الموسوعة القرآنيّة - ج ١

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ١

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

وأما عن تلك التى تعزى لأبان بن عثمان ، فلا ندرى كيف جاءت على لسانه ، مع العلم بأنه ممن لم يشهدوا عصر التدوين ، ولا كان حاضر ذلك ، فلقد كانت وفاته سنة ١٠٥ ه‍ ، وعثمان مات سنة ٣٥ ه‍.

فهذا الذى نسب إلى «أبان» استنباط لا رواية مأثورة. وهذا الاستنباط الذى استنبطه «أبان» لا يصح إلا عن مشاهدة أو سماع عن مشاهدة ، وكلاهما لم يتوفر لهذا الحكم.

وثمة شىء آخر : ما يعزوه أصحاب التواليف فى المصاحف إلى الحجاج بن يوسف ، وأنه غير فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا ، وقد رواها أبو بكر السجستانى فى كتابه المصاحف مرتين :

الأولى يقول فيها : حدثنا عبد الله : حدثنا أبو حاتم السجستانى : حدثنا عبّاد بن صهيب ، عن عوف ابن أبى جبلة : أن الحجاج بن يوسف غير فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا (١).

والثانية يقول فيها : قال أبو بكر ـ يعنى نفسه ـ كان فى كتاب أبىّ : حدثنا رجل ، فسألت أبىّ : من هو؟ فقال : حدثنا عبّاد بن صهيب ، عن عوف بن أبى جميلة : أن الحجاج بن يوسف غير فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا (٢).

وهذه هى الأحرف كما ذكرها أبو بكر السجستانى :

١ ـ كانت فى البقرة (لم يتسنّ) فغيرها (لم يتسنّه) بالهاء (الآية : ٢٥٩).

وأحب أن أعقّب أن ابن مسعود قرأ (لم يتسن) والأصل فيها «يتسنن» ، فقلبت لأن الثانية حرف علة ، كما فى : تقضض ، وتقضى. وقرأ حمزة والكسائى بحذف الهاء فى الوصل ، على أنها هاء السكت. وقرأ باقى السبعة بإثبات الهاء فى الوصل والوقف ، على أنها أصلية. وقرأ «أبى» «لم يسّنّه» بإدغام التاء فى السين.

٢ ـ وكانت فى سورة المائدة : (شريعة ومنهاجا) ، فغيّره (شرعة ومنهاجا) (الآية : ٤٨) وأحب أن أعقّب أن هذه لم يقرأ بها أحد من القرّاء.

٣ ـ وكانت فى سورة يونس (هو الّذى ينشّركم) ، فغيّره (هو الّذى يسيّركم) (الآية : ٢٢).

__________________

(١) المصاحف (ص : ٤٩).

(٢) المصاحف (ص : ١١٧).

٣٦١

وأحب أن أعقب أن (ينشّركم) قراءة ابن عامر ويزيد بن القعقاع. وينشركم ، أى يحييكم.

٤ ـ وكانت فى سورة يوسف (أنا آتيكم بتأويله) ، فغيرها (أنا أنبّئكم بتأويله) (الآية : ٤٥).

وأحب أن أعقّب : أن هذه لم يقرأ بها أحد من القراء.

٥ ـ وكانت فى سورة المؤمنين (سيقولون لله) ، فغيرها (سيقولون الله) (الآيات : ٨٥ و ٨٧ و ٨٩).

وأحب أن أعقّب : أن الأولى هى القراءة المشهورة ، وبالثانية قرأ أبو عمرو ، ويعقوب.

٦ و ٧ ـ وكانت فى سورة الشعراء (من المخرجين) (الآية : ١١٦) فغيرها (من المرجومين) ، و(من المرجومين) (الآية : ١٦٧) فغيرها (من المخرجين).

وأحب أن أعقّب : أن هذه وتلك هما القراءتان المشهورتان.

٨ ـ وكانت فى سورة الزخرف (معايشهم) ، فغيرها (معيشتهم) (الآية : ٣٢).

وأحب أن أعقّب : أنّ هذه هى القراءة المشهورة ، ولم يقرأ بالأولى أحد من القراء.

٩ ـ وكانت فى سورة (الذين كفروا) ، (ياسن) فغيرها (آسن) (الآية : ١٥).

وأحب أن أعقب أن حمزة قرأ (ياسن) وقفا لا وصلا ، وأن (آسن) هى القراءة المشهورة.

١٠ ـ وكانت فى سورة الحديد (فالّذين آمنوا منكم واتّقوا) ، فغيرها (وأنفقوا) (الآية : ٧).

وأحب أن أعقب أن القراءة المشهورة (وأنفقوا) ولم يقرأ أحد من القراء (واتّقوا).

١١ ـ وكانت فى سورة التكوير (وما هو على الغيب بظنين) فغيرها (بضنين) (الآية : ٢٤).

وأحب أن أعقب أن مكيّا ، وأبا عمرو ، وعليّا ، ويعقوب ، قرءوا «بظنين» أى : متهم ، وأن الباقين قرءوا «بضنين» أى : ببخيل.

هذه هى الأحرف التى يروى أن الحجاج غيّرها فى مصحف عثمان.

وأحب أن أزيد الأمر وضوحا ولا أتركه على إيهامه هذا الذى يثير شكّا ويكاد القول فيه على ظاهره يعطى للحجاج أن يغيّر فى كتاب الله :

١ ـ لقد رأيت كيف روى أبو بكر السجستانى هذا الخبر فى كتابه «المصاحف» فى مكانين بسندين ، وهما وإن اتفقا ، إلا أن ثانيهما رواه أبو بكر فى أسلوب يهوّن فيه من شأن المسند إليه الخبر.

٣٦٢

٢ ـ ولقد رأيت ، من التعقيب الذى عقبنا به على هذه الأحرف ، أن ثمانية منها تحتمل قراءات ، وأن ما أثبته الحجاج كان المشهور.

٣ ـ ولقد رأيت كذلك أن ثلاثة منها لم يقرأ بها أحد من القراء ، وهى «شريعة» التى غيرت إلى «شرعة» ، و«آتيكم» التى غيرت إلى «أنبئكم» و«معايشهم» ، التى غيرت إلى «معيشتهم».

ونحن نعرف :

٤ ـ أن الحجاج كان من حفّاظ القرآن المعدودين.

٥ ـ وأن الحجاج كانت على يديه الجولة الثانية فى نقط المصاحف وشكلها ، بعد أن كانت الجولة الأولى على يد الصحابة ، وكانت جولة الصحابة بداية لم تشمل القرآن كله بل كانت نوعا من التيسير.

يقول الدانى (١) بسند متّصل عن قتادة : بدءوا فنقطوا ثم خمّسوا ثم عشّروا ـ وهو يعنى الصحابة. ثم يقول فى إثر هذا : هذا يدل على أن الصحابة وأكابر التابعين هم المبتدءون بالنّقط ورسم الخموس والعشور.

وفى الجولة الثانية خلاف ، فمن الرّواة من يعزوها إلى أبى الأسود الدؤلى بعد أن طلبها منه زياد ، ومنهم من يعزوها إلى يحيى بن يعمر العدوانى ، وكان ذلك عن طلب الحجّاج.

ويقول الدانى : إن هذا هو الأعرف.

وما نظن الحجاج ، وهو الحافظ للقرآن ـ كان بعيدا عن يحيى بن يعمر ، كما لم يكن عثمان بعيدا عن زيد بن ثابت ، وسعيد.

وبهذا نستطيع أن نقول :

١ ـ إن هذه الأحرف الثلاثة التى لم يقرأ بها أحد لم تكن منقوطة ولا مشكولة ، فميزها النقط وبيّنها ، وكانت على ألسنة الناس كما كانت على لسان الحجّاج ، بدليل أنها لم ترد فى قراءة ، ولا ندرى كيف قامت هذه دعوى.

٢ ـ إن الأحرف الثمانية الباقية ، فيها قراءات ، كما مر بك ، والمشهور منها ما يعزى إلى الحجّاج أنه أثبته ، ولكن من أتّى لنا أن هذا الذى يقال إنّ الحجاج أثبته لم يكن ، وأن رسم مصحف عثمان كان يشتمل عليه ، وأن الحجاج لم يفعل غير أن بيّنه وميّزه.

__________________

(١) المحكم فى نقط المصاحف لأبى عمرو عثمان بن سعيد الدانيّ (ص : ٢ ـ ٣).

٣٦٣

يؤكد هذا ما روى أن عثمان حين كان يعرض عليه المصحف غيّر «لم يتسنّ» إلى «لم يتسنّه». إذن فالذى يعزى إلى الحجاج فعله عزى إلى عثمان أنه فعله من قبله ، ولا يمنع أن يكون هذا كله ـ أعنى الأحرف الثمانية ـ كانت مقروء مصحف عثمان ، وأن الحجّاج حين نقط وشكل ميّز الرّسم وبينه ، يستوحى فى ذلك من مقروئه ومقروء الناس الذين يقرءون مصحف عثمان.

وإذن فلا تغيير للحجّاج فى كتاب الله ، ولم يكن ما فعل غير تبيين رسم وتمييزه ، وما نظن الحجاج خرج فيما فعل على مصحف عثمان بقراءة أخرى ، بل نكاد نؤيد أنه التزم فيها مقروء مصحف عثمان ، وأنه لم يفعل غير التمييز والتبيين ، بدليل تلك التى سقناها عن «لم يتسن» و«لم يتسنه» ، وأن الحجاج فيما فعل كان حريصا على أن يمكّن للمصحف الإمام ، وأن ينفى عنه ما عساه أن يكون دخل عليه من قراءات.

١٥ ـ القراءات

وقد مر بك الرأى فى القراءات السبع ، وفى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نزل القرآن على سبعة أحرف» وأن المراد : على سبعة أوجه من اللّغات : متفرقة فى القرآن (١).

ولقد روى عن عمر أنه قال : نزل القرآن بلغة مضر.

وإذا رجعنا نحصى قبائل مضر وجدناها سبع قبائل ، وهى : هذيل ، وكنانة ، وقيس ، وضبة ، وتيم الرباب ، وأسد بن خزيمة ، وقريش.

كما يروى عن ابن عباس أنه قال : نزل القرآن على سبع لغات ، منها خمس بلغة العجز من هوازن ، واثنان لسائر العرب.

والعجز هم : سعد بن بكر ، وجشم بن بكر ، ونصر بن معاوية ، وثقيف ، وكان يقال لهم : عليا هوازن.

كما يروى عن أبى حاتم السّجستانى أنه قال : نزل القرآن بلغة قريش ، وهذيل ، وتميم ، والأزد ، وربيعة ، وهوازن ، وسعد بن بكر.

كما يرى السّيوطى فى «الإتقان (٢)» آراء غير مسندة ، منها :

(١) أنها سبع لغات متفرقة لجميع العرب ، كل حرف منها لقبيلة مشهورة.

(٢) أنها سبع لغات : أربع لعجز هوازن ، وثلاث لقريش.

__________________

(١) تأويل مشكل القرآن (ص : ٢٦).

(٢) الإتقان (ص : ٤٧).

٣٦٤

(٣) أنها سبع لغات ، لغة لقريش ، ولغة لليمن ، ولغة لجرهم ، ولغة لهوازن ، ولغة لقضاعة ، ولغة لتميم ، ولغة لطيئ.

(٤) أنها لغة الكعبين : كعب بن عمر ، وكعب بن لؤى ، ولهما سبع لغات.

وهذا الخبر مسند لابن عباس من طريق آخر غير الطريق الأول الذى روى به خبره السابق.

وهذا الاختلاف فى التعيين لا يضير فى شىء ، فثم لغات سبع مفرقة فى القرآن ، أخبر الرسول عن جملتها ولم يخبر عن تفصيلها ، وكان هذا التفصيل مكان الاجتهاد بين المجتهدين.

وليس معنى الحديث أن كل كلمة تقرأ على سبع لغات ، بل اللغات السبع مفرقة ، تقرأ قريش بلغتها ، وتقرأ هذيل بلغتها ، وتقرأ هوازن بلغتها ، وتقرأ اليمن بلغتها.

وفى ذلك يقول أبو شامة نقلا عن بعض شيوخه : أنزل القرآن بلسان قريش ، ثم أبيح للعرب أن يقرءوه بلغاتهم التى جرت عادتهم باستعمالهم على اختلافهم فى الألفاظ والإعراب (١).

ويعقب ابن الجوزى على هذه الأحرف السبعة يقول : وأما وجه كونها سبعة أحرف ، دون أن لم تكن أقل أو أكثر ، فقال الأكثرون : إن أصول قبائل العرب تنتهى إلى سبعة ، وإن اللغات الفصحى سبع ، وكلاهما دعوى.

وقيل : ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص ، بل المراد السّعة والتيسير ، وأنه لا حرج عليهم فى قراءته بما هو فى لغات العرب ، من حيث إن الله تعالى أذن لهم فى ذلك.

والعرب يطلقون لفظ السبع والسبعين والسبعمائة ولا يريدون حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص ، بل يريدون الكثرة والمبالغة من غير حصر (٢).

وكانت هذه اللغات علمها إلى الرسول ، قد أحاطه الله بها علما ، وحين يقرأ الهذلى بين يديه (عتّى حين) وهو يريد (حتّى حين) (٣) يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها.

وحين يقرأ الأسدي بين يديه (تسود وجوه) (٤) بكسر التاء في «تسود» ، و(ألم أعهد إليكم) (٥) بكسر الهمزة فى «أعهد» يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.

وحين يهمز التّميمى على حين لا يهمز القرشى ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.

__________________

(١) الإتقان (ص : ٤٧).

(٢) النشر فى القراءات العشر (٢٥ ـ ٢٦).

(٣) المؤمنون : ٥٤ ـ الصافات : ١٧٤ و ١٧٨ ـ الذاريات : ٤٧.

(٤) آل عمران : ١٠٦.

(٥) يس : ٦٠.

٣٦٥

وحين يقرأ قارئهم (وإذا قيل لهم) (١) و(غيض الماء) (٢) بإشمام الضم مع الكسر ، يجيزه لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.

وحين يقرأ قارئهم (هذه بضاعتنا ردت إلينا) (٣) بإشمام الكسر مع الضم فى «ردت» يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.

وحين يقرأ قارئهم (مالك لا تأمنا) (٤) بإشمام الضم مع الإدغام فى ميم «تأمنا» يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل ، وتكليفه غير هذا عسير.

وحين يقرأ قارئهم «عليهم» و«فيهم» بالضم ، ويقرأ قارئ آخر «عليهمو» و«فيهمو» بالصلة ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.

وحين يقرأ قارئهم (قد أفلح) و«قل أوحى» و«خلو إلى» بالنّقل ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.

وحين يقرأ قارئهم «موسى» و«عيسى» و«سبأ» بالإمالة يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.

وحين يقرأ قارئهم «خبيرا» و«بصيرا» بالتّرقيق ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل.

وحين يقرأ قارئهم «الصلوات» و«الطلاق» بالتفخيم ، يجيزه ، لأنه هكذا يلفظ وهكذا يستعمل (٥).

ويفسر لك هذا ما روى عن «عمر» قال : سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة «الفرقان» على غير ما أقرؤها ، وقد كان النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقرأنيها ، فأتيت به النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته ، فقال له : اقرأ ، فقرأ تلك القراءة. فقال : هكذا أنزلت ، ثم قال لى : أقرأ ، فقرأت. فقال : هكذا أنزلت ، ثم قال : هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فاقرءوا منه ما تيسر (٦).

وكذلك يفسر لك هذا ما روى عن «أبىّ» قال : دخلت المسجد أصلّى فدخل رجل فافتتح «النحل» فقرأ ، فخالفنى فى القراءة. فلما انتقل قلت : من أقرأك؟ قال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم جاء رجل فقام يصلّى ، فقرأ وافتتح «النحل» ، فخالفنى وخالف صاحبى ، فلما انتقل قلت : من أقرأك؟ قال : رسول

__________________

(١) البقرة : ١١.

(٢) هود : ٤٤.

(٣) يوسف : ٦٥.

(٤) يوسف : ١١.

(٥) تأويل مشكل القرآن (ص : ٣٠) ـ النشر فى القراءات العشر (١ : ٢٩).

(٦) المرجعان السابقان.

٣٦٦

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : فأخذت بأيديهما فانطلقت بهما إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقلت : استقرئ هذين ، فاستقرأ أحدهما. فقال : أحسنت. ثم استقرأ الآخر ، فقال : أحسنت.

ويقول ابن قتيبة : «ولو أن كل فريق من هؤلاء أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا لاشتدّ ذلك عليه ، وعمّت المحنة فيه ، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة ، وتذليل للسان ، وقطع للعادة (١)».

١٦ ـ القراء

ولقد كانت كتابة المصحف بلغة قريش ، أو بحرف قريش ، بذلك أمر عثمان زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزّبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وهم ينسخون المصاحف ، وقال لهم : إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شىء فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم.

وأرسل عثمان المصاحف إلى الأمصار ، وأخذ كلّ أهل مصر يقرءون بما فى مصحفهم ، يتلقّون ما فيه عن الصحابة الذين تلقّوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قاموا بذلك مقام الصحابة الذين تلقّوه عن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان بالمدينة نفر ، منهم : ابن المسيّب ، ومعاذ بن الحارث ، وشهاب الزّهرى ، وكان بمكة نفر ، منهم : عطاء ، وطاوس ، وعكرمة ، وبالكوفة نفر ، منهم : علقمة ، والشّعبى ، وسعيد بن جبير ، وبالبصرة نفر ، منهم : الحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، وبالشام نفر ، منهم : المغيرة بن أبى شهاب المخزومى ، صاحب عثمان بن عفان.

ثم تجرد قوم للقراءة واعتنوا بضبطها أتمّ عناية حتى صاروا فى ذلك أئمة يقتدى بهم ، ويرحل إليهم. ويؤخذ عنهم ، وأجمع أهل بلدهم على تلقى قراءتهم بالقبول ، ولم يختلف عليهم فيها اثنان ، ولتصدّيهم للقراءة نسبت إليهم.

فكان بالمدينة نفر ، منهم : أبو جعفر يزيد بن القعقاع ، ثم نافع بن أبى نعيم.

وكان بمكة نفر ، منهم : عبد الله بن كثير ، ومحمد بن محيصن.

وكان بالكوفة نفر ، منهم : سليمان الأعمش ، ثم حمزة ، ثم الكسائى.

وكان بالبصرة نفر ، منهم : عيسى بن عمر ، وأبو عمرو بن العلاء.

__________________

(١) تأويل مشكل القرآن (ص : ٢٧) ـ النشر (١ : ٢١).

٣٦٧

وكان بالشام نفر ، منهم : عبد الله بن عامر وشريح بن يزيد الحضرمى (١).

غير أن القرّاء بعد هذا كثروا وتفرّقوا فى البلاد ، وانتشروا فى الأقطار ، وكاد يدخل على هذا العلم ما ليس فيه ، فشمّر لضبطه وتنقيته أئمّة مشهود لهم ، منهم :

(١) الإمام الحافظ الكبير أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد الدانى ، من أهل دانية بالأندلس ، وكانت وفاته سنة أربع وأربعين وأربعمائة ، وكتابه فى هذا الباب هو : «التيسير».

(٢) الإمام المقرئ المفسر أبو العباس أحمد بن عمارة بن أبي العبّاس المهدوى ، المتوفّى بعد الثلاثين وأربعمائة ، وله كتاب «الهداية».

(٣) الإمام أبو الحسن طاهر بن أبى الطيب بن أبى غلبون الحلبى ، نزيل مصر ، وتوفى بها سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ، وله كتاب : «التّذكرة».

(٤) الإمام أبو محمد مكّى بن أبى طالب القيروانى ، وكانت وفاته سبع وثلاثين وأربعمائة بقرطبة ، وله كتاب : «التّبصرة».

(٥) الإمام أبو القاسم عبد الرحمن بن إسماعيل ، المعروف بأبى شامة ، وله كتاب : والمرشد الوجيز».

وكان رائد هؤلاء جميعا ، فيما أخذوا فيه ، أن كل قراءة وافقت العربيّة ولو بوجه ، ووافقت المصحف الإمام ، وصحّ سندها ، فهى قراءة صحيحة لا يجوز ردّها ولا يحل إنكارها ، وإذا اختل ركن من هذه الأركان كانت تلك القراءة ضعيفة ، أو شاذة ، أو باطلة.

وفى ظل هذه القيود التى أجمع عليها القراء :

(١) الموافقة للعربية ولو بوجه.

(٢) الموافقة للمصحف الإمام ، ولو احتمالا.

(٣) أن يصح سندها.

قام الأئمة بتأليف كتب فى القراءات ، وكان أول إمام جمع القراءات فى كتاب هو أبو عبيد القاسم ابن سلام ، المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين. وقد جعل القراءات نحوا من خمس وعشرين قراءة. وتوالى بعده أئمة مؤلّفون جمعوا القراءات فى كتب ، منهم من جعلها عشرين ، ومنهم من زاد ، ومنهم من نقص ، إلى أن كان الأمر إلى أبى بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد ، فاقتصر على قراءات سبع

__________________

(١) النشر (١ : ٨ ـ ٩).

٣٦٨

لقرّاء سبع ، هم : عبد الله بن كثير ، فى مكة ، ونافع بن أبى رويم ، فى المدينة ، وأبو عمرو بن العلاء ، فى البصرة ، وعاصم بن أبى النّجود ، وحمزة بن حبيب الزّيات ، وعلى الكسائى ، فى الكوفة ، وعبد الله ابن عامر ، فى الشام.

ثم جاء بعدهم من رفعها إلى عشر ، نذكر منهم إماما متأخرا وهو : ابن الجزرى أبو الخير محمد بن محمد ، المتوفى سنة ٨٣٣ ه‍ ، وكتابه هو : النّشر فى القراءات العشر.

والقرّاء الثلاثة الذين زادوا على السبعة ، هم : يزيد بن القعقاع ، فى المدينة ، ويعقوب الحضرمى ، فى البصرة ، وخلف البزّاز ، فى الكوفة.

هذا غير قراء جاءوا بقراءات شاذة ، كان على رأسهم ابن شنبوذ ، المتوفى سنة ٣٢٨ ، ثم أبو بكر العطّار النحوى المتوفى سنة ٣٥٤ ه‍.

١٧ ـ رأى ابن قتيبة فى القراءات

وقد لخص ابن قتيبة وجوه الخلاف فى القراءات ، فقال (١) :

وقد تدبّرت وجوه الخلاف فى القراءات فوجدتها سبعة أوجه :

أولها : الاختلاف فى إعراب الكلمة ، أو فى حركة بنائها بما لا يزيلها عن صورتها فى الكتاب ولا يغيّر معناها ، نحو قوله تعالى : (هؤلاء بناتى هنّ أطهر لكم) ـ هود : ٧٨ ـ و(أطهر لكم) بالنصب ـ ، (وهل نجازى إلّا الكفور) ـ سبأ : ١٧ ـ و(هل يجازى إلّا الكفور) ، (ويأمرون النّاس بالبخل) النساء : ٤٧ ، الحديد : ٢٤ و(بالبخل) بفتح الباء والخاء و(فنظرة إلى ميسرة) ـ البقرة : ٢٨٠ ـ و(ميسرة) بضم السين.

ثانيها : أن يكون الاختلاف فى إعراب الكلمة وحركات بنائها بما يغيّر معناها ، ولا يزيلها عن صورتها فى الكتاب ، نحو قوله تعالى (ربّنا باعد بين أسفارنا) سبأ : ١٩ ، و(ربّنا باعد بين أسفارنا) ، الأولى على صيغة الأمر ، والثانية على صيغة الماضى ، و(إذا تلقّونه بألسنتكم) النور : ١٥ ـ و(تلقونه) بفتح فكسر فضم : و(وادّكر بعد أمّة) يوسف : ٤٥ ـ و«أمه» أى : نسيان.

ثالثها : أن يكون الاختلاف فى حروف الكلمة دون إعرابها بما يغيّر معناها ، ولا يزيل صورتها ، نحو قوله تعالى : (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) ـ البقرة : ٢٥٩ ـ و(ننشرها) بالراء ، و(حتى إذا فزّع عن قلوبهم) سبأ : ٢٣ ـ و(فرّغ) بالراء والغين المعجمة.

__________________

(١) تأويل مشكل القرآن (٢٨ ـ ٣٢).

(م ٢٤ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)

٣٦٩

رابعها : أن يكون الاختلاف فى الكلمة بما يغير صورتها فى الكتاب ، ولا يغير معناها فى الكلام ، نحو قوله تعالى : (إن كانت إلّا صيحة واحدة) يس : ٢٩ ، و(زقية واحدة) ، و(كالعهن المنفوش) القارعة : ٥ ، و(كالصّوف).

خامسها : أن يكون الاختلاف فى الكلمة بما يزيل صورتها ومعناها ، نحو قوله تعالى : (وطلع منضود) الواقعة : ٢٩ ، و(طلح).

سادسها : أن يكون الاختلاف بالتقديم والتأخير ، نحو قوله تعالى : (وجاءت سكرة الموت بالحقّ) ق : ١٩ ، وفى موضع آخر : (وجاءت سكرة الحقّ بالموت).

سابعها : أن يكون الاختلاف بالزيادة والنقصان ، نحو قوله تعالى : (وما عملت أيديهم) و(وما عملته أيديهم) يس : ٣٥ ، ونحو قوله : (إنّ الله هو الغنىّ الحميد) لقمان : ٢٦ ، و(إنّ الله الغنىّ الحميد).

ثم قال ابن قتيبة :

فإن قال قائل : هذا جائر فى الألفاظ المختلفة إذا كان المعنى واحدا ، فهل يجوز أيضا إذا اختلفت المعانى؟

قيل له : الاختلاف نوعان : اختلاف تغاير واختلاف تضادّ.

فاختلاف التضاد لا يجوز ، ولست واجده بحمد الله فى شىء من القرآن إلا فى الأمر والنّهى من الناسخ والمنسوخ.

واختلاف التغاير جائز ، وذلك مثل قوله : «وادّكر بعد أمّة» أى بعد حين ، و«بعد أمه» أى بعد نسيان له ، والمعنيان جميعا ، وإن اختلفا ، صحيحان ، لأن ذكر أمر يوسف بعد حين وبعد نسيان له ، وكقوله : «إذ تلقّونه بألسنتكم» أى تقبلونه وتقولونه ، و«تلقونه» من الولق ، وهو الكذب ، والمعنيان جميعا ، وإن اختلفا ، صحيحان ، لأنهم قبلوه ، وقالوه وهو كذب.

وكقوله : (ربّنا باعد بين أسفارنا) على طريق الدعاء والمسألة ، و(ربّنا باعد بين أسفارنا) على جهة الخبر ، والمعنيان ، وإن اختلفا ، صحيحان.

وكقوله : (وأعتدت لهنّ متّكأ) وهو الطعام ، و(وأعتدت لهنّ متّكأ) بضم الميم وسكون التاء وفتح الكاف ، وهو الأترجّ ، فدلت هذه القراءة على معنى ذلك الطعام.

٣٧٠

وكذلك «ننشرها» و«ننشزها» لأن الإنشار : الإحياء ، والإنشاز : هو التحريك للنقل ، والحياة حركة ، فلا فرق بينهما.

وكذلك «فزّع عن قلوبهم» و«فرّغ» ، لأن «فزّع» : خفّف عنها الفزع ، وفرّغ : فرّغ عنها الفزع.

ثم قال ابن قتيبة : وكل ما فى القرآن من تقديم أو تأخير ، أو زيادة أو نقصان ، فعلى مثل هذه السبيل.

١٨ ـ تعقيب على القراءات

والأمر فى القراءات كما يبدو لك ، ينحصر فى أحوال ثلاث :

الأولى ـ وهى تتصل بأحرف العرب أو لغاتها ـ وهى التى قدمنا منها مثلا فى الإمالة ، والإشمام والتّرقيق ، والتفخيم ، وغير ذلك ، مما لفظت به القبائل ولم تستطع ألسنتها غيره ، وهذا الذى قلنا عنه : إنه المعنىّ بالأحرف السبعة التى جاءت فى الحديث.

وما من شك فى أن ذلك كان رخصة للعرب يوم أن كانوا لا يستطيعون غيره ، وكان من العسير عليهم تلاوة القرآن بلغة قريش.

ثم ما من شك فى أن هذه الرّخصة قد نسخت بزوال العذر وتيسّر الحفظ ، وفشوّ الضبط ، وتعلم القراءة والكتابة (١).

وإليك ما قاله الطبرى بعد أن عرفت ما قاله الطحاوى ، يقول الطبرى :

ثم لما رأى الإمام أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله تعالى عنه اختلاف الناس فى القراءة ، وخاف من تفرّق كلمتهم ، جمعهم على حرف واحد ، وهو هذا المصحف الإمام ، واستوثقت له الأمّة على ذلك ، بل أطاعت ورأت أن فيما فعله الرّشد والهداية ، وتركت القراءة بالأحرف السبعة التى عزم عليها إمامها العادل فى تركها ، طاعة منها له ، ونظرا منها لأنفسها ولمن بعدها من سائر أهل ملّتها ، حتى درست من الأمة معرفتها ، وعفت آثارها ، فلا سبيل اليوم لأحد إلى القراءة بها لدثورها وعفوّ آثارها.

فإن قال من ضعفت معرفته : وكيف جاز لهم ترك قراءة أقرأهم إيّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمرهم بقراءتها؟ قيل : إن أمره إياهم بذلك لم يكن أمر إيجاب وفرض ، وإنما كان أمر إباحة ورخصة.

__________________

(١) معانى الآثار للطحاوى أحمد بن محمد.

٣٧١

الثانية : وهى تتصل برسم المصحف وبقائه عهدا غير منقوط ولا مشكول إلى زمن عبد الملك ، حتى قام الحجاج بإسناد هذا العمل إلى رجلين ، هما : يحيى بن يعمر ، والحسن البصرى ، فنقطاه وشكلاه.

وما نرى صحيحا هذا الذى ذهب إليه القراء من تأويلات كثيرة تكاد تحمّل الكلمة عشرين وجها ، أو ثلاثين ، أو أكثر من ذلك ، حتى لقد بلغت طرق هذه القراءات للقراءات العشر فقط تسعمائة وثمانين طريقة.

فلقد كان هذا اجتهادا من القراء ، ولكنه كان إسرافا فى ذلك الاجتهاد ، وإنك لو تتبّعت ما عقّب به الزّمخشرى فى تفسيره على القرّاء لوجدت له الكثير مما ردّه عليهم ولم يقبله منهم. فلقد عقب على ابن عامر ، فى قراءته لقوله تعالى : (وكذلك زيّن للمشركين قتل أولادهم شركاؤهم) (الأنعام : ١٣٧) ، فلقد قرأها ابن عامر (زيّن للمشركين قتل أولادهم شركائهم) برفع «القتل» ، ونصب «الأولاد» ، وجر «الشركاء» ، على إضافة «القتل» ، إلى «الشركاء» والفصل بينهما بغير الظرف.

فقال الزمخشرى : فهذا لو كان فى مكان الضّرورات ـ وهو الشّعر ـ لكان شيئا مردودا ، فكيف به فى الكلام المنثور ، وكيف به فى القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته ، والذى حمله على ذلك أن رأى فى بعض المصاحف «شركائهم» مكتوبا بالياء.

ويعقّب الزمخشرىّ مرة أخرى على أبى عمرو حين يدغم الراء فى اللام فى قوله تعالى : (فيغفر لمن يشاء) (البقرة : ٢٨٤ ، آل عمران : ١٢٩ ، المائدة : ٢٠ و ٤٣ ، الفتح : ١٤) فيقرؤها أبو عمرو : (فيغفلمن يشاء). ويقول الزمخشرى : ومدغم الراء فى اللام لاحن مخطئ خطأ فاحشا ، ورواية عن أبى عمرو مخطئ مرتين ، لأنه يلحن ، وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم.

وكذلك تتّبع ابن قتيبة القرّاء وأحصى لهم الكثير ، وفى ذلك يقول : وما أقلّ من سلم من هذه الطبقة فى حرفه من الغلط والوهم (١).

ونحن حين نمكن لهذه القراءات أن تعيش نكون كمن يحاول أن يخرج على ما أراده عثمان ، ومعه علىّ من قبل ، ثم الصّحابة ، على وحدة القرآن تلاوة. هذا بعد أن صح لنا أن هذه القراءات اجتهاد ، وأن رسم المصحف ، وإهماله نقطا وشكلا ، جرّ إلى شىء منها.

__________________

(١) تأويل مشكل القرآن (ص : ٤٣).

٣٧٢

يقول ابن قتيبة. وهو يناقش بعض القراءات :

وليست تخلو هذه الحروف من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب فيها ، أو أن تكون غلطا من الكاتب.

فإن كانت على مذهب النحويين ، فليس هاهنا لحن بحمد الله.

وإن كانت خطأ فى الكتابة ، فليس على الله ولا على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جناية الكاتب فى الخط.

ولو كان هذا عيبا يرجع على القرآن لرجع عليه كل خطأ وقع فى كتابة المصحف من طريق التهجّى ، فقد كتب فى الإمام : (إنّ هذن لساحران) بحذف ألف التثنية ، وكذلك ألف التثنية تحذف فى هجاء هذا المصحف فى كل مكان. وكتب كتّاب المصحف : الصّلوة والزّكوة ، والحيوة ، بالواو ، واتبعناهم فى هذه الحروف خاصة على التيمّن بهم (١).

فنحن إذن بين رسم لكتّاب كان ما رسموا آخر الجهد عندهم ، ولقد حفظ الله كتابه بالحفظة القارئين أكثر مما حفظه بالكتّاب الكاتبين ، ثم كانت إلى جانب الحفظة حجة أخرى على الرسم ، وهى لغة العرب ، أقامت الرسم لتدعيم الحفظ ولم تقم الحفظ لتدعيم الرسم ، وكان هذا ما عناه عثمان حين قال : أرى فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. ولقد أقامته بألسنتها ، وتركت الرسم على حاله ممثّلا فى مصحفه الإمام ، الذى كان حريصا على أن تجتمع عليه الأمة الإسلامية ، ومن أجل ذلك أحرق ما سواه.

غير أن ما فعله عثمان لم يقض على كل خلاف ، وأوسع فى هذا الخلاف بقاء المصحف الإمام غير منقوط ولا مشكول ، كما مرّ بك.

من أجل ذلك كان أول شىء عمله الحجّاج ، بعد ما فرغ من نقط المصحف وشكله ، أن وكل إلى «عاصم الجحدرى» ، و«ناجية بن رمح» ، و«على بن أصمع» ، أن يتتبّعوا المصاحف وأن يقطعوا كل مصحف يجدونه مخالفا لمصحف عثمان ، وأن يعطوا صاحبه ستّين درهما. وفى ذلك يقول الشاعر :

وإلّا رسوم الدّار قفرا كأنّها

كتاب محاه الباهليّ ابن أصمعا (٢)

__________________

(١) تأويل مشكل القرآن (ص : ٤٠ ، ٤١).

(٢) تأويل مشكل القرآن (ص : ٣٧).

٣٧٣

ونحن اليوم فى أيدينا هذا المصحف الإمام أقوم ما يكون ضبطا ، وأصحّ ما يكون شكلا ، فما أغنانا به عن كل قراءة لا يحملها رسمه ولا يشير إليها ضبطه ، من تلك القراءات التى كانت تلك حالها التى بسطناها لك.

الثالثة : وهى التى تتصل بإحلال كلمة مكان كلمة ، أو تقديم كلمة على كلمة ، أو زيادة أو نقصان.

وما أظن هذه تكون كلمة تذكر بعد أن أصبح فى أيدينا المصحف الإمام ، هيّأه لنا عثمان فى الأولى ، وزفّه إلينا الحجاج فى الثانية ، وما كان هذا العملان إلا خطوتين : خطوة دعّمت خطوة ، فى سبيل الوحدة الكاملة لكتاب الله ، كما حفظه الله على لسان الحفظة من الصحابة والتابعين.

وآخر ما نختم به الحديث عن القراءات قول الزركشى فى كتابه «البرهان» حيث يقول :

«القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان :

فالقرآن : هو الوحى المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم للبيان والإعجاز.

والقراءات السبع متواترة عند الجمهور ، وقيل : بل مشهورة ، والتحقيق أنها متواترة عن الأئمة السبعة.

أما تواترها عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ففيه نظر».

١٩ ـ رسم المصحف

ومن الناظرين فى رسم القرآن : فريق صرفهم الإجلال له عن أن يفصلوا بين ما هو وحى من عند الله حرّك به لسان رسوله ، وبين ما صوّره كتّاب الرّسول حروفا وكلمات.

وأنت تعرف أن الكلمة الواحدة قد تختلف صورة رسمها على أيدى كتبة يكتبون عن ممل واحد ، إذا اختلفت طرق تلقّيهم للإملاء ، غير أنهم حين يلفظون هذه الكلمة مجمعون على نطق واحد.

وما من شك فى أن القرآن الكريم تعرّض رسمه لهذا الخلاف ، وكان حفظ الله له فى بقاء حفظته ، يعى الناس عنهم أكثر مما يعون عن القراءة ، وكانوا بهذا مطمئنين ، وحين عدت العاديات على الحفظة بدأ الخوف يدب ، وبدأ تفكير الصحابة يتّجه إلى ما هو أبقى ، أعنى جمع القرآن مكتوبا.

وكانت محاولة أبى بكر وعمر التى مرّت بك ، واجتمع للناس قرآنهم مكتوبا ، وبدأ شغلهم بما هو

٣٧٤

مكتوب يزحم شغلهم بما هو متلوّ ، أو يعادله. وأخذ الرسم يملى برسمه ويقوّمه الحفظ فى عهد لم يكن الصحابة منه أبعدوا كثيرا عن عهد نزول القرآن.

وما كانت الأمة العربية عهد كتابة الوحى أمة عريقة فى الكتابة ، وما كان كتّاب النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا صورة من العصر البادئ فى الكتابة ، ولم تكن الكتابة العربية بالأمس البعيد على حالها اليوم من التجويد والكمال إملاء ورسما. وإن نظرة فى رسم المصحف ، وما يحمل من صور إملائية تخالف ما استقر عليه الوضع الإملائى أخيرا ، لتكشف لك عما كان العرب عليه إملاء ، وعما أصبحنا عليه نحن.

وحين أطل عهد عثمان كاد اختلاف الناس فى قراءة المرسوم يجر إلى خروجهم على المحفوظ ، من أجل هذا فزع عثمان إلى نفر من الصحابة كتبوا للرسول وحيه ، ليدركوا هذا المرسوم ، كى يخرجوا منه بصورة خطيّة تصوّر ما أجمع عليه الحفّاظ.

وقد لا يفوتك أن الخط العربى عصر كتابة الوحى إلى أيام عبد الملك بن مروان لم يكن عرف النقط المميّز للحروف فى صورته الأخيرة ، كما لم يكن عرف شكل الكلمات ، وبقى المصحف المرسوم ينقصه النّقط فى صورته الأخيرة وينقصه الشّكل ، وعاش يحميه حفظ الحفاظ من اللحن.

غير أن الأمة العربية كانت قد انتشرت وأظلّ الإسلام تحت لوائه أمما مختلفة ، وأصبح الحفظ فى هذه البيئة الواسعة ، وبين هؤلاء الأقوام المختلفين ، لا يغنى غناءه أيّام أن كانت البيئة محدودة والأقوام غير مختلفين ، من هنا كان لا بد من نقط وشكل على يد «الحجّاج» كما مرّ بك.

ولقد كانت هذه المراحل التى مرّ بها جمع القرآن وكتابته ونقطه وشكله نتيجة لقصور الكتابة العربية والخطّ العربى. إذ لو كانا فى كمالهما اليوم لما احتاج القرآن فى رسمه إلى مرحلة بعد مرحلة ، ولكتب يوم أن كتب للمرة الأولى فى صورة أخيرة.

ونحن بحمد الله ، على الرغم من بعد عهدنا بنزول القرآن ، لم نبعد عن وعيه كما أنزل ، تصديقا لقوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ، غير أنه يجب أن يلفتنا إلى قرآننا ما لفت الشيخين أبا بكر وعمر إليه ، ثم ما لفت عثمان إليه ، ثم ما لفت الحجّاج إليه. فهذه لفتات أحسّ فيها أصحابها الخوف من أن يمسّ القرآن سوء ، فجمعوه للناس مكتوبا يوم أن خافوا ذهاب الحفّاظ. ثم جمعوا الناس على مصحف واحد يوم أن خافوا تفرق الناس على مصاحف ، ثم نقطوه وضبطوه يوم أن خافوا أن يتفرّق الناس فى قراءته.

٣٧٥

٢٠ ـ كتابة المصحف وطبعه

ولقد مر بك كيف كان الوحى يكتب ، وعلى أى شىء كان يكتب ، ثم : من كانوا كتابه.

ومر بك أيضا كيف جمعه أبو بكر وعمر ، ثم كيف كتب عثمان مصحفه الإمام ، وأرسل منه مصاحف أربعة إلى الأمصار : مكة. والبصرة. والكوفة ، والشام ، وأنه أبقى اثنين آخرين فى المدينة ، اختص نفسه بواحد منهما.

ومنذ أن دخلت هذه المصاحف الأمصار أقبل المسلمون ينسخونها ، ولقد نسخوا منها عددا كثيرا لا شك فى ذلك.

فنحن نقرأ للمسعودى وهو يتكلم على وقعة صفّين ، التى كانت بين علىّ ومعاوية ، وما أشار به عمرو ابن العاص من رفع المصاحف ، حين أحسّ ظهور «علىّ» عليه : «ورفع من عسكر معاوية نحو من خمسمائة مصحف (١)».

وما نظن هذا العدد الذى رفع من المصاحف فى معسكر معاوية كان كل ما يملكه المسلمون حينذاك.

والذى نظنه أنه كان بين أيدى المسلمين ما يربى على هذا العدد بكثير ، هذا ولم يكن قد مضى على كتابة عثمان لمصحفه الإمام ، وإرساله إلى الأمصار ، ما يزيد على سنين سبع.

والجديد الذى نحب أن نسوقه هنا نقلا عمن نظروا فى نشأة الخط العربى (٢) : أن العرب كانوا قبيل الإسلام يكتبون بالخط الحيرىّ ـ نسبة إلى الحيرة ـ ثم سمى هذا الخط بعد الإسلام بالخط الكوفى.

وهذا الخط الكوفى فرع ـ كما يقولون ـ من الخط السّريانى ، وأنه على الأخص طور من أطوار قلم للسّريان كانوا يسمونه «السّطرنجيلى» ، وكان السريان يكتبون به الكتاب المقدّس ، وعن السريان انتقل إلى العرب قبل الإسلام ، ثم كان منه الخط الكوفى ، كما سبق القول.

ولقد كان للعرب إلى جانب هذا القلم الكوفى قلم نبطى ، انتقل إليهم من حوران مع رحلاتهم إلى الشام ، وعاش العرب ولهم هذان القلمان : الكوفى والنّبطيّ ، يستخدمون الكوفى لكتابة القرآن ، ويستخدمون النّبطيّ فى شئون أخرى.

وبالخط الكوفى كانت كتابة المصاحف ، غير أنه كان أشكالا ، واستمر ذلك إلى القرن الخامس

__________________

(١) مروج الذهب (٢ : ٢٠).

(٢) كشف الظنون (١ : ٧١٠ ـ ٧١٤) فهرست ابن النديم (٢٤ ـ ٢٦) الخط العربى لخليل نامى.

تاريخ الخط العربى لمحمد طاهر الكردى. (وانظر : الخط العربى والمصاحف. كلمة تقديم قبل للباب الثالث من هذا المجلد).

٣٧٦

تقريبا ، ثم ظهر الخط الثلث. وعاش من القرن الخامس إلى ما يقرب من القرن التاسع ، إلى أن ظهر القلم النسخ ، الذى هو أساس الخط العربى إلى اليوم.

فلقد كتب القرآن بالكوفى أيام الخلفاء الراشدين ، ثم أيام بنى أمية ، وفى أيام بنى أمية صار هذا الخط الكوفى إلى أقلام أربعة. ويعزون هذا التشكّل فى الأقلام إلى كاتب اسمه «قطبة» وكان كاتب أهل زمانه ، وكان يكتب لبنى أمية المصاحف.

وفى أوائل الدولة العباسية ظهر «الضّحاك بن عجلان» ومن بعده «إسحاق بن حمّاد» ، فإذا هما يزيدان على «قطبة» ، وإذا الأقلام العربية تبلغ اثنى عشر قلما : قلم الجليل ، قلم السجلات ، قلم الديباج ، قلم اسطورمار الكبير ، قلم الثلاثين ، قلم الزنبور ، قلم المفتتح ، قلم الحرم ، قلم المؤامرات ، قلم العهود ، قلم القصص ، قلم الحرفاج.

وحين ظهر الهاشميون حدث خط يسمى : العراقى ، وهو المحقن. ولم تزل الأقلام تزيد إلى أن انتهى الأمر إلى المأمون فأخذ كتّابه بتجويد خطوطهم ، وظهر رجل يعرف «بالأحول المحرر» ، فتكلم على رسوم الخط وقوانينه وجعله أنواعا.

ثم ظهر قلم «المرصع» ، وقلم «النساخ» ، وقلم «الرياس» ، نسبة إلى ذى الرئاستين الفضل بن سهل ، وقلم الرقاع ، وقلم غبار الحلبة.

فزادت الخطوط على عشرين شكلا ، ولكنها كلها من الكوفى. حتى إذا ما ظهر ابن مقلة (٣٢٨ ه‍) نقل الخط من صورة القلم الكوفى إلى صورة القلم النسخى ، وجعله على قاعدة جميلة كانت أساسا لكتابة المصاحف.

وينقل المقري عن ابن خليل السّكونى : أنه شاهد يجامع «العديس» بإشبيلية ربعة مصحف فى أسفار ينحى به لنحو خطوط الكوفة ، إلا أنه أحسن خطّا وأبينه وأبرعه وأتقنه ، وأن أبا الحسن بن الطّفيل بن عظيمة قال له : هذا خط ابن مقلة.

ثم يقول المقري : وقد رأيت بالمدينة المنورة ـ على ساكنها أفضل الصلاة والسلام ـ مصحفا بخط ياقوت المستعصمى (١).

ولقد كانت وفاة ياقوت هذا سنة ٦٩٨ ه‍ (٢) ، وكان سبّاقا فى هذا الميدان.

__________________

(١) نفح الطيب (٦ ـ ٤٠).

(٢) الفهرست لابن النديم (ص : ٩) طبعة مصر.

٣٧٧

ويقول محمد بن إسحاق : أول من كتب المصاحف فى الصدر الأول ويوصف بحسن الخط : خالد بن أبى الهياج. رأيت مصحفا بخطه ، وكان «سعد» نصبه لكتب المصاحف ، والشعر والأخبار للوليد بن عبد الملك ، وهو الذى كتب الكتاب الذى فى قبلة مسجد النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذهب من (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) إلى آخر القرآن.

ويقال إن عمر بن عبد العزيز قال له : أريد أن تكتب لى مصحفا على هذا المثال. فكتب له مصحفا تنوّق فيه. فأقبل عمر يقلّبه ويستحسنه واستكثر ثمنه فردّه عليه.

ومالك بن دينار مولى أسامة بن لؤى بن غالب ، ويكنى : أبا يحيى. وكان يكتب المصاحف بأجر. ومات سنة ثلاثين ومائتين.

ثم أورد ابن إسحاق نفرا من كتاب المصاحف بالخط الكوفى وبالخط المحقق المشق ، وقد رآهم جميعا.

والذى لا شك فيه أن هذه الأقلام المختلفة تبارت فى كتابة المصحف ، كما كتب بأقلام غير هذه ، ذكر منها الكردى فى كتابه (تاريخ الخط العربى) قلمين هما : سياقت ، وشكسته ، وأورد لهما نماذج.

وظلت المصاحف على هذه الحال إلى أن ظهرت المطابع سنة ١٤٣١ م ، وكان أول مصحف طبع بالخط العربى فى مدينة «همبرج» بألمانيا ، ثم فى «البندقية» فى القرن السادس عشر الميلادى.

وحين أخذت المطابع تشيع كثر طبع المصحف ، إذ هو كتاب المسلمين الأول وعليه معتمدهم.

٢١ ـ تجزئة المصحف

ولقد سقنا لك الحديث عن عدد سور القرآن ، وعدد كلماته ، وعدد حروفه ، وما نظن هذا كله بدأ مع السنين الأولى أيام كان المسلمون مشغولين بجمع القرآن وتدوينه ، عهد أبى بكر وعمر ، ثم عهد عثمان ، وما نظنه إلا تخلّف زمنا بعد هذا إلى أيّام الحجّاج.

ولقد كان المسلمون والوحى لا يزال متصلا ، يختصون يومهم بنصيب من القرآن ، يخلون إلى أنفسهم ساعة من يومهم هذا يتلون فيها ما تيسّر ، يفرض كلّ منهم على نفسه جزءا بعينه ، وإلى هذا يشير ما روى عن المغيرة بن شعبة ، قال : استأذن رجل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بين مكة والمدينة ، فقال : إنه قد فاتنى الليلة جزئى من القرآن ، فإنى لا أوثر عليه شيئا (١).

وما نشك فى أن هذه التجزئة كانت فرديّة ، أى إن مرجعها كان لكلّ فرد على حدة ، ونكاد نذهب إلى أنها لم تكن على التّساوى.

__________________

(١) المصاحف (ص : ١١٨).

٣٧٨

وهذه التجزئة التى أخذ المسلمون بها أنفسهم مبكّرين ليجعلوا للقرآن حظّا من ساعات يومهم حتى لا يغيبوا عنه فيغيب عنهم ، وحتى ييسروا على أنفسهم ليمضوا فيه إلى آخره أسبوعا بعد أسبوع ، أو شهرا بعد شهر ، هذه التّجزئة الأولى غير المضبوطة هى التى أملت على المسلمين بعد فى أن يأخذوا فى تجزئة القرآن تجزئة تخضع لمعابير مضبوطة ، ولم يكن عليهم ضير فى أن يفعلوا.

عند هذه ، وبعد أن استوى المصحف بين أيديهم مكتوبا ، كان عدّ السور وعد الكلمات وعد الآيات ، ولا يعنى هذا أن المسلمين الأول أيام الرسول كانوا بعيدين البعد كله عن هذا كله ، بل إن ما نعنيه هو الإحصاء المستوعب الشامل ، وأمّا غيره فما نظننا ننكره على المسلمين الأول ، من ذلك ما روى عن ابن مسعود أنه قال : أقرأنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة من الثلاثين من آل حم. يعنى الأحقاف. ويقول السيوطى : كانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت الثلاثين (١).

ولكن هذا الاستيعاب الشامل لم يكن إلا مع أيام الحجاج ، ودليلنا على هذا : ما يرويه أبو بكر بن أبى داود يقول : جمع الحجاج بن يوسف الحفّاظ والقرّاء ـ ويقول أبو بكر : وكنت منهم ـ فقال الحجاج : أخبرونى عن القرآن كله كم هو من حرف؟ قال أبو بكر : فجعلنا نحسب حتى أجمعوا أن القرآن ثلاثمائة ألف حرف وأربعين ألفا وسبعمائة ونيف وأربعين حرفا.

قال الحجّاج : فأخبرونى إلى أى حرف ينتهى نصف القرآن. فحسبوا فأجمعوا أنه ينتهى فى الكهف (وَلْيَتَلَطَّفْ) (الآية : ١٩ ، فى الفاء).

قال الحجاج : فأخبرونى بأسباعه على الحروف؟ قال أبو بكر : فإذا أول سبع فى النساء (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ) (الآية : ٥٥ ، فى الدال). والسبع الثانى فى الأعراف (أُولئِكَ حَبِطَتْ) (الآية : ١٤٧ ، فى التاء) والسبع الثالث فى الرعد (أُكُلُها دائِمٌ) (الآية : ٣٥ ، فى الألف آخر (أُكُلُها) ، والسبع الرابع فى الحج (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) (الآية : ٣٤ ، فى الألف) ، والسبع الخامس فى الأحزاب (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) (الآية : ٣٦ ، فى الهاء) ، والسبع السادس فى الفتح (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) (الآية : ٦ ، فى الواو) والسابع ما بقى من القرآن.

قال الحجاج : فأخبرونى بأثلاثه؟ قالوا : الثّلث الأول رأس مائة من براءة. والثلث الثانى رأس إحدى ومائة آية من (طسم) الشعراء ، والثلث الثالث ما بقى من القرآن.

__________________

(١) الإتقان (١ : ٦٦).

٣٧٩

ثم سألهم الحجاج عن أرباعه. فإذا أول ربع خاتمة سورة الأنعام. والربع الثانى الكهف (وَلْيَتَلَطَّفْ) (الآية : ١٩) والربع الثالث خاتمة «الزّمر» ، والربع الرابع ما بقى من القرآن.

كانت هذه نظرة الحجاج مع القراء والحفاظ ، وكانت تجزئته للقرآن بوفق عدد حروفه ، ولقد رأيناه كيف جزّأه نصفين ، ثم أسباعا ، ثم أثلاثا ، ثم أرباعا.

وما نظن الحجاج كان يستملى فى هذه التجزئة إلا عن تفكير فى التيسير ، فجعله نصفين على القارئ المجد ، ثم أثلاثا على اللاحق ، ثم أرباعا على من يتلو اللاحق ، ثم أسباعا على من يريد أن يتمه فى أسبوع ، وكانت ذلك هى النهاية التى أحبها الحجّاج للمسلمين ، وكأنه لم يحب لهم أن يتجاوزوها ، لذلك لم يمض مع القراء والحفاظ يسألهم عما بعدها ، ونحن نعلم أن الحجاج كان يقرأ القرآن كله فى كل ليلة (١).

وحين نظر الحجاج فى القرآن يجزئه هذه التجزئة التى تحدها الحروف ، بدأ غيره من بعده ينظرون فى تجزئة القرآن تجزئة تمليها الآيات ، فقسموه أنصافا ، وأثلاثا ، وأرباعا ، وأخماسا ، وأسداسا ، وأسباعا وأثمانا ، وأتساعا ، وأعشارا.

وما نظن هؤلاء الذين جاءوا فى إثر الحجاج بهذه التجزئة التى تخالف تجزئة الحجاج كانوا يستملون إلا عن مثل ما استملى الحجاج عنه ، وهو التيسير ، ثم الإرخاء فى هذا التيسير ، ثم تخصيص كل يوم بنصيب لا يزيد ولا ينقص ، وكان أقصى ما أرادوه لكل مسلم أن يتم قراءة القرآن فى أيام لا تعدو العشرة.

ولقد مر بك قبل ، عند الكلام على عد آيات القرآن ، ما كان من خلاف يسير علمت سببه ، ولكن هذا الخلاف اليسير فى عد الآيات جر إلى خلاف يسير فى هذه التجزئة.

ولقد كانت فكرة الحجاج ، وفكرة من جاء بعد الحجاج ، فى تجزئة القرآن هى التيسير على التّالى ، ولكن الحجاج كان متشدّدا ، متشددا على نفسه أولا ، كما رأيت ، فلم يجاوز فى تيسيره إلى غير سبعة أيام ، ولكن من جاءوا بعد الحجّاج لم يكونوا على تشدّد الحجاج فأرخوا شيئا فى التيسير وزادوا الأيام إلى عشرة.

وما وقف التيسير عند هذا الحد الذى انتهى إليه الذين جاءوا فى إثر الحجاج ، بل نرى الميسّرين أرخوا للقارئين إلى أن يلغوا بهم الثلاثين ، فإذا القرآن مجزّا إلى ثلاثين جزءا.

__________________

(١) المصاحف (ص ١١٩ ـ ١٢٠).

٣٨٠