٩١ ـ حج أبى بكر بالناس
ثم أقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقية شهر رمضان وشوالا وذا القعدة ، ثم بعث أبا بكر أميرا على الحج من سنة تسع ، ليقيم للمسلمين حجتهم ، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم. فخرج أبو بكر رضى الله عنه ومن معه من المسلمين.
ونزلت براءة فى نقض ما بين رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبين المشركين من العهد ، الذى كان عليه فيما بينه وبينهم : ألا يصد عن البيت أحد جاءه ، ولا يخاف أحد فى الشهر الحرام. وكان ذلك عهدا عاما بينه وبين الناس من أهل الشرك.
وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبين قبائل من العرب خصائص ، إلى آجال مسماة ، فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه فى تبوك ، وفى قول من قال منهم ، فكشف الله تعالى فيها أسرار أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون.
* * *
٩٢ ـ سنة الوفود وهى سنة تسع.
وكانت تبوك آخر غزوة غزاها رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
ولما افتتح رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكة ، وفرغ من تبوك ، وأسلمت ثقيف وبايعت ، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه. وإنما كانت العرب تربص بالإسلام أمر هذا الحى من قريش ، وأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وذلك أن قريشا كانوا إمام الناس وهاديهم ، وأهل البيت الحرام ،
وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم عليهماالسلام ، وقادة العرب لا ينكرون ذلك ، وكانت قريش هى التى نصبت لحرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وخلافه. ولما افتتحت مكة ، ودانت له قريش ، ودوخها الإسلام ، وعرفت العرب أنه لا طاقة لها بحرب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا عداوته ، فدخلوا فى دين الله ، كما قال عزوجل ، أفواجا ، يضربون إليه من كل وجه.
فقدمت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وفود العرب. فقدم عليه عطارد بن حاجب بن زرارة بن عدس التميمى ، فى أشراف بنى تميم.
وقدم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وفد بنى عامر ، فيهم عامر ابن الطفيل.
فقدم عامر بن الطفيل عدو الله ، على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهو يريد الغدر به ، وقد قال له قومه : يا عامر ، إن الناس قد أسلموا فأسلم. قال : والله لقد كنت آليت ألا أنتهى حتى تتبع العرب عقبى ، فأنا أتبع عقب هذا الفتى من قريش! ثم قال لأربد : إذا قدمنا على الرجل ، فإنى سأشغل عنك وجهه ، فإذا فعلت ذلك فاعله بالسيف. فلما قدموا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال عامر بن الطفيل : يا محمد ، خالنى (١) ، قال : لا والله حتى تؤمن بالله وحده. قال : يا محمد ، خالنى. وجعل يكلمه وينتظر من أريد ما كان أمره به ، فجعل أريد لا يحير شيئا. فلما رأى عامر ما يصنع أربد ، قال : يا محمد ، خالنى ، قال : لا ، حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له. فلما أبى عليه
__________________
(١) خالنى : أى تفرد لى خاليا أتحدث معك.
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : قال : أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا. فلما ولى قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : اللهم اكفنى عامر بن الطفيل. فلما خرجوا من عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال عامر لأربد : ويلك يا أربد! أين ما كنت أمرتك به؟ والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندى على نفسى منك ، وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا. قال : لا أبا لك! لا تعجل علىّ ، والله ما هممت بالذى أمرتنى به من أمره ، إلا دخلت بينى وبين الرجل ، ما أرى غيرك ، أفأضربك بالسيف؟
وخرجوا راجعين إلى بلادهم ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون فى عنقه ، فقتله الله فى بيت امرأة من بنى سلول.
ثم خرج أصحابه ، حين واروه ، حتى قدموا أرض بنى عامر شاتين ، فلما قدموا أتاهم قومهم فقالوا : ما وراءك يا أربد؟ قال : لا شىء والله ، لقد دعانا إلى عبادة شىء لوددت أنه عندى الآن ، فأرميه بالنبل حتى أقتله ، فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين ، معه جمل له يتبعه ، فأرسل الله تعالى عليه وعلى جمله صاعقة ، فأحرقتهما. وكان أربد بن قيس أخا لبيد بن ربيعة لأمه.
وبعثت بنو سعد بن بكر إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم رجلا منهم ، يقال له : ضمام بن ثعلبة ، وافدا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقدم عليه وأناخ بعيره على باب المسجد ، ثم عقله ، ثم دخل المسجد ورسول الله صلىاللهعليهوسلم جالس فى أصحابه. وكان ضمام رجلا جلدا أشعر ذا غديرتين ، فأقبل حتى وقف على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى أصحابه ، فقال : أيكم ابن عبد المطلب؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أنا ابن عبد المطلب.
قال : أمحمد؟ قال : نعم ، قال : يا بن عبد المطلب ، إنى سائلك ومغلظ عليك فى المسألة ، فلا تجدن فى نفسك. قال : لا أجد فى نفسى ، فسل ما بدا لك. قال : أنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك وإله من هو كائن بعدك ، الله بعثك إلينا رسولا؟ قال : اللهم نعم. قال : فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، الله أمرك أن تأمرنا أن نعبده وحده ولا نشرك به شيئا ، وأن نخلع هذه الأنداد التى كان آباؤنا يعبدون معه؟ قال : اللهم نعم. قال : فأنشدك الله إلهك وإله من كان قبلك ، وإله من هو كائن بعدك ، آلله أمرك أن نصلى هذه الصلوات الخمس؟ قال : اللهم نعم. قال : ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة فريضة : الزكاة والصيام والحج وشرائع الإسلام كلها ، ينشده عند كل فريضة منها ، كما ينشده فى التى قبلها ، حتى إذا فرغ قال : فإنى أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا رسول الله ، وسأؤدى هذه الفرائض ، وأجتنب ما نهيتنى عنه ، ثم لا أزيد ولا أنقص. ثم انصرف إلى بعيره راجعا. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : إن صدق ذو العقيصتين دخل الجنة.
فأتى بعيره فأطلق عقاله ، ثم خرج حتى قدم على قومه ، فاجتمعوا إليه ، فكان أول ما تكلم به أن قال : بئست اللات والعزى. قالوا : مه يا ضمام! اتق البرص ، اتق الجذام ، اتق الجنون ، قال : ويلكم! إنهما والله لا يضران ولا ينفعان ، إن الله قد بعث رسولا ، وأنزل كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه ، وإنى أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ، وما نهاكم عنه.
فو الله ما أمسى من ذلك اليوم فى حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلما.
وقدم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم الجارود بن عمرو بن حنش ، أخو عبد القيس ، ولما انتهى إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم كلمه ، فعرض عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم الإسلام ، ودعاه إليه ، ورغبه فيه. فقال : يا محمد ، إنى كنت على دين ، وإنى تارك دينى لدينك ، أفتضمن لى دينى؟ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : نعم ، أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه. فأسلم وأسلم أصحابه ، ثم سأل رسول الله صلىاللهعليهوسلم الحملان (١) ، فقال : والله ما عندى ما أحملكم عليه. قال : يا رسول الله ، فإن بيننا وبين بلادنا ضوال من ضوال الناس ، أفنتبلغ عليها إلى بلادنا؟ قال : لا ، إياك وإياها فإنما تلك حرقى النار.
فخرج من عنده الجارود راجعا إلى قومه ، وكان حسن الإسلام ، صلبا على دينه ، حتى هلك وقد أدرك الردة. فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول ، مع الغرور بن المنذر بن النعمان بن المنذر ، قام الجارود فتكلم ، فتشهد شهادة الحق ، ودعا إلى الإسلام ، فقال : أيها الناس ، إنى أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأكفر من لم يشهد.
* * *
وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث العلاء بن الحضرمى قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوى العبدى ، فأسلم وحسن إسلامه ، ثم هلك بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قبل ردة أهل البحرين ، والعلاء عنده ، أميرا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم على البحرين.
* * *
__________________
(١) أى ما يحمله عليه.
وقدم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وفد بنى حنيفة ، فيهم مسيلمة ابن حبيب الحنفى الكذاب ، وكانوا قد خلفوا مسيلمة فى رحالهم ، فلما أسلموا ذكروا مكانه ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا قد خلفنا صاحبا لنا فى رحالنا وفى ركابنا يحفظها لنا ، فأمر له رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمثل ما أمر به للقوم ، ثم انصرفوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وجاءوه بما أعطاه. فلما انتهوا إلى اليمامة ارتد عدو الله ، وتنبأ وتكذب لهم ، وقال : إنى قد أشركت فى الأمر معه. ثم جعل يسجع لهم الأساجيع ، وأحل لهم الخمر والزنا ، ووضع عنهم الصلاة ، وهو مع ذلك يشهد لرسول الله صلىاللهعليهوسلم بأنه نبى.
* * *
وقدم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وفد طىء ، فيهم زيد الخيل ، وهو سيدهم ، فلما انتهوا إليه كلموه ، وعرض عليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم الإسلام ، فأسلموا ، فحسن إسلامهم. وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : ما ذكر لى رجل من العرب بفضل ثم جاءنى إلا رأيته دون ما يقال فيه ، إلا زيد الخيل ، فإنه لم يبلغ كل ما كان فيه ، ثم سماه رسول الله صلىاللهعليهوسلم : زيد الخير ، فخرج من عند رسول الله صلىاللهعليهوسلم راجعا إلى قومه ، فلما انتهى إلى ماء من مياهه ، أصابته الحمى بها فمات.
* * *
وأما عدى بن حاتم فكان يقول : ما من رجل من العرب كان أشد كراهية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم حين سمع به منى ، فلما سمعت برسول الله صلىاللهعليهوسلم كرهته ، فقلت لغلام كان لى عربى ، وكان راعيا لإبلى : لا أبا لك ، أعدد لى من إبلى أجمالا ذللا سمانا ، فاحتبسها
قريبا منى ، فإذا سمعت بجيش لمحمد قد وطئ هذه البلاد فآذنى ، ففعل. ثم إنه أتانى ذات غداة ، فقال : يا عدى ، ما كنت صانعا إذا غشيتك خيل محمد ، فاصنعه الآن ، فإنى قد رأيت رايات ، فسألت عنها فقالوا : هذه جيوش محمد. فقلت : فقرب إلى جمالى ، فقربها ، فاحتملت بأهلى وولدى ، ثم قلت : ألحق بأهل دينى من النصارى بالشام ، وخلفت بنتا لحاتم فى الحاضر ، فلما قدمت الشام أقمت بها.
وتخالفنى خيل لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فتصيب ابنة حاتم ، فيمن أصابت ، فقدم بها على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى سبايا من طيئ ، وقد بلغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم هربى إلى الشام. قال : فجعلت بنت حاتم فى حظيرة بباب المسجد ، كانت السبايا يحبسن فيها ، فمر بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقامت إليه ، وكانت امرأة جزلة ، فقالت : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن علىّ منّ الله عليك. قال : ومن وافدك؟ قالت : عدى بن حاتم. قال : الفار من الله ورسوله؟ قالت : ثم مضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتركنى ، حتى إذا كان من الغد مربى ، فقلت له مثل ذلك ، وقال لى مثل ما قال بالأمس. قالت : حتى إذا كان الغد ، مربى ، وقد يئست منه ، فأشار إلى رجل من خلفه : أن قومى فكلميه ، قالت : فقمت إليه ، فقلت : يا رسول الله ، هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن علىّ منّ الله عليك. فقال صلىاللهعليهوسلم : قد فعلت ، فلا تتعجلى بخروج ، حتى تجدى من قومك من يكون لك ثقة ، حتى يبلغك إلى بلادك ، ثم آذنينى. فسألت عن الرجل الذى أشار إلى أن أكلمه ، فقيل : على بن أبى طالب رضوان الله عليه ، وأقمت حتى قدم ركب من بلى أو قضاعة قالت : وإنما أريد أن آتى أخى بالشام. قالت : فجئت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقلت : يا رسول الله ،
قد قدم رهط من قومى ، لى فيهم ثقة وبلاغ. قالت : فكسانى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وحملنى وأعطانى نفقة ، فخرجت معهم ، حتى قدمت الشام. قال عدى : فو الله إنى لقاعد فى أهلى ، إذ نظرت إلى ظعينة تصوب إلى تؤمنا ، فقلت : ابنة حاتم؟ فإذا هى هى. فلما وقفت على ، أخذت فى اللوم تقول : القاطع الظالم ، احتملت بأهلك وولدك ، وتركت بقية والدك عورتك! قلت : أى أخية ، لا تقولى إلا خيرا ، فو الله ما لى من عذر ، لقد صنعت ما ذكرت.
قال : ثم نزلت فأقامت عندى ، فقلت لها ، وكانت امرأة حازمة : ما ذا ترين فى أمر هذا الرجل؟ قالت : أرى والله أن تلحق به سريعا ، فإن يكن الرجل نبيّا ، فللسابق إليه فضله ، وإن يكن ملكا ، فلن تذل فى عز اليمن ، وأنت أنت. قال : قلت : والله إن هذا الرأى.
قال : فخرجت حتى أقدم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة ، فدخلت عليه ، وهو فى مسجده ، فسلمت عليه ، فقال : من الرجل؟ فقلت : عدى بن حاتم ، فقام رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فانطلق بى إلى بيته ، فو الله إنه لعامد بى إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة ، فاستوقفته ، فوقف لها طويلا تكلمه فى حاجتها. قال : قلت فى نفسى : والله ما هذا بملك ، قال : ثم مضى بى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حتى إذا دخل بى بيته ، تناول وسادة من أدم محشوة ليفا ، فقذفها إلى ، فقال : اجلس على هذه ، قلت : بل أنت فاجلس عليها ، فقال : بل أنت ، فجلست عليها ، وجلس رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالأرض. قال : قلت فى نفسى : والله ما هذا بأمر ملك ، ثم قال : إيه يا عدى بن حاتم ، ألم تك ركوسيّا (١)؟ قلت : بلى. قال : أولم
__________________
(١) الركوسى ، من الركوسية ، وهو قوم لهم دين بين دين النصارى والصابئين.
تكن تسير فى قومك بالمرباع؟ قلت : بلى ، قال : فإن ذلك لم يكن يحل لك فى دينك؟ قلت : أجل والله. قال : وعرفت أنه نبى مرسل ، يعلم ما لا تعلم. ثم قال : لعلك يا عدى إنما يمنعك من دخول فى هذا الدين ، ما ترى من حاجتهم ، فو الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم ، حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ، ما ترى من كثرة عدوهم ، وقلة عددهم ، فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت ، لا تخاف ، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه ، أنك ترى أن الملك والسلطان فى غيرهم ، وايم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم ، قال : فأسلمت.
* * *
وقدم فروة بن مسبك المرادى على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، مفارقا لملوك كندة ، ومباعدا لهم ، إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وقد كان قبيل الإسلام بين مراد وهمدان وقعة ، أصابت فيها همدان من مراد ما أرادوا ، حتى أثخنوهم فى يوم كان يقال له : يوم الردم.
فلما انتهى إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : يا رسول الله ، من ذا يصيب قومه مثل ما أصاب قومى يوم الردم لا يسوؤه ذلك؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أما إن ذلك لم يزد قومك فى الإسلام إلا خيرا.
واستعمله النبى صلىاللهعليهوسلم على مراد وزبيد ومذحج كلها ، وبعث معه خالد بن سعيد بن العاص على الصدقة ، فكان معه فى بلاده ، حتى توفى رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
* * *
وقدم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم عمرو بن معديكرب فى أناس من بنى زبيد ، فأسلم ، وكان عمرو قد قال لقيس بن مكشوح المرادى ، حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم : يا قيس ، إنك سيد قومك ، وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز ، يقول إنه نبى ، فانطلق بنا إليه ، حتى نعلم علمه ، فإن كان نبيّا كما يقول ، فإنه لن يخفى عليك ، وإذا لقيناه اتبعناه ، وإن كان غير ذلك علمنا علمه. فأبى عليه قيس ذلك وسفه رأيه ، فركب عمرو بن معديكرب حتى قدم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وصدقه وآمن به.
فلما بلغ ذلك قيس بن مكشوح أوعد عمرا ، واشتد عليه ، وقال : خالفنى وترك رأيى. فأقام عمرو بن معديكرب فى قومه من بنى زبيد ، وعليهم فروة ابن مسيك. فلما توفى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ارتد عمرو بن معديكرب.
* * *
وقدم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم الأشعث بن قيس ، فى وفد كندة فى ثمانين راكبا من كندة ، فدخلوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم مسجده ، وقد رجلوا جممهم وتكحلوا عليهم جبب الحبرة ، وقد كففوها بالحرير. فلما دخلوا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : ألم تسلموا؟ قالوا : بلى. قال : فما بال هذا الحرير فى أعناقكم ، قال : فشقوه منها ، فألقوه.
* * *
وقدم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم صرد بن عبد الله الأزدى ، فأسلم ، وحسن إسلامه ، فى وفد من الأزد ، فأمره رسول الله صلىاللهعليهوسلم
على من أسلم من قومه ، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من كان يليه من أهل الشرك ، من قبل اليمن.
فخرج صرد بن عبد الله يسير بأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، حتى نزل بجرش ، وهى يومئذ مدينة مغلقة ، وبها قبائل من قبائل اليمن ، وقد ضمت إليهم خثعم ، فدخلوها معهم ، حين سمعوا بسير المسلمين إليهم. فحاصروهم فيها قريبا من شهر ، وامتنعوا فيها منه ، ثم إنه رجع عنهم قافلا ، حتى إذا كان إلى جبل لهم يقال له شكر ، ظن أهل جرش أنه إنما ولى عنهم منهزما ، فخرجوا فى طلبه ، حتى إذا أدركوه ، عطف عليهم ، فقتلهم قتلا شديدا.
* * *
ثم بعث رسول الله صلىاللهعليهوسلم خالد بن الوليد ، فى شهر ربيع الآخر أو جمادى الأولى ، سنة عشر ، إلى بنى الحارث بن كعب بنجران ، أمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم ثلاثا ، فإن استجابوا فأقبل منهم ، وإن لم يفعلوا فقاتلهم. فخرج خالد حتى قدم عليهم ، فبعث الركبان يضربون فى كل وجه ، ويدعون إلى الإسلام ، ويقولون : أيها الناس ، أسلموا تسلموا ، فأسلم الناس ، ودخلوا فيما دعوا إليه. فأقام فيهم خالد يعلمهم الإسلام ، وكتاب الله وسنة نبيّه صلىاللهعليهوسلم ، وبذلك كان أمره رسول الله صلىاللهعليهوسلم إن هم أسلموا ولم يقاتلوا.
* * *
وقدم على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى هدنة الحديبية ، قبل خيبر ، رفاعة بن زيد الجذامي ثم الضبيبى. فأهدى لرسول الله صلىاللهعليهوسلم
غلاما ، وأسلم ، فحسن إسلامه ، وكتب له رسول الله صلىاللهعليهوسلم كتابا إلى قومه.
* * *
وقدم وفد همدان على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فلقوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم مرجعه من تبوك.
٩٣ ـ حجة الوداع
ولما دخل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ذو القعدة ، تجهز للحج ، وأمر الناس بالجهاز له ، لا يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج. حتى إذا كان بسرف ، وقد ساق رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، معه الهدى وأشراف من أشراف الناس ، أمر الناس أن يحلوا بعمرة إلا من ساق الهدى.
ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان بعث عليّا رضى الله عنه إلى نجران ، فلقيه بمكة وقد أحرم ، فدخل على فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ورضى الله عنها ، فوجدها قد حلت وتهيأت ، فقال : مالك يا بنت رسول الله؟ قالت : أمرنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن نحل بعمرة ، فحللنا. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه ، وسلم فلما فرغ من الخبر عن سفره ، قال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : انطلق فطف بالبيت ، وحل كما حل أصحابك؟ قال : يا رسول الله ، إنى أهللت كما أهللت ، فقال : ارجع فاحلل كما حل أصحابك. قال : يا رسول الله ، إنى قلت حين أحرمت : اللهم إنى أهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك محمد صلىاللهعليهوسلم ، قال : فهل معك من هدى؟ قال : لا. فأشركه رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى هديه ، وثبت على إحرامه مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم حتى فرغ من الحج ونحر
رسول الله صلىاللهعليهوسلم الهدى عنهما.
* * *
ثم مضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم على حجه ، فأرى الناس مناسكهم ، وأعلمهم سنن حجهم ، وخطب الناس خطبته التى بين فيها ما بين ، وقضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم الحج ، وقد أراهم مناسكهم ، وأعلمهم ما فرض الله عليهم من حجهم : من الموقف ، ورمى الجمار ، وطواف بالبيت ، وما أحل لهم من حجهم ، وما حرم عليهم ، فكانت حجة البلاغ ، وحجة الوداع ، وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يحج بعدها.
* * *
ثم قفل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأقام بالمدينة بقية ذى الحجة والمحرم وصفر ، وضرب على الناس بعثا إلى الشام ، وأمر عليهم أسامة بن زيد ابن حارثة مولاه ، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتجهز الناس ، وأوعب مع أسامة بن زيد المهاجرون الأولون.
وقد كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعث إلى الملوك رسلا من أصحابه ، وكتب معهم إليهم يدعوهم إلى الإسلام.
* * *
وكان جميع ما غزا رسول الله صلىاللهعليهوسلم بنفسه سبعا وعشرين غزوة.
وكانت بعوثه صلىاللهعليهوسلم وسراياه ثمانية وثلاثين ، من بين بعث وسرية.
* * *
(م ١٨ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)
٩٤ ـ مرضه صلىاللهعليهوسلم وموته
ومرض رسول الله صلىاللهعليهوسلم فخرج يمشى بين رجلين من أهله : الفضل بن العباس ، وعلى بن أبى طالب ، عاصبا رأسه ، تخط قدماه ، حتى دخل بيت عائشة ، ثم غمر (١) رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، واشتد عليه وجعه ، فقال : هريقوا على سبع قرب من آبار شتى ، حتى أخرج إلى الناس ، فأعهد إليهم.
تقول عائشة : فأقعدناه فى مخضب (٢) لحفصة بنت عمر ، ثم صببنا عليه الماء حتى طفق يقول : حسبكم حسبكم.
ثم إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج عاصبا رأسه حتى جلس على المنبر ، ثم كان أول ما تكلم به أنه صلى على أصحاب أحد ، واستغفر لهم ، فأكثر الصلاة عليهم ، ثم قال : إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ما عند الله. ففهمها أبو بكر ، وعرف أن نفسه يريد ، فبكى وقال : بل نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا ، فقال : على رسلك يا أبا بكر ، ثم قال : انظروا هذه الأبواب اللافظة (٣) فى المسجد ، فسدوها إلا بيت أبى بكر ، فإنى لا أعلم أحدا كان أفضل فى الصحبة عندى يدا منه.
* * *
واستبطأ رسول الله صلىاللهعليهوسلم الناس فى بعث أسامة بن زيد ، وهو فى وجعه ، فخرج عاصبا رأسه ، حتى جلس على المنبر ، وقد كان الناس قالوا فى إمرة أسامة : أمّر غلاما حدثا على جلة المهاجرين والأنصار.
__________________
(١) أى أصابته غمرة المرض صلىاللهعليهوسلم.
(٢) المخضب : إناء يغسل فيه.
(٣) اللافظة : النافذة.
فحمد الله وأثنى عليه بما هو له أهل ، ثم قال : أيها الناس ، أنفذوا بعث أسامة ، فلعمرى لئن قلتم فى إمارته لقد قلتم فى إمارة أبيه من قبله ، وإنه لخليق للإمارة ، وإن كان أبوه لخليقا لها.
ثم نزل رسول الله صلىاللهعليهوسلم وانكمش (١) الناس فى جهازهم ، واستعز برسول الله صلىاللهعليهوسلم وجعه ، فخرج أسامة ، وخرج جيشه معه حتى نزلوا الجرف ، من المدينة على فرسخ ، فضرب به عسكره ، وتتام إليه الناس ، وثقل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأقام أسامة والناس ، لينظروا ما الله قاض فى رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فاجتمع إليه صلىاللهعليهوسلم نساء من نسائه : أم سلمة ، وميمونة ، ونساء من نساء المسلمين ، منهن : أسماء بنت عميس ، وعنده العباس عمه ، فأجمعوا أن يلدوه (٢). وقال العباس : لألدنه ، فلدوه. فلما أفاق رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال : من صنع بى هذا؟ قالوا : يا رسول الله ، عمك. قال : هذا دواء أتى به نساء جئن من نحو هذه الأرض ، وأشار نحو أرض الحبشة. ثم قال : ولم فعلتم ذلك؟ فقال عمه العباس : خشينا يا رسول الله أن يكون بك ذات الجنب ، فقال : إن ذلك لداء ما كان الله عزوجل ليقذفنى به ، لا يبق فى البيت أحد إلا لد إلا عمى ، فلقد لدت ميمونة وإنها لصائمة ، لقسم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، عقوبة لهم بما صنعوا به.
* * *
__________________
(١) انكمش : أسرع.
(٢) أى أن يجعلوا الدواء فى شق منه.
ويقول أسامة : لما ثقل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، هبطت وهبط الناس معى إلى المدينة ، فدخلت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وقد أصمت فلا يتكلم ، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها على ، فأعرف أنه يدعو لى.
* * *
ولما استعز برسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت عائشة : قلت : يا نبى الله ، إن أبا بكر رجل رقيق ، ضعيف الصوت ، كثير البكاء إذا قرأ القرآن. قال : مروه فليصل بالناس. قالت : فعدت بمثل قولى ، فقال : إنكن صواحب يوسف ، فمروه فليصل بالناس. قالت : فو الله ما أقول ذلك إلا أنى كنت أحب أن يصرف ذلك عن أبى بكر ، وعرفت أن الناس لا يحبون رجلا قام مقامه أبدا ، وأن الناس سيتشاءمون به فى كل حدث كان ، فكنت أحب أن يصرف ذلك عن أبى بكر.
* * *
ثم إنه لما كان يوم الاثنين الذى قبض الله فيه رسوله صلىاللهعليهوسلم ، خرج إلى الناس ، وهم يصلون الصبح ، فرفع الستر ، وفتح الباب ، فخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فقام على باب عائشة ، فكاد المسلمون يفتتنون فى صلاتهم برسول الله صلىاللهعليهوسلم حين رأوه ، فرحا به ، وتفرجوا ، فأشار إليهم : أن اثبتوا على صلاتكم. فتبسم رسول الله صلىاللهعليهوسلم سرورا لما رأى من هيئتهم فى صلاتهم ، وما رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم أحسن هيئة منه تلك الساعة ، ثم رجع وانصرف الناس وهم يرون أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد برئ من وجعه. فرجع أبو بكر إلى أهله بالسنح.
* * *
وتقول عائشة : رجع إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى ذلك اليوم حين دخل من المسجد ، فاضطجع فى حجرى ، فدخل على رجل من آل أبى بكر ، وفى يده سواك أخضر ، فنظر رسول الله صلىاللهعليهوسلم إليه فى يده نظرا عرفت أنه يريده ، فقلت : يا رسول الله ، أتحب أن أعطيك هذا السواك؟ قال : نعم ، فأخذته ، فمضغته له ، حتى لينته ، ثم أعطيته إياه فاستن كأشد ما رأيته يستن بسواك قط ، ثم وضعه. ووجدت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يثقل فى حجرى ، فذهبت أنظر فى وجهه ، فإذا بصره قد شخص ، وهو يقول : بل الرفيق الأعلى من الجنة ، فقلت : خيرت فاخترت والذى بعثك بالحق.
قالت : وقبض رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بين سحرى ونحرى ، حين اشتد الضحى من يوم الاثنين لاثنتى عشرة خلت من شهر ربيع الأول ، سنة عشرين من الهجرة وشهرين واثنى عشر يوما ، فوضعت رأسه على وسادة ، وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهى.
* * *
ولما توفى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قام عمر بن الخطاب ، فقال : إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد توفى ، وإن رسول الله صلىاللهعليهوسلم والله ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربه ، كما ذهب موسى بن عمران ، فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ، ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات. والله ليرجعن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما رجع موسى ، فليقطعن أيدى رجال وأرجلهم ، زعموا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم مات.
* * *
وأقبل أبو بكر ، حتى نزل على باب المسجد حين بلغه الخبر ، وعمر يكلم الناس ، فلم يلتفت إلى شىء ، حتى دخل على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فى بيت عائشة ، ورسول الله صلىاللهعليهوسلم مسجى فى ناحية البيت ، عليه برد حبرة. وأقبل حتى كشف عن وجه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم أقبل عليه فقبله ، ثم قال : بأبى أنت وأمى ، أما الموتة التى كتب الله عليك فقد ذقتها ، ثم لن تصيبك بعدها موتة أبدا ، ثم رد البرد على وجه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ثم خرج وعمر يكلم الناس ، فقال : على رسلك يا عمر ، أنصت ، فأبى إلا أن يتكلم. فلما رآه أبو بكر لا ينصت أقبل على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
أيها الناس ، إنه من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حىّ لا يموت. ثم تلا هذه الآية : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ).
فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية نزلت ، حتى تلاها أبو بكر يومئذ ، وأخذها الناس عن أبى بكر ، فإنما هى فى أفواههم.
قال عمر : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها ، فعقرت (١) ، حتى وقعت إلى الأرض ما تحملنى رجلاى ، وعرفت أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد مات.
__________________
(١) عفر : دهش.
ثم إن على بن أبى طالب ، والعباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، وقثم بن العباس ، وأسامة بن زيد ، وشقران مولى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، هم الذين تولوا غسله. وإن أوس بن خولى ، أحد بنى عوف بن الخزرج ، قال لعلى بن أبى طالب : أنشدك الله يا على ، وحظنا من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ـ وكان أوس من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأهل بدر ـ ادخل؟ فدخل فجلس ، وحضر غسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فأسنده على بن أبى طالب إلى صدره ، وكان العباس والفضل وقثم يقلبونه معه ، وكان أسامة بن زيد وشقران مولاه ، هما اللذان يصبان الماء عليه ، وعلىّ يغسله ، قد أسنده إلى صدره ، وعليه قميصه يدلكه به من ورائه ، لا يفضى بيده إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وعلى يقول : بأبى أنت وأمى ، ما أطيبك حيا وميتا! ولم ير من رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيئا مما يرى من الميت.
* * *
ولما أرادوا غسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم اختلفوا فيه ، فقالوا : والله ما ندرى أنجرد رسول الله صلىاللهعليهوسلم من ثيابه ، كما نجرد موتانا ، أو نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النوم ، حتى ما منهم رجل إلا ذقنه فى صدره ، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت ، لا يدرون من هو : أن اغسلوا النبى وعليه ثيابه. فقاموا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فغسلوه وعليه قميصه ، ويصبون الماء فوق القميص ، ويدلكونه والقميص دون أيديهم.
* * *
فلما فرغ من غسل رسول الله صلىاللهعليهوسلم كفن فى ثلاثة أثواب : ثوبين صحاريين (١) وبرد حبرة أدرج فيها إدراجا. ولما أرادوا أن يحفروا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكان أبو عبيدة بن الجراح يضرح كحفر أهل مكة ، وكان أبو طلحة زيد بن سهل هو الذى يحفر لأهل المدينة ، فكان يلحد فدعا العباس رجلين ، فقال لأحدهما : اذهب إلى أبى عبيدة بن الجراح ، وللآخر : اذهب إلى أبى طلحة ، اللهم خر لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فوجد صاحب أبى طلحة أبا طلحة ، فجاء به ، فلحد لرسول الله صلىاللهعليهوسلم.
* * *
فلما فرغ من جهاز رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم الثلاثاء وضع على سريره فى بيته. وقد كان المسلمون اختلفوا فى دفنه ، فقال قائل : ندفنه فى مسجده ، وقال قائل : بل ندفنه مع أصحابه ، فقال أبو بكر : إنى سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : ما قبض نبى إلا دفن حيث يقبض ، فرفع فراش رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذى توفى عليه ، فحفر له تحته. ثم دخل الناس على رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلون عليه أرسالا ، دخل الرجال ، حتى إذا فرغوا ، أدخل النساء ، حتى إذا فرغ النساء أدخل الصبيان. ولم يؤم الناس على رسول الله صلىاللهعليهوسلم أحد. ثم دفن رسول الله صلىاللهعليهوسلم من وسط اللّيل ليلة الأربعاء.
وكان الذين نزلوا فى قبر رسول الله صلىاللهعليهوسلم : على بن أبى طالب ، والفضل بن عباس ، وقثم بن عباس ، وشقران مولى رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
__________________
(١) نسبة إلى صحار : مدينة باليمن.