الموسوعة القرآنيّة - ج ١

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ١

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

يأت يريد حربا ، وإنما جاء زائرا للبيت ، ومعظما لحرمته. ثم قال لهم نحوا مما قال لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش فقالوا : يا معشر قريش ، إنكم تعجلون على محمد ، إن محمدا لم يأت لقتال ، وإنما جاء زائرا هذا البيت ، فاتهموهم وجبهوهم ، وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا ، فو الله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ، ولا تحدث بذلك عنا العرب.

ثم بعثوا إليه مكرز بن حفص ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقبلا قال : هذا رجل غادر. فلما انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلمه ، قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نحوا مما قال لبديل وأصحابه ، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم بعثوا إليه الحليس بن علقمة ، وكان يومئذ سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إن هذا من قوم يتألهون ، فابعثوا الهدى فى وجهه حتى يراه. فلما رأى الهدى يسيل عليه من عرض الوادى فى قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محله ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إعظاما لما رأى ، فقال لهم ذلك. فقالوا له : اجلس : فإنما أنت أعرابى لا علم لك.

* * *

ثم إن الحليس غضب عند ذلك ، وقال : يا معشر قريش ، والله ما على هذا خالفناكم ، ولا على هذا عاقدناكم ، أيصد عن بيت الله من جاء معظما له؟ والذى نفس الحليس بيده ، لتخلن بين محمد وبين ما جاء له ، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا له : مه ، كف عنا يا حليس ، حتى نأخذ لأنفسنا ما ترضى به.

٢٢١

ثم بعثوا إلى رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عروة بن مسعود الثقفى ، فقال : يا معشر قريش ، إنى قد رأيت ما يلقى منكم من بعثتموه إلى محمد إذ جاءكم ، من التعنيف وسوء اللفظ ، وقد سمعت بالذى نابكم ، فجمعت من أطاعنى من قومى ، ثم جئتكم حتى آسيتكم بنفسى ، قالوا : صدقت ، ما أنت عندنا بمتهم ، فخرج حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجلس بين يديه ، ثم قال : يا محمد ، أجمعت أوشاب الناس ، ثم جئت بهم إلى بيضتك لنفضها بهم ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وايم الله ، لكأنى بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا. وأبو بكر الصديق خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاعد ، فقال : أنحن ننكشف عنه؟ قال : من هذا يا محمد؟ قال : هذا ابن أبى قحافة ، قال : أما والله لو لا يد كانت لك عندى لكافأتك بها ، ولكن هذه بها ، ثم جعل يتناول لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يكلمه ، والمغيرة بن شعبة واقف على رأس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الحديد ، فجعل يقرع يده إذا تناول لحية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويقول : اكفف يدك عن وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قبل ألا تصل إليك ، فيقول عروة : ويحك! ما أفظعك وأغلظك! قال : فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له عروة : من هذا يا محمد؟ قال : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة ، قال : أى غدر! وهل غسلت سوأتك إلا بالأمس؟

أراد عروة بقوله هذا أن المغيرة بن شعبة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشر رجلا من بنى مالك ، من ثقيف ، فتهايج الحيان من ثقيف : بنو مالك رهط المقتولين ، والأحلاف رهط المغيرة ، فودى عروة المقتولين ثلاث عشر دية

٢٢٢

وأصلح ذلك الأمر.

فكلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنحو مما كلم به أصحابه ، وأخبره أنه لم يأت يريد حربا.

* * *

وقد رأى عروة ما يصنع به أصحابه فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش ، إنى قد جئت كسرى فى ملكه ، وقيصر فى ملكه ، والنجاشى فى ملكه ، وإنى والله ما رأيت ملكا فى قوم قط مثل محمد فى أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشىء أبدا ، فروا رأيكم.

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دعا خراش بن أمية الخزاعى ، فبعثه إلى قريش بمكة وحمله على بعير له ، يقال له : الثعلب ، ليبلغ أشرافهم عنه ما جاء له. فعقروا به جمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأرادوا قتله ، فمنعته الأحابيش ، فخلوا سبيله ، حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم إن قريشا كانوا بعثوا أربعين رجلا منهم ، أو خمسين رجلا ، وأمروهم أن يطيفوا بمعسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليصيبوا لهم من أصحابه أحدا ، فأخذوا أخذا ، فأتى بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعفا عنهم ، وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا فى معسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجارة والنبل.

ثم دعا عمر بن الخطاب ، ليبعثه إلى مكة ، فيبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال : يا رسول الله ، إنى أخاف قريشا على نفسى ، وليس بمكة من بنى عدى ابن كعب أحد يمنعنى. وقد عرفت قريش عداوتى إياها ، وغلظتى عليها ، ولكنى أدلك على رجل أعز بها منى : عثمان بن عفان. فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان بن عفان ، فبعثه إلى أبى سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم

٢٢٣

أنه لم يأت لحرب ، وأنه إنما جاء زائرا لهذا البيت ، ومعظما لحرمته. فخرج عثمان إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد بن العاص ، حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه ، ثم أجاره ، حتى بلغ رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فانطلق عثمان حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، فبلغهم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. واحتبسته قريش عندها فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون أن عثمان ابن عفان قد قتل.

* * *

٨١ ـ بيعة الرضوان

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال ، حين بلغه أن عثمان قد قتل : لا نبرح حتى نناجز القوم. فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس إلى البيعة ، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الموت. وكان جابر بن عبد الله يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبايعنا على الموت ، ولكن بايعنا على ألا نفر.

فبايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس ، ولم يتخلف عنه أحد من المسلمين حضرها ، إلا الجد بن قيس ، أخو بنى سلمة ، فكان جابر ابن عبد الله يقول : والله لكأنى أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته ، يستتر بها من الناس.

٢٢٤

ثم أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الذى ذكر من أمر عثمان باطل.

٨٢ ـ الهدنة

ثم بعثت قريش سهيل بن عمرو ، أخا بنى عامر بن لؤى ، إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا له : ايت محمدا فصالحه ، ولا يكن فى صلحه إلا ان يرجع عنا عامه هذا ، فو الله لا تحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا. فأتاه سهيل بن عمرو ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقبلا ، قال : قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل. فلما انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تكلّم ، فأطال الكلام ، وتراجعا ، ثم جرى بينهما الصلح.

فلما التأم الأمر ، ولم يبق إلا الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب ، فأتى أبا بكر ، فقال : يا أبا بكر ، أليس برسول الله؟ قال : بلى ، قال : أو لسنا بالمسلمين؟ قال : بلى ، قال : أو ليسوا بالمشركين؟ قال : بلى ، قال : فعلام نعطى الدنية فى ديننا؟ قال أبو بكر : يا عمر ، الزم غرزه (١) ، فإنى أشهد أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله. ثم أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، ألست برسول الله؟ قال : بلى ، قال : أولسنا بالمسلمين؟ قال : بلى ، قال : أوليسوا بالمشركين؟ قال : بلى. قال : فعلام نعطى الدنية فى ديننا؟ قال : أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيعنى!

فكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم وأصلى وأعتق ، من

__________________

(١) الزم غرزه : الزم أمره.

(م ١٥ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)

٢٢٥

الذى صنعت يومئذ ، مخافة كلامى الذى تكلمت به ، حتى رجوت أن يكون خيرا.

* * *

ثم دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بن أبى طالب رضوان الله عليه ، فقال : اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اكتب باسمك اللهم ، فكتبها. ثم قال : اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو ، فقال سهيل : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك ، ولكن اكتب : اسمك واسم أبيك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله ، سهيل بن عمرو ، اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر منين يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض ، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم ، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه ، وأنه من أحب أن يدخل فى عقد محمد وعهده دخل فيه ، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن فى عقد محمد وعهده ، وتواثبت بنو بكر ، فقالوا : نحن فى عقد قريش وعهدهم ، وإنك ترجع عنا عامك هذا ، فلا تدخل علينا مكة ، وإنه إذا كان عام قابل ، خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك ، فأقمت بها ثلاثا ، معك سلاح الراكب ، السيوف فى القرب ، لا تدخلها بغيرها.

* * *

٢٢٦

قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليشد العقد ، ويزيد فى المدة ، وقد رهبوا الذى صنعوا. فلما لقى أبو سفيان بديل بن ورقاء ، قال : من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : تسيرت فى خزاعة فى هذا الساحل ، وفى بطن هذا الوادى ، قال : أو ما جئت محمدا! قال : لا. فلما راح بديل إلى مكة ، قال أبو سفيان : لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى ، فأتى مبرك راحلته ، فأخذ من بعرها ففته ، فرأى فيه النوى ، فقال : أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا.

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبى سفيان. فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طوته عنه ، فقال : يا بنية ، ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش أم رغبت به عنى؟ قالت : بل هو فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : والله لقد أصابك يا بنية بعدى شر ، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلمه ، فلم يرد عليه شيئا ، ثم ذهب إلى أبى بكر ، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ما أنا بفاعل ، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه ، فقال : أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.

ثم خرج فدخل على علىّ بن أبى طالب رضوان الله عليه ، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورضى عنها ، وعندها الحسن بن علىّ ، غلام يدب بين يديها ، فقال : يا على ، إنك أمس القوم بى رحما ، وإنى قد جئت فى حاجة ، فلا أرجعن كما جئت خائبا ، فاشفع لى إلى رسول الله ، فقال : ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمر ، ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال : يا ابنة محمد ، هل لك أن تأمرى بنيك هذا فيجير بين

٢٢٧

ومحمود بن مسلمة ، ومكرز بن حفص ، وهو يومئذ مشرك ، وعلى بن أبى طالب ، وكتب ، وكان هو كاتب الصحيفة.

فلما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصلح قدم إلى هديه فنحره ، ثم جلس فحلق رأسه. فلما رأى الناس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد نحر وحلق ، تواثبوا ينحرون ويحلقون.

* * *

ثم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجهه ذلك قافلا ، حتى إذا كان بين مكة والمدينة ، نزلت سورة الفتح. فما فتح فى الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ، وإنما كان القتال حيث التقى الناس ، فلما كانت الهدنة ، ووضعت الحرب ، وأمن الناس بعضهم بعضا ، والتقوا فتفاوضوا فى الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه ، ولقد دخل فى تينك السنتين مثل من كان فى الإسلام قبل ذلك ، أو أكثر.

* * *

٨٣ ـ غزوة خيبر

ثم أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، حين رجع من الحديبية ، ذا الحجة وبعض المحرم ، ثم خرج فى بقية المحرم إلى خيبر.

واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثى ، ودفع الراية إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه ، وكانت بيضاء.

ويقول أنس بن مالك : وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا غزا قوما لم يغر عليهم حتى يصبح ، فإن سمع أذانا أمسك ، وإن لم يسمع أذانا أغار. فنزلنا خيبر ليلا ، فبات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إذا أصبح لم يسمع أذانا ، فركب وركبنا معه ، فركبت خلف أبى طلحة ، وإن قدمى لتمس قدم

٢٢٨

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستقبلنا عمال خيبر غادين ، قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم ، فلما رأوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والجيش ، قالوا : محمد والخميس معه! فأدبروا هرابا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله أكبر ، خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين!

وتدنى (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأموال يأخذها مالا مالا ، ويفتحها حصنا حصنا ، وأصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم سبايا ، منهن : صفية بنت حيى بن أخطب وكانت عند كنانة بن الربيع بن أبى الحقيق وبنتى عم لها ، فاصطفى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفية لنفسه.

وكان دحية بن خليفة الكلبى قد سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صفية ، فلما اصطفاها لنفسه ، أعطاه ابنتى عمها ، وفشت السبايا من خيبر فى المسلمين.

* * *

وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بكنانة بن الربيع ، وكان عنده كنز بنى النضير ، فسأله عنه ، فجحد أن يكون يعرف مكانه ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من يهود ، فقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنى رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكنانة : أرأيت إن وجدناه عندك : أأقتلك؟ قال : نعم. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخربة فحفرت ، فأخرج منها بعض كنزهم ، ثم سأله عما بقى ، فأبى أن يؤديه ، فأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الزبير بن العوام ، فقال : عذبه حتى تستأصل ما عنده ، فكان الزبير يقدح بزند فى صدره حتى أشرف على نفسه ، ثم دفعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى محمد بن مسلمة ، فضرب عنقه بأخيه محمود بن مسلمة.

__________________

(١) تدنى : أخذ الأدنى فالأدنى.

٢٢٩

فلما اطمأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أعدت له زينب بنت الحارث ، امرأة سلام بن مشكم ، شاة مصلية (١) ، وقد سألت : أى عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقيل لها : الذراع ، فأكثرت فيها السم ، ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها ، فلما وضعتها بين يدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تناول الذراع ، فلاك منها مضغة ، فلم يسغها ، ومعه بشر بن البراء ابن معرور ، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأما بشر فأساغها ، وأما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلفظها ، ثم قال : إن هذا العظم ليخبرنى أنه مسموم ، ثم دعا بها ، فاعترفت ، فقال : ما حملك على ذلك؟ قالت : بلغت من قومى ما لم يخف عليك ، فقلت : إن كان ملكا استرحت منه ، وإن كان نبيّا فسيخبر ، فتجاوز عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومات بشر من أكلته التى أكل.

* * *

فلما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خيبر ، قذف الله الرعب فى قلوب أهل فدك ، حين بلغهم ما أوقع الله تعالى بأهل خيبر ، فبعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويصالحونه على النصف من فدك ، فقدمت عليه رسلهم بخيبر ، أو بالطائف ، أو بعد ما قدم المدينة ، فقبل ذلك منهم ، فكانت فدك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالصة ، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب.

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم فتح خيبر جعفر بن أبى طالب رضى الله عنه ، فقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين عينيه والتزمه وقال : ما أدرى بأيهما أنا أسر : بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟

* * *

__________________

(١) مصلية : مشوية.

٢٣٠

٨٤ ـ عمرة القضاء

فلما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة من خيبر ، أقام بها شهرى ربيع وجماديين ورجبا وشعبان ورمضان ، وشوالا ، يبعث فيما بين ذلك من غزوه وسراياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم خرج فى ذى القعدة فى الشهر الذى صده فيه المشركون معتمرا عمرة القضاء مكان عمرته التى صدوه عنها. واستعمل على المدينة عويف بن الأضبط الديلى ، ويقال لها : عمرة القصاص ، لأنهم صدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى ذى القعدة فى الشهر الحرام من سنة ست ، فاقتص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم. فدخل مكة فى ذى القعدة وفى الشهر الحرام الذى صدوه فيه ، من سنة سبع.

وخرج معه المسلمون ممن كان صد معه فى عمرته تلك ، وهى سنة سبع ، فلما سمع به أهل مكة خرجوا عنه ، وتحدثت قريش بينها أن محمدا وأصحابه فى عسرة وجهد وشدة ، وصفوا له عند دار الندوة ، لينظروا إليه ، وإلى أصحابه ، فلما دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد اضطجع بردائه ، وأخرج عضده اليمنى ، ثم قال : رحم الله أمرا أراهم اليوم من نفسه قوة ، ثم استلم الركن وخرج يهرول ويهرول أصحابه معه ، حتى إذا واراه البيت منهم واستلم الركن اليمانى ، مشى حتى يستلم الركن الأسود ، ثم هرول كذلك ثلاثة أطواف ، ومشى سائرها فكان ابن عباس يقول : كان الناس يظنون أنها ليست عليهم ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما صنعها لهذا الحى من قريش للذى بلغه عنهم ، حتى إذا حج حجة الوداع فلزمها ، فمضت السنة بها.

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تزوج ميمونة بنت الحارث فى سفره ذلك وهو حرام ، وكان الذى زوجه إياها العباس بن عبد المطلب ، وكانت

٢٣١

جعلت أمرها إلى أختها أم الفضل ، وكانت أم الفضل تحت العباس ، فجعلت أم الفضل أمرها إلى العباس ، فزوجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ، وأصدقها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعمائة درهم.

* * *

فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ثلاثا ، فأتاه حويطب بن عبد العزى فى نفر من قريش ، فى اليوم الثالث ، وكانت قريش قد وكلته بإخراج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، فقالوا له : إنه قد انقضى أجلك ، فأخرج عنا. فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما عليكم لو تركتمونى فأعرست بين أظهركم ، وصنعنا لكم طعاما فحضرتموه؟ قالوا : لا حاجة لنا فى طعامك ، فأخرج عنا. فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخلف أبا رافع مولاه على ميمونة ، حتى أتاه بها بسرف ، فبنى بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هنا لك ، ثم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة فى ذى الحجة ، فأقام بها بقية ذى الحجة ، والمحرم وصفر وشهرى ربيع.

* * *

٨٥ ـ غزوة مؤتة

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثة إلى مؤتة ، فى جمادى الأولى سنة ثمان ، واستعمل عليهم زيد بن حارثة ، وقال : إن أصيب زيد فجعفر بن أبى طالب على الناس ، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس.

فتجهز الناس ثم تهيئوا للخروج ، وهم ثلاثة آلاف ، فلما حضر خروجهم ، ودع الناس أمراء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسلموا عليهم ، فلما ودع عبد الله بن رواحة من ودع ، من أمراء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بكى ،

٢٣٢

فقالوا : ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال : أما والله ما بى حب الدنيا ولا صبابة بكم ، ولكنى سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ آية من كتاب الله عزوجل ، يذكر فيها النار (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) ، فلست أدرى كيف لى بالصدور بعد الورود؟ فقال المسلمون : صحبكم الله ودفع عنكم ، وردكم إلينا صالحين. ثم خرج القوم ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يودعهم ، ثم مضوا حتى نزلوا معان ، من أرض الشام ، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب ، من أرض البلقاء ، فى مائة ألف من الروم ، وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلى ، مائة ألف منهم ، فلما بلغ ذلك المسلمون أقاموا على معان ليلتين ، يفكرون فى أمرهم ، وقالوا : نكتب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنخبره بعدد عدونا ، فإما أن يمدنا بالرجال ، وإما أن يأمرنا بأمره ، فنمضى له. فشجع الناس عبد الله بن رواحة ، وقال : يا قوم ، والله إن التى تكرهون ، للتى خرجتم تطلبون الشهادة ، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة ، ما تقاتلهم إلا بهذا الدين الذى أكرمنا الله به ، فانطلقوا فإنما هى إحدى الحسنيين : إما ظهور ، وإما شهادة. فقال الناس : قد والله صدق ابن رواحة.

فمضى الناس ، حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء ، لقيتهم جموع هرقل ، من الروم والعرب ، بقرية من قرى البلقاء ، يقال لها : مشارف ، ثم دنا العدو ، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها : مؤتة ، فالتقى الناس عندها ، فتعبأ لهم المسلمون ، فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بنى عذرة ، يقال له : قطبة بن قتادة ، وعلى ميسرتهم رجلا من الأنصار ، يقال له : عباية بن مالك ، ثم التقى الناس واقتتلوا ، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى شاط (١) فى رماح القوم.

__________________

(١) شاط : سال دمه فهلك.

٢٣٣

ثم أخذها جعفر ، فقاتل بها ، حتى إذا ألجمه القتال ، اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها ثم قاتل القوم حتى قتل ، فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر فى الإسلام ، أخذ اللواء بيمينه فقطعت ، فأخذه بشماله فقطعت ، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضى الله عنه ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ، فأثابه الله بذلك جناحين فى الجنة يطير بهما حيث شاء.

فلما قتل جعفر ، أخذ عبد الله بن رواحة الراية ، ثم تقدم بها ، وهو على فرسه ، فجعل يستنزل نفسه ، ويتردد بعض التردد ، ثم نزل. فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم ، فقال : شد بهذا صلبك ، فإنك قد لقيت فى أيامك هذه ما لقيت ، فأخذه من يده ، ثم انتهش منه نهشة ، ثم سمع الحطمة (١) فى ناحية الناس ، فقال : وأنت فى الدنيا! ثم ألقاه من يده ، ثم أخذ سيفه فتقدم ، فقاتل حتى قتل.

ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم ، أخو بنى العجلان ، فقال : يا معشر المسلمين ، اصطلحوا على رجل منكم ، قالوا : أنت ، قال : ما أنا بفاعل ، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ، فلما أخذ الراية دافع القوم ، وحاشى بهم ، ثم انحاز وانحيز عنه ، حتى انصرف بالناس.

ولما أصيب القوم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخذ الراية زيد بن حارثة ، فقاتل بها حتى قتل شهيدا ، ثم أخذها جعفر ، فقاتل بها حتى قتل شهيدا ، ثم صمت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تغيرت وجوه الأنصار ، وظنوا أنه قد كان فى عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون ، ثم قال : ثم أخذها عبد الله بن رواحة ، فقاتل بها حتى قتل شهيدا ، ثم قال : لقد رفعوا إلى فى الجنة ، فيما يرى النائم ، على سرر من ذهب ، فرأيت فى سرير

__________________

(١) الحطمة : زحام الناس.

٢٣٤

عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريرى صاحبيه ، فقلت : عم هذا؟ فقيل لى : مضيا ، وتردد عبد الله بعض التردد ، ثم مضى.

* * *

ولما دنوا من حول المدينة ، تلقاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، ولقيهم الصبيان يشتدون ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مقبل مع القوم على دابة ، فقال : خذوا الصبيان فاحملوهم ، وأعطونى ابن جعفر ، فأتى بعبد الله ، فأخذه فحمله بين يديه ، وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ، ويقولون : يا فرار ، فررتم فى سبيل الله! فيقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى.

* * *

ثم أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد بعثه إلى مؤتة جمادى الآخرة ورجبا.

* * *

٨٦ ـ فتح مكة :

ثم إن بنى بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة ، وهم على ماء لهم بأسفل مكة ، وكان الذى هاج ما بين بنى بكر وخزاعة ، أن رجلا من بنى الحضرمى ، خرج تاجرا ، فلما توسط أرض خزاعة ، عدوا عليه فقتلوه ، وأخذوا ماله ، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه ، فبينا بنو بكر وخزاعة على ذلك حجز بينهم الإسلام ، وتشاغل الناس به ، فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين قريش ، كان فيما شرطوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشرط لهم ، أنه من أحب أن يدخل فى عقد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعهده فليدخل فيه ، ومن أحب أن يدخل فى عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه ، فدخلت بنو بكر فى عقد قريش وعهدهم ، ودخلت خزاعة فى عقد

٢٣٥

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعهده. فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل ، من بنى بكر من خزاعة ، وأرادوا أن يصيبوا منها ثأرا ، ورفدت بنى بكر قريش بالسلاح ، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا ، حتى حازوا خزاعة إلى الحرم.

فلما تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة ، وأصابوا منهم ما أصابوا ، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العهد والميثاق ، بما استحلوا من خزاعة ـ وكانوا فى عقده وعهده ـ خرج عمرو بن سالم الخزاعى ، أحد بنى كعب ، حتى قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ـ وكان ذلك مما هاج فتح مكة ـ فوقف عليه وهو جالس فى المسجد بين ظهرانى الناس ، فقال :

يا رب إنى ناشد محمدا

حلف أبينا وأبيه الأتلدا

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نصرت يا عمرو بن سالم. ثم عرض لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنان من السماء ، فقال : إن هذه السحابة لتستهل بنصر بنى كعب.

* * *

ثم خرج بديل بن ورقاء فى نفر من خزاعة ، حتى قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فأخبروه بما أصيب منهم ، وبمظاهرة قريش بنى بكر عليهم ، ثم انصرفوا راجعين إلى مكة ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للناس : كأنكم بأبى سفيان قد جاءكم ليشد العقد ، ويزيد فى المدة.

ومضى بديل بن ورقاء وأصحابه حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان ،

٢٣٦

قد بعثته قريش إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليشد العقد ، ويزيد فى المدة ، وقد رهبوا الذى صنعوا. فلما لقى أبو سفيان بديل بن ورقاء ، قال : من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : تسيرت فى خزاعة فى هذا الساحل ، وفى بطن هذا الوادى ، قال : أو ما جئت محمدا! قال : لا. فلما راح بديل إلى مكة ، قال أبو سفيان : لئن جاء بديل المدينة لقد علف بها النوى ، فأتى مبرك راحلته ، فأخذ من بعرها ففته ، فرأى فيه النوى ، فقال : أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا.

ثم خرج أبو سفيان حتى قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة بنت أبى سفيان. فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، طوته عنه ، فقال : يا بنية ، ما أدرى أرغبت بى عن هذا الفراش أم رغبت به عنى؟ قالت : بل هو فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : والله لقد أصابك يا بنية بعدى شر ، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكلمه ، فلم يرد عليه شيئا ، ثم ذهب إلى أبى بكر ، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : ما أنا بفاعل ، ثم أتى عمر بن الخطاب فكلمه ، فقال : أأنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فو الله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به.

ثم خرج فدخل على علىّ بن أبى طالب رضوان الله عليه ، وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ورضى عنها ، وعندها الحسن بن علىّ ، غلام يدب بين يديها ، فقال : يا على ، إنك أمس القوم بى رحما ، وإنى قد جئت فى حاجة ، فلا أرجعن كما جئت خائبا ، فاشفع لى إلى رسول الله ، فقال : ويحك يا أبا سفيان! والله لقد عزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أمر ، ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة فقال : يا ابنة محمد ، هل لك أن تأمرى بنيك هذا فيجير بين

٢٣٧

الناس ، فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت : والله ما بلغ بنى ذاك أن يجير بين الناس ، وما يجير أحد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : يا أبا الحسن ، إنى أرى الأمور قد اشتدت على ، فانصحنى. قال : والله ما أعلم لك شيئا يغنى عنك شيئا ، ولكنك سيد بنى كنانة ، فقم فأجر بين الناس ، ثم الحق بأرضك ، قال : أو ترى ذلك مغنيا عنى شيئا؟ قال : لا والله ما أظنه ، ولكنى لا أجد لك غير ذلك.

فقام أبو سفيان فى المسجد ، فقال : أيها الناس ، إنى قد أجرت بين الناس ، ثم ركب بعيره فانطلق. فلما قدم على قريش ، قالوا : ما وراءك؟ قال : جئت محمدا فكلمته ، فو الله مارد علىّ شيئا ، ثم جئت ابن أبى قحافة ، فلم أجد فيه خيرا ، ثم جئت عليّا فوجدته ألين القوم ، وقد أشار على بشيء صنعته ، فو الله ما أدرى هل يغنى ذلك شيئا أم لا؟ قالوا : ويلك! والله إن زاد الرجل على أن لعب بك ، فما يغنى عنك ما قلت ، قال : لا والله ، ما وجدت غير ذلك.

* * *

وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجهاز ، وأمر أهله أن يجهزوه ، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة رضى الله عنها ، وهى تحرك بعض جهاز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أى بنية : أأمركم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تجهزوه؟ قالت : نعم ، فتجهز ، قال : فأين قرينه يريد؟ قالت : لا والله ما أدرى.

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة ، وأمرهم بالجهد والتهيؤ ، وقال : اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها فى بلادها. فتجهز الناس.

٢٣٨

ولما أجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسير إلى مكة ، كتب حاطب ابن أبى بلتعة كتابا إلى قريش يخبرهم بالذى أجمع عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأمر ، فى السير إليهم ، ثم أعطاه امرأة ، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا ، فجعلته فى رأسها ، ثم فتلت قرونها ، ثم خرجت به. وأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث على بن أبى طالب والزبير ابن العوام ، رضى الله عنهما ، فقال : أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بن أبى بلتعة بكتاب إلى قريش ، يحذرهم ما قد أجمعنا له فى أمرهم. فخرجا حتى أدركاها بالخليفة (١) فاستنزلاها ، فالتمسا فى رحلها ، فلم يجدا شيئا ، فقال لها على ابن أبى طالب : إنى أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا كذبنا ، ولتخرجن لنا هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه ، قالت : أعرض ، فأعرض ، فحلت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه ، فأتى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حاطبا ، فقال : يا حاطب ، ما حملك على هذا؟ فقال : يا رسول الله ، أما والله إنى لمؤمن بالله ورسوله ، ما غيرت ولا بدلت ، ولكنى كنت امرأ ليس لى فى القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لى بين أظهرهم ولد وأهل ، فصانعتهم عليهم. فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ، دعنى فلأضرب عنقه ، فإن الرجل قد نافق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وما يدريك يا عمر ، لعل الله قد اطلع إلى أصحاب بدر يوم بدر ، فقال : اعملوا ما شئتم ، فقد غفرت لكم.

* * *

__________________

(١) الخليفة : موضع.

٢٣٩

ثم مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسفره ، واستخلف على المدينة أبا رهم ، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفارى ، وخرج لعشر مضين من رمضان ، فصام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وصام الناس معه ، حتى إذا كان بالكديد ، بين عسفان وأمج ، أفطر. ثم مضى حتى نزل مر الظهران فى عشرة آلاف من المسلمين ، وأوعب مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المهاجرون والأنصار ، فلم يتخلف عنه منهم أحد.

فلما نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الظهران ، وقد عميت الأخبار عن قريش فلم يأتهم خبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يدرون ما هو فاعل. وخرج فى تلك الليالى أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء ، يتحسسون الأخبار ، وينظرون هل يجدون خبرا ، أو يسمعون به. وقد كان العباس بن عبد المطلب لقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببعض الطريق ، وقد كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وعبد الله بن أبى أمية بن المغيرة ، قد لقيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا بنيق العقاب ، فيما بين مكة والمدينة ، فالتمسا الدخول عليه ، فكلمته أم سلمة فيهما ، فقالت : يا رسول الله ، ابن عمك وابن عمتك وصهرك. قال : لا حاجة لى بهما ، أما ابن عمى فهتك عرضى ، وأما ابن عمتى وصهرى فهو الذى قال لى بمكة ما قال. فلما خرج الخبر إليهما بذلك ، ومع أبى سفيان بنى له ، فقال : والله ليأذنن لى أو لآخذن بيدى بنى هذا ثم لنذهبن فى الأرض حتى نموت عطشا وجوعا. فلما بلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رق لهما ، ثم أذن لهما ، فدخلا عليه فأسلما.

* * *

٢٤٠