الموسوعة القرآنيّة - ج ١

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ١

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

قال معاذ بن عمرو بن الجموح : سمعت القوم ، وأبو جهل فى مثل الحرجة ، وهم يقولون : أبو الحكم لا يخلص إليه. قال : فلما سمعتها جعلته من شأنى ، فصمدت نحوه ، فلما أمكنى حملت عليه ، فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه ، فو الله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها. قال : وضربنى ابنه عكرمة على عاتقى ، فطرح يدى ، فتعلقت بجلدة من جنسى ، وأجهضنى القتال عنه ، فلقد قاتلت عامة بومى ، وإنى لأسحبها خلفى ، فلما آذننى وضعت عليها قدمى ، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها.

ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان.

* * *

ثم مر بأبى جهل ، وهو عقير ، معوذ بن عفراء ، فضربه حتى أثبته ، فتركه وبه رمق ، وقاتل معوذ حتى قتل ، فمر عبد الله بن مسعود بأبى جهل ، حين أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يلتمس فى القتلى ، وقد قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : انظروا ، إن خفى عليكم فى القتلى إلى أثر جرح فى ركبته ، فإنى ازدحمت يوما أنا وهو على مأدبة لعبد الله بن جدعان ، ونحن غلامان ، وكنت أشف منه بيسير ، فدفعته ، فوقع على ركبته ، فجحش فى إحداهما جحشا لم يزل أثره به. قال عبد الله بن مسعود : فوجدته بآخر رمق ، فعرفته ، فوضعت ، رجلى على عنقه ـ قال : وقد كان ضيث بن مرة بمكة. فآذانى ولكزنى ، ثم قلت له : هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال : وبما ذا أخزانى؟ أعمد من رجل (١) قتلتموه! أخبرنى لمن الدائرة اليوم؟ قلت : لله ولرسوله.

ثم احتززت رأسه ، ثم جئت به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقلت يا رسول الله ، هذا رأيي عدو الله أبى جهل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

__________________

(١) أى هل فوق رجلى قتله قومه؟

١٤١

الله الذى لا إله غيره ـ وكانت يمين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قلت : نعم ـ والله الذى لا إله غيره ، ثم ألقيت رأسه بين يدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فحمد الله.

* * *

وقاتل عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي ، حليف بنى عبد شمس بن عبد مناف ، يوم بدر بسيفه ، حتى انقطع فى يده ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأعطاه جذلا من حطب ، فقال : قاتل ، بهذا يا عكاشة ، فلما أخذه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هزه ، فعاد سيفا فى يده طويل القامة ، شديدة المتن ، أبيض الحديدة ، فقاتل به حتى فتح الله تعالى على المسلمين ، وكان ذلك السيف يسمى : العون. ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى قتل فى الردة ، وهو عنده ، قتله طليحة بن خويلد الأسدي وعكاشة بن محصن الذى قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يدخل الجنة سبعون ألفا من أمتى على صورة القمر ليلة البدر ، قال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلنى منهم. قال : إنك منهم ، أو اللهم اجعلنى منهم. فقام رجل من الأنصار ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلنى منهم ، فقال : سبقك بها عكاشة ، وبردت الدعوة (١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما بلغنا عن أهله : منا خير فارس فى العرب ، قالوا : ومن هو يا رسول الله قال عكاشة بن محصن فقال ضرار بن الأزور الأسدي : ذاك رجل منا يا رسول الله : قال ليس منكم ولكنه منا للحلف.

* * *

__________________

(١) بردت الدعوة : ثبتت.

١٤٢

ولما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقتلى أن يطرحوا فى القليب ، طرحوا فيه ، إلا ما كان من أمية بن خلف ، فإنه انتفخ فى درعه فملأها ، فذهبوا ليحركوه ، فتزايل لحمه ، فأقروه ، وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة ، فلما ألقاهم فى القليب وقف عليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا أهل القليب ، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقّا ، فإنى قد وجدت ما وعدنى ربى حقّا. فقال له أصحابه : يا رسول الله ، أتكلم قوما موتى؟ فقال لهم : لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حقّا.

ولما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يلقوا فى القليب ، أخذ عنبة ابن ربيعة ، فسحب إلى القليب ، فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى وجه أبى حذيفة بن عتبة ، فإذا هو كئيب قد تغير لونه ، فقال : يا أبا حذيفة ، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شىء؟ ـ أو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقال : لا والله يا رسول الله ، ما شككت فى أبى ولا فى مصرعه ، ولكننى كنت أعرف من أبى رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجوا أن يهديه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه ، وذكرت ما مات عليه من الكفر ، بعد الذى كنت أرجو له ، أحزننى ذلك ، فدعا له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخير ، وقال له خيرا.

* * *

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بما فى العسكر ، مما جمع الناس ، فجمع ، فاختلف المسلمون فيه ، فقال من جمعه : هو لنا ، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه : والله لو لا نحن ما أصبتموه ، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم ، وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، مخافة أن يخالف إليه العدو : والله ما أنتم بأحق به منا ، والله لقد رأينا أن

١٤٣

نقتل العدو إذ منحنا الله تعالى أكتافه ، ولقد رأينا ، أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه ، ولكننا خفنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كرة العدو ، فقمنا دونه ، فما أنتم بأحق به منا.

* * *

ثم بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند الفتح عبد الله بن رواحة بشيرا إلى أهل العالية بما فتح الله عزوجل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى المسلمين ، وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة. قال أسامة بن زيد : فأتانا الخبر ـ حين سوينا التراب على رقية ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والتى كانت عند عثمان بن عفان. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلفنى عليها مع عثمان ـ أن زيد بن حارثة قدم. قال : فجئته ، وهو واقف بالمصلى قد غشيه الناس ، وهو يقول : قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو جهل بن هشام ، وزمعة بن الأسود ، وأبو البخترى العاص بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونبيه ، ومنبه ، ابنا الحجاج. قال : قلت : يا أبت ، أحق هذا؟ قال : نعم ، والله يا بنى.

* * *

ثم أقبل رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قافلا إلى المدينة ، ومعه الأسارى من المشركين ، وفيهم عقبة بن أبى معيط ، والنضر بن الحارث. واحتمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معه النفل الذى أصيب من المشركين ، وجعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول.

ثم أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى إذا خرج من مضيق الصفراء ، نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية ، فقسم هناك النفل الذى أفاء الله عن المسلمين من المشركين على السواء ، ثم ارتحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

١٤٤

حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ، ومن معه من المسلمين ، فقال لهم سلمة بن سلامة : ما الذى تهنئوننا به؟ فو الله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعلقة ، فنحرناها. فتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : أى ابن أخى ، أولئك الملأ.

ثم مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم واحد.

وقدم بالأسارى حين قدم بهم ، وسودة بنت زمعة زوج النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند آل عفراء ، فى مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء ، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب.

* * *

تقول سودة : والله إنى لعندهم إذ أتينا ، فقيل : هؤلاء الأسارى قد أتى بهم. قالت : فرجعت إلى بيتى ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه ، وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو فى ناحية الحجرة ، مجموعة يداه إلى عنقه بجبل. قالت : فلا والله ما ملكت نفسى حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه ، أن قلت : أعطيتم بأيديكم ، ألا متم كراما؟ فو الله ما أنبهنى إلا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من البيت : يا سودة ، أعلى الله ورسوله تحرضين؟ قلت : يا رسول الله ، والذى بعثك بالحق ، ما ملكت نفسى حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه ، أن قلت ما قلت.

* * *

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أقبل بالأسارى ، فرقهم بين أصحابه ، وقال : استوصوا بالأسارى خيرا.

(م ١٠ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)

١٤٥

وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش ، الحيسمان بن عبد الله الخزاعى ، فقالوا : ما وراءك؟ قال : قتل عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو الحكم ابن هشام ، وأمية بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، وأبو البخترى بن هشام. فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية ، وهو قاعد فى الحجر : والله إن يعقل هذا ، فاسألوه عنى. فقالوا : ما فعل صفوان ابن أمية؟ قال : ها هو ذاك جالسا فى الحجر ، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا.

ويقول أبو رافع مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت ، فأسلم العباس ، وأسلمت أم الفضل ، وأسلمت ، وكان العباس يهاب قومه ، ويكره خلافهم ، وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق فى قومه ، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر ، فبعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة ، وكذلك كانوا صنعوا ، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا ، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش ، كبته الله وأخزاه ، ووجدنا فى أنفسنا قوة وعزّا.

ويقول أبو رافع : وكنت رجلا ضعيفا ، وكنت أعمل الأقداح ، أنحتها فى حجرة زمزم ، فو الله إنى لجالس أنحت أقداحى ، وعندى أم الفضل جالسة ، وقد سرنا ما جاءنا من الخبر ، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر ، حتى جلس على طنب الحجرة ، فكان ظهره إلى ظهرى ، فبينما هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب قد قدم. فقال له أبو لهب : هلم إلى ، فعندك لعمرى الخبر. فجلس إليه والناس قيام عليه ، فقال : يا ابن أخى ، أخبرنى كيف

١٤٦

كان أمر الناس؟ قال : والله ما هو إلا أن لقينا القوم ، فمنحناهم أكتافنا ، يقودوننا كيف شاءوا ، ويأسروننا كيف شاءوا ، وأيم الله مع ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالا بيضا ، على خيل بلق ، بين السماء والأرض ، والله ما تليق شيئا ، ولا يقوم لها شىء. قال أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة بيدى ، ثم قلت : تلك والله الملائكة ، فرفع أبو لهب يده ، فضرب بها وجهى ضربة شديدة. قال : وثاورته فاحتملنى ، فضرب بى الأرض ، ثم برك على يضربنى ، وكنت رجلا ضعيفا ، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة ، فأخذته فضربته به ضربة شقت فى رأسه شجة منكرة ، وقالت : استضعفته أن غاب عنه سيده. فقام موليا ذليلا. فو الله ما عاش إلا سبع ليال ، حتى رماه الله بالعدسة ، فقتلته.

وناحت قريش على قتلاهم ، ثم قالوا : لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه ، فيشمتوا بكم ، ولا تبعثوا فى أسراكم حتى تستأنوا بهم (١) ، لا يأرب (٢) عليكم محمد وأصحابه فى الفداء. وكان الأسود بن عبد المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده : زمعة بن الأسود ، وعقيل بن الأسود ، والحارث بن زمعة ، وكان يحب أن يبكى على بنيه ، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له ، وقد ذهب بصره : انظر هل أحل النحب ، هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلى أبكى على أبى حكيمة ، يعنى زمعة ، فإن جوفى قد احترق. فلما رجع إليه الغلام قال : إنما هى امرأة تبكى على بعير لها أضلته.

وكان فى الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن له بمكة ابنا كيسا تاجرا ذا مال ، وكأنكم به قد جاءكم فى طلب فداء أبيه. فلما قالت قريش : لا تعجلوا بفداء أسراكم ،

__________________

(١) حتى تستأنوا بهم ، أى حتى تؤخروا فداءهم.

(٢) لا يأرب : لا يشتد.

١٤٧

لا يأرب عليكم محمد وأصحابه. قال المطلب بن أبى وداعة : صدقتم. لا تعجلوا ، وانسل من الليل فقدم المدينة ، فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم ، فانطلق به.

* * *

ثم بعثت قريش فى فداء الأسارى ، فقيل لأبى سفيان : افد عمرا ابنك. قال : أيجمع على دمى ومالى ، قتلوا حنظلة ، وأفدى عمرا ، دعوه فى أيديهم ، يمسكوه ما بدا لهم.

فبينما هو كذلك ، محبوس بالمدينة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال ، معتمرا ، ومعه مرية (١) له ، وكان شيخا مسلما ، فى غنم له بالنقيع ، فخرج من هناك معتمرا ، ولا يخشى الذى صنع به ، لم يظن أنه يحبس بمكة ، إنما جاء معتمرا ، وقد عهد قريشا لا يتعرضون لأحد جاء حاجّا ، أو معتمرا ، الا بخير ، فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة ، فحبسه بابنه عمرو ، ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأخبروه خبره ، وسألوه أن يعطيهم عمرو بن أبى سفيان ، فيفكوا به صاحبهم ، ففعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبعثوا به إلى أبى سفيان ، فخلى سبيل سعد.

* * *

وقد كان فى الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس. ختن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وزوج ابنته زينب.

__________________

(١) مرية ، تصغير امرأة.

١٤٨

وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين : مالا ، وأمانة ، وتجارة ، وكان هالة بنت خويلد ، وكانت خديجة خالته ، فسألت خديجة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يزوجه ، وكان رسول الله صلى الله عليه لا يخالفها ، وذلك قبل أن ينزل عليه الوحى ، فزوجه ، وكانت تعده بمنزلة ولدها ، فلما أكرم الله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنبوته ، آمنت به خديجة وبناته ، فصدقته ، وشهدن أن ما جاء به الحق ، ودنّ بدينه ، وثبت أبو العاص على شركه.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد زوج عتبة بن أبى لهب رقية ، أو أم كلثوم. فلما بادى قريشا بأمر الله تعالى وبالعداوة ، قالوا : إنكم قد فرغتم محمدا من همه ، فردوا عليه بناته ، فاشغلوه بهن ، فمشوا إلى أبى العاص ، فقالوا له : فارق صاحبتك ونحن نزوجك أى امرأة من قريش شئت. قال : لا والله ، إنى لا أفارق صاحبتى ، وما أحب أن لى بامرأتى امرأة من قريش. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يثنى عليه فى صهره خيرا. ثم مشوا إلى عتبة بن أبى لهب ، فقالوا له : طلق بنت محمد ونحن ننكحك أى امرأة من قريش شئت. فقال : إن زوجتمونى بنت أبان بن سعيد بن العاص ، أو بنت سعيد بن العاص ، فارقتها ، فزوجوه بنت سعيد بن العاص وفارقها ، ولم يكن دخل بها ، فأخرجها الله من يده كرامة لها ، وهوانا له ، وخلف عليها عثمان بن عفان بعده.

* * *

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحل بمكة ولا يحرم ، مغلوبا على أمره. وكان الإسلام قد فرق بين زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

١٤٩

حين أسلمت ، وبين أبى العاص بن الربيع ، إلا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يقدر أن يفرق بينهما ، فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه ، حتى هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما سارت قريش إلى بدر ، سار فيهم أبو العاص بن الربيع فأصيب فى الأسارى يوم بدر ، فكان بالمدينة عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ولما بعث أهل مكة فى فداء أسرائهم ، بعثت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى فداء أبى العاص بن الربيع بمال ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أخلتها بها على أبى العاص حين بنى عليها ، فلما رآها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رق لها رقة شديدة ، وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها مالها فافعلوا ، فقالوا : نعم يا رسول الله. فأطلقوه ، وردوا عليها الذى لها.

* * *

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أخذ عليه ، أن يخلى سبيل زينب إليه ، فلما قدم أبو العاص مكة ، أمرها باللحوق بأبيها ، فخرجت تجهز.

فلما فرغت بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهازها ، قدم لها حموها كنانة بن الربيع أخو زوجها ، بعيرا ، فركبته ، وأخذ قوسه وكنانته ، ثم خرج بها نهارا يقود بها ، وهى فى هودج لها. وتحدث بذلك رجال من قريش ، فخرجوا فى طلبها ، حتى أدركوها بذى طوى ، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى ، والفهرى ، فروعها هبار بالرمح ، وهى فى هودجها ، وكانت المرأة حاملا ـ فيما يزعمون ـ فلما ريعت طرحت ذا بطنها ، وبرك حموها كنانة ، ونثر كنانته ، ثم قال : والله لا يدنو منى رجل إلا وضعت فيه سهما ، فرجع الناس عنه. وأتى أبو سفيان فى جلة من قريش فقال : أيها الرجل ، كف عنا نبلك حتى نكلمك ، فكف ، فأقبل

١٥٠

أبو سفيان حتى وقف عليه ، فقال : إنك لم تصب ، خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية ، وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا ، وما دخل علينا من محمد ، فيظن الناس إذا خرجت بابنته إليه علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا ، أن ذلك عن ذل أصابنا عن مصيبتنا التى كانت ، وأن ذلك منا ضعف ووهن ، ولعمرى ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة ، وما لنا فى ذلك من ثأر ، ولكن ارجع بالمرأة ، حتى إذا هدأت الأصوات ، وتحدث الناس أن قد رددناها ، فسلها سرّا ، وألحقها بأبيها ، ففعل ، فأقامت ليالى ، حتى إذا هدأت الأصوات ، خرج بها ليلا ، حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه ، فقدما بها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

وأقام أبو العاص بمكة ، وأقامت زينب عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، حين فرق بينهما الإسلام. حتى إذا كان قبيل الفتح ، خرج أبو العاص تاجرا إلى الشام ، وكان رجلا مأمونا ، بمال له وأموال لرجال من قريش ، أبضعوها معه ، فلما فرغ من تجارته وأقبل قافلا ، لقيته سرية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأصابوا ما معه ، وأعجزهم هاربا ، فلما قدمت السرية بما أصابوا من ماله ، أقبل أبو العاص تحت الليل ، حتى دخل على زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاستجار بها ، فأجارته ، وجاء فى طلب ماله ، فلما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الصبح ، فكبر وكبر الناس معه ، صرخت زينب من صفة النساء : أيها الناس ، إنى قد أجرت أبا العباس بن الربيع ، فلما سلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الصلاة ، أقبل على الناس ، فقال : أيها الناس ، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا : نعم ، قال : أما والذى نفس محمد بيده ، ما علمت بشيء من ذلك حتى سمت ما سمعتم ، إنه يجير على المسلمين أدناهم. ثم انصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدخل

١٥١

على ابنته ، فقال : أى بنية ، أكرمى مثواه ، ولا يخلصن إليك ، فإنك لا تحلين له.

* * *

ثم إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى السرية الذين أصابوا مال أبى العاص ، فقال لهم : إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم ، وقد أصبتم له مالا ، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذى له ، فإنا نحب ذلك ، وإن أبيتم فهو فيء الله الذى أفاء عليكم ، فأنتم أحق به. فقالوا : يا رسول الله ، بل نرده عليه ، فردوه عليه ، حتى إن الرجل ليأتى بالدلو ، ويأتى الرجل بالشنة ، وبالإداوة ، حتى إن أحدهم ليأتى بالشظاظ ، حتى ردوا عليه ماله بأسره ، لا يفقد منه شيئا.

ثم احتمل إلى مكة ، فأدى إلى كل ذى مال من قريش ماله ، ومن كان أبضع معه ، ثم قال : يا معشر قريش ، هل بقى لأحد منكم عندى مال لم يأخذه ، قالوا : لا ، فجزاك الله خيرا ، فقد وجدناك وفيّا كريما. قال : فأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، والله ما منعنى من الإسلام عنده. إلا تخوف أن تظنوا أنى إنما أردت أن آكل أموالكم ، فلما أداها الله إليكم ، وفرغت منها ، أسلمت ، ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

وجلس عمير بن وهب الجمحى مع صفوان بن أمية ، بعد مصاب أهل بدر من قريش ، فى الحجر بيسير ، وكان عمير بن وهب شيطانا من شياطين قريش ، وممن كان يؤذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، ولقى منه عناء وهو بمكة ، وكان ابنه وهب بن عمير فى أسارى بدر.

١٥٢

فذكر أصحاب القليب ومصابهم ، فقال صفوان : والله ليس فى العيش بعدهم خير ، قال له عمير : صدقت والله ، أما والله لو لا دين علىّ ليس له عندى قضاء ، وعيال أخشى عليهم الضيعة بعدى ، لركبت إلى محمد حتى أقتله ، فإن لى قبلهم علة : ابني أسير فى أيديهم. فاغتنمها صفوان ، وقال : علىّ دينك ، أنا أقضيه عنك ، وعيالك مع عيالى أواسيهم ما بقوا ، لا يسعنى شىء ويعجز عنهم. فقال له عمير : فاكتم شأنى وشأنك. قال : أفعل.

ثم أمر عمير بسيفه ، فشحذ له ، وسم ، ثم انطلق حتى قدم المدينة ، فبينما عمر بن الخطاب فى نفر من المسلمين يتحدثون عن يوم بدر ، ويذكرون ما أكرمهم الله به ، وما أراهم من عدوهم ، إذ نظر عمر إلى عمير بن وهب ، حين أناخ على باب المسجد متوشحا السيف ، فقال : هذا الكلب عدو الله عمير ابن وهب ، والله ما جاء إلا لشر ، وهو الذى حرش بيننا ، وحزرنا (١) للقوم يوم بدر.

* * *

ثم دخل عمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا نبى الله ، هذا عدو الله عمير بن وهب قد جاء متوشحا سيفه ، قال : فأدخله علىّ فأقبل عمر حتى أخذ بحمالة سيفه فى عنقه فلببه بها ، وقال لرجال ممن كانوا معه من الأنصار : ادخلوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاجلسوا عنده ، واحذروا عليه من هذا الخبيث ، فإنه غير مأمون ، ثم دخل به على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو آخذ بحمالة سيفه فى عنقه ، قال : أرسله يا عمر ، ادن يا عمير ، فدنا ثم قال : أنعموا صباحا ، وكانت تحية أهل

__________________

(١) حزرنا : قدر عددنا تخمينا.

١٥٣

الجاهلية بينهم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك يا عمير ، بالسلام تحية أهل الجنة. فقال : أما والله يا محمد ، إن كنت بها لحديث عهد. قال : فما جاء بك يا عمير؟ قال : جئت لهذا الأسير الذى فى أيديكم ، فأحسنوا فيه ، قال : فما بال السيف فى عنقك؟ قال : قبحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئا؟ قال : أصدقنى ، ما الذى جئت له؟ قال : ما جئت إلا لذلك ، قال : بل قعدت أنت وصفوان بن أمية فى الحجر ، فذكرتما أصحاب القليب من قريش ، ثم قلت : لو لا دين علىّ وعيال عندى ، لخرجت حتى أقتل محمدا ، فتحمل لك صفوان بدينك وعيالك ، على أن تقتلنى له ، والله حائل بينى وبين ذلك ، قال عمير : أشهد أنك رسول الله ، قد كنا يا رسول الله نكذبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء ، وما ينزل عليك من الوحى ، وهذا أمر لم يحضره إلا أنا وصفوان ، فو الله إنى لأعلم ما أتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذى هدانى للإسلام وساقنى هذا المساق ، ثم شهد شهادة الحق. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقهوا أخاكم فى دينه ، وأقرئوه القرآن ، وأطلقوا له أسيره ، ففعلوا.

ثم قال يا رسول الله ، إنى كنت جاهدا على إطفاء نور الله ، شديد الأذى لمن كان على دين الله عزوجل ، وأنا أحب أن تأذن لى ، فأقدم مكة فأدعوهم إلى الله تعالى ، وإلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى الإسلام لعل الله يهديهم ، وإلا آذيتهم فى دينهم ، كما كنت أوذى أصحابك فى دينهم. فأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلحق بمكة. وكان صفوان بن أمية حين خرج عمير بن وهب ، يقول : أبشروا بوقعة تأتيكم الآن فى أيام تنسيكم وقعة بدر. وكان صفوان يسأل عن الركبان ، حتى قدم راكب فأخبره عن إسلامه ، فحلف ألا يكلمه أبدا ، ولا ينفعه بنفع أبدا.

١٥٤

فلما قدم عمير مكة ، أقام بها يدعو إلى الإسلام ، ويؤذى من خالفه أذى شديدا ، فأسلم على يديه ناس كثير.

وأسر من المشركين من قريش يوم بدر ثلاثة وأربعون رجلا.

* * *

٦٢ ـ غزوة السويق

ثم غزا أبو سفيان بن حرب غزوة السويق فى ذى الحجة ، وكان أبو سفيان حين رجع إلى مكة ، ورجع فل (١) قريش من بدر ، نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج فى مائتى راكب من قريش ، ليبر يمينه ، فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له : ثيب ، من المدينة على بريد أو نحوه ، ثم خرج من الليل ، حتى أتى بنى النضير تحت الليل ، فأتى حيى بن أخطب ، فضرب عليه بابه ، فأبى أن يفتح له بابه وخافه ، فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم ، وكان سيد بنى النضير فى زمانه ذلك ، وصاحب كنزهم ، فاستأذن عليه ، فأذن له ، فقراه وسقاه ، وأعلمه من خبر الناس. ثم خرج فى عقب ليلته حتى أتى أصحابه ، فبعث رجالا من قريش إلى المدينة ، فأتوا ناحية منها ، يقال لها : العريض ، فحرقوا فى أصوار ـ جماعة من نخل بها ـ ووجدوا بها رجلا من الأنصار وحليفا له فى حرث لهما ، فقتلوهما ، ثم انصرفوا راجعين ، ونذر بهم الناس. فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى طلبهم ، واستعمل على المدينة بشير بن عبد المنذر ، وهو أبو لبابة ، حتى بلغ قرقرة الكدر ، ثم انصرف راجعا ، قد فاته أبو سفيان ـ وأصحابه ، وقد رأوا أزوادا من أزواد القوم قد طرحوها فى الحرث ، يتخففون منها للنجاة. فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، أتطمع أن تكون لنا غزوة؟ قال : نعم.

__________________

(١) الفل : القوم المنهزمون.

١٥٥

وإنما سميت غزوة السويق ، لأن أكثر ما طرح القوم من أزوادهم السويق ، فهجم المسلمون على سويق كثير ، فسميت غزوة السويق.

* * *

٦٣ ـ غزوة ذى أمر

فلما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غزوة السويق ، أقام بالمدينة بقية ذى الحجة أو قريبا منها ، ثم غزا نجدا ، يريد غطفان ، وهى غزوة ذى أمر. واستعمل على المدينة عثمان بن عفان ، فأقام بنجد صفرا كله ، أو قريبا من ذلك ، ثم رجع إلى المدينة ، ولم يلق كيدا. فلبث بها شهر ربيع الأول كله ، أو إلا قليلا منه.

* * *

٦٤ ـ غزوة الفرع

ثم غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يريد قريشا ، استعمل على المدينة ابن أم مكتوم ، حتى بلغ بحران ، معدنا بالحجاز من ناحية الفرع ، فأقام بها شهر بيع الآخر وجمادى الأولى ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا.

* * *

٦٥ ـ حديث بنى قينقاع

وقد كان فيما بين ذلك ، من غزو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أمر بنى قينقاع ، وكان من حديث بنى قينقاع أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جمعهم يسوق بنى قينقاع ، ثم قال : يا معشر يهود ، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة ، وأسلموا ، فإنكم قد عرفتم أنى نبى مرسل ، تجدون ذلك فى كتابكم وعهد الله إليكم قالوا : يا محمد ، إنك ترى أنا قومك ، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنّا نحن الناس.

١٥٦

وكان بنو قينقاع أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحاربوا فيما بين بدر وأحد.

* * *

وكان من أمر بنى قينقاع أن امرأة من العرب قدمت يجلب لها ، فباعته بسوق بنى قينقاع ، وجلست إلى صائغ بها ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها ، فأبت ، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها ، فلما قامت انكشفت سوأتها ، فضحكوا بها ، فصاحت ، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وكان يهوديّا ، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون ، فوقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع. فحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى نزلوا على حكمه ، فقام إليه عبد الله ابن أبىّ بن سلول ، حين أمكنه الله منهم ، فقال : يا محمد ، أحسن فى موالى ـ ـ وكانوا حلفاء الخزرج ـ فأبطأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا محمد ، أحسن فى موالى ، فأعرض عنه ، فأدخل يده فى جيب درع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرسلنى ، وغضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا ، ثم قال : ويحك ، أرسلنى. قال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن فى موالى ، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع وقد منعونى من الأحمر والأسود وتحصدهم فى غداة واحدة ، إنى والله امرؤ أخشى الدوائر. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هم لك.

* * *

١٥٧

واستعمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على المدينة فى محاصرته إياهم بشير بن عبد المنذر ، وكانت محاصرته إياهم خمس عشرة ليلة.

* * *

ولما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، تشبث بأمرهم عبد الله ابن أبىّ بن سلول ، وقام دونهم ، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان أحد بنى عوف ، لهم من حلفه مثل الذى لهم من عبد الله بن أبىّ ، فخلعهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتبرأ إلى الله عزوجل ، وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حلفهم ، وقال : يا رسول الله ، أتولى الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين. وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم.

* * *

٦٦ ـ سرية زيد

وأما سرية زيد بن حارثة ، التى بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها ، حين أصاب عير قريش ، وفيها أبو سفيان بن حرب ، على القردة : ماء من مياه نجد ، فكان من حديثها أن قريشا خافوا طريقهم الذى كانوا يسلكون إلى الشام ، حين كان من وقعة بدر ما كان ، فسلكوا طريق العراق ، فخرج منهم تجار ، فيهم : أبو سفيان بن حرب ، ومعه فضة كثيرة ، وهى عظم تجارتهم ، واستأجروا رجلا من بنى بكر بن وائل ، يقال له : فرات بن حيان ، يدلهم فى ذلك على الطريق.

* * *

٦٧ ـ مقتل كعب بن الأشرف

وكان من حديث كعب بن الأشرف ، أنه لما أصيب أصحاب بدر ، وقدم زيد بن حارثة إلى أهل السافلة ، وعبد الله بن رواحة إلى أهل العالية ،

١٥٨

بشيرين ، بعثهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله عزوجل عليه ، وقتل من قتل من المشركين.

قال كعب بن الأشرف ، حين بلغه الخبر : أحق هذا؟ أترون محمدا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان ـ يعنى زيدا وعبد الله بن رواحة ـ فهؤلاء أشراف العرب ، وملوك الناس ، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم ، لبطن الأرض خير من ظهرها.

فلما تيقن عدو الله الخبر ، خرج حتى قدم مكة ، فنزل على المطلب بن أبى وداعة بن ضبيرة السهمى وعنده عاتكة بنت أبى العيص بن أمية بن عبد شمس ابن عبد مناف ، فأنزلته وأكرمته ، وجعل يحرض على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وينشد الأشعار ، ويبكى أصحاب القليب من قريش ، الذين أصيبوا ببدر. ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة فشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من لى بابن الأشرف؟ فخرج إليه محمد ابن مسلمة فقتله.

* * *

٦٨ ـ غزوة أحد

ولما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ، ورجع فلهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره ، مشى عبد الله بن أبى ربيعة ، وعكرمة بن أبى جهل ، وصفوان بن أمية ، فى رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ، ومن كانت له فى تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش ، إن محمدا قد وتركم ، وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه ، فلعلنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منا ، ففعلوا.

فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين فعل ذلك

١٥٩

أبو سفيان بن حرب وأصحاب العير بأحابيشها ، ومن أطاعها من قبائل كنانة ، وأهل تهامة ، وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحى قد منّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ، وكان فقيرا ذا عيال وحاجة ، وكان فى الاسارى ، فقال : إنى فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها فامنن علىّ ، صلى الله عليك وسلم ، فمنّ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال له صفوان بن أمية : يا أبا عزة ، إنك امرؤ شاعر ، فأعنا بلسانك ، فاخرج معنا ، فقال : إن محمدا قد منّ على فلا أريد أن أظاهر عليه ، قال : بلى ، فأعنا بنفسك فلك والله علىّ إن رجعت أن أغنيك وإن أصبت أن أجعل بناتك مع بناتى ، يصيبهن ما أصابهن من عسر ويسر. فخرج أبو عزة يسير فى تهامة ، ويدعو بنى كنانة.

وخرج مسافع بن عبد مناف بن وهب بن حذافة بن جمح إلى بنى مالك ابن كنانة ، يحرضهم ويدعوهم إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ودعا جبير بن مطعم غلاما له حبشيّا يقال له : وحشى ، يقذف بحربة له قذف الحبشة ، فلما يخطئ بها ، فقال له : اخرج مع الناس ، فإن أنت قتلت حمزة عم محمد ، يعنى طعيمة بن عدى ، فأنت عتيق.

فخرجت قريش بحدها وجدها وحديدها وأحابيشها ، ومن تابعها من بنى كنانة ، وأهل تهامة ، وخرجوا معهم بالظعن ، التماس الحفيظة وألا يفروا ، فخرج أبو سفيان بن حرب ، وهو قائد الناس ، بهند بنت عتبة ، وخرج عكرمة بن أبى جهل بأم حكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة ، وخرج الحارث بن هشام بن المغيرة بفاطمة بنت الوليد بن المغيرة ، وخرج صفوان بن أمية ببرزة بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية ، وهى أم عبد الله بن صفوان ابن أمية.

١٦٠