الموسوعة القرآنيّة - ج ١

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ١

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

ابن أمية بن خلف : لا تفعلوا ، فإن القوم قد حربوا ، وقد خشينا أن يكون لهم قتال غير الذى كان ، فارجعوا ، فرجعوا ، فقال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو بحمراء الأسد ، حين بلغه أنهم هموا بالرجعة : والذى نفسى بيده ، لقد سومت لهم حجارة ، لو صبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب.

* * *

وأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى جهة ذلك ، قبل رجوعه إلى المدينة ، معاوية بن المغيرة بن أبى العاص بن أمية بن عبد شمس ، وهو جد عبد الملك ابن مروان ، أبو أمه عائشة بنت معاوية ، وأبا عزة الجمحى ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسره ببدر ، ثم منّ عليه ، فقال : يا رسول الله ، أقلنى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والله لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول : خدعت محمدا مرتين ، اضرب عنقه يا زبير. فضرب عنقه.

* * *

وكان يوم أحد يوم بلاء ومصيبة وتمحيص ، اختبر الله به المؤمنين ، ومحن به المنافقين ، وممن كان يظهر الإيمان بلسانه ، وهو مستخف بالكفر فى قلبه ، ويوما أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته.

وكان جميع من استشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المهاجرين والأنصار خمسة وسبعين رجلا.

* * *

٦٩ ـ يوم الرجيح

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد أحد رهط من عضل والقارة

١٨١

فقالوا : يا رسول الله ، إن فينا إسلاما ، فابعث معنا نقرا من أصحابك يفقهوننا فى الدين ، ويقرءوننا القرآن ، ويعلموننا شرائح الإسلام. فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفرا ستة من أصحابه ، وهم مرثد بن أبى مرثد الغنوى ، حليف حمزة بن عبد المطلب ، وخالد بن البكير الليثى ، حليف بنى عدى بن كعب ، وعاصم بن ثابت بن أبى الأقلح ، أخو بنى عمرو بن عوف ابن مالك بن الأوس ، وخبيب بن عدى ، أخو بنى جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف ، وزيد بن الدثنة بن معاوية ، أخو بنى بياضة بن عمرو بن زريق ابن عبد حارثة بن مالك بن غضب بن جشم بن الخزرج ، وعبد الله بن طارق ، حليف بنى ظفر بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس.

وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على القوم مرثد بن أبى مرثد الغنوى ، فخرج مع القوم ، حتى إذا كانوا على الرجيع ، ماء لهذيل بناحية الحجاز ، على صدور الهداة (١) غدروا بهم ، فاستصرخوا عليهم هذيلا ، فلم يرع القوم وهم فى رحالهم ، إلا الرجال بأيديهم السيوف ، قد غشوهم ، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم ، فقالوا لهم : إنا والله ما نريد قتلكم ، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ، ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم.

فأما مرثد بن أبى مرثد ، وخالد بن البكير ، وعاصم بن ثابت ، فقالوا : والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا.

فلما قتل عاصم أرادت هذيل أخذ رأسه ، ليبيعوه من سلافة بنت سعد ابن شهيد ، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنيها يوم أحد : لئن قدرت على

__________________

(١) بين موضع عسفان ومكة.

١٨٢

رأس عاصم ، لتشربن فى قحفه الخمر ، فمنعته الدبر (١) ، فلما حالت بينه وبينهم الدبر قالوا : دعوه يمسى ، فنذهب عنه ، فنأخذه. فبعث الله الوادى ، فاحتمل عاصما ، فذهب به. وقد كان عاصم قد أعطى الله عهدا ألا يمسه مشرك ، ولا يمس مشركا أبدا ، تنجسا ، فكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول ، حين بلغه : إن الدبر منعته : يحفظ الله العبد المؤمن ، كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا فى حياته ، فمنعه الله بعد وفاته كما امتنع منه فى حياته.

* * *

وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدى ، وعبد الله بن طارق ، فلانوا ورقوا ، ورغبوا فى الحياة ، فأعطوا بأيديهم ، فأسروهم ، ثم خرجوا إلى مكة ، ليبيعوهم بها ، حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران (٢) ، ثم أخذ سيفه واستأخر عنه القوم ، فرموه بالحجارة حتى قتلوه ، فقبره رحمه‌الله ، بالظهران.

* * *

وأما خبيب بن عدى وزيد بن الدثنة ، فقدموا بهما مكة ، فابتاع خبيبا حجير بن أبى إهاب التميمى ، حليف بنى نوفل ، لعقبة بن الحارث بن عامر نوفل ، وكان أبو إهاب أخا الحارث بن عامر لأمه ، ليقتله بأبيه.

وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ، ليقتله بأبيه ، أمية بن خلف ، وبعث به صفوان بن أمية مع مولى له ، يقال له نسطاس ، إلى التنعيم ، وأخرجوه من الحرم ليقتلوه ، واجتمع رهط من قريش ، فيهم أبو سفيان بن حرب ، فقال

__________________

(١) الدبر : الزنابير والنحل.

(٢) القران : الحبل.

١٨٣

له أبو سفيان ، حين قدم ليقتل : أنشدك الله يا زيد ، أتحب أن محمدا عندنا الآن فى مكانك نضرب عنقه ، وأنك فى أهلك؟ قال : والله ما أحب أن محمدا الآن فى مكانه الذى هو فيه ، تصيبه شوكة تؤذيه ، وأنى جالس فى أهلى. فقال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ، ثم قتله نسطاس ، يرحمه‌الله.

ثم خرجوا بخبيب ، حتى إذا جاءوا به إلى التنعيم ليصلبوه ، قال لهم : إن رأيتم أن تدعونى حتى أركع ركعتين ، فافعلوا ، قالوا : دونك فاركع. فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما ، ثم أقبل على القوم ، فقال : أما والله لو لا أن تظنوا أنى إنما طولت جزعا من القتل ، لاستكثرت من الصلاة.

فكان خبيب بن عدى أول من سن هاتين الركعتين عند القتل للمسلمين. ثم رفعوه على خشبة ، فلما أوثقوه ، قال : اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك ، فبلغه الغداة ما يصنع بنا ، ثم قال : اللهم أحصهم عددا ، واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا. ثم قتلوه رحمه‌الله.

* * *

٧٠ ـ حديث بئر معونة

فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقية شوال وذا القعدة وذا الحجة ، ثم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحاب بئر معونة فى صفر ، على رأس أربعة أشهر من أحد.

وقدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فعرض عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإسلام ، ودعاه ، فلم يسلم ولم يبعد من الإسلام ، وقال : يا محمد ، لو بعثت رجالا من

١٨٤

أصحابك إلى أهل نجد ، فدعوهم إلى أمرك ، رجوت أن يستجيبوا لك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنى أخشى عليهم أهل نجد ، قال أبو براء : أنا لهم جار ، فابعثهم ، فليدعوا الناس إلى أمرك.

فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المنذر بن عمرو ، أخا بنى ساعدة ، فى أربعين رجلا من أصحابه من خيار المسلمين. فساروا حتى نزلوا بئر معونة ، وهى بين أرض بنى عامر وحرة بنى سليم ، كلا البلدين منها قريب ، وهى إلى حرة بنى سليم أقرب.

فلما نزلوها بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى عدو الله عامر بن الطفيل ، فلما أتاه لم ينظر فى كتابه ، حتى عدا على الرجل فقتله ، ثم استصرخ عليهم بنى عامر ، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، وقالوا : لن نخفر أبا براء ، وقد عقد لهم عقدا وجوارا ، فاستصرخ عليهم قبائل من بنى سليم ، فأجابوه إلى ذلك ، فخرجوا حتى غشوا القوم ، فأحاطوا بهم فى رحالهم ، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ، ثم قاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم ، يرحمهم‌الله ، إلا كعب بن زيد ، فإنهم تركوه وبه رمق ، فعاش حتى قتل يوم الخندق شهيدا رحمه‌الله.

وكان فى سرح القوم عمرو بن أمية الضمرى ، ورجل من الأنصار ، فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على العسكر ، فقالا : والله إن لهذه الطير لشأنا ، فأقبلا لينظرا ، فإذا القوم فى دمائهم ، وإذا الخيل ، التى أصابتهم واقفة ، فقال الأنصارى لعمرو بن أمية : ما ترى؟ قال! أرى أن نلحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنخبره الخبر ، فقال الأنصارى : لكنى ما كنت لأرغب بنفسى عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو ، وما كنت لتخبرنى عنه الرجال ، ثم قاتل القوم حتى قتل.

١٨٥

وأخذوا عمرو بن أمية أسيرا ، فلما أخبرهم أنه من مضر ، أطلقه عامر بن الطفيل ، وجز ناصيته ، وأعتقه عن رقبة ، زعم أنها كانت على أمه.

فخرج عمرو بن أمية ، حتى إذا كان بالقرقرة (١) ، أقبل رجلان من بنى عامر حتى نزلا معه فى ظل هو فيه. وكان مع العامر بين عقد من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوار ، لم يعلم به عمرو بن أمية ، وقد سألهما حين نزلا : ممن أنتما؟ فقالا : من بنى عامر ، فأمهلهما ، حتى إذا ناما ، عدا عليهما فقتلهما ، وهو يرى أنه قد أصاب بهما ثأرا من بنى عامر ، فيما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلما قدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره الخبر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد قتلت قتيلين لأدينهما.

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا عمل أبى براء ، قد كنت لهذا كارها متخوّفا. فبلغ ذلك أبا براء ، فشق عليه إخفار عامر إياه ، وما أصاب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسببه وجواره ، وكان فيمن أصيب عامر ابن فهيرة.

* * *

٧١ ـ إجلاء بنى النضير

ثم خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بنى النضير يستعينهم فى دية ذينك القتيلين من بنى عامر ، اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضمرى ، للجوار الذى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقد لهما ، وكان بين بنى النضير وبين بنى عامر عقد وحلف ، فلما أتاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستعينهم فى دية ذينك

__________________

(١) القرقرة : موضع قريب من المدينة.

١٨٦

القتيلين ، قالوا : نعم ، يا أبا القاسم ، نعينك على ما أحببت ، مما استعنت بنا عليه ، ثم خلا بعضهم ببعض ، فقالوا : إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه ـ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى جنب جدار من بيوتهم قاعد ـ فمن رجل يعلو على هذا البيت ، فيلقى عليه صخرة ، فيريحنا منه؟ فانتدب لذلك عمرو بن جحاش بن كعب ، أحدهم ، فقال : أنا لذلك ، فصعد ليلقى عليه صخرة كما قال ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى نفر من أصحابه ، فيهم أبو بكر وعمر وعلىّ ، رضوان الله عليهم.

فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم ، فقام وخرج راجعا إلى المدينة ، فلما استلبث النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه ، قاموا فى طلبه ، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة ، فسألوه عنه ، فقال : رأيته داخلا المدينة. فأقبل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى انتهوا إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأخبرهم الخبر ، بما كانت اليهود أرادت من الغدر به.

* * *

وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتهيؤ لحربهم ، والسير إليهم.

واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم. ثم سار بالناس حتى نزل بهم ، وذلك فى شهر ربيع الأول ، فحاصرهم ست ليال ، ونزل تحريم الخمر ، فتحصنوا منه فى الحصون ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقطع النخيل ، والتحريق فيها ، فنادوه : أن يا محمد ، قد كنت تنهى عن الفساد ، وتعيبه على من صنعه ، فما بال قطع النخل وتحريقها؟

وقد كان رهط من بنى عوف بن الخزرج ، منهم عدو الله عبد الله ابن أبىّ بن سلول ، ووديعة ، ومالك بن أبى قوقل ، وسويدا وداعس ،

١٨٧

قد بعثوا إلى بنى النضير : أن اثبتوا وتمنعوا ، فإنا لن نسلمكم ، إن قوتلتم قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم ، فتربصوا ذلك من نصرهم ، فلم يفعلوا ، وقذف الله فى قلوبهم الرعب ، وسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجليهم ، ويكف عن دمائهم ، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح ، ففعل. فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل ، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن عتبة بابه فيضعه على ظهر بعيره ، فينطلق به ، فخرجوا إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام. وخلوا الأموال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة يضعها حيث يشاء ، فقسمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المهاجرين الأولين دون الأنصار. إلا أن سهل بن حنيف ، وأبا دجانة سماك بن خرشة ، ذكرا فقرا ، فأعطاهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولم يسلم من بنى النضير إلا رجلان ، يأمين بن عمير ، أبو كعب ابن عمرو بن جحاش ، وأبو سعد بن وهب ، أسلما على أموالهما ، فأحرزاها.

* * *

٧٢ ـ غزوة ذات الرقاع

ثم أقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة بعد غزوة بنى النضير ، شهر ربيع الآخر وبعض جمادى ، ثم غزا نجدا يريد بنى محارب وبنى ثعلبة من غطفان ، واستعمل على المدينة أبا ذر الغفارى ، حتى نزل نخلا (١) ، وهى غزوة ذات الرقاع ، وإنما قيل لها : غزوة ذات الرقاع ، لأنهم رقعوا فيها راياتهم. فلقى بها جمعا عظيما من غطفان ، فتقارب الناس ، ولم تكن بينهم حرب ، وقد خاف الناس

__________________

(١) نخل موضع بنجد.

١٨٨

بعضهم بعضا ، حتى صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالناس صلاة الخوف ، ثم انصرف بالناس.

ولما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة ذات الرقاع ، أقام بها بقية جمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجبا.

* * *

٧٣ ـ غزوة بدر الآخرة

ثم خرج فى شعبان إلى بدر ، لميعاد أبى سفيان ، حتى نزله.

واستعمل على المدينة عبد الله بن عبد الله بن أبىّ بن سلول الأنصارى ، فأقام عليه ثمانى ليال ينظر أبا سفيان. وخرج أبو سفيان فى أهل مكة حتى نزل مجنة ، من ناحية الظهران ، ثم بدا له فى الرجوع ، فقال : يا معشر قريش ، إنه لا يصلحكم إلا عام خصيب ترعون فيه الشجر ، وتشربون فيه اللبن ، وإن عامكم هذا عام جدب ، وإنى راجع ، فارجعوا ، فرجع الناس. فسماهم أهل مكة جيش السويق ، يقولون : إنما خرجتم تشربون السويق.

ولما قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على بدر ينتظر أبا سفيان لميعاده أتاه مخشى بن عمرو الضمرى ، وهو الذى كان وادعه على بنى ضمرة فى غزوة ودان ، فقال : يا محمد ، أجئت للقاء قريش على هذا الماء؟ قال : نعم ، يا أخا بنى ضمرة ، وإن شئت مع ذلك رددنا إليك ما كان بيننا وبينك ، ثم جالدناك حتى يحكم الله بيننا وبينك. قال : لا والله يا محمد ما لنا بذلك منك من حاجة.

* * *

٧٤ ـ غزوة دومة الجندل

ثم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، فأقام بها أشهرا ، حتى مضى ذو الحجة ، وهى سنة أربع ، ثم غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١٨٩

دومة الجندل ، فى شهر ربيع الأول ، واستعمل على المدينة سباع بن عرفطة الغفارى. ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يصل إليها ، ولم يلق كيدا ، فأقام بالمدينة بقية سنته.

* * *

٧٥ ـ ثم كانت غزوة الخندق فى شوال سنة خمس

وكان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود ، منهم : سلام بن أبى الحقيق النضرى ، وحيى بن أخطب النضرى ، وكنانة بن أبى الحقيق النضرى ، وهوذة بن قيس الوائلى ، وأبو عمار الوائلى ، فى نفر من بنى النضير ، ونفر من بنى وائل ، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، خرجوا حتى قدموا على قريش مكة ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالوا : إنا سنكون معكم عليه ، حتى نستأصله. فقالت لهم قريش : يا معشر يهود ، إنكم أهل الكتاب الأول ، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد ، أفديننا خير أم دينه؟ قالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق منه. فلما قالوا ذلك لقريش ، سرهم ونشطوا لما دعوهم إليه من حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاجتمعوا لذلك ، واتعدوا له. ثم خرج أولئك النفر من يهود ، حتى جاءوا غطفان من قيس عيلان ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه. وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك ، فاجتمعوا معهم فيه.

فخرجت قريش ، وقائدها أبو سفيان بن حرب ، وخرجت غطفان وقائدها

١٩٠

عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ، فى بنى فزارة ، والحارث بن عوف بن أبى حارثة المرى ، فى بنى مرة ، ومسعر بن رخيلة ، فيمن تابعه من قومه أشجع.

فلما سمع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أجمعوا له من الأمر ، ضرب الخندق على المدينة ، فعمل فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترغيبا للمسلمين فى الأجر ، وعمل معه المسلمون فيه ، فدأب فيه ودأبوا ، وأبطأ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن المسلمين فى عملهم ذلك ، رجال من المنافقين ، وجعلوا يورون بالضعيف من العمل ويتسللون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا إذن ، وجعل الرجل من المسلمين إذا نابته نائبة ، من الحاجة التى لا بد له منها ، يذكر ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويستأذنه فى اللحوق بحاجته ، فيأذن له ، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله ، رغبة فى الخير ، واحتسابا له.

* * *

ولما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الخندق ، أقبلت قريش ، حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة ، فى عشرة آلاف من أحابيشهم ، ومن تبعهم من بنى كنانة وأهل تهامة. وأقبلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد ، حتى نزلوا إلى جانب واحد ، وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع ، فى ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب هناك عسكره ، والخندق بينه وبين القوم.

واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، وأمر بالذرارى والنساء فجعلوا فى الآطام.

وخرج عدو الله حيى بن أخطب النضرى ، حتى أتى كعب بن أسد

١٩١

القرظى ، صاحب عقد بنى قريظة وعهدهم ، وكان قد وادع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قومه ، وعاقده على ذلك وعاهده. فلما سمع كعب يحيى بن أخطب ، أغلق دونه باب حصنه ، فاستأذن عليه ، فأبى أن يفتح له ، فناداه حيى : ويحك يا كعب! افتح لى ، قال : ويحك يا حيى! إنك امرؤ مشئوم ، وإنى قد عاهدت محمدا ، فلست بناقض ما بينى وبينه ، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا ، قال ويحك افتح لى أكلمك ، قال : ما أنا بفاعل ، قال : والله إن أغلقت دونى إلا عن جشيشك أن آكل معك منها ، فأحفظ الرجل ، ففتح له ، فقال : ويحك يا كعب ، جئتك بعز الدهر وببحر طام ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها ، حتى انزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة ، وبغطفان على قادتها وسادتها ، حتى أنزلتهم إلى جانب أحد ، قد عاهدونى وعاقدونى على ألا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه ، فقال له كعب : جئتنى والله بذل الدهر ، ويحك يا حيى ، فدعنى وما أنا عليه ، فإنى لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء. فلم يزل حيى بكعب يفتله فى الذروة والغارب ، حتى سمح له ، على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا : لئن رجعت قريش وغطفان ، ولم يصيبوا محمدا ، أن أدخل معك فى حصنك ، حتى يصيبنى ما أصابك ، فنقض كعب بن أسد عهده ، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

فلما انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخبر وإلى المسلمين ، بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سعد بن معاذ بن النعمان ، وهو يومئذ سيد الأوس ، وسعد بن عبادة بن دليم ، أحد بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج ، وهو يومئذ سيد الخزرج ، ومعهما عبد الله بن رواحة ، أخو بنى الحارث بن الخزرج ، وخوات بن جبير ، أخو بنى عمرو بن عوف ، فقال : انطلقوا حتى تنظروا ، أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فإن كان حقّا ، فألحنو لى لحنا

١٩٢

أعرفه ، ولا تفتوا فى أعضاد الناس ، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم ، فاجهروا به للناس. فخرجوا حتى أتوهم ، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم ، فيما نالوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : من رسول الله؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد. فشاتمهم سعد بن معاذ وشاتموه ، وكان رجلا فيه حدة ، فقال له سعد بن عبادة : دع عنك مشاعتهم ، فما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة. ثم أقبل سعد وسعد ومن معهما ، إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسلموا عليه ، ثم قالوا : عضل والقارة ـ أى كغدر عضل والقارة بأصحاب الرجيع ، خبيب وأصحابه ـ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين.

وعظم عند ذلك البلاء ، واشتد الخوف ، وأتاهم عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم ، حتى ظن المؤمنون كل ظن ، ونجم النفاق من بعض المنافقين ، حتى قال معتب بن قشير ، أخو بنى عمرو بن عوف : كأن محمدا يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.

وحتى قال أوس بن قيظى ، أحد بنى حارثة بن الحارث : يا رسول الله ، إن بيوتنا عورة من العدو ، وذلك عن ملأ من رجال قومه ، فائذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا ، فإنها خارج المدينة. فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقام عليه المشركون بعضا وعشرين ليلة ، قريبا من شهر ، لم تكن بينهم حرب إلا المراماة بالنبل والحصار.

فلما اشتد على الناس البلاء ، بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر ، وإلى الحارث بن عوف بن أبى حارثة المرى ، وهما قائدا غطفان ، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة ، على أن

(م ١٣ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)

١٩٣

يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه ، فجرى بينه وبينهما الصلح ، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح ، إلا المراوضة فى ذلك. فلما أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفعل ، بعث إلى سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة ، فذكر ذلك لهما ، واستشارهما فيه ، فقالا له : يا رسول الله ، أمرا تحبه فنصنعه ، أم شيئا أمرك الله به ، لا بدّ لنا من العمل به ، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال : بل شىء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا لأننى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة ، وكالبوكم من كل جانب. فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما. فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله ، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له ، وأعزنا بك وبه ، نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف ، حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأنت وذاك. فتناول سعد بن معاذ الصحيفة فمحا ما فيها من الكتاب ، ثم قال : ليجهدوا علينا.

* * *

فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، وعدوهم محاصروهم ، ولم يكن بينهم قتال ، إلا أن فوارس من قريش ، منهم عمرو بن عبد ود بن أبى قيس ، أخو بنى عامر بن لؤى ، وعكرمة بن أبى جهل ، وهبيرة بن أبى وهب ، المخزوميان ، وضرار بن الخطاب الشاعر ، ابن مرداس ، أخو بنى محارب بن فهر ، تلبسوا للقتال ، ثم خرجوا على خيلهم ، حتى مروا بمنازل بنى كنانة ، فقالوا : تهيئوا يا بنى كنانة للحرب ، فستعلمون من الفرسان

١٩٤

اليوم ، ثم أقبلوا تعتق بهم خيلهم ، حتى وقفوا على الخندق ، فلما رأوه قالوا : والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.

ثم تيمموا مكانا ضيقا من الخندق ، فضربوا خيلهم ، فاقتحمت منه فجالت بهم فى السبخة بين الخندق وسلع ، وخرج على بن أبى طالب رضى الله عنه فى نفر من المسلمين ، حتى أخذوا عليهم الثغرة التى أقحموا منها بخيلهم. وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة ، فلم يشهد يوم أحد ، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه.

فلما وقف هو وخيله ، قال : من يبارز؟ فبرز له على بن أبى طالب ، فقال له : يا عمرو ، إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه؟ قال له : أجل ، قال له على : فإنى أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام ، قال : لا حاجة لى بذلك. قال : فإنى أدعوك إلى النزال. فقال له : يا بن أخى ، فو الله ما أحب أن أقتلك ، قال له على : لكنى والله أحب أن أقتلك ، فحمى عمرو عند ذلك ، فاقتحم عن فرسه ، فعقره ، وضرب وجهه ثم أقبل على علىّ ، فتنازلا وتجاولا ، فقتله على رضى الله عنه ، وخرجت خيلهم منهزمة ، حتى اقتحمت من الخندق هاربة.

* * *

وأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فيما وصف الله من الخوف والشدة ، لتظاهر عدوهم عليهم ، وإتيانهم إياهم من فوقهم ومن أسفل منهم.

ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفذ بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان ، أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

١٩٥

فقال : يا رسول الله : إنى قد أسلمت ، وإن قومى لم يعلموا بإسلامى ، فمرنى بما شئت. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما أنت فينا رجل واحد فخذّل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة. فخرج نعيم بن مسعود حتى أتى بنى قريظة ، وكان لهم نديما فى الجاهلية ، فقال : يا بنى قريظة ، قد عرفتم ودى إياكم ، وخاصة ما بينى وبينكم ، قالوا : صدقت ، لست عندنا بمتهم ، فقال لهم : إن قريشا وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره ، وإن قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمد وأصحابه وقد ظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره ، فليسوا كأنتم ، فإن رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم ، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم ، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم ، يكونون بأيديكم ثقة لكم ، على أن تقاتلوا معهم محمدا حتى تناجزوه. فقالوا له : لقد أشرت بالرأى

* * *

ثم خرج حتى أتى قريشا ، فقال لأبى سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : قد عرفتم ودى لكم وفراقى محمدا ، وإنه قد بلغنى أمر قد رأيت على حقّا أن أبلغكموه ، نصحا لكم فاكتموا عنى ، فقالوا : نفعل ، قال : تعلمون أن معشر يهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد ، وقد أرسلوا إليه : إنا قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين ، من قريش وغطفان ، رجالا من أشرافهم ، فنعطيكهم ، فتضرب أعناقهم ، ثم نكون معك على من بقى منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم : أن نعم. فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا

* * *

١٩٦

ثم خرج حتى أتى غطفان ، فقال : يا معشر غطفان ، إنكم أصلى وعشيرتى ، وأحب الناس إلىّ ، ولا أراكم تتهمونى ، قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم ، قال : فاكتموا عنى ، قالوا : نفعل ، فما أمرك؟ ثم قال لهم مثل ما قال لقريش ، وحذرهم ما حذرهم.

فلما كانت ليلة السبت من شوال سنة خمس ، وكان من صنع الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أرسل أبو سفيان بن حرب ورءوس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل فى نفر من قريش وغطفان فقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام ، قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا القتال ، حتى نناجز محمدا ، ونفرغ مما بيننا وبينه ، فأرسلوا إليهم : إن اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا ، فأصابه ما لم يخف عليكم ، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم ، يكونون بأيدينا ثقة لنا ، حتى نناجز محمدا ، فإنا نخشى أن ضرستكم الحرب ، واشتد عليكم القتال أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا ، والرجل فى بلدنا ، ولا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة ، قالت قريش وغطفان : والله إن الذى حدثكم نعيم بن مسعود لحق. فأرسلوا إلى بنى قريظة : إنا والله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا ، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا ، فقالت بنو قريظة ، حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إن الذى ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا ، فإن رأوا فرصة انتهزوها. وإن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل فى بلدكم ، فأرسلوا إلى قريش وغطفان : إنا والله لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا. فأبوا عليهم ، وخذل الله بينهم. وبعث الله عليهم الريح فى ليال شانية باردة

١٩٧

شديدة البرد ، فجعلت تكفأ قدورهم ، وتطرح أبنيتهم. فلما انتهى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما اختلف من أمرهم ، وما فرق الله من جماعتهم ، دعا حذيفة بن اليمان ، فبعثه إليهم ، لينظر ما فعل القوم ليلا.

* * *

قال حذيفة : فذهبت فدخلت فى القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل ، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء. فقام أبو سفيان ، فقال : يا معشر قريش ، لينظر امرؤ من جليسه؟ قال حذيفة : فأخذت بيد الرجل الذى كان إلى جنبى ، فقلت : من أنت؟ قال : فلان ابن فلان.

ثم قال أبو سفيان : يا معشر قريش ، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخف ، وأخلفتنا بنو قريظة ، وبلغنا عنهم الذى نكره ، ولقينا من شدة الريح ما ترون ، ما تطمئن لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا فإنى مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول ، فجلس عليه ، ثم ضربه ، فوثب به على ثلاث ، فو الله ما أطلق عقاله إلا وهو قائم ، ولو لا عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى «أن لا تحدث شيئا حتى تأتينى» ثم شئت لقتلته بسهم.

قال حذيفة : فرجعت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم يصلى فى مرط لبعض نسائه ، مراجل ، فلما رآنى أدخلنى إلى رجليه ، وطرح علىّ طرف المرط ، ثم ركع وسجد ، وإنى لقيه ، فلما سلم أخبرته الخبر ، وسمعت غطفان بما فعلت قريش ، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.

ولما أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون ، ووضعوا السلاح.

* * *

١٩٨

فلما كانت الظهر ، أتى جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، معتجرا بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة ، عليها قطيفة من ديباج ، فقال : أو قد وضعت السلاح يا رسول الله؟ قال : نعم ، فقال جبريل : فما وضعت الملائكة السلاح بعد ، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم. إن الله عزوجل يأمرك يا محمد بالمسير إلى بنى قريظة ، فإنى عامد إليهم فمزلزل بهم.

فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤذنا ، فأذن فى الناس ، من كان سامعا مطيعا ، فلا يصلينّ العصر إلا ببنى قريظة. واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.

وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علىّ بن أبى طالب برايته إلى بنى قريظة ، وابتدرها الناس. فسار على بن أبى طالب ، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرجع حتى لقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالطريق ، فقال : يا رسول الله ، لا عليك ألا تدنو من هؤلاء الأخابث ، قال : لم؟ أظنك سمعت منهم لى أذى؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال لو : رأونى لم يقولوا من ذلك شيئا. فلما دنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حصونهم. قال : يا إخوان القردة ، هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟ قالوا : يا أبا القاسم ، ما كنت جهولا.

ومر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفر من أصحابه بالصورين (١) قبل أن يصل إلى بنى قريظة فقال : هل مر بكم أحد؟ قالوا : يا رسول الله ، قد مر بنا دحية بن خليفة الكلبى ، على بغلة بيضاء عليها رحالة ، عليها قطيفة ديباج. فقال

__________________

(١) الصورين : موضع قرب المدينة.

١٩٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك جبريل ، بعث إلى بنى قريظة يزلزل بهم حصونهم ، ويقذف الرعب فى قلوبهم.

ولما أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنى قريظة نزل على بئر من آبارها من ناحية أموالهم ، يقال لها : بئر أنا.

وتلاحق به الناس ، فأتى رجال منهم من بعد العشاء الآخرة ، ولم يصلوا العصر ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يصلينّ أحد العصر إلا ببنى قريظة» ، فشغلهم ما لم يكن منه بد فى حربهم ، وأبوا أن يصلوا ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حتى تأتوا بنى قريظة» فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة ، فما عابهم الله بذلك فى كتابه ، ولا عنفهم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسا وعشرين ليلة ، حتى جهدهم الحصار وقذف الله فى قلوبهم الرعب.

وقد كان حيى بن أخطب دخل مع بنى قريظة فى حصنهم ، حين رجعت عنهم قريش وغطفان ، وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه. فلما أيقنوا بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم ، قال كعب بن أسد لهم : يا معشر يهود ، قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإنى عارض عليكم خلالا ثلاثا ، فخذوا أيها شئتم ، قالوا : وما هى؟ قال : نتابع هذا الرجل ونصدقه ، فو الله لقد تبين لكم إنه لنبى مرسل ، وإنه للذى تجدونه فى كتابكم ، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم ، قالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره قال : فإذا أبيتم على هذه ، فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه رجالا مصلتين السيوف ، لم نترك وراءنا ثقلا ، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ،

٢٠٠