الموسوعة القرآنيّة - ج ١

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ١

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه على بن أبى طالب مستخفيا من أبيه أبى طالب ، ومن جميع أعمامه وسائر قومه ، فيصليان الصلوات فيها ، فإذا أمسيا رجعا.

فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا ، ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان ، فقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا بن أخى ، ما هذا الدين الذى أراك تدين به؟

قال : أى عم ، هذا دين الله ، ودين ملائكته ، ودين رسله ، ودين أبينا إبراهيم ، بعثنى الله به رسولا إلى العباد ، وأنت ـ أى عم ـ أحق من بذلت له النصيحة ، ودعوت إلى الهدى ، وأحق من أجابنى إليه وأعاننى عليه. فقال أبو طالب : أى ابن أخى ، إنى لا أستطيع أن أفارق دين آبائى وما كانوا عليه ، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت.

* * *

٢٣ ـ إسلام زيد بن حارثة

ثم أسلم زيد بن حارثة. وكان حكيم بن حزام بن خويلد قدم من الشام برقيق ، فيهم زيد بن حارثة وصيف ، فدخلت عليه عمته خديجة بنت خويلد ، وهى يومئذ عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لها : اختارى يا عمة أى هؤلاء الغلمان شئت فهو لك ، فاختارت زيدا ، فأخذته ، فرآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عندها ، فاستوهبه منها ، فوهبته له ، فأعتقه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبناه ، وذلك قبل أن يوحى إليه.

وكان أبوه حارثة قد جزع عليه جزعا شديدا ، ثم قدم عليه وهو عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

٤١

«إن شئت فأقم عندى ، وإن شئت فانطلق مع أبيك»؟ فقال : بل أقيم عندك.

فلم يزل عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بعثه الله فصدقه ، وأسلم ، وصلى معه.

* * *

٢٤ ـ إسلام أبى بكر

ثم أسلم أبو بكر بن أبى قحافة ، واسمه عتيق. واسم أبى قحافة عثمان ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى ابن غالب بن فهر.

فلما أسلم أبو بكر رضى الله عنه أظهر إسلامه ، ودعا إلى الله وإلى رسوله.

وكان أبو بكر رجلا مألفا (١) لقومه ، محببا سهلا ، وكان أنسب قريش لقريش ، وأعلم قريش بها ، وبما كان فيها من خير وشر ، وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف ، وكان رجال قومه يأتونه ويألقونه ، لعلمه وتجارته وحسن مجالسه ، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به قومه ، ممن يغشاه ويجلس إليه.

* * *

٢٥ ـ من اسلم بدعوة أبى بكر

فأسلم بدعاء أبى بكر عثمان بن عفان بن أبى العاصى بن أمية بن عبد شمس ،

__________________

(١) المألف : الذى يألفه الناس.

٤٢

والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب ، وعبد الرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب ، وسعد بن أبى وقاص مالك بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة بن مرة بن كلاب ، وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن مرة بن كعب بن لؤى.

فجاء بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ونظر وتردده ، إلا ما كان من أبى بكر بن أبى قحافة ، ما تلبث عنه حين ذكرته له ، وما تردد فيه.

* * *

٢٦ ـ من أسلموا بعد ذلك

ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر ، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم ، والأرقم بن أبى الأرقم عبد مناف بن أسد بن عبد الله ابن عمر بن مخزوم ، وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح ابن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى ، وأخواه قدامة ، وعبد الله ، ابنا مظعون ، وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة ، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى ، وامرأته فاطمة بنت الخطاب بن نفيل بن عبد العزى ، أخت عمر بن الخطاب ، وأسماء بنت أبى بكر ، وعائشة بنت أبى بكر ـ وهى يومئذ صغيرة ـ وخباب بن الأرت ، حليف بنى زهرة ، وعمير بن أبى وقاص ـ أخو سعد بن أبى وقاص ـ وعبد الله

٤٣

ابن مسعود بن الحارث ـ حليف بنى زهرة ـ ومسعود بن ربيعة بن عمرو بن سعد ابن عبد العزى ـ من القارة ـ وسليط بن عمرو بن عبد شمس ، وأخوه حاطب ابن عمرو وعياش بن أبى ربيعة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وامرأته أسماء بنت سلامة التميمية ، وخنيس بن حذافة بن قيس بن عدى ، وعامر بن ربيعة ـ من عنز بن وائل ـ وعبد الله بن جحش بن رئاب ، وأخوه أبو أحمد بن جحش ، وجعفر بن أبى طالب ، وامرأته أسماء بنت عميس بن النعمان ، وحاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب ، وامرأته فاطمة بنت المجلل بن عبد الله ، وأخوه حطاب بن الحارث ، وامرأته فكيهة بنت يسار ، ومعمر بن الحارث بن معمر بن حبيب ، والسائب بن عثمان بن مظعون بن حبيب ابن وهب ، والمطلب بن أزهر بن عبد عوف ، وامرأته رملة بنت أبى عوف ابن صبيرة ، والنحام نعيم بن عبد الله بن أسيد ، وعامر بن فهيرة ـ مولى أبى بكر الصديق ـ وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس ، وامرأته أمينة بنت خلف بن أسعد ، وحاطب بن عمرو بن عبد شمس ، وأبو حذيفة مهشم بن عتبة بن ربيحة بن عبد شمس ، وواقد بن عبد الله بن عبد مناف ـ حليف بنى عدى بن كعب ـ وخالد ، وعامر ، وعاقل ، وإياس ـ بنو البكير ابن عبد ياليل بن ناشب ـ وعمار بن ياسر ـ حليف بنى مخزوم بن يقظة ـ وصهيب بن سنان ، أحد النمر بن قاسط.

ثم دخل الناس فى الإسلام أرسالا من الرجال والنساء ، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به.

* * *

٢٧ ـ الجهر بالدعوة

ثم إن الله عزوجل أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يصدع بما جاءه

٤٤

منه وأن يبادئ الناس بأمره ، وأن يدعوه إليه ، وكان بين ما أخفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ، ثلاث سنين من مبعثه ، ثم قال الله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ). وقال تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ). وقال جل شأنه : (وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ).

وكان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلوا ذهبوا فى الشعاب فاستخفوا بصلاتهم من قومهم ، فبينا سعد بن أبى وقاص فى نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى شعب من شعاب مكة ، إذا ظهر عليهم نفر من المشركين ، وهم يصلون ، فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون ، حتى قاتلوهم. فضرب سعد بن أبى وقاص يومئذ رجلا من المشركين بعظم فشجه ، فكان أول دم هريق فى الإسلام.

* * *

فلما بادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردوا عليه ، حتى ذكر آلهتهم وعابها ، فلما فعل ذلك ناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته ، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام ، وهم قليل.

وحدب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمه أبو طالب ، ومنعه وقام دونه. ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمر الله مظهرا لأمره ، لا يرده عنه شىء.

فلما رأت قريش أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعتبهم (١) من شىء

__________________

(١) لا يعتبهم : لا يرضيهم.

٤٥

أنكروه عليه ، من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه ، وقام دونه ، فلم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبى طالب : عتبة ، وشيبة ـ ابنا ربيعة بن عبد شمس ـ وأبو سفيان بن حرب ابن أمية ، وأبو البخترى العاصى بن هشام بن الحارث بن أسد ابن عبد العزى ، والأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى وأبو جهل عمرو ابن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، والوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، ونبيه ، ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة والعاص بن وائل بن هاشم ، فقالوا : يا أبا طالب ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آبائنا ، فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلى بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه ، فقال لهم أبو طالب قولا رقيقا ، وردهم ردّا جميلا ، فانصرفوا عنه.

* * *

ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما هو عليه ، يظهر دين الله ويدعو إليه ، ثم اشتد الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتعادوا ، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينها ، وحض بعضهم بعضا عليه.

ثم إنهم مشوا إلى أبى طالب مرة أخرى ، فقالوا له : يا أبا طالب ، إن لك سنّا وشرفا ومنزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى تكفه عنا ، أو ننازله وإياك فى ذلك حتى يهلك أحد الفريقين ، ثم انصرفوا عنه.

فعظم على أبى طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا خذلانه.

٤٦

ثم بعث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : يا بن أخى ، إن قومك قد جاءونى فقالوا لى كذا وكذا ، فأبق علىّ وعلى نفسك ، ولا تحمّلنى من الأمر ما لا أطيق.

فظن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قد بدا لعمه فيه رأى أنه خاذله ، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عم ، والله لو وضعوا الشمس فى يمينى والقمر فى يسارى ، على أن أترك هذا الأمر ، حتى يظهره الله أو أهلك فيه ، ما تركته». ثم استعبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فبكى ، ثم قام.

فلما ولى ناداه أبو طالب فقال : أقبل يا ابن أخى. فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال : اذهب يا بن أخى فقل ما أحببت ، فو الله لا أسلمك لشىء أبدا.

* * *

ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإسلامه ، وإجماعه لفراقهم فى ذلك وعداوتهم ، مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة ، فقالوا له : يا أبا طالب ، هذا عمارة بن الوليد ، أنهد (١) فتى فى قريش وأجمله ، فخذه واتخذه ولدا فهو لك ، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذى قد خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك ، وسفه أحلامهم ، فنقتله ، فإنما هو رجل برجل.

__________________

(١) أنهد : أشد وأقوى.

٤٧

فقال : والله لبئس ما تسوموننى. أتعطوننى ابنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم ابني تقتلونه ، هذا والله ما لا يكون أبدا.

فقال المطعم بن عدى بن نوفل : والله يا أبا طالب ، لقد أنصفك قومك. وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا.

فقال أبو طالب للمطعم : والله ما أنصفونى ، ولكنك قد أجمعت خذلانى ومظاهرة القوم علىّ ، فاصنع ما بدا لك.

فاشتد الأمر ، وحميت الحرب ، وتنابذ القوم ، وبادى بعضهم بعضا.

* * *

٢٨ ـ تآمر قريش على المسلمين

ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من فى القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين أسلموا معه ، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم ، ومنع الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم بعمه أبى طالب.

وقد قام أبو طالب ، حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون فى بنى هاشم وبنى المطلب ، فدعاهم إلى ما هو عليه ، من منع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والقيام دونه. فاجتمعوا إليه ، وقاموا معه ، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه ، إلا ما كان من أبى لهب ، عدو الله.

* * *

ثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم ، فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ،

٤٨

وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا.

قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل وأقم لنا رأيا نقول به.

قال : بل أنتم فقولوا أسمع. قالوا : نقول : كاهن قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فما هو بكلام الكاهن ولا سجعه. قالوا : فنقول : مجنون. قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه. قالوا : فنقول : شاعر. قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله ، فما هو بالشعر. قالوا : فنقول : ساحر. قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا : ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته.

فتفرقوا منه بذلك ، فجعلوا يجلسون بطرق الناس حين قدموا الموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره.

وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانتشر ذكره فى بلاد العرب كلها.

* * *

فلما انتشر أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى العرب ويلغ البلدان.

(م ٤ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)

٤٩

ذكر بالمدينة ، ولم يكن حى من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين ذكر وقبل أن يذكر ، من هذا الحى من الأوس والخزرج ، وذلك لما كانوا يسمعون من أحبار اليهود ، وكانوا لهم حلفاء ومعهم فى بلادهم.

* * *

٢٩ ـ ما لقى الرسول من قومه

ثم إن قريشا اشتد أمرهم ، للشقاء الذى أصابهم فى عداوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومن أسلم معه منهم ، فأغروا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سفهاءهم ، فكذبوه وآذوه ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفى به مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم ، واعتزال أوثانهم ، وفراقه إياهم على كفرهم.

واجتمع أشرافهم يوما فى الحجر فذكروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط ، سفه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم.

فبينما هم فى ذلك ، إذ طلع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأقبل يمشى حتى استلم الركن ، ثم مر بهم طائفا بالبيت ، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول ، فعرف ذلك فى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم مضى ، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرف ذلك فى وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها ، فوقف ثم قال : «أتسمعون يا معشر قريش. أما والذى نفسى بيده ، لقد جئتكم بالذبح (١)». فأخذت القوم كلمته ، حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع ، حتى إن أشدهم فيه

__________________

(١) بالذبح ، يعنى : بالهلاك.

٥٠

وصاة (١) ليهدئه بأحسن ما يحمد من القول ، حتى إنه ليقول : انصرف يا أبا القاسم ، فو الله ما كنت جهولا.

فانصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إذا كان الغد اجتمعوا فى الحجر ، فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه ، حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه.

فبينما هم فى ذلك طلع عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به يقولون : أنت الذى تقول كذا وكذا؟ ـ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم ـ فيقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ، أنا الذى أقول ذلك.

فأخذ رجل منهم بمجمع ردائه. فقام أبو بكر رضى الله عنه دونه ، وهو يبكى ويقول : أتقتلون رجلا أن يقول ربى الله؟ فانصرفوا عنه.

* * *

٣٠ ـ إسلام حمزة

ثم إن أبا جهل مر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الصفا ، فآذاه وشتمه ، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف لأمره ، فلم يكلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومولاة لعبد الله بن جدعان فى مسكن لها تسمع ذلك ، ثم انصرف عنه ، فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة فجلس معهم.

فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضى الله عنه أن أقبل متوشحا قوسه ، راجعا من صيد له ـ وكان صاحب صيد يخرج له ، وكان إذا رجع من صيده لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة ، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على

__________________

(١) الوصاة : الوصية.

٥١

ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم ، وكان أعز فتى فى قريش وأشد شكيمة ، فلما مر بالمولاة ـ وقد رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بيته ـ قالت له : يا أبا عمارة ، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفا من أبى جهل ، وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره ، ثم انصرف عنه ، ولم يكلمه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فاحتمل حمزة الغضب ، لما أراد الله به من كرامته ، فخرج يسعى ولم يقف على أحد ، معدّا لأبى جهل إذا لقيه أن يوقع به ، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا فى القوم ، فأقبل نحوه ، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة ، ثم قال : أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ، فرد ذلك على إن استطعت!

فقامت رجال من بنى مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل ، فقال أبو جهل : دعوا أبا عمارة ، فإنى قد والله سببت ابن أخيه سبّا قبيحا.

ونم حمزة رضى الله عنه على إسلامه ، وعلى ما تابع عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله.

فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عز وامتنع ، وأن حمزة سيمنعه ، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.

* * *

٣١ ـ ما كان بين عتبة والرسول

وحين أسلم حمزة ، ورأت قريش أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يزيدون ويكثرون ، قال عتبة بن ربيعة ، وكان سيدا ، وهو جالس فى نادى قريش ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس فى المسجد وحده : يا معشر

٥٢

قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ، ويكف عنا؟ فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلمه.

فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا بن أخى ، إنك منا حيث قد علمت من الشرف فى العشيرة ، والمكان فى النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم ، فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع منى أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قل يا أبا الوليد ، أسمع ، قال : يا ابن أخى ، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد به شرفا سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا ملّكناك علينا ، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيا (١) تراه ، لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع (٢) على الرجل حتى يداوى منه.

حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمع منه ، قال : أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال : نعم. قال : فاسمع منى. قال : أفعل. فقال : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم. تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ. وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ). ثم مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) الرئى : ما يتراءى للإنسان من الجن.

(٢) التابع : من يتبع من الجن.

٥٣

فيها يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليها يسمع منه. ثم انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى السجدة منها ، فسجد ، ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك.

فقام عتبة إلى أصحابه. فقال بعضهم لبعض : نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائى أنى قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ، يا معشر قريش ، أطيعونى واجعلوها بى ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فو الله ليكونن لقوله الذى سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزّه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ، قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه. قال : هذا رأيى فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم.

* * *

٣٢ ـ الرسول واشراف قومه

وجعل الإسلام يفشو بمكة فى قبائل قريش فى الرجال والنساء ، وقريش تحبس من قدرت على حبسه ، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين ، فاجتمع أشراف قريش من كل قبيلة بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه : إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فأتهم.

فجاءهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سريعا ، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه رأى ، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ، حتى جلس إليهم. فقالوا له : يا محمد ، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك ، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك ، وما بقى أمر قبيح إلا قد

٥٤

جئته فيما بيننا وبينك ، وإن كنت غير قابل منا شيئا عرضناه عليك ، فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ، ولا أقل ماء ، ولا أشدّ عيشا منّا ، فسل ربك الذى بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التى قد ضيقت علينا ، وليبسط لنا بلادنا ، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا.

فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه : ما بهذا بعثت إليكم ، إنما جئتكم من الله بما بعثنى به ، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه فهو حظكم فى الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علىّ أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله بينى وبينكم. قالوا : فإذا لم تفعل هذا لنا فخذ لنفسك ، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تتمول ، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغى ، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم ، وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك ، إن كنت رسولا كما تزعم.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثنى بشيرا ونذيرا. قالوا : فأسقط السماء علينا كسفا ، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ذلك إلى الله إن شاء أن يفعله بكم فعل.

وقام عنهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حزينا آسفا ، لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ، ولما رأى من مباعدتهم إياه.

* * *

٥٥

فقال أبو جهل : يا معشر قريش ، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وشتم آلهتنا ، وإنى أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أطيق حمله ، فإذا سجد فى صلاته فضخت به رأسه ، فأسلمونى عند ذلك أو امنعونى ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم.

قالوا : والله لا نسلمك لشىء أبدا ، فامض لما تريد. فلما أصبح أبو جهل أخذ حجرا كما وصف ، ثم جلس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينتظره ، وغدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما كان يغدو ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبلته إلى الشام ، فكان إذا صلى جعل الكعبة بينه وبين الشام ، فقام يصلى ، وقد غدت قريش فجلسوا فى أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل.

فلما سجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم احتمل أبو جهل الحجر ، ثم أقبل نحوه ، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على الحجر ، حتى قذف الحجر من يده. وقامت إليه رجال قريش فقالوا له : ما لك يا أبا الحكم؟ قال : قمت إليه لأفعل ما قلت لكم البارحة ، فلما دنوت منه عرض لى دونه فحل من الإبل ، لا والله ما رأيت مثل هامته قط ولا أنيابه لفحل قط ، فهم أن يأكلنى.

فلما قال لهم ذلك أبو جهل ، قام النضر بن الحارث ، فقال : يا معشر قريش ، إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم له بحيلة بعد ، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا ، أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم فى صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به قلتم : ساحر! لا والله ما هو بساحر! وقلتم : كاهن! لا والله ما هو بكاهن! وقلتم : شاعر! لا والله

٥٦

ما هو بشاعر! وقلتم : مجنون! لا والله ما هو بمجنون! يا معشر قريش ، فانظروا فى شأنكم ، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم.

* * *

وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وممن كان يؤذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبنصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها ، فكان إذا جلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلسا فذكر فيه بالله ، خلفه فى مجلسه إذا قام ، ثم قال : أنا والله يا معشر قريش ، أحسن حديثا منه ، فهلم إلىّ ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ، ثم يقول : بما ذا محمد أحسن حديثا منى؟

* * *

٣٣ ـ أول جهر بالقرآن

واجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهره لها به قط ، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبد الله ابن مسعود ، أنا. قالوا : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه. قال : دعونى فإن الله سيمنعنى.

فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام فى الضحى ، وقريش فى أنديتها ، حتى قام عند المقام ثم قرأ : (بسم الله الرّحمن الرّحيم) رافعا بها صوته (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ثم استقبلها يقرؤها. فتأملوه فجعلوا يقولون : ما ذا قال ابن مسعود؟ ثم قالوا : إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه فجعلوا يضربون فى وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ، ثم انصرف إلى أصحابه ، وقد أثروا فى وجهه ، فقالوا له : هذا الذى خشينا عليك. فقال : ما كان أعداء الله أهون علىّ منهم الآن ، وأ إن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا؟ قالوا : لا ، حسبك ، قد أسمعتهم ما يكرهون.

* * *

٥٧

٣٤ ـ استماع قريش إلى قراءة الرسول

وخرج ليلة أبو سفيان بن حرب ، وأبو جهل بن هشام ، والأخنس ابن شريق ، ليستمعوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يصلى من الليل فى بيته ، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع القمر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض. لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم فى نفسه شيئا ، ثم انصرفوا.

حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا.

حتى إذا كانت الليلة الثانية أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود. فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرقوا.

فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان فى بيته ، فقال : أخبرنى يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ، ولا ما يراد بها.

قال الأخنس : وأنا والذى حلفت به كذلك.

ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه فى بيته فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال : ما ذا سمعت! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف

٥٨

الشرف ، أطعموا وأطعمنا ، وأعطوا وأعطينا ، حتى إذا كنا كفرسى رهان قالوا : منا نبى يأتيه الوحى من السماء ، فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه.

فقام عنه الأخنس وتركه.

* * *

٣٥ ـ عدوان قريش على المستضعفين من المسلمين

ثم إن قريشا عدوا على من أسلم يعذبون من استضعفوا منهم ، فيفتنونهم عن دينهم ، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذى يصيبه ، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله.

وكان بلال ، لبعض بنى جمح ، مولى من مواليهم ، وكان صادق الإسلام ، طاهر القلب ، وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخرجه إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه على ظهره فى بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له : لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى. فيقول بلال وهو فى ذلك البلاء : أحد ، أحد.

حتى مر به أبو بكر الصديق رضى الله عنه يوما ، وهم يصنعون ذلك به وكانت دار أبى بكر فى بنى جمح ، فقال لأمية بن خلف : ألا تتقى الله فى هذا المسكين! حتى متى؟ قال : أنت الذى أفسدته فأنقذه مما ترى. فقال أبو بكر : أفعل ، عندى غلام أسود أقوى منه. على دينك ، أعطيكه به. قال : قد قبلت فقال : هو لك. فأعطاه أبو بكر عنه غلامه ذلك ، وأخذه فأعتقه.

ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب ، بلال سابعهم. فقال أبوه أبو قحافة : يا بنى ، إنى أراك تعتق رقابا ضعافا ، فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك! فقال أبو بكر : يا أبت ، إنما أريد ما أريد لله.

* * *

٥٩

وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه ـ وكانوا أهل بيت الإسلام ـ إذا حميت الظهيرة ، يعذبونهم برمضاء مكة. فيمر بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقول : صبرا آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة. فأما أمه فقتلوها ، وهى تأبى إلا الإسلام.

* * *

وكان أبو جهل إذا سمع بالرجل قد أسلم ، له شرف ، أنبّه ، وإن كان تاجرا قال : لتكسدن تجارتك ، وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به.

* * *

٣٦ ـ الهجرة الاولى إلى الحبشة

فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يصيب أصحابه من البلاء ، وأنه لا يقدر أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه.

فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة ، وفرارا إلى الله بدينهم ، فكانت أول هجرة فى الإسلام.

فكان جميع من لحق بأرض الحبشة ، وهاجر إليها من المسلمين ، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغارا وولدوا بها ، ثلاثة وثمانين رجلا.

* * *

فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد آمنوا واطمأنوا بأرض الحبشة ، وأنهم قد أصابوا بها دارا وقرارا ، ائتمروا بينهم أن يبعثوا فيهم منهم رجلين من قريش إلى النجاشى ، فيردهم عليهم ليفتنوهم فى دينهم ، ويخرجوهم من ديارهم التى اطمأنوا بها وآمنوا فيها.

٦٠