الموسوعة القرآنيّة - ج ١

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ١

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

وهاك جدولا يجمع الترتيب فى هذه المصاحف الخمسة :

مصحف على

مصحف ابى

مصف ابن مسعود

مصحف ابن عباس

مصحف حبشى الصادق

(١) البقرة

 فاتحة الكتاب

 البقرة

 اقرأ

 اقرأ

(٢) يوسف

 البقرة

 النساء

 ن

 ن

(٣) العنكبوت

 النساء

 آل عمران

 والضحى

 المزمل

(٤) الروم

 آل عمران

 المص

 المزمل

 المدثر

(٥) لقمان

 الأنعام

 الأنعام

 المدثر

 تبت

(٦) حم السجدة

 الأعراف

 المائدة

 الفاتحة

 كورت

(٧) الذاريات

 المائدة

 يونس

 تبت يدا

 الأعلى

(٨) هل أتى على الإنسان

 الأنفال

 براءة

 كورت

 والليل

(٩) الم تنزيل

 التوبة

 النحل

 الأعلى

 والفجر

(١٠) السجدة

 هود

 هود

 والليل

 والضحى

(١١) النازعات

 مريم

 يوسف

 والفجر

 ألم نشرح

(١٢) إذا الشمس كورت

 الشعراء

 بنى إسرائيل

 ألم نشرح لك

 والعصر

(١٣) إذا السماء انفطرت

 الحج

 الأنبياء

 الرحمن

 والعاديات

(١٤) إذا السماء انشقت

 يوسف

 المؤمنون

 والعصر

 الكوثر

(١٥) سبح اسم ربك الأعلى

 الكهف

 الشعراء

 الكوثر

 التكاثر

(١٦) لم يكن

 النحل

 الصافات

 التكاثر

 الدين

فهذا جزء البقرة

(١٧) آل عمران

 الأحزاب

 الأحزاب

 الدين

 الكافرون

(١٨) هود

 بنى إسرائيل

 القصص

 الفيل

 الفيل

(١٩) الحج

 الزمر

 النور

 الكافرون

 الفلق

(٢٠) الحجر

 حم تنزيل

 الأنفال

 الإخلاص

 الناس

(٢١) الأحزاب

 طه

 مريم

 النجم

 الإخلاص

(٢٢) الدخان

 الأنبياء

 العنكبوت

 الأعمى

 والنجم

(٢٣) الرحمن

 النور

 الروم

 القدر

 الأعمى

(٢٤) الحاقة

 المؤمنون

 يس

 والشمس

 القدر

(٢٥) سأل سائل

 حم المؤمن

 الفرقان

 البروج

 والشمس

(٢٦) عبس وتولى

الرعد

الحج

التين

البروج

٣٤١

مصحف على

مصحف ابى

مصف ابن مسعود

مصحف ابن عباس

مصحف حبشى الصادق

(٢٧) والشمس وضحاها

 طسم

 الرعد

 قريش

 والتين

(٢٨) إنا أنزلناه

 القصص

 سبأ

 القارعة

 قريش

(٢٩) إذا زلزلت

 طس

 الملائكة

 القيامة

 القارعة

(٣٠) ويل لكل همزة

 سليمان

 إبراهيم

 الهمزة

 القيامة

(٣١) ألم تر كيف

 الصافات

 ص

 والمرسلات

 الهمزة

(٣٢) لإيلاف قريش

 داود

 الذين كفروا

 ق

 المرسلات

وهذا جزء آل عمران

(٣٣) النساء

 ص

 القمر

 البلد

 ق

(٣٤) النحل

 يس

 الزمر

 الطارق

 البلد

(٣٥) المؤمنون

 أصحاب الحجر

 الحواميم المسبحات

 القمر

 الطارق

(٣٦) يس

 حم. عسق

 حم المؤمن

 ص

 القمر

(٣٧) حم. عسق

 الروم

 حم الزخرف

 الأعراف

 ص

(٣٨) الواقعة

 الزخرف

 السجدة

 الجن

 الأعراف

(٣٩) تبارك الملك

 حم السجدة

 الأحقاف

 يس

 الجن

(٤٠) يأيها المدثر

 إبراهيم

 الجاثية

 الفرقان

 يس

(٤١) أرأيت

 الملائكة

 الدخان

 الملائكة

 الفرقان

(٤٢) تبت

 الفتح

 إنا فتحنا

 مريم

 الملائكة

(٤٣) قل هو الله أحد

 محمد

 الحديد

 طه

 مريم

(٤٤) والعصر

 الحديد

 سبح

 الشعراء

 طه

(٤٥) القارعة

 الظهار

 الحشر

 النمل

 الواقعة

(٤٦) والسماء ذات البروج

 تبارك

 تنزيل

 القصص

 الشعراء

(٤٧) والتين والزيتون

 الفرقان

 السجدة

 بنى إسرائيل

 النمل

(٤٨) طس

 الم تنزيل

 ق

 يونس

 القصص

(٤٩) النمل

 نوح

 الطلاق

 هود

 بنى إسرائيل

وهذا جزء النساء

(٥٠) المائدة

 الأحقاف

 الحجرات

 يوسف

 يونس

(٥١) يونس

 ق

 تبارك الذى بيده الملك

 الحجر

 هود

(٥٢) مريم

 الرحمن

 التغابن

 الأنعام

 يوسف

٣٤٢

مصحف على

مصحف ابى

مصف ابن مسعود

مصحف ابن عباس

مصحف حبشى الصادق

(٥٣) طسم

 الواقعة

 المنافقون

 الصافات

 الحجر

(٥٤) الشعراء

 الجن

 الجمعة

 لقمان

 الأنعام

(٥٥) الزخرف

 النجم

 الحواريون

 سبأ

 الصافات

(٥٦) الحجرات

 ن

 قل أوحى

 الزمر

 لقمان

(٥٧) ق والقرآن المجيد

 الحاقة

 إنا أرسلنا نوحا

 المؤمن

 سبأ

(٥٨) اقتربت الساعة

 الحشر

 المجادلة

 حم السجدة

 الزمر

(٥٩) الممتحنة

 الممتحنة

 الممتحنة

 حم. عسق

 المؤمن

(٦٠) والسماء والطارق

 المرسلات

 يأيها النبى لم تحرم

 الزخرف

 حم السجدة

(٦١) لا أقسم بهذا البلد

 عم يتساءلون

 الرحمن

 الدخان

 حم. عسق

(٦٢) ألم نشرح لك

 الإنسان

 النجم

 الجاثية

 الزخرف

(٦٣) والعاديات

 لا أقسم

 الذاريات

 الأحقاف

 الدخان

(٦٤) إنا أعطيناك الكوثر

 كورت

 الطور (١)

 الذاريات

 الجاثية

(٦٥) قل يأيها الكافرون

 النازعات

 اقتربت الساعة

 الغاشية

 الأحقاف

وهذا جزء المائدة

(٦٦) الأنعام

 عبس

 الحاقة

 الكهف

 الذاريات

(٦٧) سبحان

 المطففين

 إذا وقعت

 النحل

 الغاشية

(٦٨) اقترب

 إذا السماء انشقت

 ن والقلم

 نوح

 الكهف

(٦٩) الفرقان

 التين

 النازعات

 إبراهيم

 النحل

(٧٠) موسى

 اقرأ باسم ربك

 سأل سائل

 الأنبياء

 نوح

(٧١) فرعون

 الحجرات

 المدثر

 المؤمنون

 إبراهيم

(٧٢) حم

 المنافقون

 المزمل

 الرعد

 الأنبياء

(٧٣) المؤمن

 الجمعة

 المطففين

 الطور

 المؤمنون

(٧٤) المجادلة

 النبى

 عبس

 الملك

 الم السجدة

(٧٥) الحشر

 الفجر

 الدهر

 الحاقة

 الطور

(٧٦) الجمعة

 الملك

 القيامة

 المعارج

 الملك

(٧٧) المنافقون

 والليل إذا يغشى

 المرسلات

 النساء

 الحاقة

(٧٨) ن والقلم

 إذا السماء انفطرت

 عم يتساءلون

 والنازعات

 المعارج

__________________

(١) وفى رواية أخرى : الطور قبل العاديات «ابن النديم».

٣٤٣

مصحف على

مصحف ابى

مصف ابن مسعود

مصحف ابن عباس

مصحف حبشى الصادق

(٧٩) إنا أرسلنا نوحا

 الشمس وضحاها

 التكوير

 انفطرت

 النبأ

(٨٠) قل أوحى إلى

 والسماء ذات البروج

 الانفطار

 انشقت

 والنازعات

(٨١) المرسلات

 الطارق

 هل أتاك حديث الغاشية

 الروم

 انفطرت

(٨٢) والضحى

 سبح اسم ربك الأعلى

 سبح اسم ربك الأعلى

 العنكبوت

 انشقت

(٨٣) ألهاكم

 الغاشية

 والليل إذا يغشى

 المطففون

 الروم

وهذا جزء الأنعام

(٨٤) الأعراف

 عبس

 الفجر

 البقرة

 العنكبوت

(٨٥) إبراهيم

 الصف

 البروج

 الأنفال

 المطففون

(٨٦) الكهف

 الضحى

 انشقت

 آل عمران

 البقرة

(٨٧) النور

 ألم نشرح

 اقرأ باسم ربك

 الحشر

 الأنفال

(٨٨) ص

 القارعة

 لا أقسم بهذا البلد

 الأحزاب

 آل عمران

(٨٩) الزمر

 التكاثر

 والضحى

 النور

 الأحزاب

(٩٠) الشريعة

 الخلع

 ألم نشرح

 الممتحنة

 الممتحنة

(٩١) الذين كفروا

 الجيد

 والسماء والطارق

 الفتح

 النساء

(٩٢) الحديد

 اللهم إياك نعبد

 والعاديات

 النساء (١)

 إذا زلزلت

(٩٣) المزمل

 إذا زلزلت

 أرأيت

 إذا زلزلت

 الحديد

(٩٤) لا أقسم بيوم القيامة

 العاديات

 القارعة

 الحج

 محمد

(٩٥) عم يتساءلون

 أصحاب الفيل

 لم يكن الذين كفروا

 الحديد

 الرعد

(٩٦) الغاشية

 التين

 الشمس وضحاها

 محمد

 الرحمن

(٩٧) والفجر

 الكوثر

 التين

 الإنسان

 الإنسان

(٩٨) والليل إذا يغشى

 القدر

 ويل لكل همزة

 الطلاق

 الطلاق

(٩٩) إذا جاء نصر الله

 الكافرون

 الفيل

 لم يكن

 لم يكن

وهذا جزء الأعراف

(١٠٠) الأنفال

 النصر

 لإيلاف قريش

 الجمعة

 الحشر

(١٠١) براءة

 أبى لهب

 التكاثر

 الم السجدة

 النصر

(١٠٢) طه

 قريش

 إنا أنزلناه

 المنافقون

 النور

(١٠٣) الملائكة

 الصمد

 والعصر

 المجادلة

 الحج

__________________                    

(١) جاءت قيل بعد المعارج. والملاحظ أنه لم يذكر فاتحة الكتاب التى يتم بها عدد السور ١١٤.

٣٤٤

مصحف على

مصحف ابى

مصف ابن مسعود

مصحف ابن عباس

مصحف حبشى الصادق

(١٠٤) الصافات

 الفلق

 إذا جاء نصر الله

 الحجرات

 المنافقون

(١٠٥) الأحقاف

 الناس

 الكوثر

 التحريم

 المجادلة

(١٠٦) الفتح

 

 الكافرون

 التغابن

 الحجرات

(١٠٧) الطور

 

 المسد

 الصف

 التحريم

(١٠٨) النجم

 

 قل هو الله أحد

 المائدة

 الصف

(١٠٩) الصف

 

 التوبة

 الجمعة

(١١٠) التغابن

 

 النصر

 التغابن

(١١١) الطلاق

 

 الواقعة

 الفتح

(١١٢) المطففين

 

 

والعاديات

التوبة

(١١٣) المعوذتين

 

 الفلق

 المائدة

وهذا جزء الأنفال

٨ ـ الحكمة فى نزول القرآن منجّما

وفيما بين السابع عشر من رمضان ـ من السنة الحادية والأربعين من ميلاد الرسول ، وكان بدء نزول الوحى ، وإلى ما قبل موته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأيام لا تجاوز الواحد والثمانين ولا تنقص عن العشرة ، وكان آخر ما نزل من الوحى ، أى فى نحو من إحدى وعشرين سنة ، أو على الأصح فى نحو من ثمانى عشرة سنة ، بإسقاط المدة التى فتر فيها الوحى والتى بلغت ثلاث سنين ـ نزل هذا القرآن منجّما يشرّع للناس ، ويتابع الأحداث ، ويجيب ويبين. قال تعالى : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (١). وقال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (٢).

وما كانت حكمة السماء تقضى إلا بهذا مع أمة يراد لها التحول من عقائد إلى عقيدة ، والخروج من وثنية إلى دين ، ومن أوهام وظنون إلى منطق وحق ، ومن جحود إلى إيمان.

تلك خطوة أولى كان من الحكمة أن تبدأ بها الدعوة وتفرغ لها ، حتى إذا ما ضمت الناس على الطريق

__________________

(١) الفرقان : ٣٣.

(٢) الإسراء : ١٠٦.

٣٤٥

أخذتهم بما تحمى إيمانهم به ، فحاطتهم بعبادات وألزمتهم بواجبات ، والناس لا يمضون فيما يجدّ عليهم خرسا لا ينطقون ، وعميا لا ينظرون ، وغفلا لا يتدبّرون ، بل هم عن كل ما يعرض لهم سائلون ، والوحى يتابعهم فى كل ما يستفسرون عنه ، إذ به تمام الرسالة.

ثم إن هذه الدعوة السماوية بدأت جهادا وعاشت جهادا ، أملته الأيام وتمخضت عنه الأعوام ، وهو وإن كان فى علم السماء قبل أن يقع لكنّه كان على علم الناس جديدا لم يقع ، وكان لا بد أن يلقونه مع زمانه وأوانه.

ثم ما أكثر ما أخذ الناس وأعطوا فى ظلّ الدعوة لتثبت أركانها فى نفوسهم ، وهذا ـ وإن كان فى علم السماء قبل أن يقع ـ لكنّه كان على حياة الناس جديدا لم يقع ، وكان لا بد أن يلقنوا بيانه مع زمانه وأوانه.

وهكذا لم تكن الرسالة كلمة ساعتها ، وإنما كانت كلمات أعوام ثمانية عشر ، وكانت هذه الكلمات كلها فى علم السماء وفى اللوح المحفوظ ، ولكنها نزلت إلى علم الناس مع زمانها وأوانها.

لهذا نزل القرآن منجّما.

ولقد خال المشركون أن دعوة الرسول إليهم كلمة ، وأن صفحته معهم صفحة ، وفاتهم أن الدعوة معها خطوات ، وأن هذه الخطوات معها جديد على علمهم لا على علم السماء ، وما أحوجهم مع كل جديد إلى بيان ، ومن أجل هذا الذى فاتهم استنكروا أن ينزل القرآن منجّما وقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) (١) ، وكان جواب السماء عليهم : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٢) أى : جعلنا بعضه فى إثر بعض ، منه ما نزل ابتداء ، ومنه ما نزل فى عقب واقعة أو سؤال ، ليكون فى تتابعه مع الأحداث ، وما تثيره من شكوك ، ما يردّ النفوس إلى طمأنينة ، والأفئدة إلى ثبات.

وإنك لو تتبّعت أسباب النّزول فى القرآن ومواقع الآيات لتبينت أن رسالة الرسول لم تكن جملة واحدة ليكون القرآن جملة واحدة ، بل كانت أحداثا متلاحقة تقتضى كلمات متلاحقة.

فلقد نزلت آية الظّهار فى سلمة بن صخر ، ونزلت آية اللّعان فى شأن هلال بن أمية ، ونزلت آية حدّ القذف فى رماة عائشة ، ونزلت آية القبلة بعد الهجرة وبعد أن استقبل المسلمون بيت المقدس بضعة

__________________

(١) الفرقان : ٣٢.

(٢) الفرقان : ٣٢.

٣٤٦

عشر شهرا ، ونزلت آية اتخاذ مقام إبراهيم مصلّى حين سأل عمر الرسول فى ذلك ، كذلك كانت الحال فى الحجاب ، وأسرى بدر ، وغير ذلك كثير ، فكان القرآن ينزل بحسب الحاجة خمس آيات وعشر آيات ، وأكثر وأقل ، وقد صح نزول عشر آيات فى قصة الإفك جملة ، كما صح نزول عشر آيات من أول «المؤمنون» جملة ، وصح نزول (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) (١) ، وحدها وهى بعض آية ، (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) (٢) إلى آخر الآية ، وهى بعض آية ، نزلت بعد نزول أول الآية.

* * *

٩ ـ نزول القرآن على سبعة أحرف

وهذا الوحى ألهم الرسول معناه كما ألهم لفظه ، فهو بمعناه ولفظه من صنع السماء ، والرسول ناطق بلسان السماء ، يملى على قومه ما أملته السماء عليه ، ويصوّر ما تصوّر فى وعيه ، وينطق بما أنطقته السماء ، تفيض عليه السماء. فإذا هو قد خلص لهذا الفيض بكليّاته ، وإذا هو إشعاع لهذا الفيض يصدر عنه ويشكّل جرسه ، فإذا ما انفصل عنه هذا الفيض عاد يصدر عن نفسه يطوع له نطقه.

ولسان الرسول عربى ، ولهذا جرى القرآن على لسانه عربيّا ، يمثّل أعلى ما ينتظمه اللسان العربى من لغات ، وأحوى ما يجمع من لهجات ، وكانت لغة مضر أعلى ما يجرى على لسان قريش وأحواه ، فنزل بها القرآن ، وفى هذا يقول عمر : نزل القرآن بلغة مضر : وكانت لغة مضر هذه تنتظم لغات سبعا لقبائل سبع ، هم : هذيل ، وكنانة ، وقيس ، وضبة ، وتيم الرّباب ، وأسد بن خزيمة ، وقريش.

ولقد مثّل القرآن هذه اللغات السبع كلها مفرّقة فيه. لكل لغة منه نصيب. وهو أولى الأقوال بتفسير الحديث «نزل القرآن على سبعة أحرف».

١٠ ـ اسم كتاب الله

ولقد سمى الله ما أنزله على رسوله : قرآنا ، وكتابا ، وكلاما ، وفرقانا ، وذكرا ، وقولا.

وكان أكثر هذه الأسماء دورانا هو لفظ القرآن ، فقد جاء فى نحو سبعين آية ، وكان فيها صريحا فى اسميته ومدلوله الخاص. من أجل ذلك كتبت لهذا اللفظ الغلبة على غيرها ، وصارت الاسم الغالب

__________________

(١) النساء : ٩٥.

(٢) التوبة : ٢٩.

٣٤٧

لكتاب الله الذى جاء به محمد وحفظه عنه المسلمون. ويؤثر عن الشافعى أنه قال : القرآن اسم على غير مشتق خاصّ بكلام الله.

فهو غير مهموز ، لم يؤخذ من قراءة ، ولكنه اسم لكتاب الله مثل : التوراة والإنجيل.

ويقول الزجّاج : إنّ ترك الهمز فيه من باب التخفيف. ونقل حركة الهمز إلى الساكن الصحيح قبلها. والقائلون بالهمز مختلفون ، وأوجه ما فى خلافهم رأيان :

أولهما : أنه مصدر لقرأت ، مثل الرّجحان والغفران ، سمّى به الكتاب المقروء ، من باب تسمية المفعول بالمصدر.

والرأى الثانى : أنه وصف على فعلان ، مشتق من القرء ، بمعنى الجمع.

وأما تسميته بالمصحف فكانت تسمية متأخرة جاءت بعد جمع القرآن وكتابته ، وكانت من وضع الناس ، فإنهم يحكون أن عثمان حين كتب المصحف التمس له اسما فانتهى الناس إلى هذا الاسم. غير أن هذا يكاد يكون مردودا ، فلقد سبق أن علمت أن ثمة مصاحف كانت موجودة قبل جمع عثمان ، هى مصحف على ، ومصحف أبىّ ، ومصحف ابن مسعود ، ومصحف ابن عباس ، ومصحف جعفر الصادق.

والمصحف : هو الجامع للصّحف المكتوبة بين الدفتين.

ويقال فيه : مصحف ، ومصحف ، بضم الميم وكسرها مع فتح الحاء ، والضمة هى الأصل ، والكسرة لاستثقال الضمة ، فمن ضم جاء به على أصله ، ومن كسر فلاستثقال الضمة.

١١ ـ جمع القرآن

ولقد مات رسول الله والقرآن كله مكتوب على العسب جريد النّخل ـ واللّخاف ـ صفائح الحجارة ـ والرّقاع ـ والأديم والأكتاف ـ عظام الأكتاف ـ والأقتاب ـ ما يوضع على ظهور الإبل ـ كما كان محفوظا فى صدور الرّجال يحفظه حفظة من المسلمين.

وقبل أن يقبض الله رسوله إليه عارض الرسول ما أنزله عليه ربّه بسوره وآياته على ما حفظه عنه حفظة المسلمين ، فكان ما فى صدور الحفظة صورة ممّا كان فى صدر الرّسول.

وكان لا بد لهذا المكتوب على الرّقاع وغيرها من أن يعارض على المحفوظ فى الصّدور ليخرج من

٣٤٨

بينهما كتاب الله فى صورة مقروءة ، كى يفيد منه الناس جميعا على تعاقب الأزمان ، فما تغنى الرّقاع ولا غيرها ، ثم هى عرضة للبلى والتشتت ، وما يغنى الحفظة ، وهم إلى فناء ، ولا الناقلون عنهم ، وليس لهم ميزة المعاصرة.

ويحرّك الله المسلمين لهذه الحسنة حين استحر القتل يوم اليمامة بقرّاء القرآن ، فيخف عمر بن الخطاب إلى أبى بكر ، وكان عندها خليفة ، وكان الذى استخف عمر إلى أبى بكر فزعه من أن يتخطف الموت القرّاء فى مواطن أخرى ، كما تخطفهم فى ذلك الموطن ـ أعنى اليمامة ـ فيضيع على المسلمين جمّاع دينهم ويعزّ عليهم كتابهم.

وحين جلس عمر إلى أبى بكر أخذ يناقشه فيما أتى إليه ، من جمع القرآن ، بعد أن بسط السّبب الحافز ، وتلبّث أبو بكر يراجع نفسه ، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت ، وكان من كتّاب الوحى ، كما مرّ بك ، وحضر زيد مجلس أبى بكر وعمر وسمع منهما ما هما فيه ، فإذا هو معهما فى الرأى ، وإذا أبو بكر حين يجد من زيد حسن الاستجابة يتّجه إليه يقول : إنّك شابّ عاقل لا نتّهمك ، وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله ، فتتبّع القرآن فاجمعه.

ومضى زيد يتتبع القرآن يجمعه ويكتبه ، وكان زيد حافظا ، فيسّر عليه حفظه ما كلّف به ، ولكنه كان إلى هذا لا يقنع فى إثبات الآية يختلف فيها إلا بشهادة.

واجتمعت هذه الصّحف فى بيت أبى بكر حياته ، ثم فى بيت عمر حياته.

١٢ ـ مصحف عثمان

وكما حرّكت محنة اليمامة عمر إلى حسنة ، حرّكت محنة أخرى ـ بعد مقتل عمر ـ عثمان إلى حسنة ، فقد قدم حذيفة بن اليمان من حرب أرمينية وأذربيجان على عثمان فزعا من اختلاف المسلمين فى قراءة القرآن ، يقول لعثمان : أدرك الأمّة قبل أن يختلفوا.

وكما استجاب أبو بكر إلى عمر استجاب عثمان إلى حذيفة ، فأرسل عثمان يطلب الصّحف من عند حفصة بنت عمر ، زوج النبى. وأرسلت حفصة بالصّحف إلى عثمان ، وجمع عثمان إليه زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزّبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وكلّهم من كتّاب

٣٤٩

الوحى ، وأمرهم بنسخ هذه الصّحف. فكتبوا منها سبع مصاحف. ثم ردّ عثمان الصّحف (١) إلى حفصة ، فلم تزل عندها حتى أرسل مروان بن الحكم بن أبى العاص فأخذها فحرقها ، كما ذكر أبو بكر السّجستانى (٢)

ويقول أبو بكر السّجستانى فى مكان آخر بسند متّصل عن سالم بن عبد الله : إن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصّحف التى كتب فيها القرآن ، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها. قال سالم : فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد الله بن عمر : ليرسلن إليه بتلك الصحف. فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر ، فأمر بها مروان فشقّقت. فقال مروان : إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب فى شأن هذه الصّحف مرتاب ، أو يقول : إنه قد كان شىء منها لم يكتب (٣).

ولا ندرى إلى أى حد كان توفيق مروان فيما فعل ، ولكنه ، وهو الرجل الذى كان معاصرا لما وقع ، كان عليه أن يطمئنّ إلى أن الأمر قد تمّ على أحسن ما يكون دقة وضبطا ، وما نظنه غاب عنه كيف احتاط عثمان لذلك ، وما نظنه إلا كان شاهد عثمان وهو يخطب الناس يناشدهم أن يأتوه بما معهم من كتاب الله ، وكان عهدهم بالنبىّ قريبا ، إذ لم يكن قد مضى على وفاته أكثر من ثلاث عشر سنة. وما نظن الناس إلا وفّوا لعثمان ، وجاءه كلّ رجل بما كان عنده ، فلقد كان الرجل يأتيه بالورقة والأديم فيه القرآن.

ولقد جمع من ذلك عثمان الشيء الكثير. وما وقف عثمان عند هذه بل لقد دعاهم رجلا رجلا فيناشده : لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أملاه عليك؟ فيقول الرجل : نعم. حتى إذا فرغ من ذلك قال : من أكتب الناس؟ فقال الناس : كاتب رسول الله زيد بن ثابت. قال عثمان : فأىّ الناس أعرب؟ قالوا : سعيد بن العاص ـ وكان سعيد أشبههم لهجة برسول الله ـ قال عثمان : فليمل سعيد وليكتب زيد.

هذا كله فعله عثمان ، وفعل إلى جانبه الاستئناس بالصّحف التى تمّ جمعها فى عهد أبى بكر وشارك فيها عمر ، والتى كانت عند حفصة ، تلك الصّحف التى مثلت المصحف الأول المعتمد.

__________________

(١) ويقال : إنه نسخ من المصحف أربعة مصاحف أرسلها إلى البصرة والكوفة والشام ، واحتفظ بالرابع فى المدينة.

(٢) المصاحف للسجستانى (س : ١٠).

(٣) المصاحف (٢٤ ـ ٢٥).

٣٥٠

من أجل هذا لم يختلف زيد وسعيد فى شىء ، ووجدا ما اجتمع لهما من قبل على يد أبى بكر وعمر.

هو الذى جمعه عثمان ثانية واستخلف الناس عليه.

ويحكى المؤرخون أن زيدا وسعيدا لم يختلفا إلا فى حرف واحد فى سورة البقرة ، فقال أحدهما «التابوت». وقال الآخر «التابوة». واختيرت قراءة زيد بن ثابت ، لأنه كاتب الوحى.

وأرسل عثمان ستّا من هذه المصاحف إلى مكة ، والشام ، واليمن ، والبحرين ، والبصرة ، والكوفة ، وحبس مصحفا بالمدينة ، وأمر عثمان فحرق ما كان مخالفا لمصحفه.

وقد مرّ بك أن على بن أبى طالب كان له مصحف باسمه ، أعنى كان إليه جمعه ، وأنه بعد موت النبى كان قد أقسم ألّا يرتدى برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن فى مصحف ، ففعل.

وينقل أبو بكر السّجستانى (١) بسند متّصل عن أشعث ، عن ابن سيرين ، أنه حين تخلف علىّ عن بيعة أبى بكر أرسل إليه أبو بكر يقول له : أكرهت إمارتى يا أبا الحسن؟ فقال علىّ : لا والله ، إنى أقسمت ألّا أرتدى برداء إلا لجمعة. فبايعه ثم رجع.

ثم يقول أبو بكر : لم يذكر «المصحف» أحد إلّا أشعث ، وهو ليّن الحديث. وإنما قال : حتى أجمع القرآن ، يعنى أتمّ حفظه.

غير أن ابن النديم ـ فيما نقلت إليك عنه قبل ـ يذكر أنه رأى عند أبى يعلى حمزة الحسنى مصحفا سقطت منه أوراق بخطّ على بن أبى طالب يتوارثه بنو الحسن ، ثم أورد ترتيب السّور فيه ، وقد نقلناها لك فيما سبق.

ولقد كان إلى مصحف علىّ مصاحف أخرى مرّت بك ، هى مصحف أبىّ ، ومصحف ابن مسعود ، ومصحف ابن عباس ، ومصحف جعفر الصادق. وكان ثمة مصاحف أخرى هى : مصحف لأبى موسى الأشعرى ، ومصحف للمقداد بن الأسود ، ومصحف لسالم ، مولى أبى حذيفة.

ولقد كانت هذه المصاحف موزّعة فى الأمصار ، فكان أهل الكوفة على مصحف ابن مسعود ، وأهل البصرة على مصحف أبى موسى الأشعرى ، وأهل دمشق على مصحف المقداد بن الأسود. وأهل الشام على مصحف أبىّ بن كعب.

__________________

(١) المصاحف (ص : ١٠).

٣٥١

وكان ثمة خلاف بين هذه المصاحف ، وهذا الخلاف ، وهذا الخلاف هو الذى شهد به حذيفة حين كان مع الجيش فى فتح أذربيجان. وهذا الخلاف هو الذى فزع من أجله عثمان فنهض يجمع أصول القرآن ويجمع إلى هذه الأصول الحفظة الموثوق بهم.

فثمة مراحل ثلاث مرّ بها تدوين المصحف :

أولى هذه المراحل : تلك التى كانت فى حياة النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلقد كان من حوله كتّابه يكتبون ما يملى عليهم ، وكان الرسول حريصا على ألّا يكتب عنه غير القرآن ، حتى لا يلتبس به شىء آخر. ويروون عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : لا تكتبوا عنّى شيئا سوى القرآن ، فمن كتب عنى شيئا سوى القرآن فليمحه.

ولم يترك رسول الله دنياه إلى آخرته إلا بعد أن عارض ما فى صدره على ما فى صدور الحفظة الذين كانوا كثرة ، وحسبك ما يقال عن كثرتهم أنه فى «غزوة بئر معونة» قتل منهم ـ أى من القراء ـ سبعون. ثم حسبك عن كثرتهم أنه كانت منهم سيّدة ، هى أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث ، وكان رسول الله يزورها ويسميها الشهيدة ، وكانت قد جمعت القرآن ، وقد أمرها رسول الله أن تؤم أهل دارها (١).

ثم حسبك دليلا على أن القرآن كتب فى حياة الرسول ، وأنه كتب فى صحّة وضبط ، ما رواه البراء مع نزول قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢) قال الرسول : ادع لى زيدا وليجئ باللّوح والدّواة والكتف ، ثم قال : اكتب «لا يستوى» أى إن الرسول كان يملى على كاتبه لساعته.

ثم لعلّك تذكر فى إسلام عمر أن رجلا من قريش قال له : أختك قد صبأت ـ أى خرجت عن دينك ـ فرجع إلى أخته ودخل عليها بيتها ولطمها لطمة شجّ بها وجهها. فلما سكت عنه الغضب نظر فإذا صحيفة فى ناحية البيت فيها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣) واطّلع على صحيفة أخرى فوجد فيها (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ : طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (٤) فأسلم بعد ما وجد نفسه بين يدى كلام معجز ليس من قول بشر.

__________________

(١) الطبقات الكبرى ، لابن سعد.

(٢) النساء : ٩٥.

(٣) الحديد : ١.

(٤) طه : ١.

٣٥٢

فهذه وتلك تدلانك على أن الكتّاب كانوا يكتبون بإملاء الرسول ، وأن هذا المكتوب كان يتناقله الناس.

والثانية من تلك المراحل : ما كان من عمر مع أبى بكر حين استحرّ القتل بالقرّاء فى «اليمامة» ، وما انتهى إليه الرأى بين أبى بكر وعمر فى أن يكلا إلى زيد بن ثابت جمع المصحف ، لتكون معارضة بين ما هو مكتوب فى الألواح وبين ما هو محفوظ فى الصّدور ، قبل أن تأتى الحروب على حفظة القرآن ، فما من شكّ فى أن الاثنين يكمّل أحدهما الآخر ، لمن أراد أن يبلغ الكمال والدّقة والضبط.

وما يمنع من هذا الذى فكّر فيه عمر أن يكون هناك جمع سابق على يد نفر من الصحابة ، مثل ما فعل «علىّ» ومثل ما فعل «ابن مسعود» ، ومثل ما فعل «ابن عباس» ، ومثل ما فعل غيرهم.

وما كان هذا يغيب عن «عمر» ولكن كان ثمّة فرق بين ما فكّر فيه «عمر» وما سبق بعض الصحابة به ، فلقد كان الرأى عند «عمر» أن يبادر فى ظلّ وجود القرّاء إلى إيجاد مصحف رسمىّ بتكليف من الخليفة ، والخليفة أقوى على حشد الجهود العظيمة لهذا العمل العظيم.

ولقد أحسّ زيد بثقل المهمة التى أرادها عمر ، وأرادها معه أبو بكر ، فأبو بكر وعمر لم يريدا عملا فرديّا يحمل عبأه فرد واحد ، وإنما أراد عملا جماعيّا تحمل عبأه الخلافة وباسم الخلافة يصدر.

من أجل ذلك قال زيد : فو الله لو كلّفونى نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل علىّ ممّا كان أمرونى به من جمع القرآن.

ومن أجل ذلك مضى زيد يتحرّى ، لم يكتف بما فى صدره وما بين يديه ، بل لقد تلمّس آية يفقدها فوجدها عند رجل من الأنصار يدوّنها ، وهى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (١).

ومن أجل ذلك قال أبو بكر لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت : اقعدا على باب المسجد فمن جاء كما بشاهدين على شىء من كتاب الله فاكتباه.

ومن أجل ذلك لم يقعد زيد عن السّعى ليجد آخر المطاف آخر سورة التوبة مع خزيمة بن ثابت.

__________________

(١) الأحزاب : ٢٣.

(م ٢٣ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)

٣٥٣

إذن فقد كان مصحف أبى بكر وعمر أوّل مصحف رسمىّ جمعه زيد بن ثابت لهما فى ظلّ هذا التحرّى الدقيق ، الذى كان أبو بكر وعمر من ورائه. غير أن هذا المصحف الرّسمى لم يأخذ طريقه الرسمى إلى الأمصار ، ولعل مقتل عمر هو الذى أخّر ذلك.

والمرحلة الثالثة والأخيرة هى المرحلة التى تمت على يد عثمان ، وكانت تتمّة للمرحلة الرّسميّة التى بدأت فى عهد أبى بكر وشاركه فيها عمر. فلقد وقع الذى كان يخشاه عمر ، والذى فكّر من أجله فى هذا الجمع الرسمى ، وعجل به القتل عن أن يمضى فيه إلى آخره.

فلقد مرّ بك كيف استقل كلّ مصر بمصحف ، وكانت مصاحف فردية لم يجتمع لها ما اجتمع لمصحف أبى بكر الذى انتهى إلى حفصة ، ثم انتهى إلى عثمان ، من جهد جماعىّ مستوعب ، ولقد سعى «على» جهده ، وسعى «أبىّ» جهده ، وسعى «ابن عباس» جهده ، وسعى «جعفر الصادق» جهده ، ولكن هذه الجهود لو تلاقت كما تلاقت حياة أبى بكر وعمر لخضعت لتعديل كثير ، ودليلنا على ذلك أنه لما خرج إلى الأمصار مصحف عثمان دان الناس لتحريره قبل أن يدينوا لسلطان الخليفة ، وما يستطيع أحد أن يظن بالمسلمين اللّين والضّعف عن أن يقفوا لأقوى الخلفاء يلزموه رأيهم ، إن كانوا يعرفون أنهم على الحق وأن الخليفة على غير الحق فى مثل هذا الأمر الدينىّ الجلل ، ولكن انصياع المسلمين فى الأمصار كلها لمصحف عثمان ، وما كان عثمان بالعنيف ، يدلّك على أن المصحف العثمانى خرج من إجماع اطمأنت القلوب إليه.

ويروى أبو بكر السّجستانى بسند متّصل عن «على» فى المصاحف وحرق «عثمان» لها : «لو لم يصنعه عثمان لصنعته (١)».

ولقد كان «على» صاحب مصحف اختفى بظهور مصحف عثمان. ولكن هذا لم يمنعه من نصرة الحق الذى جاهد من أجله حياته كلها.

والذى قبله «علىّ» قبله «ابن مسعود» ، ولكن بعد لأى (٢) ، وقبله يعد هذين كثيرون من الصحابة.

يروى أبو بكر السّجستانى بسند متّصل عن مصعب بن سعد ، قال : أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف ، فأعجبهم ذلك ولم ينكر ذلك منهم أحد.

__________________

(١) المصاحف : (ص : ١٢).

(٢) المصاحف : (ص : ١٨).

٣٥٤

وما أجلّ هذه التى فعلها عثمان ، وحسبه عنها ما يرويه أبو بكر السّجستانى بسند متّصل عن عبد الرحمن بن مهدى يقول : خصلتان لعثمان بن عفان ليستا لأبى بكر ولا لعمر : صبره نفسه حتّى قتل مظلوما ، وجمعه النّاس على المصحف.

وحسبك أن تعلم أن الحال فى اختلاف الناس لم تكن أيام عثمان فى الأمصار دون المدينة ، بل لقد شملت المدينة أيضا ، فلقد كان المعلّمون فيها لكل معلّم قراءته ، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون. فكان هذا لعثمان ، إلى ما بلغه من حذيفة ، مما أفزعه وجعله يقوم بين الناس خطيبا ، ويقول : أنتم عندى مختلفون فيه فتلحنون ، فمن نأى عنّى من الأمصار أشدّ فيه اختلافا وأشدّ لحنا ، اجتمعوا يا أصحاب محمد واكتبوا للنّاس إماما.

ومن أجل هذا سمّى مصحف عثمان : الإمام.

وقد أرسل عثمان من هذا المصحف نسخا للأمصار ـ كما مر بك ـ وأمر بأن يحرق ما عداها.

ويحكى ابن فضل الله العمرى فى كتابه «مسالك الأبصار» (١). وهو يصف مسجد دمشق : «وإلى جانبه الأيسر المصحف العثمانى بخطّ أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه».

ومعنى هذا أن المصحف كان بدمشق حياة العمرى ، أى إلى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى ، فلقد كانت وفاة العمرى سنة ٧٤٩ ه‍.

ويرجّح المتصلون بالترات العربى أن هذا المصحف هو الذى كان فى دار الكتب بمدينة ليننجراد ، ثم انتقل منها إلى إنجلترا ، ولا يزال بها إلى اليوم.

ويروى السّفاقسى فى كتابه «غيث النفع» (٢) : «ورأيت فيه ـ يعنى مصحف عثمان ـ أثر الدّم ، وهو بالمدرسة الفاضليّة بالقاهرة».

ولقد كان فى دار الكتب العلوية فى النّجف مصحف بالخطّ الكوفى مكتوب فى آخره : «كتبه علىّ ابن أبى طالب فى سنة أربعين من الهجرة» ، وهى السنة التى توفى فيها علىّ.

١٣ ـ كتب المصاحف

ولقد كتب نفر من السّلف كتبا عرضوا فيها للمصاحف القديمة التى سبقت مصحف عثمان ، والتى جاء مصحف عثمان ملغيا لها ، نذكر منها :

__________________

(١) المسالك (١ : ١٩٥ طبعة دار الكتب المصرية).

(٢) غيث النفع فى القراءات السبع (ص : ٢٣٠).

٣٥٥

١ ـ اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق ، لابن عامر ، المتوفى سنة ١١٨ ه‍.

٢ ـ اختلاف مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة ، عن الكسائى ، المتوفى سنة ١٨٩ ه‍.

٣ ـ اختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام فى المصاحف ، للفراء ، المتوفى سنة ٢٠٧ ه‍.

٤ ـ اختلاف المصاحف لخلف بن هشام ، المتوفى سنة ٢٢٩ ه‍.

٥ ـ اختلاف المصاحف وجامع القراءات ، للمدائنى ، المتوفى سنة ٢٣١ ه‍.

٦ ـ اختلاف المصاحف ، لأبى حاتم سهل بن محمد السجستانى ، المتوفى سنة ٢٤٨ ه‍.

٧ ـ المصاحف والهجاء ، لمحمد بن عيسى الأصبهانى ، المتوفى سنة ٢٥٣ ه‍.

٨ ـ المصاحف ، لأبى عبد الله بن أبى داود السجستانى ، المتوفى سنة ٣١٦ ه‍.

٩ ـ المصاحف ، لابن الأنبارى ، المتوفى سنة ٣٢٧ ه‍.

١٠ ـ المصاحف ، لابن أشتة الأصبهانى ، المتوفى سنة ٣٦٠ ه‍.

١١ ـ غريب المصاحف للوراق.

وترى من هذا العرض لهذه الكتب ومؤلفيها أن المصحف الإمام لم يلغ المصاحف ، التى جاء ليلغيها ، إلغاء تامّا ، وأن هذه المصاحف بخلافها على المصحف الإمام ظلّت حيّة ، إن لم تكن كتابة فحفظا ، وإن كنا نرجّح الأولى. وأول كتاب فى هذا كان لابن عامر ـ كما ترى ـ وابن عامر كانت وفاته سنة ١١٨ ه‍ ، أى بعد مقتل عثمان بما يقرب من ثلاثة وثمانين سنة ، فلقد كانت وفاة عثمان فى الخامسة والثلاثين من الهجرة.

ولقد انتهى إلينا من هذه الكتب كلها كتاب المصاحف لأبى بكر عبد الله بن أبى داود السّجستانى ، وقد نقلت لك نصوصا مرت بك ، وأشرت إلى موضعها من النسخة المطبوعة من هذا الكتاب.

ويكاد يكون كتاب أبى بكر السّجستانى جامعا لكلام من سبقوه ، لتأخّره فى الزمن عنهم ، وما أظن من بعده أضاف كثيرا. أعنى بهذا أن كتاب أبى بكر السّجستانى يكاد يمثّل لنا هذا الخلاف كله.

وإنى لأعدّ إقدام هؤلاء النفر من السّلف على مثل هذا التأليف إحياء لخلاف حاول الخلفاء الثلاثة أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ـ أو قل ، الخلفاء الأربعة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلىّ ـ أن يضعوا له نهاية ، بالمحاولة الأولى التى تمّت على يد أبى بكر وعمر ، ثم بالمحاولة الثانية التى تمت على يد عثمان وأقرّه عليها علىّ ، وشارك فيها كثير من الصحابة ، ومنهم من كان صاحب مصحف. مثل «أبى».

وعثمان لم يقدم على ما فعل إلا حين فزّعه الخلاف ، ولم يمض ما أقدم عليه إلا بعد أن اطمأنت نفسه

٣٥٦

إلى ما انتهى إليه ، ولم يطمئن إليه اطمئنانه إلا بعد أن آزرته عليه الكثرة. وبعد هذا كله وقف عثمان موقفه الحازم القاطع فألزم الأمصار بالمصحف الإمام ، ثم أحرق ما عداه. ومعنى هذا أنه لا رجعة إلى هذا الخلاف ، ولا سبيل إلى الرّجعة إليه ، إذ لو صحّ أن ثمة شكّا وقع فى روع عثمان لما كان منه هذا القرار الحازم القاطع.

ولعلك تذكر ما كان من مروان من إحراقه مصحف حفصة ، الذى كان مرجعا من مراجع الإمام. ولقد أراد من هذا ألّا يكون ثمة رجعة إلى الوراء تثير هذا الخلاف فى كتاب قال فيه تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١).

وبعد ما يقرب من قرن إلا قليلا يطالعنا ابن عامر بمؤلفه فى اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق ، أو قل بعد أن اختفى جيل القرّاء الأول والثانى والثالث من الميدان ، وبعد أن نفض أصحاب المصحف الإمام أيديهم من أدلّتهم واطرحوها وأحرقوها ، بعد هذا كله تثار قضية لا تكافؤ فيها ، أدلتها الخلافيّة قطع فيها بالرأى ، واستبعد شىء لا يستقيم ، وأقيم مقامه شىء مستقيم.

وإنا من أجل هذا من القائلين ـ لا خوفا على ما بين أيدينا ـ بأن إثارة مثل هذا ليست نوعا من الدّراسة ، فتلك دراسة بتراء لا تملك أسلوبها العلمى الصّحيح. ولقد كنا نرحّب بها لو كانت شيئا جديدا لم تعرفه البيئة الأولى حين حكمت فى أمره ، بل لقد كان شيئا معهودا للبيئة الأولى تعرفه وتعرف أكثر منه ، ولقد حكمت فيه وفرغت منه ، فإثارته بعد هذا ليكون شيئا يدرس نوع من الكيد ، ولو كنا نملك لعفّينا آثاره كما عفا عثمان آثارا مثله ، ولن نكون معها متجنّين أو متعسفين أو خائفين ، بل نكون مع الحزم الذى اتصف به «عثمان» وناصره عليه «علىّ» ، واجتمع معه فى الرأى عليه اثنا عشر صحابيّا ، جمعهم عثمان لهذا العمل الجليل.

وما أصدقها كلمة جرت على لسان أبى بكر السّجستانى فى ختام عرضه لمصحف «أبىّ بن كعب» حين يقول : لا نرى أن يقرأ القرآن إلّا بمصحف عثمان الّذى اجتمع عليه أصحاب النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن قرأ إنسان بخلافه فى الصّلاة أمرته بالإعادة.

ولقد جاء فى المصحف الإمام من الرسم القديم ، ما كان مظنة اللبس ، ولقد رأى عثمان أن ألسنة العرب تقيمه على وجهه ، وإن بدا على غير وجهه ، فلم يعرض له ، ولعل هذا هو تفسير ما عزى إلى عثمان حين قال :

__________________

(١) الحجر : ٩.

(م ٥ ـ الموسوعة القرآنية ـ مجلد ١)

٣٥٧

إن فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها. ويزيد هذا بيانا قوله ، أعنى : عثمان : «لو كان المملى من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا».

ويقول ابن أشتة فى كتابه «المصاحف» : جميع ما كتب خطأ يجب أن يقرأ على صحة لغته لا على رسمه ، وذلك فى نحو «لا أوضعوا» و«لا أذبحنه» بزيادة ألف فى وسط الكلمتين ، إذا لو قرئ بظاهر الخط لكان لحنا شنيعا ، يقلب معنى الكلام ويخل بنظامه.

ويقول أبو بكر السّجستانى فى كتابه «المصاحف» (١) تعقيبا على الحديث المعزوّ إلى عثمان : «هذا عندى يعنى : بلغتها ـ يريد : معنى قوله بألسنتها ـ وإلا لو كان فيه لحن لا يجوز فى كلام العرب جميعا لما استجاز أن يبعث به إلى قوم يقرءونه».

ويؤيد هذا ما روى عن عمر بن الخطاب : «إنا لنرغب عن كثير من لحن أبىّ. يعنى : لغة أبى (٢)».

١٤ ـ تعقيب على كتب المصاحف

ويعزو أبو بكر السجستانى إلى عائشة ، يرويه هشام بن عروة عن أبيه ، قال : سألت عائشة عن لحن القرآن (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (٣) ، وعن قوله تعالى (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) (٤) ، وعن قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) (٥) ، فقالت : يا ابن أختى ، هذا عمل الكتّاب أخطئوا فى الكتاب (٦).

ومثل هذا الذى عزى لعائشة يعزى لأبان بن عثمان يرويه الزبير يقول : قلت لأبان بن عثمان : كيف صارت (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ما بين يديها وما خلفها رفع وهى نصب؟ قال : من قبل الكتّاب ، كتب ما قبلها ثم قال : ما أكتب؟ قال : اكتب «المقيمين الصلاة» فكتب ما قيل له (٧).

وينضم إلى هذا ما يعزى إلى سعيد بن جبير أنه قال : فى القرآن أربعة أحرف لحن : (وَالصَّابِئُونَ) ، و (وَالْمُقِيمِينَ) ، و (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٨) ، و (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ). وإليك ما يقوله عالم جليل من علماء التفسير واللّغة :

__________________

(١) المصاحف : ٣٢.

(٢) المصاحف لأبى بكر السجستانى : ٣٢.

(٣) طه : ٦٣.

(٤) النساء : ١٦٢.

(٥) المائدة : ٦٩.

(٦) المصاحف : ٣٤.

(٧) المصاحف : ٣٣ ـ ٣٤.

(٨) المنافقون : ١٠.

٣٥٨

يقول الزمخشرى محمود بن عمر فى كتابه «الكشاف (١)» : (وَالصَّابِئُونَ) (المائدة : ٦٩) رفع على الابتداء ، والنية به التأخير عما فى حيز «إن» من اسمها وخبرها ، كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك ، وأنشد سيبويه (٢) شاهدا له :

وإلّا فاعلموا أنّا وأنتم

بغاة ما بقينا فى شقاق

أى : فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك. فإن قلت : هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل إن واسمها؟ قلت : لا يصح ذلك قبل الفراغ من الخبر ، لا تقول : إن زيدا وعمرو منطلقان. فإن قلت : لم لا يصح والنّية به التأخير ، فكأنك قلت : إن زيدا منطلق وعمرو؟ قلت : لأنى إذا رفعته عطفا على محل «إن» واسمها ، والعامل فى محلهما هو الابتداء ، فيجب أن يكون هو العامل فى الخبر ، لأن الابتداء ينتظم الجزءين فى عملهما كما تنتظمهما «إن» فى عملها ، فلو رفعت «الصابئون» والمنويّ به التأخير بالابتداء ، وقد رفعت الخبر بأن ، لأعملت فيهما رافعين مختلفين.

فإن قلت : فقوله «والصابئون» معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو؟ قلت : مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ولا محل لها ، كما لا محل للتى عطفت عليها.

فإن قلت : ما التقديم والتأخير إلا لفائدة ، فما فائدة هذا التقديم؟ قلت : فائدته التنبيه على أن «الصابئين» أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدهم غيّا ، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها ، أى خرجوا. كما أن الشاعر قدم قوله «وأنتم» تنبيها على أن المخاطبين أو غل فى الوصف بالبغاة من قومه ، حيث عاجل به قبل الخبر الذى هو «بغاة» ، لئلا يدخل قومه فى البغى قبلهم ، مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدما.

فإن قلت : فلو قيل : والصابئين وإياكم ، لكان التقديم حاصلا؟ قلت : لو قيل هكذا لم يكن من التقديم فى شىء ، لأنه لا إزالة فيه عن موضعه ، وإنما يقال : مقدم ومؤخر ، للمزال لا للقارّ فى مكانه ، ومجرى هذه الجملة مجرى الاعتراض فى الكلام.

وقال الزمخشرى (٣) : (وَالْمُقِيمِينَ) (النساء : ١٦٢) نصب على المدح لبيان فضل الصلاة ، وهو باب واسع. وقد كسّره سيبويه على أمثلة وشواهد ، ولا يلتفت إلى ما زعموا من وقوعه لحنا فى خط المصحف.

__________________

(١) الكشاف : (١ : ٦٦٠ ـ ٦٦١ طبعة الاستقامة).

(٢) الكتاب : (١ : ٢٩٠).

(٣) الكشاف (١ : ٥٩٠).

٣٥٩

وربما التفت إليه من لم ينظر فى الكتاب ، ولم يعرف مذاهب العرب وما لهم فى النصب على الاختصاص من الافتنان ، وخفى عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم فى التوراة ومثلهم فى الإنجيل ، كانوا أبعد همة فى الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا فى كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من لحق بهم.

وقيل : هو عطف على (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أى يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة ، وهم الأنبياء. وفى مصحف عبد الله (والمقيمون) بالواو ، هى قراءة مالك بن دينار ، والجحدرى ، وعيسى الثقفى.

وقال الزمخشرى (١) : (وَأَكُنْ) (المنافقون : ١٠) عطفا على محل «فأصدق». كأنه قيل : إن أخرتنى أصدق وأكن. ومن قرأ «وأكون» على النصب ، فعلى اللفظ. وقرأ عبيد بن عمير «وأكون» على الرفع ، وتقديره : وأنا أكون ، عدة منه بالصلاح». وقال الزمخشرى (٢) : (إنّ هذان لساحران) (طه : ٦٣) : قرأ أبو عمرو : (إنّ هذين لساحران) ، على الجهة الظاهرة المكشوفة. وابن كثير وحفص : إنّ هذان لساحران ، على قولك : إن زيد لمنطلق. واللام هى الفارقة بين «إن» النافية والمخففة من الثقيلة. وقرأ «أبىّ» : إنّ ذان إلا ساحران. وقرأ ابن مسعود : أن هذان ساحران ، بفتح أن وبغير لام ، بدل من «النجوى». وقيل فى القراءة المشهورة ـ وهو يعنى المصحف الإمام ـ إنّ هذان لساحران ، هى لغة بلحارث بن كعب ، جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التى آخرها ألف ، كعصا وسعدى ، فلم يقلبوها فى الجر والنصب. وقال بعضهم : «إنّ» بمعنى : «نعم» و«ساحران» خبر مبتدأ محذوف ، واللام داخلة على الجملة ، تقديره : لهما ساحران ، وقد أعجب به أبو إسحاق.

وها أنت ذا ترى فى كلام الزمخشرى دليلا جديدا يؤيد ما قلنا من قبل عن القراءات السبع فى القرآن وأنها لغات العرب جاءت مبثوثة فى القرآن ، وبها كلها يتجه الكلام.

وأما ما جاء معزوّا إلى عائشة ، فما نظن عائشة تسكت على خطأ الكتّاب فى كتاب الله وترضى به يشيع ويخرج عن المدينة إلى الأمصار ، ولم تكن بعيدة عن عثمان ولا عن الصحابة الكاتبين ، وما نظنها كانت أقل منهم حرصا على سلامة كتاب الله ، وحسبك ما قدمه الزمخشرى فى هذه.

__________________

(١) الكشاف (٤ : ٥٤٤).

(٢) الكشاف (٣ : ٧٢).

٣٦٠