذا صلى ، وقرأ ما جاء به محمد يرق ويبكى ، فنحن نتخوف على صبياننا ونسائنا وضعفتنا أن يفتنهم ، فانهه ومره أن يدخل بيته فليصنع فيه ما شاء ،

٧٤

فمشى ابن الدغنة إليه فقال له : يا أبا بكر ، إنى لم أجرك لتؤذى قومك ، إنهم قد كرهوا مكانك الذى أنت فيه ، وتأذوا بذلك منك ، فادخل بيتك فاصنع فيه ما أحببت.

قال : أو أرد عليك جوارك وأرضى بجوار الله؟ قال : فاردد علىّ جوارى. قال : قد رددته عليك. فقام ابن الدغنة فقال : يا معشر قريش ، إن ابن أبى قحافة قد رد علىّ جوارى فشأنكم بصاحبكم.

فلقيه سفيه من سفهاء قريش ، وهو عامد إلى الكعبة ، فحثا على رأسه ترابا. فمر بأبى بكر الوليد بن المغيرة ـ أو العاصى بن وائل ـ فقال أبو بكر : ألا ترى إلى ما يصنع هذا السفيه؟ قال : أنت فعلت ذلك بنفسك.

* * *

٤٤ ـ نقض الصحيفة

ثم إنه قام فى نقض تلك الصحيفة ، التى تكاتبت فيها قريش على بنى هاشم وبنى المطلب ، نفر من قريش ، ولم يبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام ابن عمرو بن ربيعة بن الحارث ، وذلك أنه كان ابن أخى نضلة بن هاشم ابن عبد مناف لأمه ، فكان هشام لبنى هاشم واصلا ، وكان ذا شرف فى قومه ، فكان يأتى بالبعير ، وبنو هاشم وبنو المطلب فى الشعب ليلا ، قد أوقره طعاما ، حتى إذا أقبل به فم الشعب خلع خطامه من رأسه ، ثم ضرب على جنبه ، فيدخل الشعب عليهم ، ثم يأتى به قد أوقره بزّا فيفعل به مثل ذلك.

٧٥

ثم إنّه مشى إلى زهير بن أبى أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وكانت أمة عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : يا زهير ، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب ، وأخوالك حيث قد علمت ، لا يباعون ولا يبتاع منهم ، أما إنى أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبى الحكم بن هشام ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم ، ما أجابك إليه أبدا. قال : ويحك يا هشام! فما ذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد ، والله أن لو كان معى رجل آخر لقمت فى نقضها حق أنقضها. قال : قد وجدت رجلا. قال : فمن هو؟ قال : أنا. قال له زهير : ابغنا رجلا ثالثا. فذهب إلى المطعم بن عدى بن نوفل بن عبد مناف فقال له : يا مطعم ، أقد رضيت أن يهلك بطنان من بنى عبد مناف ، وأنت شاهد على ذلك ، موافق لقريش فيه؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه ، لتجدنهم إليها منكم سراعا. قال : ويحك! فما ذا أصنع؟ إنما أنا رجل واحد. قال : قد وجدت ثانيا. قال : من هو؟ قال : أنا. قال : ابغنا ثالثا. قال : قد فعلت. قال : من هو؟ قال : زهير بن أبى أمية. قال : ابغنا رابعا. فذهب إلى أبى البخترى بن هشام ، فقال له نحوا مما قال للمطعم بن عدى ، فقال : وهل من أحد يعين على هذا؟ قال : نعم. قال : من هو؟ قال : زهير ابن أبى أمية ، والمطعم بن عدى. وأنا معك. قال : ابغنا خامسا.

فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد فكلمه ، وذكر له قرابتهم وحقهم ، فقال له : وهل على هذا الأمر الذى تدعونى إليه من أحد؟ قال : نعم ، ثم سمى له القوم.

فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة ، فاجتمعوا هنالك ، فأجمعوا أمرهم

٧٦

وتعاقدوا على القيام فى الصحيفة حتى ينقضوها ، وقال زهير : أنا أبدؤكم ، فأكون أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم ، وغدا زهير بن أبى أمية عليه حلة فطاف بالبيت سبعا ، ثم أقبل على الناس فقال : يا أهل مكة ، أنأكل الطعام ونلبس الثياب ، وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

قال أبو جهل ، وكان فى ناحية المسجد : كذبت والله لا تشق. قال زمعة بن الأسود : أنت والله أكذب ، ما رضينا كتابتها حيث كتبت. قال أبو البخترى : صدق زمعة ، لا نرضى ما كتب فيها ، ولا نقر به. قال المطعم بن عدى : صدقتما وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى الله منها ، ومما كتب فيها. وقال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. فقال أبو جهل : هذا أمر قضى بليل ، تشوور فيه بغير هذا المكان.

وأبو طالب جالس فى ناحية المسجد ، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا «باسمك اللهم».

* * *

٤٥ ـ إسلام الطفيل بن عمرو

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على ما يرى من قومه ، ببذل لهم النصيحة ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه ، وجعلت قريش ، حين منعه الله منهم ، يحذرون الناس ومن قدم عليهم من العرب.

وكان الطفيل بن عمرو الدوسى يحدث أنه قدم مكة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بها ، فمشى إليه رجال من قريش ، وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا ، فقالوا له : يا طفيل ، إنك قدمت بلادنا ، وهذا الرجل

٧٧

الذى بين أظهرنا قد أعضل (١) بنا ، وقد فرق جماعتنا ، وشتت أمرنا ، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه ، وبين الرجل وبين أخيه ، وبين الرجل وبين زوجته ، وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل علينا ، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئا.

قال : فو الله ما زالوا بى حتى أجمعت ألا أسمع منه شيئا ولا أكلمه ، حتى حشوت فى أذنى حين غدوت إلى المسجد كرسفا (٢) فرقا من أن يبلغنى شىء من قوله ، وأنا لا أريد أن أسمعه. قال : فعدوت إلى المسجد ، فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم يصلى عند الكعبة. قال : فقمت منه قريبا ، فأبى الله إلا أن يسمعنى بعض قوله : فسمعت كلاما حسنا. فقلت فى نفسى : واثكل أمى! والله إنى لرجل لبيب شاعر ما يخفى على الحسن من القبيح ، فما يمنعنى أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ، فإن كان الذى يأتى به حسنا قبلته ، وإن كان قبيحا تركته.

فمكثت حتى انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيته فاتبعته ، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه ، فقلت : يا محمد ، إن قومك قد قالوا لى كذا وكذا ، للذى قالوا ، فو الله ما برحوا يخوفوننى أمرك حتى سددت أذنى بكرسف لئلا أسمع قولك ، ثم أبى الله إلا أن يسمعنى قولك ، فسمعته قولا حسنا ، فأعرض علىّ أمرك. قال : فعرض علىّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإسلام ، وتلا علىّ القرآن ، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه. قال : فأسلمت وشهدت شهادة الحق ، وقلت : يا نبى الله ، إنى

__________________

(١) أعضل : اشتد أمره.

(٢) الكرسف : القطن.

٧٨

امرؤ مطاع فى قومى ، وأنا راجع إليهم ، وداعيهم إلى الإسلام. ولقد أسلم بإسلام الطفيل أبوه وزوجته ونفر من قومه.

* * *

٤٦ ـ الإسراء والمعراج

ثم أسرى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وهو بيت المقدس من إيلياء ، وقد فشا الإسلام بمكة فى قريش ، وفى القبائل كلها.

وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالبراق ـ وهى الدابة التى كانت تحمل عليها الأنبياء قبله ـ فحمل عليها ، ثم خرج به صاحبه ، يرى الآيات فيما بين السماء والأرض ، حتى انتهى إلى بيت المقدس ، فوجد فيه إبراهيم الخليل وموسى وعيسى فى نفر من الأنبياء قد جمعوا له ، فصلى معهم ، ثم أتى بثلاثة آنية : إناء فيه لبن ، وإناء فيه خمر ، وإناء فيه ماء. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فسمعت قائلا يقول حين عرضت على : إن أخذ الماء غرق وغرقت أمته ، وإن أخذ الخمر غوى وغوت أمته ، وإن أخذ اللبن هدى وهديت أمته قال : فأخذت إناء اللبن ، فشربت منه ، قال لى جبريل عليه‌السلام : هديت وهديت أمتك يا محمد.

* * *

ثم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مكة ، فلما أصبح غدا على قريش فأخبرهم الخبر ، فقال أكثر الناس هذا والله الأمر (١) البين! والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة ، وشهرا مقبلة ، أفيذهب ذلك محمد فى ليلة واحدة ويرجع إلى مكة؟ فارتد كثير ممن كان أسلم ، وذهب

__________________

(١) الأمر : العجب.

٧٩

الناس إلى أبى بكر ، فقالوا له : هل لك يا أبا بكر فى صاحبك؟ يزعم أنه قد جاء هذه الليلة بيت المقدس وصلى فيه ورجع إلى مكة. فقال لهم أبو بكر : والله لئن كان قاله لقد صدق ، فما يعجبكم من ذلك ، فو الله إنه ليخبرنى أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض فى ساعة من ليل أو نهار فأصدقه ، فهذا أبعد مما تعجبون منه. ثم أقبل حتى انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا نبى الله ، أحدثت هؤلاء القوم أنك جئت بيت المقدس هذه الليلة؟ قال : نعم. قال : يا نبى الله ، فصفه لى ، فإنى قد جئته ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فرفع لى حتى نظرت إليه ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصفه لأبى بكر ، ويقول أبو بكر : صدقت ، أشهد أنك رسول الله ، كلما وصف له منه شيئا ، قال : صدقت ، أشهد أنك رسول الله ، حتى إذا انتهى ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى بكر : وأنت يا أبا بكر الصديق فيومئذ سماه الصديق.

* * *

٤٧ ـ خروج الرسول إلى الطائف

ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأذى ما لم تكن تنال منه فى حياة عمه أبى طالب ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الطائف ، يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم من قومه. ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عزوجل ، فخرج إليهم وحده.

ولما انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادة ثقيف ، وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة : عبد باليل بن عمرو

٨٠