الموسوعة القرآنيّة - ج ١

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ١

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

فإن نهلك نهلك ، ولم نترك وراءنا نسلا نخشى عليه ، وإن نظهر فلعمرى لنجدن النساء والأبناء ، قالوا : نقتل هؤلاء المساكين! فما خير العيش بعدهم؟ قال : فإن أبيتم علىّ هذه ، فإن الليلة ليلة السبت ، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها ، فانزلوا لعلنا نصيب من محمد وأصحابه غرة ، قالوا : نفسد سبتنا علينا ، ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلا من قد علمت ، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ؟ قال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما.

* * *

ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أن ابعث إلينا أبا لبابة ابن عبد المنذر أخا بنى عمرو بن عوف ، وكانوا حلفاء الأوس ، لنستشيره فى أمرنا. فأرسله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال ، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون فى وجهه ، فرقّ لهم. وقالوا له : يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمد؟ قال : نعم ، وأشار بيده إلى حلقه. إنه الذبح. قال أبو لبابة : فو الله ما زالت قدماى من مكانهما حتى عرفت أنى قد خنت الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ، ولم يأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ارتبط فى المسجد إلى عمود من عمده ، وقال : لا أبرح مكانى هذا حتى يتوب الله على مما صنعت ، وعاهد الله ألا أطأ بنى قريظة أبدا ، ولا أرى فى بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا.

فلما بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبره ، وكان قد استبطأه ، قال : أما إنه لو جاءنى لاستغفرت له ، فأما إذ قد فعل ما فعل ، فما أنا بالذى أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه.

٢٠١

ثم إن توبة أبى لبابة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السحر ، وهو فى بيت أم سلمة. فقالت أم سلمة : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من السحر وهو يضحك ، فقلت : مم تضحك يا رسول الله ، أضحك الله سنك؟ قال : تيب على أبى لبابة ، قالت : قلت : أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال : بلى ، إن شئت. فقامت على باب حجرتها ـ وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب ـ فقالت : يا أبا لبابة ، أبشر فقد تاب الله عليك. فثار الناس إليه ليطلقوه ، فقال : لا والله حتى يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذى يطلقنى بيده ، فلما مر عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه.

* * *

وقد أقام أبو لبابة مرتبطا بالجذع ست ليال ، تأتيه امرأته فى كل وقت صلاة ، فتحله للصلاة ، ثم يعود فيرتبط بالجذع ، ثم إن ثعلبة بن سعية ، وأسيد ابن سعية ، وأسد بن عبيد ، وهم نفر من بنى هدل ، ليسوا من بنى قريظة ولا النضير ، هم بنو عم القوم ، أسلموا تلك الليلة التى نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وخرج فى تلك الليلة عمرو بن سعدى القرظى ، فمر بحرس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليه محمد بن مسلمة تلك الليلة ، فلما رآه قال : من هذا؟ قال : أنا عمرو بن سعدى ـ وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بنى قريظة فى غدرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : لا أغدر بمحمد أبدا ـ فقال محمد بن مسلمة حين عرفه : اللهم لا تحرمنى إقالة عثرات الكرام ، ثم خلى سبيله. فخرج على وجهه حتى أتى باب مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة تلك الليلة ، ثم ذهب فلم يدر أين توجه من الأرض

٢٠٢

إلى يومه هذا ، فذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم شأنه ، فقال : ذاك رجل نجاه الله بوفاته. فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتواثبت الأوس ، فقالوا : يا رسول الله ، إنهم موالينا دون الخزرج ، وقد فعلت فى أموال إخواننا بالأمس ما قد علمت ـ وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل بنى قريظة قد حاصر قينقاع ، وكانوا حلفاء الخزرج ، فنزلوا على حكمه ، فسأله إياهم عبد الله بن أبىّ بن سلول ، فوهبهم له ـ فلما كلمته الأوس ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم؟ قالوا : بلى ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فذاك إلى سعد بن معاذ. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد جعل سعد بن معاذ فى خيمة لامرأة من أسلم ، يقال لها : رفيدة ، فى مسجده ، كانت تداوى الجرحى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق : اجعلوه فى خيمة رفيدة ، حتى أعوده من قريب. فلما حكمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بنى قريظة ، أتاه قومه ، فحملوه على حمار قد وطئوا له بوسادة من أدم ، وكان رجلا جسيما جميلا ، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم يقولون : يا أبا عمرو ، أحسن فى مواليك ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم يقولون : يا أبا عمرو ، أحسن فى مواليك ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم ، فلما أكثروا عليه قال : لقد آن لسعد ألا تأخذه فى الله لومة لائم. فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بنى عبد الأشهل ، فنعى لهم رجال بنى قريظة ، قبل أن يصل إليهم سعد ، عن كلمته التى سمع منه ، فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قوموا

٢٠٣

إلى سيدكم ـ فأما المهاجرون من قريش فيقولون : إنما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأنصار ، وأما الأنصار ، فيقولون : قد عم بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقاموا إليه فقالوا : يا أبا عمر ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم ، فقال سعد بن معاذ : عليكم بذلك عهد الله وميثاقه ، أن الحكم فيهم لما حكمت؟ قالوا : نعم ، وعلى من هاهنا ، فى الناحية التى فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه إجلالا له. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ، قال سعد : فإنى أحكم فيهم أن تقتل الرجال ، وتقسم الأموال ، وتسبى الذرارى والنساء.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسعد : «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» ، ثم استنزلوا ، فحبسهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة فى دار بنت الحارث ، امرأة من بنى النجار ، ثم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى سوق المدينة ، التى هى سوقها اليوم ، فخندق بها خنادق ، ثم بعث إليهم ، فضرب أعناقهم فى تلك الخنادق ، يخرج بهم إليه أرسالا ، وفيهم عدو الله حيى بن أخطب ، وكعب بن أسد ، رأس القوم ، وهم ستمائة أو سبعمائة ، والمكثر لهم يقول : كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة. ولقد قالوا لكعب بن أسد ، وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسالا : يا كعب ، ما تراه يصنع بنا؟ قال : فى كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعى لا ينزع ، وأنه من ذهب به منكم لا يرجع؟ هو والله القتل. فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

وأتى يحيى بن أخطب عدو الله ، وعليه حلة له من الوشى قد شقها عليه

٢٠٤

من كل ناحية قدر أنملة لئلا يسلبها ـ مجموعة يداه إلى عنقه بحبل ـ فلما نظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أما والله ما لمت نفسى فى عداوتك ، ولكنه من يخذل الله يخذل. ثم أقبل على الناس ، فقال : أيها الناس ، إنه لا بأس بأمر الله ، كتاب وقدر وملحمة كتبها الله على بنى إسرائيل ، ثم جلس فضربت عنقه. قالت عائشة : ولم يقتل من نسائهم إلا امرأة واحدة قالت عائشة : والله إنها لعندى تحدث معى ، وتضحك ظهرا وبطنا ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقتل رجالها فى السوق ، إذ هتف هاتف باسمها : أين فلانة؟ قالت : أنا والله. قالت : قلت لها : ويلك! ما لك؟ قالت : أقتل. قلت : ولم؟ قالت : لحدث أحدثته. قالت : فانطلق بها ، فضربت عنقها ، فكانت عائشة تقول : فو الله ما أنسى عجبا منها ، طيب نفسها وكثرة ضحكها ، وقد عرفت أنها تقتل.

وكان ثابت بن قيس بن الشماس قد أتى الزبير بن باطا القرظى ، وكان الزبير قد من على ثابت بن قيس بن شماس فى الجاهلية ، أخذه يوم بغاث فجز ناصيته ، ثم خلى سبيله ، فجاءه ثابت وهو شيخ كبير ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، هل تعرفنى؟ قال : وهل يجهل مثلى مثلك ، قال : إنى قد أردت أن أجزيك بيدك عندى ، قال : إن الكريم يجزى الكريم. ثم أتى ثابت بن قيس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إنه قد كانت للزبير علىّ منّة ، وقد أحببت أن أجزيه بها ، فهب لى دمه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو لك ، فأتاه فقال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وهب لى دمك ، فهو لك ، قال : شيخ كبير لا أهل له ولا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة؟ قال : فأتى ثابت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : بأبى أنت وأمى يا رسول الله : هب لى امرأته وولده ، قال : هم لك. قال : فأتاه ، فقال : قد وهب لى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٢٠٥

أهلك وولدك ، فهم لك ، قال : أهل بيت بالحجاز لا مال لهم ، فما بقاؤهم على ذلك؟ فأتى ثابت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله : ماله؟ قال : هو لك. فأتاه ثابت فقال : قد أعطانى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالك ، فهو لك ، قال : أى ثابت ، ما فعل الذى كان وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذارى الحى ، كعب بن أسد ، قال : قتل. قال : فما فعل سيد الحاضر والبادى حيى بن أخطب؟ قال : قتل ، قال : فما فعل مقدمتنا إذا شددنا ، وحاميتنا إذا فررنا ، عزال بن سموأل؟ قال : قتل. قال : فما فعل المجلسان؟ يعى بنى كعب بن قريظة وبنى عمرو بن قريظة ، قال : ذهبوا ، قتلوا قال : فإنى أسألك يا ثابت بيدى عندك إلا ألحقتنى بالقوم ، فو الله ما فى العيش بعد هؤلاء من خير ، فما أنا بصابر لله فتلة دلو ناضح (١) حتى ألقى الأحبة ، فقدمه ثابت ، فضرب عنقه.

* * *

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسم أموال بنى قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين. ثم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد بن زيد الأنصارى ، أخا بنى عبد الأشهل ، بسبايا من سبايا بنى قريظة إلى نجد ، فابتاع لهم بها خيلا وسلاحا.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو ، إحدى نساء بنى عمرو بن قريظة ، فكانت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى توفى عنها وهى فى ملكه ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرض عليها أن يتزوجها ، ويضرب عليها الحجاب ، فقالت : يا رسول

__________________

(١) الناضح : الحبل ، أى مقدار ما تخرج به الدلو من البئر.

٢٠٦

الله ، بل تتركي فى ملكك ، فهو أخف علىّ وعليك ، فتركها. وقد كانت حين سباها قد تعصت بالإسلام ، وأبت إلا اليهودية ، فعزلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووجد فى نفسه لذلك من أمرها. فبينما هو مع أصحابه ، إذ سمع وقع نعلين خلفه ، فقال : إن هذا لثعلبة بن سعية يبشرنى بإسلام ريحانة ، فجاءه فقال : يا رسول الله ، قد أسلمت ريحانة ، فسره ذلك من أمرها.

ولما انصرف أهل الخندق عن الخندق ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ، لو كنتم تغزونهم. فلم تغزهم قريش بعد ذلك ، وكان هو الذى يغزوها حتى فتح الله عليه مكة.

ولما انقضى شأن الخندق ، وأمر بنى قريظة ، وكان سلام بن أبى الحقيق ، وهو أبو رافع. فيمن حزّب الأحزاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانت الأوس قبل أحد قتلت كعب بن الأشرف ، فى عداوته لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحريضه عليه ، استأذنت الخروج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قتل سلام بن أبى الحقيق ، وهو بخيبر ، فأذن لهم.

٧٦ ـ غزوة بنى لحيان

ثم أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ذا الحجة والمحرم وصفرا وشهرى ربيع ، وخرج فى جمادى الأولى ، على رأس ستة أشهر من فتح قريظة ، إلى بنى لحيان ، يطلب بأصحاب الرجيع : خبيب بن عدى وأصحابه ، وأظهر أنه يريد الشام ، ليصيب من القوم غرة. فخرج من المدينة صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، فسلك على غراب ، جبل بناحية المدينة ، على طريقه إلى الشام ، ثم استقام به الطريق ، على المحجة من طريق

٢٠٧

مكة ، فأغذّ السير سريعا ، إلى بلد يقال له : ساية ، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا فى رءوس الجبال ، فلما نزلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخطأه من غرتهم ما أراد ، قال : لو أنا هبطنا عسفان ، لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة. فخرج فى مائتي راكب من أصحابه ، حتى نزل عسفان ، ثم بعث فارسين من أصحابه ، حتى بلغا كراع الغميم ، ثم كر ، وراح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قافلا ، وهو يقول حين وجه راجعا : آئبون تائبون ، إن شاء الله ، لربنا حامدون ، أعوذ بالله من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، وسوء المنظر فى الأهل والمال.

* * *

٧٧ ـ غزوة ذى قرد

ثم قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فلم يقم بها إلا ليال قلائل ، حتى أغار عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزارى ، فى خيل من غطفان ، على لقاح لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالغابة ، وفيها رجل من بنى غفار وامرأة له ، فقتلوا الرجل ، واحتملوا المرأة فى اللقاح.

وكان أول من نذر بهم سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمى ، غدا يريد الغابة متوشحا قوسه ونبله ، ومعه غلام لطلحة بن عبيد الله ، معه فرس له يقوده ، حتى إذا علا ثنية الوداع ، نظر إلى بعض خيولهم فأشرف فى ناحية سلع ، ثم صرخ : وا صباحاه! ثم خرج يشتد فى آثار القوم ، وكان مثل السبع ، حتى لحق بالقوم ، فجعل يردهم بالنبل ، ويقول إذا رمى : خذها وأنا ابن الأكوع ، فإذا وجهت الخيل نحوه ، انطلق هاربا ، ثم عارضهم ، فإذا أمكنه الرمى رمى ، ثم قال : خذها وأنا ابن الأكوع. وبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صياح ابن الأكوع ، فصرخ بالمدينة : الفزع الفزع! فترامت الخيول إلى رسول

٢٠٨

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما اجتمعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر عليهم سعد بن زيد ، ثم قال : اخرج فى طلب القوم ، حتى ألحقك فى الناس. فخرج الفرسان فى طلب القوم ، حتى تلاحقوا. واستعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المدينة ابن أم مكتوم ، وسار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى نزل بالجبل من ذى قرد ، وتلاحق به الناس ، فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ، وأقام عليه يوما وليلة ، وقسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أصحابه فى كل مائة رجل جزورا ، وأقاموا عليها ، ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قافلا حتى قدم المدينة. فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة بعض جمادى الآخرة ورجبا.

* * *

٧٨ ـ غزوة بنى المصطلق

ثم غزا بنى المصطلق من خزاعة ، فى شعبان سنة ست ، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفارى. وكان بلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أن بنى المصطلق يجمعون له ، وقائدهم الحارث بن أبى ضرار ، أبو جويرية بنت الحارث ، زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء يقال له : المريسيع ، من ناحية قديد إلى الساحل ، فتزاحف الناس واقتتلوا ، فهزم الله بنى المصطلق وقتل من قتل منهم ، ونفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبناءهم ونساءهم وأموالهم فأفاءهم عليه.

فبينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك الماء ، وردت واردة الناس. ومع عمر بن الخطاب أجير له من بنى غفار ، يقال له : جهجاه بن مسعود ، يقود فرسه ، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهنى ، حليف بنى عوف بن الخزرج على

(م ١٤ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)

٢٠٩

الماء ، فاقتتلا ، فصرخ الجهنى : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين ، فغضب عبد الله بن أبىّ بن سلول ، وعنده رهط من قومه ، فيهم : زيد بن أرقم ، غلام حدث ، فقال : أو قد فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ثم أقبل على من حضره من قومه ، فقال لهم : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتوهم أموالكم أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم ، لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم ، فمشى به إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك عند فراغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من عدوه ، فأخبره الخبر ، وعنده عمر بن الخطاب ، فقال : مر به عباد بن بشر فليقتله ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه! لا ، ولكن أذن بالرحيل ، وذلك فى ساعة لم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرتحل فيها ، فارتحل الناس.

وقد مشى عبد الله بن أبىّ بن سلول إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمع منه ، فحلف بالله : ما قلت ما قال ، ولا تكلمت به ـ وكان فى قومه شريفا عظيما ـ فقال من حضر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأنصار من أصحابه : يا رسول الله ، عسى أن يكون الغلام قد أوهم فى حديثه ، ولم يحفظ ما قال الرجل ، حدبا على ابن أبىّ بن سلول ودفعا عنه.

فلما استقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسار ، لقيه أسيد بن حضير ، فحياه بتحية النبوة ، وسلم عليه ، ثم قال : يا نبى الله ، والله لقد رحت فى ساعة منكرة ، ما كنت تروح فى مثلها ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أو

٢١٠

ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال : وأى صاحب يا رسول الله؟ قال : عبد الله بن أبىّ ، قال : وما قال؟ قال : زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، قال : فأنت يا رسول الله والله تخرجه منها إن شئت ، هو والله الذليل وأنت العزيز. ثم قال : يا رسول الله ، ارفق به ، فو الله لقد جاءنا الله بك ، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ، فإنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.

* * *

ثم مشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى ، وليلتهم حتى أصبح ، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ، ثم نزل بالناس ، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض ، فوقعوا نياما. وإنما فعل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ليشغل الناس عن الحديث الذى كان بالأمس ، من حديث عبد الله ابن أبى ، ثم راح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس ، وسلك الحجاز ، حتى نزل على ماء بالحجاز ، فويق النقيع ، يقال له : بقعاء. فلما راح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هبت على الناس ريح شديدة ، آذتهم وتخوفوها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تخافوها ، فإنما هبت لموت عظيم من عظماء الكفار. فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد بن التابوت ، أحد بنى قينقاع ، وكان عظيما من عظماء يهود ، وكهفا للمنافقين ، مات فى ذلك اليوم.

ثم إن عبد بن عبد الله بن أبى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله إنه بلغنى أنك تريد قتل عبد الله بن أبى فيما بلغك عنه ، فإن كنت لا بدّ فاعلا ، فمرنى به ، فأنا أحمل إليك رأسه ، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده منى ، وإنى أخشى أن تأمر به غيرى فيقتله ، فلا تدعنى نفسى أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبى يمشى فى الناس ، فأقتله ، فأقتل رجلا

٢١١

مؤمنا بكافر ، فأدخل النار. فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل نترفق به ، ونحسن صحبته ما بقى معنا. وجعل بعد ذلك إذا حدث الحدث ، كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر بن الخطاب ، حين بلغه ذلك من شأنهم : كيف ترى يا عمر ، أما والله لو قتلته يوم قلت لى لأرعدت له آنف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته. قال عمر : قد والله علمت لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعظم بركة من أمرى.

* * *

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أصاب من بنى المصطلق سبيا كثيرا ، فقاسمه المسلمون ، وكان فيمن أصيب يومئذ من السبايا ، جويرية بنت الحارث بن أبى ضرار. ولما انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة بنى المصطلق ، ومعه جويرية بنت الحارث ـ وكان بذات الجيش ـ دفع جويرية إلى رجل من الأنصار وديعة ، وأمره بالاحتفاظ بها ، وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فأقبل أبوها الحارث بن أبى ضرار بفداء ابنته ، فلما كان بالعقيق نظر إلى الإبل التى جاء بها للفداء ، فرغب فى بعيرين منها ، فغيبهما فى شعب من شعاب العقيق ، ثم أتى إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : يا محمد ، أصبتم ابنتى ، وهذا فداؤها. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق ، فى شعب كذا وكذا؟ فقال الحارث : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك محمد رسول الله ، فو الله ما اطلع على ذلك إلا الله ، فأسلم الحارث ، وأسلم معه ابنان له ، وناس من قومه ، وأرسل إلى البعيرين ، فجاء بهما ، فدفع الإبل إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودفعت إليه ابنته جويرية ، فأسلمت ، وحسن إسلامها ،

٢١٢

فخطبها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أبيها ، فزوجه إياها ، وأصدقها أربعمائة درهم.

* * *

٧٩ ـ حديث الإفك

وتقول عائشة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيهن خرج سهمها خرج بها معه ، فلما كانت غزوة بنى المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع ، فخرج سهمى عليهن معه ، فخرج بى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكنت إذا رحل لى بعيرى ، جلست فى هودجى ، ثم يأتى القوم الذين يرحلون لى ويحملوننى ، فيأخذون بأسفل الهودج ، فيرفعونه ، فيضعونه على ظهر البعير ، فيشدونه بحباله ، ثم يأخذون برأس البعير ، فينطلقون به. فلما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سفره ذلك ، رجع قافلا ، حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا ، فبات به بعض الليل ، ثم أذن فى الناس بالرحيل ، فارتحل الناس ، وخرجت لبعض حاجتى ، وفى عنقى عقد لى ، فيه جزع ظفار (١) ، فلما فرغت انسل من عنقى ولا أدرى ، فلما رجعت إلى الرحل ، ذهبت ألتمسه فى عنقى ، فلم أجده ، وقد أخذ الناس فى الرحيل ، فرجعت إلى مكانى الذى ذهبت إليه ، فالتمسته حتى وجدته ، وجاء القوم خلافى ، الذين كانوا يرحلون لى البعير ، وقد فرغوا من رحلته ، فأخذوا الهودج ، وهم يظنون أنى فيه ، كما كنت أصنع ، فاحتملوه ، فشدوه على البعير ، ولم يشكوا أنى فيه ، ثم أخذوا برأس البعير ، فانطلقوا به ، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب. قد انطلق الناس.

* * *

__________________

(١) ظفار : مدينة باليمن.

٢١٣

فتلففت بجلبابى ، ثم اضطجعت فى مكانى ، وعرفت أن لو قد افتقدت لرجع إلى ، فو الله إنى لمضطجعة إذ مر بى صفوان بن المعطل السلمى ، وقد كان تخلف عن العسكر لبعض حاجته ، فلم يبت مع الناس ، فرأى سوادى ، فأقبل حتى وقف علىّ ـ وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب ـ فلما رآنى قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ظعينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأنا متلففة فى ثيابى ، قال : ما خلفك يرحمك الله؟ قالت : فما كلمته ، ثم قرب البعير ، فقال : اركبى ، واستأخر عنى. قالت : فركبت ، وأخذ برأس البعير ، فانطلق سريعا ، يطلب الناس ، فو الله ما أدركنا الناس ، وما افتقدت حتى أصبحت. ونزل الناس ، فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بى البعير ، فقال أهل الإفك ما قالوا ، فاضطرب العسكر ، وو الله ما أعلم بشيء من ذلك.

ثم قدمنا المدينة ، فلم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة ، ولا يبلغنى من ذلك شىء ، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى أبوى ، لا يذكرون لى منه قليلا ولا كثيرا ، إلا أنى قد أنكرت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعض لطفه بى ، كنت إذا اشتكيت رحمنى ، ولطف بى ، فلم يفعل ذلك بى فى شكواى تلك ، فأنكرت ذلك منه ، كان إذا دخل علىّ وعندى أمى تمرضنى ، قال : كيف تيكم ، لا يزيد على ذلك ، حتى وجدت فى نفسى ، فقلت : يا رسول الله ، حين رأيت ما رأيت من جفائه لى : لو أذنت لى فانتقلت إلى أمى ، فمرضتنى؟ قال : لا عليك. فانتقلت إلى أمى ، ولا علم لى بشيء مما كان ، حتى نقهت من وجعى بعد بضع وعشرين ليلة. وكنا قوما عربا ، لا نتخذ فى بيوتنا هذه الكنف التى تتخذها الأعاجم ، نعافها ونكرهها ، إنما كنا نذهب فى فسح المدينة ، وإنما كانت النساء يخرجن

٢١٤

كل ليلة فى حوائجهن ، فخرجت ليلة لبعض حاجتى ، ومعى أم مسطح بنت أبى رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وكانت أمها خالة أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، فو الله إنها لتمشى معى إذ عثرت فى مرطها ، فقالت : تعس مسطح ، قلت : بئس لعمر الله ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا ، قالت : أو ما بلغك الخير يا بنت أبى بكر؟ قلت : وما الخبر؟ فأخبرتنى بالذى كان من قول أهل الإفك ، قالت : قلت : أو قد كان هذا؟ قالت : نعم والله لقد كان. قالت : فو الله ما قدرت على أن أقضى حاجتى ، ورجعت. فو الله ما زلت أبكى حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدى ، وقلت لأمى : يغفر الله لك ، تحدث الناس بما تحدثوا به ، ولا تذكرين لى من ذلك شيئا. قالت : أى بنية ، خففى عليك الشأن ، فو الله لقلما كانت امرأة حسناء ، عند رجل يحبها. لها ضرائر ، إلا كثرن وكثر الناس عليها. قالت : وقد قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الناس يخطبهم ولا أعلم بذلك ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، ما بال رجال يؤذوننى فى أهلى ، ويقولون عليهم غير الحق ، والله ما علمت منهم إلا خيرا ، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا ، وما يدخل بيتا من بيوتى إلا وهو معى. وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبىّ بن سلول ، فى رجال من الخزرج ، مع الذى قال مسطح وحمنة بنت جحش ، وذلك أن أختها زينب بنت جحش كانت عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم تكن من نسائه امرأة تناصبنى (١) فى المنزلة عنده غيرها ، فأما زينب فعصمها الله تعالى بدينها ، فلم تقل إلا خيرا ، وأما حمنة بنت جحش ، فأشاعت من ذلك ما أشاعت تضادنى لأختها ، فشقيت بذلك.

* * *

__________________

(١) تناصبنى : تساوينى.

٢١٥

فلما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك المقالة ، قال أسيد بن حضير : يا رسول الله ، إن يكونوا من الأوس نكفكهم ، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج ، فمرنا بأمرك ، فو الله إنهم لأهل أن نضرب أعناقهم ، قالت : فقام سعد بن عبادة ـ وكان قبل ذلك يرى رجلا صالحا ـ فقال : كذبت لعمر الله ، لا نضرب أعناقهم ، أما والله ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنهم من الخزرج ، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا. فقال أسيد : كذبت لعمر الله ، ولكنك منافق ، تجادل عن المنافقين ، وتساور الناس ، حتى كاد يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر. ونزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخل على. فدعا على بن أبى طالب رضوان الله عليه ، وأسامة بن زيد ، فاستشارهما ، فأما أسامة فأثنى علىّ خيرا وقاله ، ثم قال : يا رسول الله ، أهلك ولا نعلم منهم إلا خيرا ، وهذا الكذب والباطل.

وأما علىّ فإنه قال : يا رسول الله ، إن النساء لكثير ، وإنك لقادر على أن تستخلف ، وسل الجارية ، فإنها ستصدقك. فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بريرة ليسألها ، قالت : فقام إليها على بن أبى طالب ، فضربها ضربا شديدا ، ويقول : اصدقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قالت : فتقول : والله ما أعلم إلا خيرا ، وما كنت أعيب على عائشة شيئا ، إلا أنى كنت أعجن عجينى ، فآمرها أن تحفظه ، فتنام عنه ، فتأتى الشاة فتأكله.

ثم دخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعندى أبواى ، وعندى امرأة من الأنصار ، وأنا أبكى ، وهى تبكى معى ، فجلس ، فحمدالله ، وأثنى عليه ، ثم قال : يا عائشة ، إنه قد كان ما قد بلغك من قول الناس ، فاتقى الله ، وإن كنت قد فارفت سوءا

٢١٦

مما يقول الناس ، فتوبى إلى الله فإن الله يقبل التوبة عن عباده ، فو الله ما هو إلا أن قال لى ذلك ، فقلص دمعى ، حتى ما أحس منه شيئا ، وانتظرت أبواى أن يجيبا عنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يتكلما.

قالت : وايم الله ، لأنا كنت أحقر فى نفسى ، وأصغر شأنا من أن ينزل الله فى قرآنا يقرأ به فى المساجد ، ويصلى به ، ولكنى قد كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى نومه شيئا ، يكذب به الله عنى ، لما يعلم من براءتى ، أو يخبر خبرا ، فأما قرآن ينزل فىّ ، فو الله لنفسى كانت أحقر عندى من ذلك. قالت : فلما لم أر أبواى يتكلمان ، قلت لهما : ألا تجيبان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقالا : والله ما ندرى بما ذا نجيبه!

قالت : والله ما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على آل أبى بكر ، فى تلك الأيام ، فلما أن استعجما علىّ ، استعبرت فبكيت ، ثم قلت : والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا ، والله إنى لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس ، والله يعلم أنى منه بريئة ، لأقولن ما لم يكن ، ولئن أنا أنكرت ما يقولون لا تصدقوننى ، ثم التمست اسم يعقوب فما أذكره ، فقلت : ولكن سأقول كما قال أبو يوسف : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ).

* * *

فو الله ما برح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجلسه حتى تغشاه من الله ما تغشاه ، فسجى بثوبه ، ووضعت له وسادة من أدم تحت رأسه ، فأما أنا حين رأيت من ذلك ما رأيت ، فو الله ما فزعت ولا باليت ، قد عرفت أنى بريئة ، وأن الله عزوجل غير ظالمى ، وأما أبواى ، فو الذى نفس عائشة بيده. ما سرى عن

٢١٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما ، فرقا من أن يأتى من الله تحقيق ما قال الناس.

ثم سرى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجلس ، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان فى يوم شات ، فجعل يسمح العرق عن جبينه ، ويقول : أبشرى يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك ، قالت : قلت : بحمد الله. ثم خرج إلى الناس ، فخطبهم ، وتلا عليهم ما أنزل الله عليه من القرآن فى ذلك ، ثم أمر بمسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة ، فضربوا حدهم.

فلما نزل هذا فى عائشة ، وفيمن قال لها ما قال ، قال أبو بكر ، وكان ينفق على مسطح لقرابته وحاجته : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا ، ولا أنفعه بنفع أبدا ، بعد الذى قال لعائشة ، وأدخل علينا ، فأنزل الله فى ذلك : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١).

فقال أبو بكر : بلى والله : إنى لأحب أن يغفر الله لى ، فرجع إلى مسطح نفقته التى كان ينفق عليه وقال : والله لا أنزعها منه أبدا.

وكانت عائشة تقول : لقد سئل عن أبى المعطل فوجدوه رجلا حصورا ، ما يأتى النساء ، ثم قتل بعد ذلك شهيدا.

* * *

__________________

(١) سورة النور : ٢٢.

٢١٨

٨٠ ـ حديث الحديبية

ثم أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة شهر رمضان وشوالا ، وخرج فى ذى القعدة معتمرا ، لا يريد حربا.

واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله الليثى ، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادى من الأعراب ، ليخرجوا معه ، وهو يخشى من قريش الذى صنعوا ، أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت ، فأبطأ عليه كثير من الأعراب ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق به من العرب ، وساق معه الهدى وأحرم بالعمرة ، ليأمن الناس من حربه ، وليعلم الناس أنه إنما خرج زائرا لهذا البيت ، معظما له.

وساق معه الهدى سبعين بدنة ، وكان الناس أربعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة نفر ، حتى إذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعسفان (١) لقيه بشر بن سفيان الكعبى ، فقال : يا رسول الله ، هذه قريش ، قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل (٢) ، قد لبسوا جلود النمور ، وقد نزلوا بذى طوى (٣) ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا ، وهذا خالد بن الوليد فى خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم (٤). فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا ويح قريش! لقد أكلتهم الحرب ، ما ذا عليهم لو خلوا بينى وبين سائر العرب ، فإن هم أصابونى كان الذى أرادوا ، وإن أظهرنى الله عليهم دخلوا فى الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش ،

__________________

(١) عسفان : بين الجحفة ومكة.

(٢) العوذ المطافيل : النساء والصبيان.

(٣) ذو طوى : موضع قرب مكة.

(٤) كراع الغميم : موضع بين مكة والمدينة.

٢١٩

فو الله لا أزال أجاهد على الذى بعثنى الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة (١) ، ثم قال : من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التى هم بها؟

قال رجل من أسلم : أنا يا رسول الله ، فسلك بهم طريقا وعرا بين شعاب ، فلما خرجوا معه ـ وقد شق ذلك على المسلمين ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قولوا نستغفر الله ونتوب إليه. فقالوا ذلك. فقال : والله إنها للحطة (٢) التى عرضت على بنى إسرائيل فلم يقولوها.

* * *

ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس ، فقال : اسلكوا ذات اليمين ، فسلك الجيش ذلك الطريق ، فلما رأت خيل قريش غبار الجيش ، قد خالفوا طريقهم ، رجعوا راكضين إلى قريش ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إذا سلك فى ثنية المرار بركت ناقته ، فقال الناس : خلأت (٣) الناقة ، قال : ما خلأت ، وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسألوننى فيها صلة الرحم ، إلا أعطيتهم إياها. ثم قال للناس : انزلوا ، قيل له : يا رسول الله ، ما بالوادى ماء ننزل عليه ، فأخرج سهما من كنانته ، فأعطاه رجلا من أصحابه ، فنزل به فى قليب من تلك القلب ، فغرزه فى جوفه ، فجاش بالرواء حتى ضرب الناس عنه بعطن.

فلما اطمأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه بديل بن ورقاء الخزاعى ، فى رجال من خزاعة ، فكلموه وسألوه : ما الذى جاء به؟ فأخبرهم أنه لم

__________________

(١) السالفة : صفحة العنق.

(٢) يريد قوله تعالى لبنى إسرائيل : (وَقُولُوا حِطَّةٌ).

(٣) خلأت : بركت.

٢٢٠