الأنوار البهيّة في القواعد الفقهيّة

السيّد تقي الطباطبائي القمّي

الأنوار البهيّة في القواعد الفقهيّة

المؤلف:

السيّد تقي الطباطبائي القمّي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: محلاتي
المطبعة: المطبعة العلمية
الطبعة: ١
ISBN: 964-7455-060-2
الصفحات: ٢١٦

وثالثا : أنّ إرادة المحل من الشيء وتقديره يستلزم الاستخدام إذ عليه يكون المراد من الشيء محله ويكون المراد من الضمير العائد إليه نفسه والاستخدام على خلاف الأصل.

إلّا أن يقال : يكون الصدر قرينة على كون المراد من الذيل خصوص قاعدة التجاوز فلا يستلزم الاستخدام.

ورابعا : ان استعمال لفظ الشيء في محله غلط كما لو قال أحد : خرجت من دار زيد وأراد الأرض التي كانت في زمان أرض داره وبعد ذلك انهدمت وبقيت الأرض فلاحظ.

وخامسا : سلمنا ما رامه الخصم لكن نقول : غاية ما في الباب وقوع المعارضة بين الصدر والذيل وتكون النتيجة الاجمال فلا يكون الحديث قابلا للاستدلال به على قاعدة التجاوز.

والعجب كل العجب عمّا جاء في بعض الكلمات من أن الخروج عن الشيء له مصداقان : أحدهما : الخروج عن نفس الشيء ثانيهما : الخروج عن محله ولهما الجامع وبهذا الاعتبار الحديث وما يكون مثله يكون دالا على كلتا القاعدتين.

وجه العجب أن المستفاد من قوله عليه‌السلام : «إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره» لزوم تحقق المشكوك فيه وكون الشاكّ فيه قبل ذلك.

وإن شئت فقل : لا جامع بين ما فرض وجوده وما لا وجود له.

إن قلت : إذا كان صدر الحديث ظاهرا في الشك في أصل الوجود نرفع اليد عن ظهور الذيل في الشك في صحة الموجود فإن الكلي الوارد في الذيل ناظر الى الجمع بين الصدر وبقية الموارد فيكون الحديث ناظرا إلى قاعدة التجاوز فيكون المراد من الشيء الوارد في كلام الإمام عليه‌السلام محله فالنتيجة اختصاص الحديث بقاعدة التجاوز.

٢١

قلت : تارة نقول استعمال اللفظ في غير ما وضع له صحيح ولا يحتاج الى مناسبة وعلاقة وحسن وأخرى نقول لو لا العلاقة والتناسب أو الحسن يكون الاستعمال غلطا أما على الأول فيجوز استعمال لفظ الشيء في مورده ومحله وأما على الثاني فلا يجوز ويكون غلطا ولا يمكن حمل كلام الإمام عليه‌السلام عليه إذ كيف يمكن الالتزام بكون استعماله غلطا والحال أنّ الاستعمال الغلط إما ناش عن الجهل وإما عن الغفلة وهل يمكن الالتزام بأحدهما بالنسبة الى مخزن الوحي؟ كلا ثم كلا.

هذا من ناحية ومن ناحية اخرى : أنه لا يجوز استعمال اللفظ في غير ما وضع له الّا مع المجوز وهذا العرف ببابك مثلا : لو كان مكان قبل عشر سنوات مكانا للبحر والآن غرفة تجارة هل يجوز أن يقول أحد إني خرجت من البحر وأراد الخروج من تلك الغرفة وعليه يدور الأمر بين الصدر والذيل والنتيجة الإجمال كما تقدم.

ولنا لإثبات أنّ الذيل ناظر الى قاعدة الفراغ ولا مجال لحمله على بيان قاعدة التجاوز تقريب آخر وهو : أن حمله على قاعدة التجاوز يستلزم الاستخدام الذي يكون خلاف القاعدة الأولية إذ بناء على إرادة التجاوز إما نقدر كلمة محل ونضيفه الى لفظ الشيء وإما نستعمل لفظ الشيء في المحل وعلى كلا التقديرين يلزم الاستخدام أما على الأول فظاهر إذ عليه يراد من المخرج ، المحل ويراد من الضمير العائد ، الشيء إذا خرجت من محل الأذان مثلا ودخلت في غير الأذان وأما على الثاني : فأيضا الأمر كذلك إذ مرجع الكلام الى الصورة الأولى لأنه لا بد من إضافة المحلّ إلى حاله كما أنّه لا بدّ من إرجاع الضمير الى الحالّ أي الشيء المشكوك فيه.

أضف إلى ذلك ، إن الذيل صريح في قاعدة الفراغ وغير قابل لحمله على التجاوز وذلك لأن الإمام روحي فداه بعد فرض خروج المكلف عن الشيء يقول : «ثم دخلت في غيره» فقد فرض عليه‌السلام الخروج عن الشيء أولا ثم دخوله في غيره ثانيا والحال أن التجاوز قوامه بالدخول في الغير وبدونه لا يعقل فلا مجال لتقريب

٢٢

التجاوز ولعمري ما بينت غير قابل للخدش ولعله لم يسبقني إليه سابق.

ومن تلك النصوص ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كلّما شككت فيه ممّا قد مضى فأمضه كما هو (١) وهذه الرواية تدل بوضوح على اعتبار قاعدة الفراغ إذ قد فرض في الحديث مضي المشكوك فيه حيث قال : «كلّما شككت فيه ممّا قد مضى».

ومن الظاهر أنه مع الشك في أصل الوجود لا يعقل مضيّ المشكوك فيه وهذا العرف ببابك.

ومنها ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنّك لم تغسله وتمسحه ممّا سمّى الله ما دمت في حال الوضوء فإذا قمت عن الوضوء وفرغت منه وقد صرت في حال أخرى في الصلاة أو في غيرها فشككت في بعض ما سمّى الله مما أوجب الله عليك فيه وضوئه لا شيء عليك فيه فإن شككت في مسح رأسك فأصبت في لحيتك بللا فامسح بها عليه وعلى ظهر قدميك فإن لم تصب بللا فلا تنقض الوضوء بالشك وأمض في صلاتك وإن تيقّنت أنّك لم تتم وضوئك فأعد على ما تركت يقينا حتى تأتي على الوضوء ... الحديث(٢).

وهذه الرواية تدل على اعتبار قاعدة الفراغ في باب الوضوء.

ومنها ما رواه عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكك بشيء إنّما الشك إذا كنت

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٣ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

(٢) الوسائل : لا باب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ١.

٢٣

في شيء لم تجزه (١).

والمستفاد من ذيل الرواية بيان الضابط الكلي لاعتبار قاعدة الفراغ وأنّ المكلّف إذا شك في تمامية شيء بعد التجاوز عنه والدخول في غيره لا يعتدّ بشكه.

ومنها ما رواه محمد بن مسلم قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل شكّ في الوضوء بعد ما فرغ من الصلاة ، قال : يمضي على صلاته ولا يعيد (٢).

وهذه الرواية تدل على جريان قاعدة الفراغ في الصلاة بعد الفراغ منها من ناحية الشك في الوضوء.

ومنها ما رواه إسماعيل بن جابر عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث ، قال : إن شك في الركوع بعد ما سجد فليمض وإن شك في السجود بعد ما قام فليمض كل شيء شك فيه ممّا قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه (٣).

والمستفاد من هذه الرواية اعتبار قاعدة التجاوز بشرط الدخول في غير ما شك فيه.

وبعبارة أخرى : إذا قلنا أن ظاهر قوله عليه‌السلام : (إن شك في الركوع بعد ما سجد) الشك في أصل الركوع كما هو ليس ببعيد تكون الرواية في مقام اعتبار القاعدة في مورد الشك في أصل الوجود لا الشك في صحة الموجود ولا الجامع بين الأمرين لكن السند مخدوش لاحتمال كون المراد من محمد الراوي عن ابن المغيرة البرقي وهو مخدوش عندنا. لكن قد رجعنا عن المقالة المشار إليها وقلنا أنه ثقة حسب الصناعة نعم هنا اشكال في اصل الدلالة كما تعرضنا له بالنسبة الى حديث زرارة وهو أن التجاوز عن محل الشيء لا يتحقق الا بالدخول في الغير والحال ان المستفاد

__________________

(١) نفس المصدر : الحديث ٢.

(٢) نفس المصدر : الحديث ٥.

(٣) الوسائل : الباب ١٥ من أبواب السجود ، الحديث ٤.

٢٤

من الحديث انّ مع التجاوز تارة دخل في الغير واخرى لا فلا بد من حمل الحديث على قاعدة الفراغ.

ومنها ما رواه محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الرجل يشك بعد ما ينصرف من صلاته قال : فقال : لا يعيد ولا شيء عليه (١).

وأيضا ما رواه عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : كلما شككت فيه بعد ما تفرغ من صلاتك فامض ولا تعد (٢).

والمستفاد من الحديثين جريان قاعدة الفراغ في الصلاة بعد الفراغ منها.

وفي المقام عدة نصوص واردة في الشك في الركوع :

منها ما رواه حماد بن عثمان قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أشك وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا ، قال : امض (٣).

ومنها ما رواه أيضا قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أشك وأنا ساجد فلا أدري ركعت أم لا فقال : قد ركعت امضه (٤).

ومنها ما رواه الفضيل بن يسار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أستتم قائما فلا أدري ركعت أم لا؟ قال : بلى قد ركعت فامض في صلاتك فإنما ذلك من الشيطان (٥).

ومنها ما رواه إسماعيل بن جابر قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : إن شكّ في الركوع بعد ما سجد فليمض وإن شك في السجود بعد ما قام فليمض كل شيء شك

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٧ من أبواب الخلل ، الحديث ١.

(٢) نفس المصدر : الحديث ٢.

(٣) الوسائل : الباب ١٣ من أبواب الركوع ، الحديث ١.

(٤) نفس المصدر : الحديث ٢.

(٥) نفس المصدر : الحديث ٣.

٢٥

فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه (١).

ومنها ما رواه محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما‌السلام ، قال : سألته عن رجل شك بعد ما سجد أنّه لم يركع؟ قال : يمضي في صلاته (٢).

ومنها ما رواه عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل أهوى الى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع ، قال : قد ركع (٣).

ومنها ما رواه محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام في رجل شك بعد ما سجد أنه لم يركع فقال : يمضي في صلاته حتى يستيقن ... الحديث (٤).

وهذه الروايات تدل على جريان قاعدة التجاوز في الشك في الركوع ولا تدل على اعتبارها على نحو الإطلاق نعم الحديث الثالث من الباب قد ذيّل بقوله عليه‌السلام : (فإنما ذلك من الشيطان) ولقائل أن يقول : إن مقتضى عموم العلة سريان الحكم الى بقية الموارد.

ويرد عليه أنه عليه‌السلام علل حكمه بالصحة بقوله : (فإنما ذلك من الشيطان) فيعلم أنه روحي فداه ناظر الى صورة كثرة الشك الناشئة عن (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) فلا تشمل الرواية الشك العادي الذي يعرض للمصلي بحسب الطبع فلا يكون الحديث قابلا للاستدلال به على المدعى.

فتحصل مما ذكرنا أنه لا دليل على قاعدة التجاوز على نحو العموم أو الإطلاق ، نعم بالنسبة الى الشك في الركوع قد تمّ الدليل على تمامية القاعدة وقد أشرنا الى النصوص الدالة عليه.

__________________

(١) نفس المصدر : الحديث ٤.

(٢) نفس المصدر : الحديث ٥.

(٣) نفس المصدر : الحديث ٦.

(٤) نفس المصدر : الحديث ٧.

٢٦

وأما بالنسبة الى السجود ففي المقام حديثان يدلان على عدم الاعتبار بالشك في السجود بعد ما قام أحدهما ما رواه إسماعيل بن جابر (١).

وثانيهما ما رواه أيضا عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث قال : وإن شك في السجود بعد ما قام فليمض (٢). لكن تقدم الكلام فيه.

الجهة الرابعة : في أنّه هل يشترط في جريان قاعدة الفراغ الدخول في الغير أم لا؟ وعلى الأول هل يعتبر أن يكون ذلك الغير مترتبا أم لا؟ وعلى الأول هل يعتبر أن يكون ترتبه شرعيا أم يكفي مطلق الترتب؟

فهنا موارد من البحث :

المورد الأول : أنه هل يشترط في جريان القاعدة الدخول في الغير؟ الأدلة بالنسبة الى هذه الجهة متعارضة فإنّ ذيل حديث زرارة (٣) وهو قوله عليه‌السلام : «يا زرارة إذا خرجت من شيء» ، إلى آخر كلامه يدلّ على توقف جريانها على الدخول في الغير ويعارضه حديث ابن مسلم (٤).

فإن مقتضى هذه الرواية كفاية مضيّ الشيء في جريان القاعدة فيقع التعارض بين منطوق حديث ابن مسلم ومفهوم حديث زرارة والنسبة بين الحديثين عموم من وجه فإن ما به الافتراق من ناحية حديث زرارة ما لو لم يخرج عن الشيء فإن مقتضاه عدم جريان القاعدة ولا يعارضه حديث ابن مسلم إذ المفروض عدم المضيّ.

وما به الافتراق من ناحية حديث ابن مسلم ما لو مضى ودخل في الغير فإن

__________________

(١) لاحظ ص ٢٤.

(٢) الوسائل : الباب ١٥ من أبواب السجود ، الحديث ٥.

(٣) لاحظ ص ١٩.

(٤) لاحظ ص ٢٣.

٢٧

مفهوم حديث زرارة لا يعارضه.

وما به الاجتماع ما لو مضى ولكن لم يدخل في شيء آخر فإن مقتضى حديث زرارة عدم جريان القاعدة ومقتضى حديث ابن مسلم الجريان.

فربّما يقال : بتقديم حديث ابن مسلم على حديث زرارة بدعوى أن العموم الوضعي قابل لأن يكون قرينة على التصرف في العام الإطلاقي إذ الإطلاق معلّق حدوثا وبقاء على عدم قيام قرينة على خلافه.

وإن شئت فقل : إن ظهور العموم الإطلاقي تعليقي وظهور العام الوضعي تنجيزي فطبعا لا يبقى مجال للتعليقي مع وجود التنجيزي لارتفاع موضوعه.

وهذا كلام شعري ولا أصل له فإنه لا فرق بين الأمرين والميزان في تحقق الإطلاق تمامية مقدمات الحكمة في أول الأمر نعم إذا قامت قرينة منفصلة ترفع اليد عن الظهور بلا فرق بين الإطلاق والعموم.

إن قلت : العموم الوضعي أقوى دلالة فلا بدّ من تقديمه.

قلت : هذه الدعوى كالدعوى الأولى ليس تحتها شيء ولم يرد في هذا الباب آية ولا رواية فإن الميزان في التقديم كون أحد الدليلين قرينة على الآخر في المتفاهم العرفي ولذا نرى تقديم قوله (يرمي) على قوله : (رأيت أسدا) مع أن ظهور الأسد في الحيوان المفترس وضعي وظهور لفظ يرمي في الرمي بالنبال إطلاقي فالحاصل تحقق التعارض.

وربما يقال : إن نتيجة التعارض إذا كان على نحو التباين الجزئي كما في المقام سقوط كلا الدليلين.

وهذه الدعوى أيضا غير تامة فلنا دعويان :

الأولى : عدم الفرق بين الوضع والإطلاق.

الثانية : أنّ التباين الجزئي كالكلي داخل في المتعارضين فلا بد من إعمال قوانين

٢٨

باب التعادل والترجيح وقد بنينا في ذلك الباب على أن المرجح الوحيد في باب الترجيح الأحدثية وحيث إن حديث زرارة أحدث حيث أنه صادر عن الصادق عليه‌السلام وحديث ابن مسلم صادر عن أبي جعفر عليه‌السلام يقدّم حديث زرارة على حديث ابن مسلم ومثل حديث ابن مسلم في الدلالة حديث ابن أبي يعفور (١).

فإن المستفاد من ذيل الحديث أن الميزان في جريان القاعدة صدق التجاوز عن مورد الشك ومقتضى الإطلاق عدم اعتبار الدخول في الغير فيقع التعارض بين الحديثين في مورد الاجتماع وحيث إنّ الأحدث غير معلوم يدخل المقام في كبرى اشتباه الحجّة بغيرها فتصل النوبة الى الأصل العملي ومقتضى القاعدة ، الاشتراط إذ مقتضى الاستصحاب عدم الإتيان ولا دليل على الإجزاء إلّا بعد الدخول في الغير بل مقتضى الأصل عدم جعل الاعتبار الّا فيما يتحقق الدخول في الغير فالنتيجة اشتراط الدخول في الغير.

المورد الثاني : أنّه هل يشترط الترتب في المدخول فيه على المخرج عنه؟ الظاهر عدم الدليل على اعتبار الترتيب.

المورد الثالث : أنه هل يشترط على تقدير الترتب بكونه شرعيا؟ الظاهر عدم الاعتبار كل ذلك لعدم الدليل.

وفي المقام فروع :

الفرع الأول : أنّه لو شك في أثناء الوضوء في تحقق بعض الأجزاء كما لو كان مشتغلا بغسل يده وشك في غسل وجهه وعدمه لا تجري لا قاعدة التجاوز ولا قاعدة الفراغ أما الاولى فلعدم دليل عليها وأما الثانية فلعدم تحقق الموضوع إذ المفروض أن الشك في أصل الوجود مضافا الى حديث زرارة (٢) فإنه يدل

__________________

(١) لاحظ ص ٢٣.

(٢) لاحظ ص ٢٣.

٢٩

بالصراحة على عدم جريان قاعدة التجاوز أثناء الوضوء وأما لو شك في صحة بعض أجزائه وفساده فالظاهر عدم مانع عن جريان قاعدة الفراغ فإن حديث ابن مسلم بعمومه الوضعي يدل على الجريان فالمقتضي للجريان موجود والمانع مفقود فلاحظ.

الفرع الثاني : مقتضى عموم بعض النصوص وإطلاق بعضها الآخر جريان قاعدة الفراغ في جميع الموارد بلا خصوصيّة للصلاة ولا للوضوء ، إذ الميزان بعموم الجواب أو إطلاقه لا بخصوص مورد السؤال.

وهل تختص بالعبادات أو تعم التوصليات وهل تعم الأمور الوضعية أو تختص بالتكليفيات؟

الظاهر أنه لا وجه للاختصاص لاحظ حديث زرارة (١).

فلو طلق زوجته وبعد الفراغ عن الصيغة شك في أدائها صحيحة أو باطلة وكان داخلا في الغير تجري القاعدة بلا محذور.

الفرع الثالث : أنه لو شك في الإتيان بجزء من أجزاء المركب فتارة يكون محلّ التدارك باقيا واخرى لا ، أما على الأول فيجب التدارك إذ مقتضى الاستصحاب عدم الإتيان به ولا دليل على قاعدة التجاوز.

وأما على الثاني فتارة نقول بجريان قاعدة لا تعاد في الأثناء وأخرى نقول بعدمه أما على الأول فلو كان الشك في الأثناء تكون الصلاة صحيحة وأما إذا كان الشك بعد الصلاة فالأمر أوضح.

وأما على الثاني فلا بدّ من التفصيل بأن نقول : إن كان الشك في الأثناء تكون الصلاة باطلة وإن كان بعدها تكون صحيحة.

__________________

(١) لاحظ ص ١٩.

٣٠

إن قلت : لازم هذا الكلام أن المصلي لو دخل في العصر وشكّ في أنّه هل أتى بالركوع في صلاة الظهر أم لا؟ يحكم ببطلان الظهر إذ مقتضى الاستصحاب عدم الإتيان به ومن ناحية أخرى لا يمكن التدارك ومن ناحية ثالثة قاعدة لا تعاد لا تشمل الأركان ومن ناحية رابعة لا دليل على قاعدة التجاوز.

قلت : بعد الفراغ عن الظهر لو شك في ركوعها يكون من مرجع الشك في صحة ما فرغ منه ومقتضى قاعدة الفراغ الحكم بالصحة.

مضافا الى النص الخاص الوارد في الحكم بالصحة بعد الفراغ من الصلاة.

إن قلت : على هذا يلزم أنه لو كان المصلي في الركعة الرابعة من صلاة الظهر مثلا لو شك في ركوع الركعة الأولى لا بد من الحكم بالصحة لقاعدة الفراغ إذ المفروض أنه فرغ عن الركعة الأولى.

قلت : الركعة الأولى جزء من المركب وليس كل جزء من المركب الواجب واجبا بوجوب في قبال بقية الأجزاء بل للمركب بما هو مركب أمر واحد ووجوب فارد فلو شك في ركوع الركعة الأولى يكون مقتضى الاستصحاب عدم الإتيان به إذ المفروض عدم الدليل على قاعدة التجاوز.

وأما قاعدة الفراغ فلا موضوع لها إذ المفروض أن الشك في أصل الوجود وأما الركعة الأولى بما هي فلا تكون واجبة كي يقال انطباق المأمور به على المأتي به يكون منشأ للصحة فلاحظ.

الجهة الخامسة : في أن القاعدة من الأمارات أو من الأصول؟ والكلام يقع في هذه الجهة تارة في الآثار المترتبة على القولين وأخرى في الدليل على كونها أمارة فيقع الكلام في موضعين :

الموضع الأول : في بيان الآثار المترتبة.

الأثر الأول : تقدم القاعدة على الاستصحاب فإنه لو كانت القاعدة من

٣١

الأمارات تكون متقدمة على الاستصحاب كتقدم بقية الإمارات عليه.

ويرد عليه أن القاعدة تتقدم على الاستصحاب ولو على القول بكونها من الأصول إذ لو كان الاستصحاب مقدما عليها فما فائدة جعلها واعتبارها فإن الاستصحاب دائما ينافي مفاد القاعدة إلّا في أقل قليل جدا.

كما أن البينة مقدمة على القاعدة ولو قلنا بكونها من الأمارات فلو شك المكلف في صحة الحمد وقد دخل في السورة وقامت البينة على عدم صحة الحمد لا بدّ من الإعادة ولا تجري القاعدة.

والوجه فيه أن المأخوذ في مورد القاعدة الشك ، لقوله عليه‌السلام : (يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشكّك ليس بشيء).

وأما البينة فتلغي الشك ويعتبر من قامت عنده عالما ومن الظاهر أنّه لا يبقى مجال لحكم الشاك.

وإن شئت فقل : إن دليل البيّنة حاكم على دليل القاعدة.

وأما إذا قامت شهادة عدل واحد أو ثقة واحد في مقابل القاعدة فهل يقع التعارض بين الطرفين أو تقدم القاعدة أو يقدم قول العدل أو الثقة.

لا يبعد أن يكون التقدم لقول العدل أو الثقة بعين التقريب المتقدم.

وصفوة القول : أن القاعدة بيان حكم المكلف عند الشك ومع قيام الدليل على إزالة الشك لا يبقى مجال للقاعدة.

الأثر الثاني : أنه لو كانت القاعدة من الأمارات تترتب عليها اللوازم العقلية فلو كان المكلف محدثا ثم شكّ في الطهارة ثمّ صلّى صلاة الظهر مثلا وبعد الصلاة شك في الطهارة تجري القاعدة بالنسبة الى صلاته ويحكم بصحتها.

فلو كانت القاعدة أمارة يحكم بتحقق الطهارة ولا حاجة الى تجديدها بالنسبة الى الصلوات الآتية وأما على تقدير كونها من الأصول فلا.

٣٢

ويرد عليه : أنه لا فرق من هذه الجهة بين القولين إذ لا دليل على ترتب اللوازم العقلية على الأمارة وإنما قلنا به في لوازم الإخبار من باب السيرة العقلائية كما هو مقتضى الإقرار أو من باب أن الإخبار بالملزوم إخبار باللازم فاعتبار حجية الخبر مرجعه الى اعتبار إخباره بالنسبة الى اللوازم أيضا.

الأثر الثالث : أنه على القول بكونها أمارة يستلزم اعتبار الأذكريّة في الجريان ومع العلم بالغفلة لا تجري.

ويرد عليه : ان الميزان بإطلاق الدليل فلو تم الإطلاق نأخذ به ولو مع العلم بكون المكلف غافلا حال العمل.

وأما الموضع الثاني : فما يمكن أن يستدل به على كونها أمارة وعلى اشتراط احتمال كون المكلف محتملا لكونه ذاكرا حين العمل طائفة من النصوص.

منها ما رواه بكير بن أبي أعين ، قال : قلت له : الرجل يشك بعد ما يتوضأ قال : هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك (١).

وهذه الرواية ضعيفة سندا ببكير إذ أنّه لم يوثق.

ومجرد قول الإمام عليه‌السلام حين وصول خبر وفاته إليه : (أنزله الله بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام) ، لا يدل على أنه كان ثقة وكان عادلا بل فوق العدالة إذ نرى أن السيد الحميري مع كونه متجاهرا بالفسق حين وفاته ابيضّ وجهه بعد اسوداده ، وقال : والله دخلت الجنة.

وأيضا نرى أن الحر الشهيد الرياحي مع تلك المواجهة مع سيد الشهداء عليه‌السلام المواجهة التي انتهت الى أن قتل سلام الله عليه وصل الى مرتبة صار قبره ومدفنه مزارا لعامة الشيعة فلا ملازمة بين الأمرين.

__________________

(١) الوسائل : الباب ٤٢ من أبواب الوضوء ، الحديث ٧.

٣٣

مضافا إلى أنه نفرض أنّه كان صدوقا بل عادلا بل وليّا من أولياء الله لكن لا دليل على أن صدور الحديث عنه كان مقارنا مع زمان وثاقته وعدالته وولايته فهذه الرواية ساقطة عن الاعتبار.

ومنها ما روا محمد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : إن شك الرجل بعد ما صلّى فلم يدر أثلاثا صلّى أم أربعا وكان يقينه حين انصراف أنه كان قد أتمّ لم يعد الصلاة وكان حين انصرف أقرب الى الحق منه بعد ذلك (١).

وهذه الرواية لا بأس بسندها وتقريب الاستدلال بها أنه روحي فداه بعد حكمه بالإتمام وعدم الإعادة علل الحكم بقوله عليه‌السلام : (وكان حين انصرف أقرب الى الحق) والعلّة تعمم وتخصّص فيكون الحكم بالإتمام مختصّا بمورد يكون أقرب الى الحق فيفهم من الحديث أن في جريان القاعدة يلزم احتمال الذكر وأما مع العلم بالغفلة فلا مجال لجريانها.

أقول : قد صرح في كلامه عليه‌السلام بما مضمونه : أن المصلي إذا فرغ من الصلاة وكان حين الفراغ قاطعا يكون صلاته تامة ثم شك في صحة صلاته على نحو الشك الساري لا تجب عليه الإعادة وكان حين الانصراف أقرب الى الواقع.

ومن الظاهر أن الأصحاب لا يشترطون في جريان القاعدة كون المكلف حين الفراغ متوجها وقاطعا بتمامية عمله.

وبعبارة أخرى : الإمام عليه‌السلام بين حكم مورد جزئي من موارد الشك الساري والمستفاد من الرواية بحسب المفهوم أن المصلي بعد فراغه عن الصلاة لو لم يكن قاطعا بالصحة يلزم أن يعتني بالشك في صحة صلاته وحيث إنّ الحديث وارد في خصوص الصلاة يكون مخصّصا لما يدل بالإطلاق والعموم على عدم الاعتداد

__________________

(١) الوسائل : الباب ٢٧ من أبواب الخلل ، الحديث ٣.

٣٤

بالشك كحديثي زرارة وابن أبي يعفور فلا يرتبط مفاد الحديث بالمدعى أصلا.

هذا أولا وثانيا أنّه بأيّ تقريب يدعى أن الجملة الواقعة في هذه الرواية أو تلك الرواية علة للحكم ولما ذا لا تكون حكمة للجعل وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

وثالثا إنّا نفرض كون الجملة علة للحكم لكن نقول لا إشكال في عدم التنافي بين الاثباتين فلو قال المولى في دليل لا تشرب الخمر لأنه مسكر يستفاد منه أن الحرمة دائرة مدار الإسكار فلو ورد في دليل آخر لا تشرب الحلو هل يكون الدليل الثاني منافيا للدليل الأول أو تكون النتيجة أن الحرمة دائرة مدار أحد الأمرين وهما الحلاوة والإسكار؟

ورابعا : إن المذكور في حديث بكير الأذكرية وفي حديث ابن مسلم الأقربية الى الحق فنسأل أنه ما المراد بالأذكرية أو الأقربية فهل يكون المراد من الكلمة الأذكرية والأقربية النوعية أو الشخصية أما النوعية فلا تنافي اعتبار القاعدة مع العلم بالغفلة وأما الشخصية فلا بد من القطع بها ومع القطع لا يحتمل النقصان الّا من حيث العمد واحتمال العمد مدفوع باستصحاب عدمه.

فالنتيجة أنه لا دليل على اشتراط جريان القاعدة باحتمال الذكر بل مقتضى القاعدة هو الجريان على الاطلاق.

ويؤيد المدعى حديثان واردان في باب الوضوء أحدهما ما رواه الحسين بن أبي العلاء قال سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخاتم إذا اغتسلت قال :

حوله من مكانه وقال في الوضوء تديره فإن نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك أن تعيد الصلاة (١).

__________________

(١) الوسائل : الباب ٤١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٢.

٣٥

ثانيهما ما رواه محمد بن علي بن الحسين قال : إذا كان مع الرجل خاتم فليدوّره في الوضوء ويحوّله عند الغسل ، قال : وقال الصادق عليه‌السلام : وإن نسيت حتى تقوم من الصلاة فلا آمرك أن تعيد (١).

فإن الحديثين يدلان على جريان القاعدة حتى مع العلم بالنسيان حين العمل.

الجهة السادسة : في أنّ القاعدة من المسائل الأصولية أو من المسائل الفرعية الفقهية؟

والحق أنها من الثانية كما تقدم منّا قريبا وصفوة القول : أن القاعدة الفقهية لا ترتبط بالأصول فإن المسألة الأصولية تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الفرعي ولا تتعرض لحكم من الأحكام الشرعية الفرعية وأما القاعدة الفقهية فإنها ناظرة ومتعرضة للحكم الفرعي الإلهي.

وبعبارة اخرى : لا فرق بين قاعدة الفراغ ووجوب صلاة الجمعة غاية ما في الباب أن القاعدة بمفهومها الواسع تتعرض لكثير من الموارد التي تكون تحت جامع واحد.

وإن شئت فقل : أن مفاد قاعدة : (ما يضمن بصحيحه ...) مثل وجوب العمل بالشرط ومثل وجوب العمل بالنذر فإن مصداق النذر قد يكون هو الصوم وأخرى الاعتكاف وثالثة الحج ورابعة الازدواج فلاحظ.

__________________

(١) نفس المصدر : الحديث ٣.

٣٦

القاعدة الرابعة

قاعدة حجية البيّنة

اعلم أن المراد من البيّنة في المقام شهادة عدلين بموضوع خارجي.

والكلام يقع حولها في جهات :

الجهة الأولى : في الوجوه القابلة للاستدلال بها على اعتبار البينة.

الوجه الأول : جملة من الآيات منها قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ)(١).

بتقريب أن المستفاد من الآية اعتبار شهادة رجلين.

وفيه أوّلا لا تعرض في الآية لعدالة الشاهدين.

وثانيا أن الآية راجعة الى الدين والموجبة الجزئية لا تكون دليلا على الإيجاب الكلي الذي هو المقصود.

ومنها قوله تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا)(٢).

بتقريب أن المستفاد من الآية اعتبار شهادة شاهدين وبعبارة أخرى وجوب أداء الشهادة يستلزم اعتبار قول الشاهد.

وفيه ما تقدم آنفا من الإشكال طابق النعل بالنعل.

ومنها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ

__________________

(١) البقرة : ٢٨٢.

(٢) البقرة : ٢٨٢.

٣٧

الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ)(١).

وتقريب الاستدلال ظاهر ويرد عليه أولا : أنّه جعل العدل للعادل فإنّ قوله تعالى : (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) مطلق يشمل غير العادل مضافا الى ان غير الامامي الاثني عشري لا يتصور كونه عادلا.

وثانيا : أنّه قد مرّ قريبا أن الإيجاب الجزئي لا يكون دليلا على الكلية.

ومنها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ)(٢).

والتقريب هو التقريب والإشكال هو الإشكال.

ومنها قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)(٣).

والتقريب هو التقريب والإشكال هو الإشكال.

وعلى الجملة : لا يمكن استفادة الكلية من هذا المقدار من الموارد الجزئية مضافا الى أنه كما تقدم لا تعرض في بعض هذه الآيات للعدالة.

الوجه الثاني : الروايات منها ما رواه مسعدة ابن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : كلّ شيء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة أو المملوك عندك ولعلّه حر قد باع نفسه أو خدع فبيع قهرا أو امرأة تحتك وهي اختك أو رضيعتك والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك أو تقوم به

__________________

(١) المائدة : ١٠٦.

(٢) المائدة : ٩٥.

(٣) الطلاق : ٢.

٣٨

البيّنة (١).

وتقريب الاستدلال على المدعى بالحديث : أن المستفاد منه أنّ البيّنة حجّة في جميع الموضوعات الخارجية.

وفيه أن الحديث ضعيف سندا فلا يعتد به.

وربما يقال كما قيل : أن عمل المشهور بالخبر الضعيف يوجب انجباره ويوجب صيرورته موثوقا به وموضوع الحجة الخبر الموثوق به.

ويرد على هذا البيان :

أولا : أنّه كيف يمكن الجزم بأن المشهور عملوا بهذا الخبر والحال أن الوجوه القابلة للاستدلال متعددة.

وثانيا : أن الالتزام بكون عمل المشهور جابرا وإعراضهم مسقطا من غرائب الكلام ويستلزم التناقض إذ في الأصول يحكمون بعدم اعتبار الشهرة الفتوائية وفي الفقه يحكمون بكون العمل أو الإعراض جابرا ومسقطا ولا يمكن الجمع بين القولين.

وصفوة القول : أنّه إن كان الورع والفضيلة يوجبان العلم لوصولهم الى دليل معتبر فكلا المقامين من واد واحد وإن قلنا أنّه يحتمل أن يكون العمل أو الإعراض ناشئا عن الاجتهاد فلا أثر لعملهم ولا لإعراضهم.

وثالثا : أنه أيّ دليل دلّ على أنّ الميزان في الحجية الوثوق بصدور الخبر لا بكون الراوي ثقة والحال أن السيرة العقلائية التي هي العمدة في دليل اعتبار الأخبار الآحاد جارية على العمل بخبر الثقة.

ويؤكد المدعى بل يدل عليه ما ورد في بعض الروايات حين يسأل الراوي

__________________

(١) الوسائل : الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤ ..

٣٩

الإمام عليه‌السلام عن كون فلان ثقة بقوله أيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه معالم ديني.

ورابعا : كيف يمكن دعوى أن الميزان الوثوق بالصدور والحال أنّه قلّما يتّفق تحقق الوثوق بالصدور.

وخامسا : أنه لو كان الميزان الوثوق بالصدور لم يكن وجه لهذا البحث الطويل في حجية الخبر الواحد إذ اعتبار الاطمئنان من الواضحات الأوليّة فإن القطع حجة عقلا والاطمئنان حجة عقلائية فالنتيجة أن الحديث غير تام سندا.

وأما من حيث الدلالة فالبينة عبارة عن الحجة وبعبارة أخرى :

البينة مرادفة مع البرهان وما قيل في هذا المقام أن البيّنة في لسان الشرع عبارة عن شهادة عدلين ، بلا بينة.

كما أن ما قيل من أنّه لو كان المراد من البينة الحجة الواضحة لكان قسم الشيء قسيما له ، لا شيء تحته فإن البينة قسيم العلم.

ومنها ما رواه عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله عليه‌السلام في الجبن قال :

كل شيء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أن فيه ميتة (١).

وتقريب الاستدلال بالحديث ظاهر.

ويرد عليه أوّلا : أن الرواية لا يعتد بها سندا فإن عبد الله بن سليمان لم يوثق.

وثانيا : أن المذكور فيها عنوان شاهدين بلا قيد فيشمل بإطلاقه حتى المشرك فلا يرتبط بالمقام أصلا.

ومنها النصوص الواردة في ثبوت الهلال بشاهدين عدلين كحديث الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن عليّا عليه‌السلام كان يقول : لا أجيز في الهلال الّا شهادة رجلين عدلين (٢).

__________________

(١) الوسائل : الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث ٢.

(٢) الوسائل : الباب ١١ من أحكام شهر رمضان ، الحديث ١.

٤٠