الموسوعة القرآنيّة - ج ١

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ١

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٠٤

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى بكر : قل له : وما تبتغى منا؟ فقال ذلك أبو بكر. قلت : تكتب لى كتابا يكون آية بينى وبينك. قال : اكتب له يا أبا بكر.

ثم ألقاه إلىّ ، فأخذته ، فجعلته فى كنانتى ، ثم رجعت ، فسكت فلم أذكر شيئا مما كان ، حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفرغ من حنين والطائف ، خرجت ومعى الكتاب لألقاه ، فرفعت يدى بالكتاب ، ثم قلت : يا رسول الله ، هذا كتابك لى ، أنا سراقة بن جعشم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يوم وفاء وبر ، ادنه ، فدنوت منه فأسلمت.

ويقول رجال من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة ، كنا نخرج إذا صلينا الصبح ، إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فو الله لا نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال ، فإذا لم نجد ظلا دخلنا ، وذلك فى أيام حارة ، حتى إذا كان اليوم الذى قدم فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، جلسنا كما كنا نجلس ، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا ، وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دخلنا البيوت ، فكان أول من رآه رجل من اليهود ، فصرخ بأعلى صوته : يا بنى قيلة (١) ، هذا جدكم قد جاء. فخرجنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو فى ظل نخلة ، ومعه أبو بكر رضى الله عنه فى مثل سنه ، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ذلك ، وركبه الناس ـ وما يعرفونه من أبى بكر ـ حتى زال الظل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقام أبو بكر وأظله بردائه ، فعرفناه عند ذلك.

فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كلثوم بن هدم ، أخى بنى عمرو ابن عوف.

__________________

(١) قيله : هم الأنصار ، وقيلة إخوة كانت لهم.

١٠١

ونزل أبو بكر الصديق رضى الله عنه على خبيب بن أساف.

* * *

وأقام على بن أبى طالب عليه‌السلام بمكة ثلاث ليال وأيامها ، حتى أدى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الودائع التى كانت عنده للناس ، حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل معه على كلثوم ابن هدم.

فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقباء ، فى بنى عمرو بن عوف ، يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس ، وأسس مسجده.

ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة ، فأدركت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجمعة فى بنى سالم بن عوف ، فصلاها فى المسجد الذى فى بطن الوادى ، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة.

* * *

٥٤ ـ مسجد الرسول بالمدينة وبيته

فأتاه رجال من بنى سالم بن عوف فقالوا : يا رسول الله ، أقم عندنا فى العدد والعدة والمنعة. قال : خلوا سبيلها ، فإنها مأمورة ، لناقته ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت ، حتى إذا وازنت دار بنى بياضة ، تلقاه رجال من بنى بياضة ، فقالوا : يا رسول الله ، هلم إلينا ، إلى العدد والعدة والمنعة. قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت ، حتى إذا مرت بدار بنى ساعدة اعترضه رجال من بنى ساعدة فقالوا : يا رسول الله ، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة. قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت ، حتى إذا وازنت دار بنى الحارث بن الخزرج ، قالوا : يا رسول الله ، هلم إلينا إلى العدد والعدة

١٠٢

والمنعة. قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت ، حتى إذا مرت بدار بنى عدى بن النجار ـ وهم أخواله دنيا ـ اعترضه رجال من بنى عدى بن النجار ، فقالوا : يا رسول الله ، هلم إلى أخوالك ، إلى العدد والعدة والمنعة. قال : خلوا سبيلها ، فإنها مأمورة ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت ، حتى إذا أنت دار بنى مالك بن النجار ، بركت على باب مسجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو يومئذ مريد لغلامين يتيمين من بنى النجار ، فلما بركت ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها لم ينزل ، وثبت فسارت غير بعيد ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واضع لها زمامها لا يثنيها به ، ثم التفتت إلى خلفها ، فرجعت إلى مبركها أول مرة ، فبركت فيه ، فنزل عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله فوضعه فى بيته : ونزل عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسأل عن المريد لمن هو؟ فقال له معاذ بن عفراء : هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو ، وهما يتيمان لى ، وسأرضيهما منه ، فاتخذه مسجدا.

فأمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبنى مسجدا ، ونزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبى أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه ، فعمل فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليرغب المسلمين فى العمل فيه ، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ، ودأبوا فيه.

فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بيت أبى أيوب حتى بنى له مسجده ومساكنه.

وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس ، ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله تبارك وتعالى ، وإلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلا أهل دور

١٠٣

مسمون : بنو مظعون من بنى جمح ، وبنو جحش من رئاب ، حلفاء بنى أمية ، وبنو البكير ، من بنى سعد بن ليث ، حلفاء بنى عدى بن كعب ، فإن دورهم غلقت بمكة هجرة ، ليس فيها ساكن.

ولما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم ، عدا عليها أبو سفيان بن حرب ، فباعها من عمرو بن علقمة ، فلما بلغ بنى جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ، ذكر ذلك عبد الله بن جحش لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا ترضى يا عبد الله أن يعطيك الله بها دارا خيرا منها فى الجنة؟ قال : بلى. قال : فذلك لك. فلما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة كلمه أبو أحمد بن جحش فى دارهم ، فأبطأ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال الناس لأبى أحمد : يا أبا أحمد ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكره أن ترجعوا فى شىء من أموالكم أصيب منكم فى الله عزوجل ، فأمسك عن كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

* * *

٥٥ ـ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

وأخى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فقال :

تآخوا فى الله أخوين أخوين ، ثم أخذ بيد على بن أبى طالب ، فقال : هذا آخى.

فلما اطمأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين ، واجتمع أمر الأنصار ، استحكم أمر الإسلام ، فقامت الصلاة ، وفرضت الزكاة والصيام ، وقامت الحدود ، وفرض الحلال والحرام ، وتبوّأ

١٠٤

الإسلام بين أظهرهم ، وكان هذا الحى من الأنصار هم الذين تبوءوا الدار والإيمان.

* * *

٥٦ ـ حديث الآذان

وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم المدينة إنما يجتمع الناس إليه للصلاة لحين مواقيتها ، بغير دعوة ، فهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدمها أن يجعل بوقا كبوق اليهود الذين يدعون به لصلاتهم ، ثم كرهه.

فبينما هم على ذلك ، إذ رأى عبد الله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه ، أخو بلحارث بن الخزرج ، النداء ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : يا رسول الله ، إنه طاف بى هذه الليلة طائف ، مربى رجل عليه ثوبان أخضران ، يحمل ناقوسا فى يده ، فقلت له : يا عبد الله ، أتبيع هذا الناقوس؟ قال : وما تصنع به؟ قلت : ندعو به إلى الصلاة. قال : أفلا أدلك على خير من ذلك؟ قلت : وما هو؟ قال : تقول : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حىّ على الصلاة ، حىّ على الصلاة ، حىّ على الفلاح ، حىّ على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله.

فلما أخبر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : إنها لرؤيا حق إن شاء الله ، فقم مع بلال فألقها عليه ، فليؤذن بها ، فإنه أندى صوتا منك. فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب ، وهو فى بيته ، فخرج إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يجر رداءه ، وهو يقول : يا نبى الله ، والذى بعثك

١٠٥

بالحق ، لقد رأيت مثل الذى رأى ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فلله الحمد على ذلك.

* * *

٥٧ ـ الرسول ويهود المدينة

ونصبت عند ذلك أحبار يهود لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم العداوة ، بغيا وحسدا وضغنا ، لما خص الله تعالى به العرب من أخذه رسوله منهم ، وانضاف إليهم رجال من الأوس والخزرج ، ممن كان بقى على جاهليته ، فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث ، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه ، فظهروا بالإسلام واتخذوه جنة من القتل ، ونافقوا فى السر ، وكان هواهم مع يهود ، لتكذيبهم النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجحودهم الإسلام ، وكانت أحبار يهودهم هم الذين يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتعنتونه ، ويأتونه باللبس ، ليلبسوا الحق بالباطل ، فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه ، إلا قليلا من المسائل فى الحلال والحرام ، كان المسلمون يسألون عنها.

* * *

وكان من حديث عبد الله بن سلام حين أسلم ، وكان حبرا عالما ، قال : لما سمعت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذى كنا نتوقع له ، فكنت مسرّا لذلك ، صامتا عليه ، حتى قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة.

فلما نزل بقباء ، فى بنى عمرو بن عوف ، أقبل رجل حتى أخبر بقدومه ، أنو فى رأس نخلة لى أعمل فيها ، وعمتى خالدة بنت الحارث تحتى جالسة ، فلما

١٠٦

سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كبرت ، فقالت لى عمتى ، حين سمعت تكبيرى : خيبك الله! والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت! فقلت لها : أى عمة ، هو والله أخ موسى بن عمران ، وعلى دينه ، بعث بما بعث به. فقالت : أى ابن أخى ، أهو النبى الذى كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة؟ فقلت لها : نعم. فقالت : فذاك إذن. قال : ثم خرجت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأسلمت ، ثم رجعت إلى أهل بيتى ، فأمرتهم فأسلموا.

* * *

وكان من حديث مخيريق ، وكان حبرا عالما ، وكان رجلا غنيّا كثير الأموال من النخل ، وكان يعرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصفته ، وما يجد فى علمه ، وغلب عليه إلف دينه ، فلم يزل على ذلك ، حتى إذا كان يوم أحد ، وكان يوم أحد يوم السبت ، قال : يا معشر يهود ، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق. قالوا : إن اليوم يوم السبت. قال : لا سبت لكم. ثم أخذ سلاحه ، فخرج حتى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأحد ، وعهد إلى من وراءه من قومه : إن قتلت هذا اليوم ، فأموالى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنع فيها ما أراه الله. فلما اقتتل الناس ، قاتل حتى قتل ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : مخيريق خير يهود. وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمواله ، فعامة صدقات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة منها.

* * *

وكان حيى بن أخطب ، وأخوه أبو ياسر بن أخطب ، من أشد يهود

١٠٧

للعرب حسدا ، إذ خصهم الله تعالى برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانا جاهدين فى رد الناس عن الإسلام بما استطاعا ، فأنزل الله تعالى فيهما : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

* * *

وكان ممن انضاف إلى يهود : جلاس بن سويد بن الصامت ، وأخوه الحارث بن سويد.

وجلاس الذى قال ـ وكان ممن تخلف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غزوة تبوك ـ : أإن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر. فرفع ذلك من قوله إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمير بن سعد ، وكان فى حجر جلاس ، خلف جلاس على أمه بعد أبيه ، فقال له عمير بن سعد : والله يا جلاس ، إنك لأحب الناس إلىّ ، وأحسنهم عندى يدا ، وأعزهم على أن يصيبه شىء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن رفعتها عليك لأفضحنك ، ولئن صمت عليها ليهلكن دينى ، ولإحداهما أيسر على من الأخرى. ثم مشى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر له ما قاله جلاس ، فحلف جلاس بالله لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لقد كذب على عمير ، وما قلت ما قال عمير بن سعد. فأنزل الله عزوجل فيه : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ).

فزعموا أنه تاب فحسنت توبته ، حتى عرف منه الخير والإسلام. وأخوه الحارث بن سويد ، الذى قتل المجذر بن ذياد البلوى ، وقيس بن زيد ، أحد

١٠٨

بنى صيعة ، يوم أحد ، خرج مع المسلمين ، وكان منافقا ، فلما التقى الناس عدا عليهما فقتلهما ثم لحق بقريش.

* * *

ونبتل بن الحارث ، وهو الذى قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحب أن ينظر إلى الشيطان ، فلينظر إلى نبتل بن الحارث. وكان رجلا جسيما أسود ثائر شعر الرأس ، أحمر العينين ، أسفع الخدين ، وكان يأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يتحدث إليه ، فيسمع منه ، ثم ينقل حديثه إلى المنافقين ، وهو الذى قال : إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه. فأنزل الله عزوجل فيه. (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

* * *

ومربع بن قيظى ، وهو الذى قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين أجاز فى بستانه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عامد إلى أحد : لا أحل لك يا محمد ، إن كنت نبيّا ، أن تمر فى بستانى ، وأخذ فى يده حفنة من تراب ، ثم قال : والله لو أعلم أنى لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به. فابتدره القوم ليقتلوه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعوه. فهذا الأعمى أعمى القلب ، أعمى البصيرة. فضربه سعد بن زيد ، أخو بنى عبد الأشهل ، بالقوس فشجه.

* * *

وعبد الله بن أبىّ بن سلول ، وكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون ،

١٠٩

وهو الذى قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فى غزوة بنى المصطلق ، وفى قوله ذلك ، نزلت سورة «المنافقون» بأسرها.

* * *

وكان ممن تعوذ بالإسلام ودخل فيه مع المسلمين وأظهره ، وهو منافق ، من أحبار يهود : زيد بن اللصيت ، الذى قاتل عمر بن الخطاب رضى الله عنه بسوق بنى قينقاع ، وهو الذى قال ، حين ضلت ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء وهو لا يدرى أين ناقته! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وجاءه الخبر بما قال عدو الله فى رحله ، ودل الله تبارك وتعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ناقته : إن قائلا قال : يزعم محمد أنه يأتيه خبر السماء ولا يدرى أين ناقته؟ وإنى والله ما أعلم إلا ما علمنى الله وقد دلنى الله عليها ، فهى فى هذا الشعب ، قد حبستها شجرة بزمامها. فذهب رجال من المسلمين ، فوجدوها حيث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكما وصف.

* * *

ورافع بن حريملة ، وهو الذى قال له الرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حين مات : قد مات اليوم عظيم من عظماء المنافقين.

* * *

وكان هؤلاء المنافقون يحضرون إلى المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ويسخرون ويستهزءون بدينهم ، فاجتمع يوما فى المسجد منهم ناس ، فرآهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتحدثون بينهم خافضى أصواتهم ، قد لصق بعضهم ببعض ، فأمر بهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا.

١١٠

ففي هؤلاء من أحبار يهود ، والمنافقين من الأوس والخزرج ، نزل صدر سورة البقرة إلى المائة منها.

* * *

وكان يهود يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل ، وبشر بن البراء بن معرور ، أخو بنى سلمة : يا معشر يهود ، اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك ، وتخبروننا أنه مبعوث ، وتصفونه لنا بصفته. فقال سلام ابن مشكم ، أحد بنى النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه ، وما هو بالذى كنا نذكره لكم ، فأنزل الله فى ذلك من قولهم : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ).

* * *

وقال رافع بن حريملة ، ووهب بن زيد ، لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد ، ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه ، وفجر لنا أنهارا ، نتبعك ونصدقك. فأنزل الله تعالى فى ذلك من قولهما : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

* * *

ولما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال رافع ابن حريملة : ما أنتم على شىء ، وكفر بعيسى وبالإنجيل ، فقال رجل من

١١١

أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شىء ، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة ، فأنزل الله تعالى فى ذلك من قولهم : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

* * *

وقال رافع بن حريملة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد ، إن كنت رسولا من الله كما تقول ، فقل لله فليكلمنا حتى نسمع كلامه. فأنزل الله تعالى فى ذلك من قوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.)

* * *

ولما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة ، وصرفت فى رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة ، أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رفاعة بن قيس وآخرون ، فقالوا : يا محمد ، ما ولاك عن قبلتك التى كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التى كنت عليها ، نتبعك ونصدقك ، وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه ، فأنزل الله تعالى فيهم : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

١١٢

٥٨ ـ حديث المباهلة

وقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد نصارى نجران ، ستون راكبا ، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، فى الأربعة عشر منهم ثلاثة نفر إليهم يئول أمرهم : العاقب ، أمير القوم وذو رأيهم ، وصاحب مشورتهم ، والذى لا يصدرون إلا عن رأيه ، واسمه عبد المسيح ، والسيد ، ثمالهم (١) ، وصاحب رحلهم ومجتمعهم ، واسمه الأيهم ، وأبو حارثة بن علقمة ، أحد بنى بكر ابن وائل ، أسقفهم وحبرهم وإمامهم ، وصاحب مدارسهم.

وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ، ودرس كتبهم ، حتى حسن عمله فى دينهم ، فكانت ملوك الروم من النصرانية قد شرّفوه وموّلوه وأخدموه. وبنوا له الكنائس ، وبسطوا عليه الكرامات ، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده فى دينهم.

فلما رجعوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نجران ، جلس أبو حارثة على بغلة له موجها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإلى جنبه أخ له ، يقال له : كرز بن علقمة ، فعثرت بغلة أبى حارثة ، فقال كرز : تعس الأبعد ، يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال له أبو حارثة : بل أنت تعست. فقال : ولم يا أخى؟ قال : والله إنه للنبى الذى كنا ننتظر. فقال له كرز : ما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال : ما صنع بنا هؤلاء القوم ، شرّفونا وموّلونا وأكرمونا ، وقد أبوا إلا خلافه ، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى. فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة ، حتى أسلم بعد ذلك.

ولما قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، فدخلوا عليه مسجده

__________________

(١) ثمال القوم ، ككتاب : غياثهم الذى يقوم بأمرهم.

(م ٨ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ١)

١١٣

حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحبرات ، جبب وأردية ، فى جمال رجال بنى الحارث بن كعب ، وقد حانت صلاتهم ، فقاموا فى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلون ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : دعوهم ، فصلوا إلى المشرق.

فكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، منهم : أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب عبد المسيح ، والأيهم السيد ، وهم من النصرانية على دين الملك ، مع اختلاف من أمرهم ، يقولون : هو الله ، ويقولون : هو ولد الله ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة. وكذلك قول النصرانية.

فلما كلمه الحبران ، قال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أسلما. قالا : قد أسلمنا. قال : إنكما لم تسلما فأسلما. قالا : بلى ، قد أسلمنا قبلك. قال : كذبتما ، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا ، وعبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير. قالا : فمن أبوه يا محمد؟ فصمت عنهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يجبهما.

فأنزل الله تعالى فى ذلك من قولهم ، واختلاف أمرهم كله ، صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها.

ولما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما أمر من ملاعنتهم ، دعاهم إلى ذلك.

فقالوا له : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر فى أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوننا إليه. فانصرفوا عنه ، ثم حلوا بالعاقب ـ وكان ذا رأيهم ـ فقالوا : يا عبد المسيح ، ما ذا ترى؟ فقال : يا معشر النصارى ، لقد عرفتم أن محمدا لنبى

١١٤

مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم ما لا عن قوم نبيّا قط فبقى كبيرهم ، ولا نبت صغيرهم ، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلف دينكم ، والإقامة على ما أنتم عليه من القول فى صاحبكم ، فوادعوا الرجل ، ثم انصرفوا إلى بلادكم. فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم ، قد رأينا ألا نلاعنك ، وأن نتركك على دينك ونرجع على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضاه لنا ، يحكم بيننا فى أشياء اختلفنا فيها من أموالنا ، فإنكم عندنا رضا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ائتونى العشية أبعث معكم القوى الأمين. فكان عمر بن الخطاب يقول : ما أحببت الإمارة قط حبى إياها يومئذ ، رجاء أن أكون صاحبها ، فرحت إلى الظهر مهجرا ، فلما صلى بنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الظهر سلم ، ثم نظر عن يمينه ، وعن يساره ، فجعلت أتطاول له ليرانى ، فلم يزل يلتمس ببصره ، حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح ، فدعاه ، فقال : اخرج معهم ، فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه. قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة.

* * *

٥٩ ـ من أخبار منافقى المدينة

وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وسيد أهلها عبد الله بن أبى بن سلول العوفى ، لا يختلف عليه فى شرفه من قومه اثنان ، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين غيره ، حتى جاء الإسلام ، ومعه فى الأوس رجل ، هو فى قومه من الأوس شريف مطاع ، أبو عامر عبد عمرو بن صيفى بن النعمان ، أحد بنى ضبيعة بن زيد ، وهو أبو حنظلة ، الغسيل يوم أحد ، وكان قد ترهب فى الجاهلية ، ولبس المسوح ، وكان يقال له : الراهب ، فشقيا بشرفهما وضرهما.

١١٥

فأما عبد الله بن أبى ، فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ، ثم يملكوه عليهم ، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم على ذلك ، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ، ورأى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استلبه ملكا ، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام ، دخل فيه كارها مصرّا على نفاق وضغن.

وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه ، حين اجتمعوا على الإسلام فخرج منهم إلى مكة ببضعة عشر رجلا ، مفارقا للإسلام ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تقولوا : الراهب. ولكن قولوا الفاسق.

وكان أبو عامر أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قدم المدينة ، قبل أن يخرج إلى مكة ، فقال : ما هذا الدين الذى جئت به؟ فقال : جئت بالحنيفية دين إبراهيم. قال : فأنا عليها. فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنك لست عليها. قال : بلى. قال : إنك أدخلت يا محمد فى الحنيفية ما ليس منها قال : ما فعلت ، ولكن جئت بها بيضاء نقية. قال : الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا ـ يعرض برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أجل ، فمن كذب فعل الله تعالى ذلك به. فكان هو ذلك عدو الله ، خرج إلى مكة ، فلما افتتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مكة خرج إلى الطائف ، فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام ، فمات بها طريدا غريبا وحيدا.

* * *

١١٦

٦٠ ـ غزواته صلى‌الله‌عليه‌وسلم

وقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة يوم الاثنين ، حين اشتد الضحاء ، وكادت الشمس تعتدل ، لثنتى عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ ابن ثلاث وخمسين سنة. وذلك بعد أن بعثه الله عزوجل بثلاث عشرة سنة ، فأقام بها بقية شهر ربيع الأول ، وشهر ربيع الآخر ، وجماديين ، ورجبا ، وشعبان ، وشهر رمضان ، وشوالا ، وذا القعدة ، وذا الحجة ، والمحرم ، ثم خرج غازيا فى صفر ، على رأس اثنى عشر شهرا من مقدمه المدينة واستعمل على المدينة سعد بن عبادة.

حتى بلغ ودان ، وهى غزوة الأبواء ، يريد قريشا. وبنى ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، فوادعته فيها بنو ضمرة ، وكان الذى وادعه منهم عليهم مخشى بن عمرو الضمرى ، وكان سيدهم فى زمانه ذلك. ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، ولم يلق كيدا ، فأقام بها بقية صفر ، وصدرا من شهر ربيع الأول. وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فى مقامه ذلك بالمدينة ، عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصى ، فى ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز ، بأسفل ثنية المرة ، فلقى بها جمعا عظيما من قريش ، فلم يكن بينهم قتال ، إلا أن سعد بن أبى وقاص قد رمى يومئذ بسهم ، فكان أول سهم رمى به فى الإسلام.

ثم انصرف القوم عن القوم ، وللمسلمين حامية ، وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهرانى ، حليف بنى زهرة ، وعتبة بن غزوان بن جابر المازنى ، حليف بنى نوفل بن عبد مناف ، وكانا مسلمين ، ولكنهما خرجا ليتوصلا بالكفار ، وكان على القوم عكرمة بن أبى جهل.

* * *

١١٧

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مقامه ذلك ، حمزة بن عبد المطلب ابن هاشم إلى سيف البحر ، من ناحية العيص ، فى ثلاثين راكبا من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، فلقى أبا جهل بن هشام بذلك الساحل فى ثلاثمائة راكب من أهل مكة ، فحجز بينهم مجدى بن عمرو الجهنى ـ وكان موادعا للفريقين جميعا ـ فانصرف بعض القوم عن بعض ، ولم يكن بينهم قتال.

ثم ، غزا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى شهر ربيع الأول يريد قريشا ، واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون ، حتى بلغ بواط من ناحية رضوى ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا ، فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر ، وبعض جمادى الأولى.

* * *

ثم غزا قريشا ، فاستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد ، فسلك على نقب بنى دينار ، ثم على فيفاء الخبار ، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر ، يقال لها : ذات الساق ، فصلى عندها. فثم مسجده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ارتحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فترك الخلائق (١) بيسار ، وسلك شعبة يقال لها : شعبة عبد الله ، وذلك اسمها اليوم ، ثم صب لليسار حتى هبط بليل ، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة ، واستقى من بئر بالضبوعة ، ثم سلك الفرش ـ فرش ملل ـ حتى لقى الطريق بصحيرات اليمام ، ثم اعتدل به الطريق ، حتى نزل العشيرة من بطن ينبع ، فأقام بها جمادى الأولى وليالى من جمادى الآخرة ، ووادع فيها بنى مدلج وحلفاءهم من بنى ضمرة ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا.

* * *

وقد كان بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيما بين ذلك من غزوة ، سعد

__________________

(١) الخلائق : أرض كانت لعبد الله بن جحش بناحية المدينة.

١١٨

ابن أبى وقاص ، فى ثمانية رهط من المهاجرين ، فخرج حتى بلغ الخرار ، من أرض الحجاز ، ثم رجع ولم يلق كيدا.

* * *

ولم يقم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالى قلائل ، لا تبلغ العشرة ، حتى أغار كرز بن جابر الفهرى على سرح المدينة ، فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى طلبه واستعمل على المدينة زيد بن حارثة.

حتى بلغ واديا ، يقال له : صفوان ، من ناحية بدر ، وفاته كرز بن جابر ، فلم يدركه ، وهى غزوة بدر الأولى ، ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، فأقام بها بقية جمادى الآخرة ، ورجبا وشعبان.

* * *

وبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي فى رجب ، مقفله من بدر الأولى ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ، وليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتابا ، وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ، فيمضى لما أمره به ، ولا يستكره من أصحابه أحدا.

فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب ، فنظر فيه ، فإذا فيه : إذا نظرت فى كتابى هذا فامض حتى تنزل نخلة ، بين مكة والطائف ، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم. فلما نظر عبد الله بن جحش فى الكتاب ، قال : سمعا وطاعة ، ثم قال لأصحابه : قد أمرنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

١١٩

أن أمضى إلى نخلة ، أرصد بها قريشا ، حتى آتيه منهم بخبر ، وقد نهانى أن أستكره أحدا منكم. فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمضى ومعه أصحابه ، لم يتخلف منهم أحد.

وسلك على الحجاز ، حتى إذا كان بمعدن ، فوق الفرع ، يقال له : بحران ، أضل سعد بن أبى وقاص ، وعتبة بن غزوان ، بعيرا لهما ، كانا يعتقانه ، فتخلفا عليه فى طلبه ، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة ، فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما ، وتجارة من قريش ، فيها عمرو بن الحضرمى ، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبد الله ، المخزوميان ، والحكم بن كيسان ، مولى هشام بن المغيرة.

فلما رآهم القوم هابوهم ، وقد نزلوا قريبا منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وكان قد حلق رأسه ، فلما رأوه أمنوا ، وقالوا : عمار ، لا بأس عليكم منهم ، وتشاور القوم فيهم ، وذلك فى آخر يوم من رجب ، فقال القوم : والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم ، فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم فى الشهر الحرام ، فتردد القوم وهابوا الإقدام ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم ، فرمى واقد بن عبد الله التميمى عمرو بن الحضرمى بسهم فقتله ، واستأسر عثمان ابن عبد الله ، والحكم بن كيسان ، وأفلت القوم نوفل بن عبد الله ، فأعجزهم ، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين ، حتى قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة.

١٢٠