الموسوعة القرآنيّة - ج ١

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ١

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

وحفرت بنو جمح «السنبلة».

وحفرت بنو سهم «الغمر».

* * *

فعفت زمزم على البئار التى كانت قبلها ، وانصرف الناس إليها لمكانها من المسجد الحرام ، ولفضلها على ما سواها من المياه ، ولأنها بئر إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، وافتخرت بها بنو عبد مناف على قريش كلها ، وعلى سائر العرب.

* * *

٩ ـ نذر عبد المطلب

وكان عبد المطلب بن هاشم قد نذر حين لقى من قريش ما لقى عند حفر زمزم : لئن ولد له عشرة نفر ، ثم بلغوا معه حتى يمنعوه ، لينحرن أحدهم لله عند الكعبة.

فلما توافى بنوه عشرة ، وعرف أنهم سيمنعونه ، جمعهم ، ثم أخبرهم بنذره ، ودعاهم إلى الوفاء لله بذلك ، فأطاعوه وقالوا : كيف نصنع؟ قال : ليأخذ كل رجل منكم قدحا ، ثم يكتب فيه اسمه ، ثم ائتونى ، ففعلوا ثم أتوه.

ثم قال عبد المطلب لصاحب القداح : اضرب على بنى هؤلاء بقداحهم هذه ، وأخبره بنذره الذى نذر ، فأعطاه كل رجل منهم قدحه الذى فيه اسمه.

وكان عبد الله بن عبد المطلب أصغر بنى أبيه ، كان هو والزبير

٢١

وأبو طالب لفاطمة بنت عمرو بن عبد بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر.

* * *

وكان عبد الله أحب ولد عبد المطلب إليه ، فلما أخذ صاحب القداح القداح ليضرب بها ، قام عبد المطلب يدعو الله ، ثم ضرب صاحب القداح ، فخرج القدح على عبد الله فأخذه عبد المطلب بيده ، وأخذ الشفرة ، ثم أقبل به ليذبحه ، فقامت إليه قريش فقالوا : ما ذا تريد يا عبد المطلب؟ قال : أذبحه ، فقالت له قريش وبنوه : والله لا تذبحه أبدا حتى تعذر فيه ، لئن فعلت هذا لا زال الرجل يأتى بابنه حتى يذبحه ، فما بقاء الناس على هذا ، انطلق به إلى الحجاز ، فإن به عرافة لها تابع ، فسلها ، ثم أنت على رأس أمرك ، إن أمرتك بذبحه ذبحته ، وإن أمرتك بأمر لك وله فيه فرج قبلته.

فانطلقوا حتى قدموا المدينة فوجدوها بخير ، فركبوا حتى جاءوها فسألوها ، وقص عليها عبد المطلب خبره وخبر ابنه ، وما أرادوا به ، ونذره فيه ، فقالت لهم : ارجعوا عنى اليوم حتى يأتينى تابعى فأسأله ، فرجعوا من عندها ، فلما خرجوا عنها قام عبد المطلب يدعو الله ، ثم عدوا عليها ، فقالت لهم : قد جاءنى الخبر ، كم الدية فيكم؟ قالوا : عشرة من الإبل ـ وكانت كذلك ـ قالت : فارجعوا إلى بلادكم ثم قربوا صاحبكم ، وقربوا عشرة من الإبل ، ثم اضربوا عليها وعليه بالقداح ، فإن خرجت على صاحبكم فزيدوا من الإبل حتى يرضى ربكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها عنه ، فقد رضى ربكم ونجا صاحبكم.

فخرجوا حتى قدموا مكة ، فلما أجمعوا على ذلك من الأمر ، قام

٢٢

عبد المطلب يدعو الله ، ثم قربوا عبد الله وعشرا من الإبل ، وعبد المطلب قائم يدعو الله عزوجل ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل عشرين ، وقام عبد المطلب يدعو الله عزوجل ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل ثلاثين ، وقام عبد المطلب يدعو الله ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل أربعين. وقام عبد المطلب يدعو الله ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل خمسين. وقام عبد المطلب يدعو الله ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل سبعين ، وقام عبد المطلب يدعو الله ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل ثمانين ، وقام عبد المطلب يدعو الله ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل تسعين ، وقام عبد المطلب يدعو الله ، ثم ضربوا فخرج القدح على عبد الله ، فزادوا عشرا من الإبل ، فبلغت الإبل مائة. وقام عبد المطلب يدعو الله ، ثم ضربوا فخرج القدح على الإبل ، فقالت قريش ومن حضر : قد انتهى رضا ربك يا عبد المطلب ، فقال : لا والله حتى أضرب عليها ثلاث مرات. فضربوا على عبد الله وعلى الإبل ، وقام عبد المطلب يدعو الله ، فخرج القدح على الإبل ، ثم عادوا الثانية ، وعبد المطلب قائم يدعو الله ، فضربوا فخرج القدح على الإبل ، ثم عادوا الثالثة ، وعبد المطلب قائم يدعو الله ، فضربوا فخرج القدح على الإبل ، فنحرت ، ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع.

* * *

٢٣

١٠ ـ زواج عبد الله بآمنة :

ثم انصرف عبد المطلب آخذا بيد عبد الله ، فمر به على امرأة من بنى أسد بن عبد العزى بن قصى ، وهى أخت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ، وهى عند الكعبة ، فقالت له ، حين نظرت إلى وجهه : أين تذهب يا عبد الله؟ قال : مع أبى. قالت : لك مثل الإبل التى نحرت عنك وتزوجنى. قال : أنا مع أبى ولا أستطيع خلافه ولا فراقه.

فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ، وهو يومئذ سيد بنى زهرة نسبا وشرفا. فزوّجه ابنته آمنة بنت وهب ، وهى يومئذ أفضل امرأة فى قريش نسبا وموضعا.

فدخل عليها مكانه ، فحملت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم خرج من عندها فأتى المرأة التى عرضت عليه ما عرضت. فقال لها : مالك لا تعرضين علىّ اليوم ما كنت عرضت بالأمس؟ قالت له : فارقك النور الذى كان معك بالأمس.

وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل ، أنه سيكون فى هذه الأمة نبى.

* * *

١١ ـ ولادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وأتيت آمنة حين حملت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقيل لها : إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ، فإذا وقع إلى الأرض فقولى : أعيذه بالواحد ، من شر كل حاسد ، ثم سميه محمدا. ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى ، من أرض الشام.

ثم لم يلبث عبد الله بن عبد المطلب ، أبو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن هلك ، وأم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حامل به.

وكان مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة عام الفيل ، بعد قدوم أبرهة بخمسين

٢٤

ليلة ، وكان أول يوم من المحرم عام الفيل ، يوم الجمعة ، وقدم الفيل يوم الأحد لسبع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة ثمانمائة واثنتين وثمانين للإسكندر الرومى ، وست عشرة ومائتين من تاريخ العرب الذى أوله حجة الغدر ، وسنة أربع وأربعين من ملك أنو شروان بن قباذ ملك العجم.

وولد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول ، وقيل لاثنتى عشرة ليلة خلت منه. والصحيح أن ولادته كانت يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول ، كما حقق ذلك المرحوم محمود حمدى الفلكى فى رسالته ، وهذا اليوم يوافق العشرين من أبريل سنة ٥٧١ م ، وكانت ولادته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدار التى عند الصفا ، والتى كانت بعد لمحمد بن يوسف أخى الحجاج ، فصيرتها الخيزران ، زوج المهدى ، مسجدا.

وكانت قابلته التى نزل على يديها الشفاء ، أم عبد الرحمن بن عوف.

فلما وضعته أمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسلت إلى جده عبد المطلب : أنه قد ولد لك غلام ، فأته فانظر إليه ، فأتاه فنظر إليه ، وحدثته بما رأت حين حملت به ، وما قيل لها فيه ، وما أمرت به أن تسميه.

* * *

١٢ ـ حديث رضاعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

فأخذه عبد المطلب فدخل به الكعبة ، فقام يدعو الله ويشكر له ما أعطاه ، ثم خرج به إلى أمه فدفعه إليها ، والتمس لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المراضع ، فاسترضع له امرأة من بنى سعد بن بكر ، يقال لها : حليمة بنت أبى ذؤيب.

واسم أبيه الذى أرضعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الحارث بن عبد العزى.

وإخوته من الرضاعة ، عبد الله بن الحارث ، وأنيسة بنت الحارث ، وحذافة بنت الحارث ، وهى الشيماء ، غلب ذلك على اسمها فلا تعرف فى قومها إلا به ، وهم لحليمة بنت أبى ذؤيب.

٢٥

وكانت حليمة بنت أبى ذؤيب تحدث أنها خرجت من بلدها ـ مع زوجها وابن لها صغير ترضعه ـ وفى نسوة من بنى سعد بن بكر ، تلتمس الرضعاء. وذلك فى سنة شهباء لم تبق شيئا.

قالت : فخرجت على أتان لى قمراء (١) ، معنا شارف (٢) ، والله ما تبض بقطرة ، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذى معنا ، من بكائه من الجوع ، ما فى ثديى ما يغنيه ، وما فى شارفنا ما يغذيه ، ولكنا كنا نرجو الغيث والفرج.

فخرجت على أتانى تلك حتى قدمنا مكة نلتمس الرضعاء ، فما منا امرأة إلا وقد عرض عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتأباه ، إذا قيل لها إنه يتيم ، وذلك أنا إنما كنا نرجو المعروف من أبى الصبى فكنا نقول : يتيم ، وما عسى أن تصنع أمه وجده! فكنا نكرهه لذلك ، فما بقيت امرأة قدمت معى إلا أخذت رضيعا غيرى.

فلما أجمعنا الانطلاق قلت لصاحبى : والله إنى لا أكره أن أرجع من بين صواحبى ، ولم آخذ رضيعا ، والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه. قال : لا عليك أن تفعلى ، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة.

قالت : فذهبت إليه فأخذته ، وما حملنى على أخذه إلا أنى لم أجد غيره ، فلما أخذته رجعت به إلى رحلى ، فلما وضعته فى حجرى أقبل عليه ثدياى بما شاء من لبن ، فشرب حتى روى ، وشرب معه أخوه حتى روى ، ثم ناما ، وما كنا ننام معه قبل ذلك. وقام زوجى إلى شارفنا تلك ، فإذا هى حافل ، فحلب منها ما شرب ، وشربت معه ، حتى انتهينا ريّا وشبعنا ، فبتنا بخير ليلة.

__________________

(١) تمراء فى لونها خضرة.

(٢) الشارف الناقة المسمنة.

٢٦

قالت : يقول صاحبى حين أصبحنا : اعلمى والله يا حليمة ، لقد أخذت نسمة مباركة. فقلت : والله إنى لأرجو ذلك.

قالت : ثم خرجنا. وركبت أنا أتانى ، وحملته عليها معى ، فو الله لقطعت بالركب ما يقدر عليها شىء من حمرهم ، حتى إن صواحبى ليقلن لى : يا ابنة أبى ذؤيب ، ويحك! وأربعى (١) علينا ، أليست هذه أتانك التى كنت خرجت عليها ، فأقول لهن : بلى والله ، إنها لهى هى. فيقلن : والله إن لها لشأنا.

قالت : ثم قدمنا منازلنا من بلاد بنى سعد ، وما أعلم أرضا من أرض الله أجدب منها ، فكانت غنمى تروح على حين قدمنا به شباعا لبنا ، فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ، ولا يجدها فى ضرع ، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم : ويلكم! اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبى ذؤيب. فتروح أغنامهم جياعا ما تبض بقطرة لبن ، وتروح غنمى شباعا لبنا.

فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته ، وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان ، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما جفرا (٢).

قالت : فقدمنا به على أمه ، ونحن أحرص شىء على مكثه فينا ، لما كنا نرى من بركته ، فكلمنا أمه وقلت لها : لو تركت بنى عندى حتى يغلظ ، فإنى أخشى عليه وباء مكة.

قالت : فلم نزل بها حتى ردته معنا ، فرجعنا به.

* * *

وبعد أشهر حملته حليمة إلى أمه ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع

__________________

(١) اربعى : انتظرى.

(٢) جفرا : شديدا.

٢٧

أمه آمنة بنت وهب ، وجده عبد المطلب بن هاشم ، فى كلاءة الله وحفظه ، ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من كرامته.

* * *

١٣ ـ وفاة أمه وكفالة جده عبد المطلب له

فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ست سنين توفيت أمه آمنة بنت وهب بالإيواء ، بين مكة والمدينة ، وكانت قد قدمت به على أخواله من بنى عدى بن النجار ، تزيره إياهم ، فماتت وهى راجعة به إلى مكة.

فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع جده عبد المطلب بن هاشم ، وكان يوضع لعبد المطلب فراش فى ظل الكعبة ، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه ، لا يجلس عليه أحد من بنيه إجلالا له.

فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأتى ، وهو غلام شديد ، حتى يجلس عليه ، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه ، فيقول عبد المطلب ، إذا رأى ذلك منهم : دعوا ابني ، فو الله إن له لشأنا ، ثم يجلسه معه على الفراش ، ويمسح ظهره بيده ، ويسره ما يراه يصنع.

* * *

١٤ ـ موت عبد المطلب وكفالة عمه أبى طالب

فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمانى سنين هلك عبد المطلب بن هاشم ، وذلك بعد الفيل بثمانى سنين.

فلما هلك عبد المطلب بن هاشم ولّى زمزم والسقاية عليها بعده العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذ من أحدث إخوته سنا ، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام

٢٨

وهى بيده ، فأقرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، على ما مضى من ولايته.

* * *

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد عبد المطلب مع عمه أبى طالب. وكان عبد المطلب يوصى به عمه أبا طالب ، وذلك لأن عبد الله أبا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأبا طالب ، أخوان لأب وأم ، أمهما فاطمة بنت عمرو ابن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم ، فكان أبو طالب هو الذى يلى أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد جده ، فكان إليه ومعه.

* * *

وكان رجل من «لهب» ، (١) وكان عائفا ، فكان إذا قدم مكة أتاه رجال من قريش بغلمانهم ينظر إليهم ويعتاف لهم فيهم ، فأتى أبو طالب بالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو غلام مع من يأتيه ، فنظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم شغله عنه شىء ، فلما فرغ قال : الغلام ، علىّ به ، فلما رأى أبو طالب حرصه عليه غيبه عنه ، فجعل يقول : وويلك! ردوا علىّ الغلام الذى رأيت آنفا ، فو الله ليكونن له شأن. فانطلق به أبو طالب.

* * *

١٥ ـ حديث بحيرى الراهب

ثم إن أبا طالب خرج فى ركب تاجرا إلى الشام ، فلما تهيأ للرحيل وأجمع السير تعلق به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرقّ له ، وقال : والله لأخرجن به معى ، ولا يفارقنى ولا أفارقه أبدا.

فخرج به معه ، فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام ، وبها راهب ـ يقال له : بحيرى فى صومعة له ، وكان إليه علم أهل النصرانية ، فلما نزلوا ذلك

__________________

(١) لهب : قبيلة من أزد شنوءة.

٢٩

العام ببحيرى ، وكانوا كثيرا ما يمرون به قبل ذلك فلا يكلمهم ولا بعرض لهم ، حتى كان ذلك العام ، فلما نزلوا به قريبا من صومعته صنع لها طعاما كثيرا ، وذلك لشىء رآه وهو فى صومعته : رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الركب حين أقبلوا ، وغمامة تظله من بين القوم ، ثم أقبلوا فنزلوا فى ظل شجرة قريبا منه ، فنظر إلى الغمامة حين أظلت الشجرة وتدلت أغصان تلك الشجرة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى استظل تحتها.

فلما رأى ذلك بحيرى نزل من صومعته ثم أرسل إليهم فقال : إنى قد صنعت لكم طعاما يا معشر قريش ، فأنا أحب أن تحضروا كلكم ، صغيركم وكبيركم ، عبدكم وحركم. فقال له رجل منهم : والله يا بحيرى إن لك لشأنا اليوم ، فما كنت تصنع هذا بنا ، وقد كنا نمر بك كثيرا ، فما شأنك اليوم؟

قال له بحيرى : صدقت ، قد كان ما تقول ، ولكنكم ضيف ، وقد احببت أن أكرمكم وأصنع لكم طعاما فتأكلوا منه كلكم.

فاجتمعوا إليه ، وتخلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بين القوم ، لحداثة سنه ، فى رحال القوم تحت الشجرة.

فلما نظر بحيرى فى القوم لم ير الصفة التى يعرف ، فقال : يا معشر قريش لا يتخلفن أحد منكم عن طعامى. قالوا له : يا بحيرى ، ما تخلف عنك أحد ينبغى أن يأتيك إلا غلام ، وهو أحدث القوم سنّا ، فقال : لا تفعلوا ، ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم.

فقال رجل من قريش مع القوم : واللات والعزى ، إن كان للوم بنا أن يتخلف ابن عبد المطلب عن طعام من بيننا ، ثم قام إليه فاحتضنه وأجلسه مع القوم.

٣٠

فلما رآه بحيرى جعل يلحظه لحظا شديدا وينظر إلى أشياء من جسده ، قد كان يجدها عنده من صفته ، حتى إذا فرغ القوم من طعامهم وتفرقوا ، قام إليه بحيرى فقال له : يا غلام ، أسألك بحق اللات والعزى إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه ـ وإنما قال له بحيرى ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما ـ

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تسألنى باللات والعزى ، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما. فقال له بحيرى : فبالله إلا ما أخبرتنى عما أسألك عنه ، فقال له : «سلنى عما بدا لك» فجعل يسأله عن أشياء من حاله فى نومه وهيئته وأموره ، فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخبره ، فيوافق ذلك ما عند بحيرى من صفته.

ثم نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوة بين كتفيه على موضعه من صفته التى عنده ، فلما فرغ أقبل على عمه أبى طالب فقال له : ما هذا الغلام منك؟ قال : ابني. قال له بحيرى : ما هو بابنك ، وما ينبغى لهذا الغلام أن يكون أبوه حيا. قال : فإنه ابن أخى : قال : فما فعل أبوه؟ قال ، مات وأمه حبلى به. قال : صدقت ، فارجع بابن أخيك إلى بلده واحذر عليه يهود ، فو الله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شرّا ، فإنه كائن لابن أخيك هذا شأن عظيم. فأسرع به إلى بلاده.

* * *

فخرج به عمه أبو طالب سريعا حتى أقدمه مكة ، حين فرغ من تجارته بالشام ، وشب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله تعالى بكاؤه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد من كرامته ورسالته ، حتى بلغ أن كان رجلا ، وأفضل قومه مروءة ، وأحسنهم خلقا ، وأكرمهم حسبا ، وأحسنهم جوارا ،

٣١

وأعظمهم حلما ، وأصدقهم حديثا ، وأعظمهم أمانة ، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التى تدنّس الرجال تنزها وتكرّما ، حتى كان اسمه فى قومه الأمين ، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة.

* * *

فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع عشرة سنة ، هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معهم من كنانة ، وبين قيس عيلان ، فشهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض أيامهم ، أخرجه أعمامه معهم ، فكان ينبل على أعمامه ، أى يرد عليهم نبل عدوهم إذا رموهم بها.

* * *

١٦ ـ زواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خديجة

ولما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا وعشرين سنة ، تزوج خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤى بن غالب ، وكان سنها حين ذاك ، أربعين عاما.

وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال ، تستأجر الرجال فى مالها بشيء تجعله لهم.

فلما بلغها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بلغها من صدق حديثه ، وعظم أمانته ، وكرم أخلاقه ، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج فى مال لها إلى الشام تاجرا ، وتعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار ، مع غلام لها يقال له : ميسرة.

فقبله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخرج فى مالها ذلك ، وخرج معه غلامها ميسرة حتى قدم الشام.

٣٢

ثم باع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلعته التى خرج بها ، واشترى ما أراد أن يشترى ، ثم أقبل قافلا إلى مكة ، ومعه ميسرة.

فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فأضعف.

وكانت خديجة امرأة حازمة شريفة لبيبة ، يلتقى نسبها مع نسبه فى جده الأعلى قصى ، كما يلتقى نسبها مع نسب أمه فى كلاب بن مرة مع ما أراد الله بها من كرامته. فلما أخبرها ميسرة بما أخبرها به بعثت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت له : يا بن عم ، إنى قد رغبت فيك لقرابتك وشرفك فى قومك ، وأمانتك وحسن خلقك ، وصدق حديثك.

ثم عرضت عليه نفسها ، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسبا ، وأعظمهن شرفا ، وأكثرهن مالا ، كل قومها كان حريصا على ذلك منها ، لو يقدر عليه.

* * *

١٧ ـ خلاف قريش فى بنيان الكعبة

فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا وثلاثين سنة ، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة ، وكانوا يهمون بذلك ليقفوها ، ويهابون هدمها. وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت ، فأخذوا خشبها ، فأعدوه لتسقيفها. وكان بمكة رجل قبطى نجار ، فتهيأ لهم فى أنفسهم بعض ما يصلحها.

فلما أجمعوا أمرهم فى هدمها وبنائها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم ، فقال : يا معشر قريش ، لا تدخلوا فى بنائها من كسبكم

(م ٣ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)

٣٣

إلا طيبا ، لا يدخل فيها مهر بغى ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس.

ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه ، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم فى هدمها ، فأخذ المغول ثم قام عليها وهو يقول : اللهم إنا لا نريد إلا الخير ، ثم هدم من ناحية الركنين.

فتربص الناس تلك الليلة وقالوا : ننظر ، فإن أصيب لم نهدم منها شيئا ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه شىء ، فقد رضى الله صنعنا ، فهدمنا.

فأصبح الوليد من ليلته غاديا على عمله ، فهدم وهدم الناس معه ، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس ـ أساس إبراهيم عليه‌السلام ـ وأفضوا إلى حجارة خضراء أخذ بعضها بعضا ، فانتهوا عن ذلك الأساس.

* * *

ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها ، حتى بلغ البنيان موضع الركن ، فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى ، حتى أعدوا للقتال.

فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دما ، ثم تعاقدوا هم وبنو عدى بن كعب ابن لؤى على الموت ، وأدخلوا أيديهم فى ذلك الدم فى تلك الجفنة ، فسموا : لعقة الدم.

فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسا ، ثم إنهم اجتمعوا فى المسجد وتشاوروا وتناصفوا.

ثم إن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وكان عامئذ أسن قريش كلها ، قال : يا معشر قريش ، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد ، يقضى بينكم فيه ، ففعلوا.

٣٤

فكان أول داخل عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما رأوه قالوا : هذا الأمين ، رضينا ، هذا محمد.

فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هلم إلىّ ثوبا ، فأتى به فأخذ الركن فوضعه فيه بيده ، ثم قال : لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعا ، ففعلوا ، حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده ، ثم بنى عليه.

* * *

١٨ ـ علم اليهود والنصارى بمبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وكانت الأحبار من يهود ، والرهبان من النصارى ، والكهان من العرب قد تحدّثوا بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه ، لما نقارب من زمانه.

* * *

ويحدث رجال من المسلمين : أن مما دعانا إلى الإسلام ، لما كنا نسمع من رجال يهود ، وكنا أهل شرك أصحاب أوثان ، وكانوا أهل كتاب ، عندهم علم ليس لنا ، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور ، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا : إنه قد تقارب زمان نبى يبعث الآن ، فكنّا كثيرا ما نسمع ذلك منهم.

فلما بعث الله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله تعالى ، فبادرناهم إليه ، آمنا به وكفروا به.

* * *

وكان سلمة ، من أصحاب بدر ، يقول : كان لنا جار من يهود فى بنى عبد الأشهل ، فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بنى عبد الأشهل ، فذكر القيامة والبعث والحساب والميزان والجنة والنار ، فقالوا له : ويحك يا فلان ، أو ترى

٣٥

هذا كائنا؟ قال : نعم. فقالوا له : ويحك يا فلان ، فما آية ذلك؟ قال : نبى مبعوث من نحو هذه البلاد ـ وأشار بيده إلى مكة واليمن ـ فقالوا : ومتى نراه؟ فنظر إلىّ ـ وأنا من أحدثهم سنّا ، فقال : إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه.

قال سلمة : فو الله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله محمدا رسولا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

١٩ ـ مبعثه صلى‌الله‌عليه‌وسلم

ولما بلغ محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين ، وبشيرا للناس كافة.

وكان أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النبوة ، حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به ، الرؤيا الصادقة ، لا يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤيا فى نومه إلا جاءت كفلق الصبح ، وحبب الله تعالى إليه الخلوة ، فلم يكن شىء أحب إليه من أن يخلو وحده.

ومكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك إلى أن جاءه جبريل عليه‌السلام بما جاءه من كرامة الله ، وهو بحراء فى شهر رمضان ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعتكف فى حراء ذلك الشهر من كل سنة ، يطعم من جاء من المساكين ، فإذا قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتكافه من شهره ذلك ، كان أول ما يبدأ به الكعبة قبل أن يدخل بيته ، فيطوف بها سبعا ، أو ما شاء الله من ذلك ، ثم يرجع إلى بيته.

حتى إذا كان الشهر الذى أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته ، من السنة التى بعثه الله تعالى فيها ، وذلك الشهر رمضان ، خرج رسول الله

٣٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى حراء كما كان يخرج ، حتى إذا كانت الليلة التى أكرمه الله فيها برسالته ، جاءه جبريل عليه‌السلام بأمر الله تعالى فقال : اقرأ ، قال : ما أنا بقارئ. قال : فأخذنى فغطنى (١) حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ. فأخذنى فغطنى الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذنى فغطنى الثالثة ثم أرسلنى فقال : اقرأ باسم ربك الذى خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. فرجع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد رضى الله عنها فقال : زملونى زملونى ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسى. فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا.

ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل ، وهو ابن عمها ـ وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب ، وسمع من أهل التوراة والإنجيل ـ فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال ورقة : والذى نفس ورقة بيده ، لئن كنت صدقتنى يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر ، الذى كان يأتى موسى ، وإنه لنبىّ هذه الأمة ، فقولى له : فليثبت.

فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته بقول ورقة.

فلما قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اعتكافه وانصرف ، صنع كما كان يصنع ، بدأ بالكعبة فطاف بها ، فلقيه ورقة وهو يطوف بالكعبة فقال : يا ابن أخى ، أخبرنى بما رأيت وسمعت ، فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال له ورقة : والذى نفسى بيده ، إنك لنبى هذه الأمة ، ولقد جاءك الناموس

__________________

(١) غطنى : عصرنى عصرا شديدا حتى وجدت منه المشقة.

٣٧

الأكبر الذى جاء موسى ، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه.

ثم أدنى رأسه منه فقبل يافوخه. ثم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى منزله.

* * *

٢٠ ـ بدء التنزيل

فابتدئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتنزيل فى شهر رمضان ، يقول الله عزوجل : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ).

ثم تتام الوحى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو مؤمن بالله مصدق بما جاء منه. ومضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمر الله ، على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى.

فآمنت به خديجة بنت خويلد وصدقت بما جاء من الله ، وكانت أول من آمن بالله ورسوله ، وصدق بما جاء منه ، فخفف الله بذلك عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا يسمع شيئا مما يكرهه ، من رد عليه وتكذيب له ، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها.

* * *

ثم فتر الوحى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فترة ، حتى شق ذلك عليه فأحزنه ، فجاءه جبريل بسورة الضحى ، يقسم له ربه ، وهو الذى أكرمه بما أكرمه ، ما ودعه وما قلاه ، يقول تعالى : (وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى. وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى. وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى. أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى. وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى. وَوَجَدَكَ عائِلاً

٣٨

فَأَغْنى. فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ. وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ. وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ).

فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد من به من النبوة ، سرّا إلى من يطمئن إليه من أهله.

* * *

٢١ ـ فرض الصلاة

وافترضت الصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أتاه جبريل وهو بأعلى مكة ، فهمز له يعقبه فى ناحية الوادى فانفجرت منه عين ، فتوضأ جبريل عليه‌السلام ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر إليه ، ليريه كيف الطهور للصلاة ، ثم توضأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما رأى جبريل يتوضأ ، ثم قام جبريل ، فصلى به ، وصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصلاته. ثم انصرف جبريل عليه‌السلام.

فجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خديجة فتوضأ لها ، ليريها كيف الطهور للصلاة ، كما أراه جبريل ، فتوضأت كما توضأ لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم صلى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما صلى به جبريل ، فصلت بصلاته.

* * *

ويقول ابن عباس : لما افترضت الصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه جبريل عليه‌السلام فصلى به الظهر حين مالت الشمس ، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله ، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس ، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق ، ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر ، ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظله مثله ، ثم صلى العصر به حين كان ظله مثليه. ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس ، ثم صلى به العشاء

٣٩

الآخرة حين ذهب ثلث الليل الاول ، ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق.

٢٢ ـ إسلام على بن أبى طالب

وكان أول ذكر من الناس آمن برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصلى معه ، وصدق بما جاءه من الله تعالى : على بن أبى طالب بن عبد المطلب ابن هاشم ، وهو يومئذ ابن عشر سنين.

وكان من نعمة الله على على بن أبى طالب ، ومما صنع الله له ، وأراد ربه من الخير ، أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعباس عمه ، وكان من أيسر بنى هاشم : يا عباس ، إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا إليه فلنخفف عنه من عياله ، آخذ من بنيه رجلا ، وتأخذ أنت رجلا ، فقال العباس : نعم.

فانطلقنا حتى أتيا أبا طالب فقالا له : إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه ، فقال لهما أبو طالب : إذا تركتما لى عقيلا فاصنعا ما شئتما.

فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليّا فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه. فلم يزل علىّ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بعثه الله تبارك وتعالى نبيّا ، فاتبعه على رضى الله عنه وآمن به وصدقه ، ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه.

* * *

٤٠