الأنوار البهيّة في القواعد الفقهيّة

السيّد تقي الطباطبائي القمّي

الأنوار البهيّة في القواعد الفقهيّة

المؤلف:

السيّد تقي الطباطبائي القمّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: محلاتي
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ١
ISBN: 964-7455-060-2
الصفحات: ٢١٦

وفيه أنّه قد تقدّم منّا أن ثبوت المدعى في مورد جزئي لا يدل على الكليّة فإن الأحكام الشرعية أمور تعبدية لا تنالها عقولنا : «مه يا أبان السنة إذا قيست محق الدين» (آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ).

ومنها النصوص الواردة في باب القضاء ودلت على اعتبار قول عادلين ويثبت به ادعاء المدعي حتى فيما يكون مورد الدعوى عينا تحت يد الغير فإذا فرض اعتبار شهادة عدلين حتى في قبال الأمارة وتكون الشهادة حاكمة عليها فكيف ببقية الموارد التي لا تكون كذلك.

وبعبارة اخرى : بالأولوية تدل على ثبوت الموضوعات الخارجية كنجاسة لباس زيد وكرّيّة حوض المدرسة الفلانية.

ويرد عليه : أنه لا وجه للأولوية إذ الأولوية إنما تتصور فيما يكون مناط حكم المولى معلوما كما في قوله تعالى حيث نهى عن قول (أُفٍ) بالنسبة الى الوالدين فإن العرف يفهم أن الوجه في النهي التحفظ على كرامتهما فيفهم بالأولويّة أشدّية الشتم والضرب.

وأما في المقام فالملاك عندنا غير معلوم ولعلّ مصلحة قطع النزاع تقتضي الاعتبار بالنسبة الى شهادة عدلين بخلاف المورد الآخر.

الوجه الثالث : الإجماع وعن الجواهر : نفي وجدانه للخلاف في إثبات النجاسة بها ونقل خلاف القاضي وابن البراج والكاتب والشيخ ومع الاختلاف كيف يمكن دعوى الإجماع.

مضافا الى أنّه قد ثبت في الأصول عدم حجية الإجماع لا منقولا ولا محصّلا.

الوجه الرابع : السيرة العقلائية في جميع الأمصار والأعصار فإن سيرتهم جارية على قبول شهادة شخصين غير متهمين ولا معروفين بالكذب ولا مغرضين بالنسبة الى المشهود عليه.

٤١

ويرد عليه أولا : أنّه كيف يمكن الجزم بتحقق السيرة المدّعاة.

وثانيا : أن المدعى أخص من مورد السيرة المدعاة.

وبعبارة اخرى : السيرة المدعاة لا تنطبق على مورد الكلام.

وإن شئت قلت : السيرة المدعاة دائرتها أوسع من دائرة محل الكلام ولا خصوصية في نظر هم لشهادة عدلين.

وثالثا : أنّه إذا كان الغرض مع المشهود عليه مانعا عن القبول فمجرد احتماله يكفي في عدم الاعتبار إذ لا يجوز الأخذ بالعام في الشبهة المصداقية.

لا يقال : بالاستصحاب يحرز عدم الغرض فإنه يقال لا يترتب على الأصل المذكور تحقق السيرة إلّا على القول بالمثبت الذي لا نقول به ، وبعبارة اخرى : السيرة لا إطلاق فيها كي يقال : بأن بالاستصحاب يحرز الموضوع بل السيرة دليل لبيّ ولا بد فيها من الاقتصار على المتيقن منها فلاحظ.

الوجه الخامس : السيرة الجارية بين أهل الشرع مضافا الى ارتكازهم وأذهانهم فإنه لا مجال لإنكار هذه السيرة القطعية المسلمة عند المتشرعة ومن الظاهر أن هذه السيرة الجارية مسببة عن سبب شرعي وإلّا فكيف يمكن تحققها بلا نكير من أحد.

وإن شئت قلت : وضوح اعتبارها بحدّ لا يكون قابلا للإنكار.

الوجه السادس : النصوص الدالة على اعتبار شهادة العدل منها : ما رواه عبد الله بن أبي يعفور قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام :

بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم وعليهم فقال : أن تعرفوه بالستر والعفاف وكفّ البطن والفرج واليد واللسان ويعرف باجتناب الكبائر التي أوعد الله عليها النار من شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين والفرار من الزحف وغير ذلك والدلالة على ذلك كلّه أن

٤٢

يكون ساترا لجميع عيوبه حتى يحرم على المسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته في الناس ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهن وحفظ مواقيتهن بحضور جماعة من المسلمين وأن لا يتخلف عن جماعتهم في مصلاهم الّا من علة فإذا كان كذلك لازما لمصلاه عند حضور الصلاة الخمس فإذا سئل عنه في قبيله أو محلته قالوا ما رأينا منه الّا خيرا مواظبا على الصلوات متعاهدا لأوقاتها في مصلّاه فإن ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين وذلك أن الصلاة ستر وكفارة للذنوب وليس يمكن الشهادة على الرجل بأنّه يصلي إذا كان لا يحضر مصلاه ويتعاهد جماعة المسلمين وإنما جعل الجماعة والاجتماع الى الصلاة لكي يعرف من يصلي ممّن لا يصلي ومن يحفظ مواقيت الصلاة ممن يضيع ولو لا ذلك لم يمكن أحد أن يشهد على آخر بصلاح لأن من لا يصلي لا صلاح له بين المسلمين فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم همّ بأن يحرق قوما في منازلهم لتركهم الحضور لجماعة المسلمين وقد كان فيهم من يصلي في بيته فلم يقبل منه ذلك وكيف يقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممّن جرى الحكم من الله عزوجل ومن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه الحرق في جوف بيته بالنار وقد كان يقول : لا صلاة لمن لا يصلي في المسجد مع المسلمين إلّا من علّة (١).

والمستفاد من هذه الرواية بالصراحة اعتبار شهادة العادل ولكن الإشكال في سند الحديث فإنّ له طريقين أحدهما تام والآخر غير تام أما الطريق الأول الذي يكون تاما فقد حذف منه ما يفيدنا في المقام وأما الطريق الثاني فهو مشتمل على ما يفيدنا لكن غير تام من حيث السند فلا يعتد بهذه الرواية.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٤١ من أبواب الشهادات ، الحديث ١.

٤٣

ومنها ما عن تفسير الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام في تفسيره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال في قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) ، قال : ليكونوا من المسلمين منكم فإن الله إنما شرّف المسلمين العدول بقبول شهادتهم وجعل ذلك من الشرف العاجل لهم ومن ثواب دنياهم (١).

إن قلت : المستفاد من الحديث اعتبار شهادة العدل ولو كان واحدا.

قلت : على فرض تسلم هذه الدعوى نقول : نرفع اليد عن الإطلاق بهذا المقدار فيتم الأمر فتحصل أن شهادة عادلين حجة.

بقي الكلام في العدل الواحد والثقة الواحد أما العدل الواحد فيمكن الاستدلال على اعتبار قوله مضافا الى السيرة الجارية بين أهل الشرع بل الجارية بين العقلاء ما في تفسير الإمام عليه‌السلام فإن المستفاد من الحديث اعتبار قول المسلم العادل.

ويؤيد المدعى إن لم يكن دليلا تجويز الشارع الأقدس الاقتداء به في الصلاة مع كونها معراج المؤمن وأعظم أركان الدين وإن قبلت قبل ما سواها وإن ردّت ردّ ما سواها.

بل لنا أن نستدل على المدعى بآية النبأ حيث أن المستفاد من الآية أن علّة عدم اعبتار قول الفاسق أن الركون إليه وجعل قوله طريقا الى الواقع في معرض حصول الندامة فإن الندامة إنّما تحصل فيما يكون العمل بلا رويّة وتكون نتيجة لسلوك طريق غير عقلائي.

وبعبارة واضحة : أن الإنسان إذا أقدم على أمر وسلك سلوكا على طبق القواعد لا يحصل له الندم وإن لم يصل الى مطلوبه ، نعم كثيرا ما يتأثّر.

مثلا إذا فرضنا أن المريض راجع الى طبيب حاذق مشار إليه بالبنان ولكن

__________________

(١) نفس المصدر : الحديث ٢٢.

٤٤

الطبيب اشتبه في التداوي وبالنتيجة صار المريض أسوأ حالا بحيث لا يكون قابلا للعلاج لا معنى لأن يصير المريض نادما من عمله ولكن يتأثر من عدم حصول مطلوبه وهذا أمر آخر.

والمستفاد من الآية أن علة المنع أن الركون الى الفاسق الذي لا يكون في طريق الحق سفاهة وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا مانع عن الركون ولعمري هذا وجه وجيه وإن كان قارعا للأسماع.

وأما شهادة الثقة الواحد فيمكن الاستدلال على اعتبارها بالسيرة أيضا فإن الظاهر أن السيرة العقلائية جارية على العمل بقوله ولم يردع السيرة المذكورة من قبل الشارع الأقدس.

بل يظهر من جملة من النصوص إمضائها منها ما رواه أحمد بن اسحاق عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : سألته وقلت : من أعامل وعمن آخذ وقول من أقبل؟ فقال : العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدي وما قال لك عنّي فعني يقول فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون (١).

ومنها ما رواه إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان عليه‌السلام : أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك ـ إلى أن قال ـ وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله وأما محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه وعن أبيه من قبل فإنه ثقتي وكتابه كتابي (٢).

ومنها ما رواه الحسن بن علي بن يقطين عن الرضا عليه‌السلام قال : قلت : لا أكاد

__________________

(١) الوسائل : الباب ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤.

(٢) نفس المصدر : الحديث ٩.

٤٥

أصل إليك أسألك عن كل ما احتاج إليه من معالم ديني أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ فقال : نعم (١).

ومنها ما رواه علي بن المسيّب الهمداني قال : قلت للرضا عليه‌السلام : شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كل وقت فممّن آخذ معالم ديني؟ قال : من زكريا ابن آدم القمي المأمون على الدين والدنيا ، قال علي بن المسيب : فلما انصرفت قدمنا على زكريّا بن آدم فسألته عمّا احتجت إليه (٢).

ومنها ما رواه أحمد بن إبراهيم المراغي قال : ورد على القاسم بن العلاء وذكر توقيعا شريفا يقول فيه : فإنه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا قد عرفوا بأنّا نفاوضهم سرّنا ونحملهم إياه إليهم (٣).

فإن المستفاد من هذه الطائفة أن حجية قول الثقة أمر واضح على نحو الكبرى الكلية وإنما الكلام في تشخيص المصداق.

أضف إلى ذلك أنا نرى أن الشيخ الطوسي والمفيد والصدوق وأضرابهم مع كون عصرهم قريبا من عصر الإمام عليه‌السلام يرتّبون الأثر على شهادة الثقة كان أمرا مغروسا في أذهانهم وقانونا مسلّما عندهم فلو لم يكن قول الثقة معتبرا عند الشارع لذاع وشاع ولم يكن أمرا مستورا تحت الستار.

وفي المقام حديث عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث أن عليا عليه‌السلام قال : لا أقبل شهادة الفاسق الّا على نفسه (٤).

__________________

(١) نفس المصدر : الحديث ٣٣.

(٢) نفس المصدر : الحديث ٢٧.

(٣) نفس المصدر : الحديث ٤٠.

(٤) الوسائل : الباب ٤١ من أبواب الشهادات ، الحديث ٧.

٤٦

ربما يقال بأن المستفاد منه أنه لا اعتبار بشهادة الفاسق وإن كان ثقة.

وفي قبال التقريب المذكور يمكن أن يقال : إن قلنا بأن المستفاد من الحديث أنه لا يقبل قوله في مقام الدعاوي والمحاكمات فالأمر سهل إذ من الواضح ان الشهادة في مورد القضاء وإثبات الدعوى مشروط بكون الشاهد عادلا وإن قلنا بأن الحديث مطلق أي المستفاد منه عدم قبول قول الفاسق على الإطلاق فيمكن أن يقال بأن المناسبة بين الحكم والموضوع تقتضي أن الامام روحي فداه ناظر الى صورة عدم الأمن من الكذب وأما لو كان ثقة وأمينا في الكلام فالحديث غير ناظر إليه.

وإن أبيت وقلت : المحكم إطلاق الحديث فيشمل الثقة الفاسق قلت : حيث انّ اعتبار قول الثقة واضح وكما بيّنا من الصدر الأول كان ديدن الأعاظم على ترتيب الأثر بقول الثقة بلا نكير نخصّص الحديث ونقول : لا اعتبار بقول الفاسق الّا إذا كان ثقة فلاحظ.

الجهة الثانية : أنّه هل يشترط في حجيّة البيّنة كون الشاهدين العادلين رجلين أم لا؟

الظاهر هو الاشتراط إذ لا دليل على الإطلاق ومقتضى الأصل في الأمور الوضعية الضيق.

الجهة الثالثة : انّه لا اختصاص لمورد دون آخر بل البيّنة حجّة في جميع الموضوعات بلا كلام ولا يتصور في مورد عدم أثر شرعي إذ أقل ما يترتب على الشهادة جواز الإخبار فلاحظ.

الجهة الرابعة : في حكم صورة تعارض البيّنة مع غيرها فنقول : لا إشكال في تقدمها على الأصول العملية التي أخذ في موضوعاتها عنوان الشك فإنها حاكمة عليها كما هو ظاهر.

٤٧

وأيضا تقدم على الاستصحاب حتى على القول بكونه أمارة إذ مضافا الى أن المأخوذ في موضوعه عنوان الشك لو كان الاستصحاب معارضا مع البيّنة ولم نقل بتقدّمها عليه تكون لغوا.

وأمّا لو عارضت قاعدة الفراغ أو الصحة فأيضا تقدم عليهما إذ قد مرّ وتقدم منّا أن القاعدة لا تكون أمارة.

وأما فيما يقع التعارض بينها وقاعدة اليد أو السوق وأمثالهما فأيضا تقدم عليها فإنّ عمدة الدليل على تلك القواعد السيرة ولا بدّ من الاقتصار على مورد لا تكون في قبالها بينة.

ومما ذكر يعلم وجه تقدّمها على قول الثقة وأما إذا وقع التعارض بينها وبين الإقرار فالظاهر لو لا الدليل الخارجي تقدم الإقرار فإن السيرة العقلائية جارية عليه ولم يتحقق الردع من قبل الشارع الأقدس.

بل يمكن أن يقال : أن المرتكز في أذهان أهل الشرع عدم قيام دليل في قبال الإقرار وأما لو وقع التعارض بينها وبين قول العدل الواحد فمقتضى القاعدة الأولية تحقق التعارض ونتيجة التعارض التساقط وهل يمكن الجزم به أو يحتاج الأمر الى مزيد من التأمل والله العالم بحقائق الأمور وعليه التوكّل والتكلان.

٤٨

القاعدة الخامسة

قاعدة اليد

ويقع البحث فيها من جهات :

الجهة الأولى : في المراد من اليد ، والظاهر أن المراد منها الاستيلاء الخارجي وهذا المعنى يختلف بحسب إختلاف الموارد ، ولا وجه لإطالة البحث في هذه الجهة إذ الاستيلاء أمر عرفي ولا يكون أمرا مجهولا فتارة محرز فيترتب عليه الأثر وأخرى يكون مشكوكا فيه فلا يترتب الأثر عليه بل في مورد الشك يمكن إحراز عدمه بالاستصحاب إذ ذكرنا كرارا أنه لا مانع من جريان الاستصحاب في الشبهة المفهومية.

الجهة الثانية : في الوجوه التي يمكن الاستدلال بها على المدعى:

الوجه الأول : السيرة الجارية بين العقلاء والمتشرعة فإنه لا إشكال في أن العقلاء في جميع العالم يرون اليد أمارة على كون ذيها مالكا لما فيها ومن الظاهر الواضح أنه لم يردع عن هذه السيرة من قبل الشارع.

الوجه الثاني : الإجماع ، وفيه الإشكال الساري في جميع الإجماعات المنقولة وأنه لا اعتبار بها ولا اعتبار بمحصله وإنما الاعتبار بالإجماع الكاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام وأنّى لنا بذلك.

الوجه الثالث : جملة من النصوص منها ما رواه عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان جميعا عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث فدك أن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال لأبي بكر :

٤٩

أتحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين؟ قال : لا قال : فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البيّنة؟ قال : إياك كنت أسأل البينة على ما تدّعيه على المسلمين ، قال : فإذا كان في يدي شيء فادّعى فيه المسلمين تسألني البيّنة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده ولم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا عليّ كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم ، إلى أن قال : وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر (١).

ومنها ما رواه جميل بن صالح قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل وجد في منزله دينارا ، قال : يدخل منزله غيره؟ قلت : نعم كثير ، قال : هذا لقطة ، قلت : فرجل وجد في صندوقه دينارا ، قال : يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئا؟ قلت : لا قال : فهو له (٢).

ومنها ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن الدار يوجد فيها الورق فقال : إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم وإن كانت خربة قد جلا عنها أهلها فالذي وجد المال أحق به (٣).

فإنّه يستفاد من هذه النصوص اعتبار اليد والعرف ببابك.

وأما حديث حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال له رجل : إذا رأيت شيئا في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنه له ، قال : نعم قال الرجل : أشهد أنه في يده ولا أشهد أنه له فلعلّه لغيره ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أفيحل الشراء منه؟ قال : نعم فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : فلعله لغيره.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعاوى ، الحديث ٣.

(٢) الوسائل : الباب ٣ من أبواب اللقطة ، الحديث ١.

(٣) الوسائل : الباب ٥ من أبواب اللقطة ، الحديث ١.

٥٠

فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ولا يجوز أن تنسبه الى من صار ملكه من قبله إليك ، ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق (١).

فلا يعتد به سندا فلا تصل النوبة الى ملاحظة دلالته وفي باب ميراث الأزواج نصوص توهم بعض دلالتها على المدعى منها ما رواه عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألني : هل يقضي ابن أبي ليلى بالقضاء ثم يرجع عنه فقلت له : بلغني أنه قضى في متاع الرجل والمرأة إذا مات أحدهما فادّعاه ورثة الحي وورثة الميت أو طلقها فادّعاه الرجل وادّعته المرأة المرأة بأربع قضايا فقال : وما ذاك؟ قلت : أما أوّلهن فقضى فيه بقول إبراهيم النخعي كان يجعل متاع المرأة الذي لا يصلح للرجل للمرأة ومتاع الرجل الذي لا يكون للمرأة للرجل وما كان للرجال والنساء بينهما نصفان ثم بلغني أنه قال أنهما مدعيان جميعا فالذي بأيديهما جميعا (يدعيان جميعا) بينهما نصفان ثم قال : الرجل صاحب البيت والمرأة الداخلة عليه وهي المدعية فالمتاع كله للرجل الّا متاع النساء الذي لا يكون للرجال فهو للمرأة ثم قضى بقضاء بعد ذلك لو لا أني شهدته (لم أروه عنه) ماتت امرأة منا ولها زوج وتركت متاعا فرفعته إليه فقال : اكتبوا المتاع فلما قرءاه قال للزوج : هذا يكون للرجال والمرأة فقد جعلناه للمرأة الا الميزان فإنه من متاع الرجل فهو لك فقال عليه‌السلام لي : فعلى أي شيء هو اليوم؟ فقلت : رجع الى أن قال بقول إبراهيم النخعي أن جعل البيت للرجل ثم سألته عليه‌السلام عن ذلك فقلت : ما تقول أنت فيه فقال : القول الذي أخبرتني إنك شهدته وإن كان قد رجع عنه فقلت : يكون المتاع للمرأة؟ فقال : أرأيت إن

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٥ من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعاوى ، الحديث ٢.

٥١

أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج فقلت شاهدين فقال : لو سألت من بين لابتيها يعني الجبلين ونحن يومئذ بمكة لأخبروك أن الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة الى بيت زوجها فهي التي جاءت به وهذا المدّعي فإن زعم أنه أحدث فيه شيئا فليأت عليه البيّنة (١).

ومنها ما رواه يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه‌السلام في امرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة قال : ما كان من متاع النساء فهو للمرأة وما كان من متاع الرجال والنساء فهو بينهما ومن استولى على شيء منه فهو له (٢).

ومنها ما رواه رفاعة النخاس عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : إذا طلق الرجل امرأته وفي بيتها متاع فلها ما يكون للنساء وما يكون للرجال والنساء قسّم بينهما قال : وإذا أطلق الرجل المرأة فادّعت أن المتاع لها وادعى الرجل أن المتاع له كان له ما للرجال ولها ما يكون للنساء وما يكون للرجال والنساء قسّم بينهما (٣).

ولكن هذه الروايات لا تدل على المدعى أما الرواية الأولى فتدل على أن الدليل قائم على أن ما في البيت مملوك للمرأة ولا تدلّ على اعتبار اليد.

وأما الحديث الثالث والرابع فمضافا إلى ضعف سند الثالث لا يدلان على اعتبار اليد بل يدلان على مطلب آخر كما هو واضح عند المراجع.

أضف الى ذلك الحديث الثاني من الباب وهو ما رواه سماعة قال : سألته عن رجل يموت ماله من متاع البيت؟

__________________

(١) الوسائل : الباب ٨ من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث ١.

(٢) نفس المصدر : الحديث ٣.

(٣) نفس المصدر : الحديث ٤.

٥٢

قال : السيف والسلاح والرحل وثياب جلده (١). فإنّه يدل على خلاف مدلول الحديثين فلاحظ.

ثم أن اليد إذا كانت يد المسلم هل تكون إمارة على التذكية؟ الظاهر أن الأمر كذلك ويمكن الاستدلال على المدعى بوجوه :

الوجه الأول : السيرة القطعية الجارية بين أهل الإسلام بلا نكير وهذه السيرة متصلة الى زمان مخازن الوحي أرواحنا فداهم.

الوجه الثاني : الإجماع المدعى في المقام وعدم الخلاف.

الوجه الثالث : الارتكاز المتشرعي.

الوجه الرابع : إنه لو لم يكن كذلك لشاع وذاع والحال أن خلافه كذلك.

الوجه الخامس : أنه لو لم تكن يد المسلم إمارة على التذكية يلزم العسر والحرج.

الوجه السادس : النصوص لاحظ ما رواه إسماعيل بن عيسى قال : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن الجلود الفراء يشتريها الرجل في سوق من أسواق الجبل أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟ قال : عليكم أنتم أن تسألوا عنه إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك وإذا رأيتم يصلون فيه فلا تسألوا عنه (٢).

الوجه السابع : أن النصوص الدالة على إمارية سوق المسلمين على التذكية تدل على المدعى إذ السوق لا موضوعية له بل هو طريق الى الإسلام من يكون فيه فتلك النصوص تدل على المدعى بالأولوية.

الجهة الثالثة : أن الظاهر أن اليد إمارة في قبال بقية الإمارات والوجه فيه أنه

__________________

(١) نفس المصدر : الحديث ٢.

(٢) الوسائل : الباب ٥٠ من أبواب النجاسات ، الحديث ٧.

٥٣

لا يكون تعبد من قبل العقلاء على جعل اليد إمارة على الملكية بل حيث أن الطبع الأولي يقتضي أن ما في اليد مملوك لذيها وخلافه خلاف الأصل الأولي بنوا على العمل على طبقها ومن الظاهر أن هذا كاشف عن الواقع.

وإن شئت فقل : إن اليد إما موجبة للاعتقاد بكون ما في اليد مملوكا لذيها وإما موجبة للظن بالملكية ولو نوعا وعلى كلا التقديرين تكون كاشفة عن الواقع وهذا ظاهر واضح.

الجهة الرابعة : في موارد التعارض بين أمارية اليد والأدلة الاخر فنقول :

لا إشكال في تقدّمها على الاستصحاب لوجهين :

الوجه الأول : أن القاعدة أمارة وكاشفة عن الواقع والاستصحاب قد أخذ في موضوعه الجهل والشك فتكون القاعدة حاكمة عليه.

الوجه الثاني : أن الاستصحاب لو كان مانعا عن الأخذ بالقاعدة تكون القاعدة لغوا أو كاللغو إذ ما من مورد إلا القليل الّا وكان الاستصحاب خلاف مقتضاها.

وأما مع الإقرار فلا إشكال في تقديمه عليها فإن دليل اعتبار القاعدة السيرة ومن الظاهر أن السيرة لا لسان لها فلا مجال لتوهم الإطلاق.

وأما مع البينة فلا إشكال أيضا في تأخر القاعدة عنها أما أولا فلما تقدم آنفا ، وأما ثانيا ، فلأن الحاكم يحكم بمقتضى البينة فيعلم أنّها مقدّمة على اليد في الشرع الأقدس.

وأما في مورد تنافيها مع قول العدل الواحد أو الثقة كذلك فلا يمكن الجزم بتقدّم القاعدة عليهما.

إذ يرد على القول بالتقديم أنّه قد تقدم أن دليل اعتبارها السيرة والجزم بتحققها عند معارضتها معهما مشكل ومقتضى الأصل عدمها.

٥٤

بل لقائل أن يقول لا بد من تقديم قول العدل الواحد والثقة الواحد لاحظ ما عن الامام العسكري (١).

لكن يشكل الاستدلال على المدعى بالحديث المشار إليه فإن المذكور في الحديث عنوان شاهدين ولا يشمل العدل الواحد.

وأما الثقة فلم يذكر فيه.

إذا عرفت ما تقدم نقول : يقدم الاستصحاب على القاعدة في موردين :

المورد الأول : ما لو أقرّ ذو اليد بعدم ما فيها مملوكا له سابقا وكان ملكا للمدعي لكن يدعي بعد ذلك أنه صار مملوكا له فإن الاستصحاب يقتضي عدم انتقال العين إليه والوجه فيه القصور في دليل اعتبار اليد.

المورد الثاني : ما لو كانت اليد عادية سابقا وادّعى ذو اليد أن ما في يده صار ملكا له فإن الاستصحاب يقدم عليه لما تقدم آنفا من قصور دليل أمارية اليد فلا يمكن أن يستدل بها على صحة دعواه.

وفي المقام فروع :

الفرع الأوّل : أن اليد على شيء والاستيلاء عليه كما تدل على كون ذلك الشيء ملكا لذيها هل تدل على زوجية امرأة تكون تحت استيلائه وفي داره أم لا؟

وإن شئت فقل : اليد على العرض هل تكون دالة على الزوجية بحيث لا يحتاج الى الإثبات بل من يدعي الخلاف عليه إقامة البيّنة أم لا؟

الذي يختلج بالبال في هذه العجالة أن يقال لا بد من التفصيل بأن يقال : تارة يكون المنكر للزوجية نفس المرأة وأخرى شخص آخر أجنبي يدعي زوجيّتها وعلى الثاني قد تكون الزوجة مصدّقة للمدعي وأخرى منكرة لدعواه وثالثة

__________________

(١) لاحظ ص ٤٤.

٥٥

تكون ساكتة فهنا صور :

الصورة الأولى : أن يكون المنكر نفس الزوجة ، وفي هذه الصورة لا يبعد أن يكون القول قول المنكر أي المرأة والوجه فيه أن غاية ما يمكن أن يقال في اعتبار اليد والاستيلاء في المقام وغيره ، السيرة العقلائية الممضاة من قبل الشارع ولا سيرة في هذه الصورة ولا أقل من الشك فيها ومع الشك يكون مقتضى القاعدة عدم الاعتبار فيكون المرجع أصالة عدم الزوجية.

الصورة الثانية : أن يكون المدعي شخصا أجنبيا وفي هذه الصورة إن كانت المرأة مكذبة إيّاه أو كانت ساكتة فالظاهر أن اليد والاستيلاء دليل على الزوجية والمدعي للخلاف يحتاج الى إقامة البيّنة وإن كانت مصدقة إيّاه فالظاهر عدم الاعتبار باليد لعدم الدليل على اعتبارها فالذي تكون المرأة في داره يحتاج الى إقامة البيّنة ولا يبعد أن يحكم بزوجية المرأة للأجنبي إذ الحق لا يعدوهما.

الفرع الثاني : إن إخبار ذي اليد بنجاسة ما في يده أو طهارته هل يكون معتبرا أم لا؟

ما يمكن أن يذكر في تقريب الاستدلال على الاعتبار أو ذكر وجوه :

الوجه الأول : اتّفاق الأصحاب ، قال في الحدائق : (ظاهر الأصحاب الاتفاق على قبول قول المالك في طهارة ثوبه وإنائه ونحوهما ونجاستهما).

الوجه الثاني : السيرة بدعوى أنّها جارية على معرفة الأشياء من إخبار المتولي عليها لأنه أعرف من غيره بحال ما في يده وهذه السيرة ممضاة من قبل الشارع الأقدس وقال سيدنا الأستاذ في هذا المقام في شرحه على العروة الوثقى :

«لقيام السيرة القطعية على المعاملة مع الأشياء المعلومة نجاستها السابقة معاملة الأشياء الطاهرة لدى الشك إذا أخبر ذو اليد بطهارتها ويؤكد السيرة المدعاة أن الإنسان بحسب فطرته وجبلّته يسأل المتولّي على شيء اذا كان جاهلا

٥٦

بما يتعلق به والظاهر أن هذه العادة الجارية بين العقلاء غير قابلة للإنكار».

الوجه الثالث : جملة من النصوص ، منها ما رواه أبو بصير ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الفأرة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه فقال : إن كان جامدا فتطرحها وما حولها ويؤكل ما بقي وإن كان ذائبا فأسرج به وأعلمهم إذا بعته (١).

ومنها ما رواه معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه‌السلام في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك؟

فقال : بعه وبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به (٢).

ومنها ما رواه إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سأله سعيد الأعرج السمان وأنا حاضر عن الزيت والسمن والعسل تقع فيه الفأرة فتموت كيف يصنع به؟ قال : أما الزيت فلاتبعه الّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج وأما الأكل فلا وأما السمن فإن كان ذائبا فهو كذلك وإن كان جامدا والفأرة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها وما حولها ثم لا بأس به والعسل كذلك إن كان جامدا (٣).

بتقريب إن العرف يفهم أن الأمر بالإخبار لزوم قبول قول المخبر.

وفيه : إن الوارد في هذه النصوص عنوان الإعلام والتبيين ومن الواضح أن مجرد الإخبار لا يكون إعلاما وتبيينا بل العنوانان إنما يتحققان عند حصول العلم بالمخبر به فلا تكون دليلا على اعتبار الإخبار بما هو إخبار.

اللهم إلا أن يقال : أن العرف يفهم أن المراد بالإعلام والتبيين ، الاخبار عن

__________________

(١) الوسائل : الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٣.

(٢) نفس المصدر : الحديث ٤.

(٣) نفس المصدر : الحديث ٥.

٥٧

الواقع وهذا العرف ببابك.

وإن شئت قلت : إذا أخبر شخص عن شيء يصحّ أن يقال أنه أعلم أو بيّن.

الوجه الرابع : ما رواه عبد الله بن بكير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أعار رجلا ثوبا فصلى فيه وهو لا يصلي فيه قال : لا يعلمه ، قلت : فإن أعلمه ، قال : يعيد (١).

وفيه أنه لا يمكن الأخذ بمفاد الخبر فإنه خلاف ما استفيد من الشرع من صحة الصلاة مع الجهل بالنجاسة.

الوجه الخامس : ما رواه معاوية بن عمار قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج ويقول : قد طبخ على الثلث وأنا أعرفه أنه يشربه على النصف فقال : خمر لا تشربه ، قلت : فرجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحلّه على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟ قال : نعم (٢).

وما رواه أيضا قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل من أهل المعرفة بالحقّ يأتيني بالبختج ويقول : قد طبخ على الثلث وأنا أعرف أنّه يشربه على النصف أفأشربه بقوله وهو يشربه على النصف؟

فقال : لا تشربه.

قلت : فرجل من غير أهل المعرفة ممّن لا نعرفه يشربه على الثلث ولا يستحلّه على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟ قال : نعم (٣).

__________________

(١) الوسائل : الباب ٤٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٣.

(٢) تهذيب الأحكام : ج ٩ ص ١٢٢ الحديث ٥٢٦.

(٣) الوسائل : الباب ٧ من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث ٤.

٥٨

الفرع الثالث : أنه هل يجوز الشهادة مستندة الى اليد أم لا؟ جاء في بعض الكلمات في هذا المقام أنها جائزة إذ القطع في مورد الشهادة لازم لكن على نحو الطريقية ومن ناحية أخرى قد حقق في محله قيام الأمارات مقام القطع الطريقي أو الموضوعي الذي أخذ على الطريقية ومن ناحية ثالثة أن اليد من الأمارات فعلى طبق القاعدة تجوز الشهادة على طبق اليد.

أقول : يقع الكلام هنا في مقامين :

المقام الأول : في مقتضى القاعدة الأولية.

المقام الثاني : فيما يستفاد من النصوص الخاصة.

أما المقام الأول فنقول : مقتضى القاعدة الأولية عدم الجواز والوجه فيه : أن الشهادة من الحضور (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) وبعبارة اخرى : كون الشيء معلوما غير كونه مشهودا ولذا نحن بحمد الله قائلون وعالمون بوجود الإمام الغائب سلام الله عليه ومع ذلك لا يكون حاضرا.

وبعبارة واضحة مع القطع الوجداني بالواقعة لا تجوز الشهادة فكيف بغيره ولذا لا تجوز الشهادة بالزنا ولو مع القطع به ولا بدّ فيها من رؤيته كالميل في المكحلة.

ولتوضيح المقام أزيد مما تقدم ، نقول : تارة يريد الشخص الإخبار عن ملكية ما في يد أحد بأنه لذيها فإنه جائز بلا إشكال إذ حقق في محله قيام الأمارات مقام القطع وأما الشهادة فلا فإن الشهادة إخبار خاص في إطار مخصوص ولا يتحقق مفهوم الشهود الّا بالحضور والعرف واللغة ببابك.

بل التبادر يقتضي هذا المعنى ، وإن شئت قلت : مجرد كون الشخص عالما بشيء لا يكون شاهدا عليه ولو شك في سعة المفهوم وضيقه يكون مقتضى الصناعة والأصل عدم التوسعة فإن أصالة عدم كون اللفظ موضوعا للأعم يقتضي عدم الصدق الّا مع الحضور وأصالة عدم كونه موضوعا للخاصّ لا يقتضي كونه

٥٩

موضوعا للعام الّا على القول بالمثبت الذي لا نقول به.

إن قلت : على هذا كيف يشهد الموحدون في العالم بقولهم «أشهد أن لا إله الّا الله» مع عدم حضور ذاته سبحانه.

قلت : يمكن أن يكون الوجه فيه أن جميع الموجودات الكونية برمّتها أدلة وجوده وكاشفة عن تلك الذات الحقيقية والشاهد لما نقول ما صدر عن مخزن الوحي خامس أصحاب الكساء في يوم عرفة فإن من جملة دعائه عليه‌السلام : (عميت عين لا تراك).

وإن أبيت عمّا قلنا ، نقول : لا بد من الحمل على المجاز فلاحظ ، ويؤكد المدعى بل يدلّ عليه أنه لو كانت الشهادة عند الحاكم جائزة ، لا يبقى أثر لإقامة البينة على صدق ذي اليد إذ لو كانت اليد سببا لجواز الشهادة على واقع الأمر يكون الشهود كثيرا فالنتيجة عدم الجواز نعم تجوز الشهادة بالملكية الظاهرية.

وأما المقام الثاني فقد وردت في المقام عدة نصوص ، منها : ما رواه حفص ابن غياث(١).

بتقريب أنه يستفاد من الحديث جواز الشهادة على طبق اليد.

ويرد عليه أن السند ضعيف بقاسم بن يحيى وكون الرجل في أسناد كامل الزيارات لا أثر له كما بيّناه في محله.

مضافا الى أنّه لا يبعد أن يكون المراد بالشهادة ، الشهادة بالملكية الظاهرية والدليل عليه ذيل الحديث إذ من الظاهر أن الشهادة بالملكية الظاهرية كافية لقيام الأسواق للمسلمين.

ثم أنه هل تجوز الشهادة بمقتضى الاستصحاب؟

__________________

(١) لاحظ ص ٥٠.

٦٠