التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

تحديد المقدار في الكتاب والسنة مع حضهما على التساهل فيه بالنسبة للناس الذين لا يقدرون على الكثير وهم الأكثرية الساحقة تلمح في كون طبيعة الحياة التي فيها التفاوت في المقدرة والمراتب الاجتماعية لا تتعارض مع الزيادة بالنسبة للقادرين بل تجعل ذلك مما لا يمكن تفاديه. وهكذا تتسق الشريعة الإسلامية مع مصلحة الأكثرية الساحقة من الناس ومع طبيعة الحياة في مختلف الظروف وهذا من مرشحاتها للشمول والخلود. ولقد روى أبو داود والنسائي وأحمد حديثا عن أمّ حبيبة أم المؤمنين قالت «إنها كانت تحت عبد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوّجها النجاشي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمهرها منه أربعة آلاف درهم وبعث بها إلى رسول الله مع شرحبيل بن حسنة» (١) حيث يمكن الاستئناس بهذا على ما قلناه والله سبحانه أعلم.

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)) [٢٢].

تعليق على الآية

(وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) إلخ

عبارة الآية واضحة. وهي في نهي المسلمين عن عادة بشعة جاهلية وتشنيعها وإبطالها.

وقد روى المفسرون (٢) أنه كان من عادة العرب قبل الإسلام ـ ومنهم من روى ذلك عن أهل المدينة خاصة ـ إذا مات رجل منهم عن زوجة وله ابن بالغ من غيرها وألقى عليها ثوبا فإن ذلك يكون بمثابة إعلان رغبته فيها فيصبح أحق بها من نفسها إن شاء تزوجها وإن شاء زوجها لغيره وإن شاء أمسكها في بيته وإن شاء سرحها مقابل فدية تفدي بها نفسها من مال تدفعه أو حق تتنازل عنه له. وقد رووا

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٧٠.

(٢) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.

٦١

هذا في سياق الآيات السابقة كما ذكرنا قبل. ورووا إلى هذا أن الآية نزلت في مناسبة مراجعة امرأة كانت زوجة لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري ، فلما مات خطبها ابنه فأتت رسول الله وأخبرته وقالت إني أعدّ ابنه ابنا لي فما لبثت الآية أن نزلت بالنهي. كذلك مما رووه أن الآية نزلت في مناسبة حالات متعددة من هذا الباب ذكروا أسماء أصحابها من قريش حيث خلف صفوان بن أمية والأسود بن خلف على زوجتي أبويهما.

ويلحظ أولا أن الآية منصبة على النهي عن نكاح زوجات الآباء وتشنيعه فقط ، وثانيا أنه جاء بعدها فصل فيه بيان المحرم على المسلمين من الأنكحة والحلال لهم حيث يسوغ القول إنها غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق موضوعا وظرفا. وهذا لا يمنع أن يكون بعض الروايات أو جميعها وقعت أو مما كان يقع وإن امرأة شكت أمرها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل نزول الآية وما بعدها من ما فيه محرمات الأنكحة.

وأسلوب الآية قوي في التشنيع حاسم في النهي. والمتبادر أن استثناء ما قد سلف قد استهدف تسوية نتائجه الطبيعية كالذرية التي نتجت من هذا النكاح تسوية شرعية وحقوقية. وفي هذا من الحكمة والحق ما هو ظاهر.

ويستفاد من أقوال المفسرين (١) ورواياتهم عن أهل التأويل أن الاستثناء أي جملة (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) هو من أجل الأولاد الذين ولدوا من هذه الحالة قبل تحريمها ليعتبروا أولادا شرعيين لأنهم من نكاح كان سائغا وليس للسماح باستمرار الزوجية بين زوجة الأب وابن الزوج. وهو حق سديد ، ولقد روى الترمذي حديثا عن فيروز الديلمي قال «أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت له إني أسلمت وتحتي أختان فقال اختر أيّتهما شئت وفي رواية طلّق أيّتهما شئت» (٢) وقد حرمت آية تأتي بعد هذا جمع الأختين إلّا ما قد سلف حيث يدعم هذا ذلك القول.

__________________

(١) انظر بخاصة تفسير ابن كثير والطبرسي والخازن لهذه الآيات.

(٢) التاج ج ٢ ص ٣٢٤.

٦٢

ولقد قال المفسر ابن كثير في سياق تفسير الآية إن من يتزوج زوجة أبيه بعد تحريم ذلك يكون مرتدا عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال. وأورد للتدليل على ذلك حديثا رواه أصحاب السنن والإمام أحمد عن البراء بن عازب قال «لقيت عمي ومعه راية فقلت أين تريد قال بعثني رسول الله إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله» (١) حيث يفيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرع هذه العقوبة لمثل هذا الجرم الفظيع حينما اقترف في الإسلام رغم التحريم والتسفيه الشديدين اللذين احتوتهما الآية.

وهناك أقوال يوردها المفسرون ومنهم من يعزوها أو يعزو بعضها إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى الآية (٢) من ذلك أن لفظ الآباء يشمل الجد بحيث يكون التحريم شاملا لنكاح ما نكحه الجد من قبل حفيده ومنها أن زوجة الأب تحرم على الابن ولو لم يدخل بها أن كان طلقها أو مات عنها قبل الدخول. ومنها أن التحريم يشمل ما استفرشه الآباء من إمائهم وما باشروه مباشرة بدون جماع من إمائهم وزوجاتهم بل ومن يكونون خلوا بهن منهن أو رأوهن مجردات أي عاريات. ثمّ تخلوا عنهن بدون جماع ، وهذه أقوال وجيهة. وهناك اختلاف في ما جامعه الآباء سفاحا وما باشروه مباشرة وقبلوه بشهوة بدون جماع من نساء حرائر وإماء ولم يكنّ زوجاتهم وملك يمينهم. فبعض المؤولين والفقهاء أخذوا جملة (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) على معنى الجماع بالزواج أو بالسفاح وألحق به المباشرة والتقبيل بشهوة. وقال إن ذلك يحرم المرأة المزني بها أو المباشرة أو المقبلة بشهوة على الأبناء. وعزا الخازن هذا القول إلى عمران بن الحصين وجابر بن زيد والحسن وفقهاء العراق. ورتب أصحاب هذا الرأي حرمة المصاهرة عليه بحيث تكون بنت الزنا محرمة على أخيها الشرعي وعلى والد أبيها. وبعضهم أخذوا الجملة على معنى عقد الزواج وقالوا بعدم حرمة من ليس زوجة

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٦.

(٢) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن مثلا.

٦٣

بعقد يجب فيه الصداق على الزوج ويلحق به الولد وتجب فيه العدة على الزوجة ، وعزا الخازن هذا القول إلى علي وابن عباس وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري ومالك والشافعي وفقهاء الحجاز ومعنى هذا أن زواج الابن من امرأة زنى بها الأب غير محرم فضلا عن ما باشره أو خلا بها أو قبله بشهوة من نساء حراما. وهذا الرأي مستفاد من الجزء الثاني من موطأ مالك.

وإذا لحظنا أن القرآن إنما استعمل كلمة (النكاح) ومشتقاتها في مقام الزواج وعقده دون استثناء. مما مثاله ما جاء في آية البقرة (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) [٢٢١] وفي آية الأحزاب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) [٤٩] ومما سوف يأتي أمثلة له في هذه السورة وما بعدها يكون القول الثاني هو الأوجه. وإن كان ضمير المرء يشعر أن القول الأول لا يخلو من وجاهة أيضا باستثناء اللمس والتقبيل بشهوة والمباشرة بدون جماع للمرأة غير الزوجة لأن هذه الأفعال لا يمكن أن تدخل في وصف النكاح ولو حمل على محمل الجماع. والمتبادر أن الإماء يلحقن بالحرائر في كلا القولين والله تعالى أعلم.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ

٦٤

غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)) [٢٣ ـ ٢٤].

(١) ربائبكم : جمع ربيبة وهي بنت الزوجة والمتبادر أن التسمية من معنى كون الزوج يرب أو يربي بنت زوجته في كنفه.

(٢) في حجوركم : بمعنى في كفالتكم مع أمهاتهن.

(٣) حلائل : جمع حليلة وهي الزوجة.

(٤) المحصنات من النساء : كلمة المحصنات جاءت في مقامات في القرآن في معان متنوعة. منها الحرائر ومنها العفيفات ومنها المتزوجات والجمهور على أنها هنا بالمعنى الأخير وهو الملموح من روح الآية.

(٥) أجورهن : بمعنى مهورهن.

(٦) فريضة : مفروضة متفقا عليها.

الخطاب في الآيتين موجّه إلى المسلمين وقد أوذنوا فيه بما كتب الله لهم من الحلال والحرام في الأنكحة كما يلي :

١ ـ حرم عليهم التزوج بأمهاتهم ، وبناتهم ، وأخواتهم ، وعماتهم ، وخالاتهم ، وبنات إخوتهم ، وبنات أخواتهم ، ومرضعاتهم اللاتي يعتبرن أمهاتهم ، وبنات مرضعاتهم اللاتي يعتبرن أخواتهم ، وأمهات زوجاتهم ، وبنات زوجاتهم من أزواج غيرهم إذا كانوا قد دخلوا بهن باستثناء اللاتي يطلقوهن قبل الدخول بهن ، وزوجات أبنائهم الذين من أصلابهم ، وجمع الأختين في آن واحد مع العفو عما كان من ذلك قبل نزول الآيات والنساء المتزوجات باستثناء ما ملكته أيمانهم.

٢ ـ وأبيح لهم أن يتزوجوا بغير هذه المحرمات مع تنبيههم إلى وجوب أن تكون غايتهم الإحصان والعفة عن الزنا والسفاح. وإلى وجوب أدائهم مهرا للمرأة التي يتزوجون بها كفرض متفق عليه مع إباحة التراضي في شأنه بعد تسميته وأدائه زيادة أو نقصا حسب التراضي.

٦٥

تعليق على الآية

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ...) إلخ

والآية التالية لها وما يتصل بهما من أحكام

ولم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيتين. وما احتوتاه هو تشريعات رئيسية قد لا تحتاج إلى مناسبات خاصة. غير أن الّذي نرجحه أنهما نزلتا بسبب حوادث متنوعة في صدد حرام الأنكحة وحلالها كثرت في مناسباتها الاستفتاءات والمناقشات. وهو المتسق مع ما جرت عليه حكمة التنزيل في التشريع وغير التشريع في الأعمّ الأغلب.

والتناسب الموضوعي الخاص بين الآيتين والآية السابقة لها أولا والتناسب الموضوعي العام بينهما وبين الآيات السابقة جملة واضح. فإما أن تكون الآيتان نزلتا بعد السياق السابق بدون فاصل فوضعتا في مكانهما للتناسب الموضوعي والظرفي وإما أن تكونا نزلتا لحدتهما بعد وقت ما فوضعتا في مكانهما للتناسب الموضوعي.

ولم نطلع على روايات تفيد أن شيئا من المحرمات المذكورة وبخاصة الرئيسية منها مثل الأم والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت وزوجة الابن من الصلب كان مباحا عند العرب قبل الإسلام وقد تكون جملة (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) في صدد نكاح زوجات الآباء والجمع بين الأختين قرينة على أن المحرمات المذكورة في الآيتين وبخاصة الرئيسية كانت محرمة قبل الإسلام. ولعلهم كانوا يتساهلون في غير هذه المحرمات الرئيسية كأمهات الرضاع وأخوات الرضاع والربائب مثل تساهلهم في نكاح زوجة الأب والجمع بين الأختين. وكانوا إلى هذا يتشددون في تحريم نكاح أرامل ومطلقات الأبناء حتى شمل ذلك مطلقات الأبناء بالتبني فاقتضت حكمة التنزيل إيحاء هذه الآيات لتكون أحكاما صريحة شاملة لجميع الحالات بأسلوب حاسم.

٦٦

والنصّ على تحريم زوجة الابن من الصلب فقط وقيد تحريم الربائب بالدخول بأمهاتهن وما ورد من أحاديث حرمة الرضاع على ما سوف نورده بعد قد يكون قرائن على ما نقول.

والنصّ على تحريم زوجة الابن من الصلب فقط الذي خرج به تحريم زوجة الابن بالتبني من المحرمات قد يدل على أن هذه الآيات قد نزلت بعد إبطال تقليد التبني وتوابعه في سورة الأحزاب. ولعل ذلك من أسباب تقديم سورة الأحزاب على هذه السورة في روايات ترتيب النزول.

وقد نبّه المفسرون (١) والفقهاء ومنهم من عزا قوله إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم على أن تعبير الأب في المحرمات يشمل الجد وتعبير الأم يشمل الجدة ، وتعبير الابن يشمل ابن الابن وبنت الابن ، وتعبير البنت يشمل ابن البنت وبنت البنت ، وتعبير العمة يشمل عمة الأب وعمة الأم ، وتعبير الخالة يشمل خالة الأب وخالة الأم. وهذا وجيه ومتسق مع روح الآيات وأساليب اللغة العربية ، ونبهوا كذلك على حرمة الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها استنادا إلى حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة جاء فيه «أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها» (٢) وهذا تشريع نبوي لحالة سكت القرآن عنها. ونبهوا كذلك على حرمة وطء الرجل والدة أمته التي يستفرشها ولا بناتها من غيره ولا بنات أبنائها وبناتهم أيضا ولو كن ملك يمينه. وهو قول سديد. ولم نقع على قول في عمات الأمة التي يستفرشها سيدها وخالاتها أو الجمع بينها وبينهن. ويتبادر لنا أن هذا ينسحب عليه ذلك الأصل لأن تعليله جنسي ولا يتبدل في حالة الحرية والرق. والله أعلم. ونبهوا أيضا على أن زوجات الكفار داخلات في مدى عبارة (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) محرمات على المسلمين على اعتبار أنهن ذوات أزواج سواء أكنّ مشركات أم كتابيات باستثناء ما يسبيه المسلمون من

__________________

(١) انظر تفسير الخازن وابن كثير والطبري والبغوي وغيرهم.

(٢) انظر أيضا التاج ج ٢ ص ٢٦٤.

٦٧

أعدائهم الكفار نتيجة لحرب وقتال من نساء حيث أبيح لهم أن يستفرشوهن لأنهن غدون ملك يمين لهم على ما تفيده جملة (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) مما سوف نزيده شرحا بعد.

وفي موطأ مالك (١) حالات أخرى. منها عزوا إلى زيد بن ثابت (عدم صحة زواج رجل من أم زوجة عقد عليها ثم طلقها قبل أن يمسها لأنه صارت أم زوجته على كل حال) وهذا متسق مع إطلاق العبارة القرآنية. ومنها بدون عزو إلى أحد (حالة الرجل تكون تحته امرأة فيجامع أمها. حيث تحرم عليه زوجته وأمها معا). وهذا اجتهاد تطبيقي للجملة القرآنية إذا أخذ بقول من يقول بحرمة المرأة التي يصيبها الرجل ولو سفاحا. وقد علقنا على هذا سابقا.

ولم يذكر شيء في الآيات عن دين النساء اللاتي يحل للمسلم أن يتزوجهن. غير أن الآية التالية لهذه الآيات مباشرة ذكرت ذلك بأسلوب يفيد وجوب كونهن من المؤمنات. ولقد حرمت آية البقرة [٢٢٠] نكاح المشركات على ما شرحناه قبل. ولقد أدخل تعديل على ذلك بإباحة الكتابيات في آية سورة المائدة [٥] على ما سوف نشرحه بعد.

وفي صدد حرمة الرضاع روى الخمسة عن عائشة رضي الله عنها حديثا جاء فيه «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة» (٢). وحديثا ثانيا رواه الشيخان جاء فيه «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم» (٣). وحديثا ثالثا رواه جميعهم عدا الترمذي عن أم حبيبة «قالت يا رسول الله إنا لنتحدث أنك تريد أن تنكح درة بنت أبي سلمة فقال : بنت أم سلمة ، قلت نعم قال فو الله لو لم تكن في حجري ما حلّت لي ، إنها ابنة أخي من الرضاعة أرضعتني وأبا سلمة ثويبة» (٤)

__________________

(١) الموطأ ج ٢ ص ٢٣ و ٢٤.

(٢) انظر التاج ج ٤ ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

٦٨

وحديثا رابعا رواه الخمسة إلّا البخاري عن أمّ الفضل جاء فيه «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا تحرّم الرضعة أو الرضعتان أو المصّة أو المصتان» (١). وحديثا خامسا رواه البخاري والترمذي عن عقبة بن الحارث قال : «تزوجت امرأة فجاءتنا امرأة سوداء فقالت أرضعتكما فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبرته وقلت إن المرأة كاذبة فأعرض ، فأتيته من قبل وجهه وقلت إنها كاذبة ، قال كيف بها وقد زعمت أنها أرضعتكما ، دعها عنك» (٢). وحديثا سادسا رواه الترمذي جاء فيه «أن ابن عباس سئل عن امرأتين في عصمة رجل واحد أرضعت إحداهما جارية (بنتا) والأخرى غلاما أتحلّ الجارية للغلام فقال لا إن اللقاح واحد» (٣). وحديثا سابعا رواه الترمذي عن أم سلمة قالت «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحرم من الرضاع إلّا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام» (٤). وحديثا ثامنا عن ابن عباس رواه الدارقطني جاء فيه «قال رسول الله لا يحرم من الرضاع إلّا ما كان في الحولين» (٥).

وفي موطأ مالك أحاديث أخرى. منها حديث عن عائشة قالت : «جاء عمي من الرضاعة يستأذن عليّ فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول الله فسألته فقال إنه عمك فأذني له قالت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل قال إنه عمك فليلج عليك» (٦) وحديث عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أنه أخبره «أن عائشة زوج النبي كان يدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها. ولا يدخل عليها من أرضعته نساء أخواتها» (٧).

وليس في الأحاديث ما ينقض الجملة الواردة في الآية الأولى في تحريم

__________________

(١) انظر التاج ج ٤ ص ٢٦٤ ـ ٢٦٥.

(٢) انظر أيضا التاج ج ٢ ص ٢٦٦.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) ابن كثير.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) الموطأ ج ٢ ص ٦٨ ـ ٧٠.

(٧) المصدر نفسه.

٦٩

المرضعات وبناتهن وإنما فيها توضيح وتوسيع ومن الواجب الأخذ بها بحيث يصح القول على ضوئها وضوء الجملة القرآنية أن الرضاعة المشبعة في سن الرضاعة هي التي تحرم النكاح وأن الرضاعة بهذا الوصف تحرم من الأنكحة ما يحرمه الرحم والولادة حيث تغدو المرضعة بمثابة أم الطفل أو الطفلة التي رضعت منها فتحرم هي على الطفل كما يحرم عليه بناتها وأخواتها وعماتها وخالاتها وبنات أبنائها وبنات بناتها ويحرم على الطفلة أبو المرضعة وأبناؤها وإخوتها وأعمامها وأخوالها ويحرم على الطفل من رضع معه منها من بنات غير بناتها ويحرم على الطفلة من رضع معها منها من صبيان غير صبيان مرضعتها مع التنبيه على أن هناك بعض اختلافات مذهبية لا يتحمل منهج التفسير بسطها.

ولقد روى الخمسة إلّا البخاري حديثا عن عائشة جاء فيه «كان فيما أنزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرّمن ، ثم نسخن بخمس معلومات وتوفي رسول الله وهنّ فيما يقرأ من القرآن» (١) ، ونحن في حيرة من هذا الحديث. ففي عهد أبيها حرر مصحف رسمي ليكون الإمام والمرجع على ملأ من المسلمين ولا يعقل أن تسكت على عدم إثبات قرآن مات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قرآن في المصحف ولا يعقل أن ترد شهادتها في ذلك ونرجح أن في الأمر التباسا وقد ناقش رشيد رضا هذه المسألة وقال ما مفاده أن رواية الخمس عنها هي المعتمدة وبها يقول أهل الحديث ويرون أن العمل بها يجمع بين الأحاديث. ورواية القرآن كقرآن لا تثبت إلا بالتواتر وليس هناك تواتر يؤيد صحة ما روي في هذا عن عائشة رضي الله عنها.

وعلى كل حال فإن قصارى الأمر تقرير كون حرمة الرضاع منوطة بالرضاعة الكثيرة المشبعة لا بالمصة والمصتين وهو ما تضمنت الأحاديث الأخرى تقريره.

ولقد روى مالك قولا عن سعيد بن المسيب (٢) (إن كل ما كان في الحولين وإن كانت قطرة واحدة يحرّم) وعن ابن شهاب (إن الرضاعة قليلها وكثيرها إذا

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٦٥.

(٢) الموطأ ج ٢ ص ٦٨.

٧٠

كانت في الحولين تحرم) ولا يروي الإمام مالك ما رواه البخاري وغيره من أصحاب الكتب الخمسة وأوردناه آنفا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا ندري إذا كانت لم تبلغه أو لم تثبت عنده وعند سعيد وابن شهاب. وما دامت هذه الأحاديث واردة في كتب الصحاح فهي الأكثر وثاقة ولزوما وما فيها هو الأسدّ والأوجه في الوقت نفسه والله تعالى أعلم.

وقد تعددت أقوال المفسرين ورواياتهم في تأويل جملة (إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) بعد جملة (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) (١) منها أنها في صدد إباحة التزوج بسبايا الأعداء اللاتي يكون لهن أزواج أو وطئهن كإماء. حيث يكون السبي قد جعلهن ملك يمين المسلمين وأحلّ لهم وطئهن رغم كونهن ذوات أزواج ، وقد رووا في صدد ذلك عن أبي سعيد الخدري «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث جيشا إلى أوطاس فأصابوا سبيا لهن أزواج من المشركين فكرهوا غشيانهن فأنزل الله هذه الآية بإباحتهن» (٢) ومنها أنها في صدد الأمة التي تكون مستفرشة من سيدها فيبيعها أو يهبها لغيره حيث تضمنت الجملة على رأي أصحاب هذا القول إباحة استفراشها من سيدها الجديد أيضا. ومنها أن الجملة في صدد إباحة استفراش الإماء من قبل مالكيهن بدون تحديد ، بالإضافة إلى أربع زوجات شرعيات ، واعتبار ذلك غير مقيد بما قيد به الزواج من عدد ومهر إلخ.

وقد يكون القول الأول هو الأكثر اتساقا مع مقام الجملة. غير أن الجملة جزء من آية والآية جزء من سياق بحيث يسوغ التوقف في التسليم بنزول الجملة لحدتها حسب الرواية المروية عن أبي سعيد الخدري. ولعل حادث جيش أوطاس كان سابقا لنزول الآيات فأباح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمجاهدين وطء سبايا المشركين ثم أيد القرآن ما أباحه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سياق بيان الحلال والحرام من الأنكحة.

__________________

(١) انظر تفسيرها في ابن كثير والخازن والطبرسي والبغوي.

(٢) أورد هذا الحديث ابن كثير والخازن ورواه الترمذي وأبو داود أيضا. انظر التاج ج ٤ ص ٨١ في فصل التفسير.

٧١

وننبه في هذه المناسبة على أن وطء المسبية والأمة التي يبيعها سيدها أو يهبها وتكون مستفرشة له قبل بيعها لا يجوز إلّا بعد استبراء رحمها. وقد روي أن المسلمين أخذوا يقعون على سبايا خيبر فأرسل النبي مناديا ينادي «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعن على امرأة من السبي حتى يستبرئها» (١) وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي أيضا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يحلّ لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها بحيضة» (٢). وواضح من إطلاق الآية والأحاديث أن المسلم يستطيع أن يستفرش أمته سواء أكانت مسلمة أم غير مسلمة إطلاقا وهو ما عليه الجمهور دون خلاف. أما آية البقرة [٢٢٠] التي نهي فيها عن نكاح المشركات فهي في صدد التزوج بهن بعقد على ما نبهنا عليه في مناسبتها.

ومما نبّه عليه المفسرون (٣) وأهل التأويل في هذا الصدد أن سيد الأمة حينما يهبها أو يبيعها تخرج من نطاق ملك يمينه فلا تعود تحل له وهي في ملك غيره إلّا إذا اشتراها ثانية أو وهبت له. وإلّا إذا تزوجها بعقد مما أباحته آية تأتي بعد قليل.

وهذا سديد وجيه. وننبه على أن بيع الأمة وهبتها يسوغان إذا لم تلد من سيدها فإذا ولدت صارت أم ولد ولم يعد يسوغ بيعها وهبتها وتصبح بعد موت سيدها حرة.

ونذكر بهذه المناسبة بالتعليق الذي علقناه على هذا الموضوع في سياق الآيات الأولى من سورة المؤمنون لأن فيه بعض البيان الذي يحسن ملاحظته حين قراءة هذا الكلام.

واستثناء ما قد سلف من حالة جمع الأختين هو مثل استثناء حالة زواج الابن من زوجة والده لتسوية النتائج الطبيعية تسوية حقوقية وشرعية كما قلنا في صدد استثناء الحالة الثانية.

__________________

(١) ابن سعد ج ٣ ص ١٦١.

(٢) التاج ج ٢ ص ٣١٦.

(٣) انظر كتب التفسير السابقة الذكر.

٧٢

ولقد أورد المفسرون (١) حديثا رواه أبو داود عن الضحاك بن فيروز عن أبيه أنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إني أسلمت وتحتي أختان فقال طلق أيتهما شئت. والمتبادر أن ذلك كان بعد نزول الآيات وكتطبيق لها.

ولقد نبّه المفسرون إلى أن عقد نكاح الأخت مع الأخت باطل. فإن كان العقد على الأختين معا فالعقد عليهما باطل وإن كان العقد على واحدة بعد أخرى فعقد الثانية باطل. كذلك نبهوا إلى أن حرمة الجمع بين الأختين شاملة لملك اليمين أيضا بحيث قالوا عزوا إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم أنه لا يجوز لسيد أن يستفرش أختين في آن واحد. وقد فرضوا حالة ثالثة وهي أن تكون واحدة ملك يمين وثانية حرة وقالوا إن هناك من جوز ذلك ولكن الأكثر على خلافه. ورووا بسبيل ذلك حديثا أخرجه الإمام مالك جاء فيه : أن رجلا سأل عثمان عن أختين مملوكتين لرجل هل يجمع بينهما فقال أحلتهما آية وحرمتهما آية ، فأمّا أنا فلا أحب أن أصنع ذلك فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب رسول الله هو في رواية علي بن أبي طالب وفي رواية الزبير بن العوام فسأله فقال : أما أنا فلو كان لي من الأمر شيء لم أجد أحدا فعل ذلك إلّا جعلته نكالا (٢). والنهي عن جمع الأختين في الآية مطلق بحيث يتبادر أنه شامل للأخوات مطلقا سواء أكن حرائر أو إماء أو بعضهن حرائر وبعضهن إماء والله أعلم.

وهناك نقاط أخرى متصلة بمدى الآيات رأينا من المفيد الإلمام بها :

إن الآيات تأمر بإيتاء النساء مهورهن وفرضها لهن فريضة. وآيات البقرة [٢٣٦ و ٢٣٧] تفيد سواغ عقد النكاح بدون تعيين المهر وأدائه مسبقا. فيكون الأمر في الآيات التي نحن في صددها مطلقا لإيجاب أداء المهر سواء كان قبل العقد أم بعده وهناك حديث رواه أصحاب السنن في صدد ذلك وفي صدد المهر الواجب في هذه الحالة جاء فيه «سئل ابن مسعود عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن وابن كثير والطبرسي.

(٢) المصدر نفسه.

٧٣

لها صداقا ولم يدخل بها حتى مات فقال لها صداق نسائها لا وكس ولا شطط ؛ ولها ميراثه وعليها العدّة فقام معقل بن سنان فقال قضى رسول الله في بروع بنت وأشق مثل الذي قضيت ففرح بها ابن مسعود» (١). ويقاس على هذا جواز العقد والدخول قبل فرض الصداق وأدائه واستحقاق المرأة المدخول بها صداق أمثالها كما هو المتبادر. أما مهر المرأة المطلقة في مثل هذه الحالة فالحكم في آيات البقرة [٢٣٦ و ٢٣٧] وفي نطاق ما شرحناها.

٢ ـ وإيجاب إعطاء المرأة مهرها يمنع تزويج الرجل بنته أو أخته لرجل مقابل تزوج بنت الرجل أو أخته بدون مهر وهو ما عرف بالشغار الذي نهى عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا في أحاديث سبق إيرادها قبل قليل.

٣ ـ ولقد سبق تعليق على المهور والمغالاة فيها قبل قليل أيضا فنكتفي به في صدد مقادير المهور في الإسلام. وهناك أحاديث لم نوردها في التعليق رأينا أن نوردها هنا لأن فيها سننا للمسلمين في بعض الحالات. من ذلك حديث رواه الترمذي وصححه جاء فيه «تزوجت امرأة من بني فزارة على نعلين فقال رسول الله أرضيت نفسك بنعلين قالت نعم فأجازه» (٢). وحديث رواه الخمسة عن سهل بن سعد جاء فيه «إنّ امرأة جاءت إلى رسول الله فقالت جئت لأهب لك نفسي فنظر رسول الله إليها وصعّد نظره ثم طأطأ رأسه. فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن لم تكن لك حاجة بها فزوجنيها فقال هل عندك من شيء قال لا والله يا رسول الله قال فاذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ما وجدت شيئا قال انظر ولو خاتما من حديد فذهب ثم رجع فقال لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد ولكن هذا إزاري فلها نصفه فقال رسول الله ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء فجلس الرجل حتى طال مجلسه ثم قام

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٧٣ صداق نسائها يعني صداق أمثالها. والعدة هي عدة حداد الزوجة المتوفى عنها زوجها.

(٢) التاج ج ٢ ص ٢٧٠.

٧٤

فرآه رسول الله موليا فأمر به فدعي فقال ما معك من القرآن قال معي سورة كذا وسورة كذا عددها قال أتقرأهن عن ظهر قلبك قال نعم قال اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن وفي رواية زوجتكها بما معك من القرآن» (١).

٤ ـ وغير المحرمات في الآية المسموح للمسلم التزوج بهن يجب أن يكون بموافقتهن على ما يستفاد من أحاديث نبوية عديدة منها حديث رواه الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا يا رسول الله وكيف إذنها قال أن تسكت» (٢). وفي رواية «الثيب أحقّ بنفسها من وليها والبكر تستأمر وإذنها سكوتها» (٣). وحديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها» (٤). وحديث رواه البخاري وأبو داود عن خنساء بن خدام الأنصارية «أن أباها زوجها وهي ثيّب فكرهت ذلك فأتت رسول الله فردّ نكاحها» (٥) وحديث رواه أبو داود وأحمد جاء فيه «جاءت جارية بكر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٦). وجمهور الفقهاء على أن هذه الأحاديث هي بالنسبة للبالغات ، وأن للولي أن يزوج غير البالغة بدون حاجة إلى استئمارها وإذنها لأنها غير راشدة. وليس هناك حديث صريح في إثبات ذلك ونفيه. والقول وجيه سديد بتعليله.

٥ ـ والأحاديث لا تنفي مع ذلك دور الولي للبالغات وإنما تحتم استئماره لمن هي تحت ولايته إن كانت بكرا وتمنعه من تزويجها وهي غير موافقة. وتجعل الثيب أكثر انطلاقا في حقها في التصرف في نفسها.

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٧١ و ٢٧٢.

(٢) المصدر نفسه ص ٢٦٦ و ٢٦٧.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) المصدر نفسه.

٧٥

على أن هناك أحاديث تجعل دور الولي أقوى بروزا. منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل. ثلاث مرات. فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها. فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» (١).

وصيغة الحديث تحتمل أن يكون في حق البكر والثيب معا. وهناك حديث يرويه أحمد والبيهقي جاء فيه «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» (٢) وحديث رواه أصحاب السنن عن سمرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أيما امرأة زوّجها وليّان فهي للأول منهما» (٣) ، وليس في الأحاديث ما يخلّ في وجوب استئمار البكر والثيب وإذنهما مما قررته الأحاديث السابقة كما هو المتبادر.

وننبه على أن آيات سورة البقرة [٢٢٨ ـ ٢٣١ و ٢٣٤ و ٢٤٠] تقرر بشيء من القوة والصراحة بأن للمرأة المطلقة والمترملة أن تتصرف بنفسها بدون تدخل وليها بل إن الآية [٢٣١] تنهى الولي عن ممانعتها من الرجوع إلى زوجها إذا تراضت معه.

وبناء على ذلك ثم على نصوص الأحاديث فإن المذاهب الفقهية مع اتفاقها على حق الولي في تزويج من هي تحت ولايته إذا كانت بالغة بكرا كانت أم ثيبا مع الحصول على إذنها وموافقتها فإن منها من لا يرى ضرورة لموافقة ولي ولا لشهود ومنها من يرى ذلك ضروريا ومنها من لا يرى ذلك ضروريا بالنسبة للثيب دون البكر. ومنها من جعل للقاصرة حق الخيار والرفض حينما تبلغ إذا كرهت تزويج وليها لها.

ويتبادر لنا على ضوء الآيات والأحاديث أن الصواب هو أن للثيب حق

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٦٦ و ٢٦٧.

(٢) المصدر نفسه ص ٢٦٧ و ٢٦٨.

(٣) المصدر نفسه.

٧٦

التصرف بنفسها دون ضرورة للولي. وإن موافقة الولي ضرورية بالنسبة للبكر بشرط موافقتها هي أيضا. وأن للقاصرة البكر التي يزوجها وليها الخيار حين بلوغها إذا لم يكن زوجها قد دخل بها. أما الشاهدان فنعتقد بضرورتهما لأن ذلك أحوط من الغش والخداع والضرر والله تعالى أعلم.

٦ ـ وفي صدد المرأة التي يظهر فيها عاهة روى الإمامان مالك والشافعي عن عمر قال «أيما رجل تزوّج امرأة بها جنون أو جذام أو برص فمسّها فلها صداقها كاملا ولزوجها غرم ذلك على وليها» (١).

٧ ـ وفي صدد الوفاء بما يشرطه الزوج على نفسه من شروط روى الخمسة عن عقبة بن عامر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن أحق الشرط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج» (٢).

وهذا الحديث واسع الآفاق بحيث يمكن أن يشمل كل شرط شرطه الزوج على نفسه لزوجته من لباس وسكن ومعاش وعدم قسمة للزوجة الثانية وعدم الزواج بأخرى وجعل الطلاق بيدها وعدم إخراجها من بلدها وعدم منعها من العمل وعدم إجبارها على الخدمة والعمل إلخ. وقد قال هذا غير واحد من المفسرين والمؤولين والفقهاء. وهناك من ساق حديثا رواه الخمسة عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «كلّ شرط ليس في كتاب الله باطل» (٣) وقالوا إن هذا الحديث ضابط للأمر فما كان من شرط لا يتناقض مع ما أباحه كتاب الله ورسوله أو منعاه وجب الوفاء به ، ومن الأمثلة التي سيقت مسألة شرط عدم التزوج بأخرى وعدم القسمة للأخرى وعدم إخراج الزوجة من بلدها لأن كل هذا من حق الرجل شرعا وفاق كتاب الله وسنّة رسوله. ومع صواب القول إن الحديث يكون ضابطا فإن للمرأة أن ترفع أمرها للحاكم ليقدر مدى انطباق الشرط على شرع الله ورسوله فيلزم به الزوج والله أعلم.

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٩٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه ص ٢٧١.

٧٧

٨ ـ وفي صدد الحثّ على الزواج روى الخمسة حديثا عن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (١) ومن المفسرين من أوّل (الباءة) بالقدرة المالية ومنهم من أولها بالقدرة الجنسية. والراجح أنها بالمعنى الأول. بقرينة نهاية الحديث.

٩ ـ وفي صدد إيجاب تزويج صاحب الخلق والدين ترجيحا على غيره ممن يكونون في حالة مالية أو اجتماعية أرقى ويكون دونه دينا وخلقا روى الترمذي وحسنه عن أبي حاتم المزني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ، إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد ، قالوا يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه ثلاث مرات» (٢).

١٠ ـ وفي صدد المرأة الفضلى للزواج روى الخمسة عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك» (٣). وللنسائي ومسلم «إن الدنيا كلّها متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة» (٤). وروى أبو داود والنسائي والحاكم وصححه عن معقل بن يسار قال «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله أحببت امرأة ذات جمال وحسب وإنها لا تلد أفأتزوجها قال لا. ثم أتاه الثانية فنهاه. ثم أتاه الثالثة فقال تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم» (٥) وروى أصحاب السنن «قيل يا رسول الله أي النساء خير قال التي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٥٣ و ٢٥٤ و ٢٥٩.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه ص ٢٥٧ و ٢٥٨ والمتبادر أن مرد تفضيل ذات الدين إلى أن الوفاء وحسن الأخلاق والأمانة وحسن المعاشرة والاستقامة كل ذلك مضمون في حين لا يكون مضمونا بالصفات الثلاث الأخرى.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

٧٨

نفسها ولا مالها بما يكره» (١).

١١ ـ وفي صدد نظر الرجل إلى من يريد أن يتزوجها روى مسلم والنسائي عن أبي هريرة قال «كنت عند النبي فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار فقال له أنظرت إليها قال لا. قال فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا» (٢) وحديث رواه أبو داود والشافعي والحاكم وصححه عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل» (٣). وحديث رواه النسائي والترمذي وحسنه عن المغيرة قال إنه خطب امرأة فقال النبي له «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» (٤).

١٢ ـ وفي صدد إعلان النكاح روى الترمذي وأحمد عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف» (٥).

تعليق وتمحيص في صدد نكاح المتعة

ولقد كانت جملة (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) موضوع تأويلات وروايات عديدة ومختلفة (٦) منها أنها في معنى كون المهور الواجب إعطاؤها للنساء هي

__________________

(١) المصدر السابق نفسه.

(٢) التاج ج ٢ ص ٢٦٠ ـ ٢٧٥ وفي كتب الحديث أحاديث كثيرة أخرى فاكتفينا بما تقدم هنا وقد أوردنا منها طائفة في مناسبات سابقة وسنورد طائفة أخرى في مناسبات آتية إن شاء الله.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري وغيرهم وقد ألمّ بهذا الموضوع وما دار حوله وما ورد فيه جميع المفسرين ومنهم من تبسط ومنهم من أوجز ومنهم من أورد الروايات والأقوال والتأويلات المختلفة أيضا.

٧٩

مقابل استمتاع الرجال بهن بالنكاح وكونها يجب أن تكون مقدارا معينا متفقا عليه مع رفع الحرج عن الزوجين فيما يتراضيان عليه بعد ذلك فيه إذا ما طرأت ظروف تدعو إلى تبديل من زيادة أو نقص أو تسامح ... إلخ وأن الاستمتاع هو كناية عن الوطء الذي يباح للرجال بعد العقد وأداء المهر. ومنها أن الجملة احتوت إباحة نكاح المتعة. وهو عقد بين امرأة ورجل على مدة معينة يستمتع بها فيها لقاء أجر معين فإذا انتهت المدة انفسخ العقد دون تطليق مع جواز التراضي على تمديد المدة لقاء أجر جديد. وكان هذا جاريا عند العرب قبل الإسلام.

ومع أن في استنباط إباحة نكاح المتعة من العبارة تحميلا لا تتحمله هي وبقية الآية والآيات السابقة وأن التأويل الذي تقدم هو الأوجه حسب ما يتبادر لنا مع التنبيه إلى نقطة هامة وهي أن المهر ليس مقابل الوطء فحسب وإنما هو لتوطيد الميثاق الزوجي بصورة عامة فإن المفسرين جميعهم أداروا الكلام في سياق هذه الآية على نكاح المتعة.

ولقد عزوا إلى ابن عباس أقوالا ليس منها شي واردا في الصحاح منها أن الآية محكمة في إباحة نكاح المتعة وأنه كان يزيد بعد عبارة (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ) جملة إلى أجل مسمى وأن أبا نضرة قال له ما أقرؤها كذلك فقال له والله إن الله أنزلها كذلك ثلاث مرات. ومنها أن عمارا سأل ابن عباس عن المتعة فقال له هي متعة لا سفاح ولا نكاح ولا طلاق ولا توارث ومنها أنه قال لما كثر كلام الناس عن إباحته للمتعة وانتشارها أنا ما أفتيت بها على الإطلاق وإنما قلت تحل للمضطر كما تحل الميتة له. ومنها أنه رجع عن قوله وقال بتحريمها وأن الآية الأولى من سورة الطلاق نسختها.

ولقد أوردوا أحاديث فيها إباحة للمتعة ثم تحريم لها. وفي بعضها تناقض في الوقت نفسه. حيث روي النهي في ظروف وقعة خيبر بينما رويت الإباحة في ظروف فتح مكة التي كانت بعد خيبر بسنتين. ومن هذه الأحاديث حديث رواه الشيخان عن جابر وسلمة قالا «كنا في جيش فقال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أذن لكم أن

٨٠