التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

(١) لتذكر على سبيل العظة والزجر والتمثيل بما كان من قوم موسى إزاء موسى عليه‌السلام من مواقف مؤذية محكية عن لسانه مع تأكدهم بأنه رسول الله إليهم. وبما كان من انتقام الله منهم حينما انحرفوا عن جادة الحق حيث أزاغ الله قلوبهم. لأن الله لا يمكن أن يوفق ويسعد الفاسقين المتمردين عليه.

(٢) ولتستطرد بهدف توكيد رسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقوة ما فيها من الحق والنور الإلهي وحمل المؤمنين بها على الثبات عليها وتأييدها والاستجابة إلى ما يدعوهم النبي إليه من جهاد وغير جهاد إلى ما كان من بشارة عيسى بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث حكت قوله لبني إسرائيل إنه رسول الله إليهم مصدقا بالتوراة التي أنزلت قبله ومبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد بسبيل تدعيم موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورسالته ودعوته.

(٣) ولتندد بما كان من موقف الكفار من النبي محمد المبشر به حينما جاءهم وقولهم عن رسالته إنها سحر.

(٤) ولتؤكّد انتصار دينه وانتشار نور الله وتمامه نتيجة لذلك حتى يغلبا ما عداهما برغم كل المحاولات المعطلة من الكفار والمشركين وبعبارة قوية داوية حيث تقرر أولا : إنه ليس من أحد أشد ظلما ممن يفتري على الله الكذب فيقول عن آياته إنها سحر بينما هي تدعو إلى الإيمان بالله والإسلام إليه. وثانيا : إن المعطلين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ومواقفهم وأقوالهم ولكن الله تعالى سوف يتمّ نوره وينشره حتى يملأ الكون على الرغم من الكافرين. وثالثا : إن الله قد أرسل رسوله بالهدى والدين الحق الواضح وإنه لجاعل له السيادة والغلبة والظهور على جميع الأديان حتى يصبح دين العالم كله على الرغم من المشركين.

ولقد صرف بعض المفسرين ضمير الفاعل المستتر في جملة (جاءَهُمْ) إلى عيسى وصرفها بعضهم إلى سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا قول الطبري. وقد رجحناه وأخذنا به في شرحنا الآنف استلهاما من الآيات الثلاث الأخيرة. والله أعلم.

هذا ، ويصح أن يكون المقصودون في جملة (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا

٥٦١

سِحْرٌ مُبِينٌ (٦)) كفار العرب ، كما يصح أن يكونوا الذين كفروا برسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بني إسرائيل. ونحن نرجح الاحتمال الثاني لأن الكلام في صدد بني إسرائيل وفي القرآن آيات عديدة ذكرت كفر بني إسرائيل بهذه الرسالة مرّ إيرادها وتفسيرها في سور البقرة وآل عمران والنساء. وعلى هذا فتكون الآيات الثلاث التي جاءت بعدها قد قصدت كفار بني إسرائيل أيضا. وقد جاءت مع ذلك بأسلوب عام لتكون شاملة لجميع الكفار والمشركين من جهة وليكون ما فيها أعم مدى من موقف جحود الإسرائيليين من الرسالة المحمدية من جهة أخرى. وهذا أسلوب من أساليب القرآن. والله تعالى أعلم.

ولقد حكت آيات كثيرة جدا مواقف الجحود التي وقفها أكثرية الإسرائيليين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته في سور البقرة وآل عمران والنساء والجمعة التي مرّ تفسيرها ، وفي سور أخرى سيأتي تفسيرها أيضا. وفيها تنديد شديد بهم لأنهم وقفوا هذه المواقف وهم يعرفون صدق رسالة النبي ويعترفون بها ويبشرون بذلك ويستفتحون أي يزهون به على مشركي العرب قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومنهم من أعلن تصديقه وإيمانه على ما شرحناه في سياق تلك السور شرحا يغني عن التكرار.

ولقد قال المفسرون إن الأذى الذي كان يقع على موسى من قومه هو تعجيزهم له بالمطالب كقولهم (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) وهذا حكته آية البقرة [٦١] وقولهم (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) وهذا حكته آية البقرة [٥٥]. وكقولهم (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) (١) أو رميهم إياه بالبرص أو تآمر قارون عليه أو رميه بالزنا إلخ. ولقد ورد في الآية [٦٩] من سورة الأحزاب إشارة إلى ما كان يقع على موسى من أذى من قومه. والراجح أن الأذى المحكي هنا عن لسان موسى هو من نوع ما عنته آية الأحزاب ، وقد أوردنا ما ورد في ذلك من أقوال وروايات وعلقنا عليه بما فيه الكفاية.

__________________

(١) حكي هذا عنهم في آية المائدة [٢٤].

٥٦٢

وآية الأحزاب نهت المسلمين عن أن يكونوا كالذين آذوا موسى. وقد جاءت بعد آيات فيها إنذار رهيب للذين يؤذون الله ورسوله خاصة والمؤمنين والمؤمنات عامة حيث ربطت بين الموقفين على سبيل المقارنة والإنذار على ما شرحناه في سياقها. والمتبادر من موقف الذين يقولون ما لا يفعلون الذي حكته الآية الثانية من السورة ونددت به الآية الثالثة والذي هو على ما رجحنا بصدد عدم تصديق أقوالهم ووعودهم بالقتال بالفعل قد كان مما آذى رسول الله واستوجب شدة مقت الله فاقتضت حكمة التنزيل أن يعاد التذكير والمقارنة والتنديد في هذا المقام وإن اختلف الأسلوب حيث نهت آية الأحزاب المؤمنين عن أن يكونوا كالذين آذوا موسى وحيث جاء ذلك حكاية عن لسان موسى.

ولقد كانت الدعوة إلى الجهاد ضد الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين والحركة التي انبثقت من ذلك قد شغلتا جزءا عظيما من سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجهده في العهد المدني وفي القرآن المدني. ولقد حكت آيات في سورتي آل عمران والنساء التي سبق تفسيرها مواقف بعض المسلمين وبخاصة مرضى القلوب والمنافقين من الدعوة إلى القتال في سبيل الله لدفع عدوان المعتدين ولنصرة المستضعفين الذين كانوا يتعرضون لاضطهاد المشركين مما كان يثير في نفس النبي مرارة شديدة وحملت عليهم حملات قارعة. فالمتبادر أن الموقف الذي حكته الآية الثانية من السورة ونددت به الآية الثالثة موقف جديد أثار المرارة من جديد في نفس النبي فاقتضت حكمة التنزيل مقابلته بما جاء في الآيات الأولى ثم بالتذكر بما كان من مواقف قوم موسى المؤذية وما كان من نكال الله لهم وبالتأكيد بأن الله ناصر دينه وناشر نوره رغم كل المواقف. والأسلوب الذي جاء به هذا التأكيد في الآيتين الأخيرتين من الآيات التي نحن في صددها قوي بعث أشد اليقين في النفس وهو ما قصدته حكمة التنزيل على ما هو المتبادر.

ولقد تكرر وعد الله بتمكين دينه ونصر رسوله والمؤمنين في آيات عديدة مكية ومدنية في سور سبق تفسيرها غير أن التوكيد بإظهار هذا الدين على الدين

٥٦٣

كله ، أتى هنا لأول مرة. وقد تكرر بعد هذا مرتين. واحدة في سورة الفتح التي يقع ترتيبها بعد هذه السورة وأخرى في سورة التوبة بنص قريب لنص آيات الصف. وبالإضافة إلى ما في الآيات من قصد تدعيم موقف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الدعوة إلى الجهاد والتنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون وهو القصد القريب المباشر والله أعلم ، وبالإضافة إلى ما فيها من تحدّ مطلق للكافرين والمشركين ، وإيذان بوعد الله تعالى بإظهار الدين الذي أرسل به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الدين كله فإن جملة (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) تنطوي على تقرير ما في الرسالة المحمدية من هدى وحقّ يتمثلان في ما احتواه القرآن الكريم والسنن النبوية الشريفة من مبادئ وقواعد وتشريعات ووصايا وتنبهات وتلقينات وتوجيهات ومعالجات وأوامر ونواه إيمانية واجتماعية وسياسية واقتصادية وأسرية (الأسرة) وسلوكية وشخصية وتبشيرية وروحية من شأنها ضمان السعادة العظمى للبشرية في الدنيا والآخرة على أهم وجه وأوسعه وأفضله. ولقد دعا هذا الدين إلى الله وحده المتصف بجميع صفات الكمال المنزه عن كل نقص ومماثلة. وقرر ربوبيته للعالمين جميعا دون اختصاص ، واستغناءه وتنزّهه عن الشريك والمساعد والولد بأي معنى كان وسواء أكان ذلك تأويلا أم وسيلة أم شفاعة. وحارب بكل قوته ودونما هوادة كل أنواع ومظاهر الشرك التي تمثل انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق وممثلة لنظام جاهلي فيه تقاليد وعادات منكرة وعصبيات ممقوتة. وهدف إلى القضاء على ما طرأ على الديانات السماوية وبخاصة على الديانتين المعروفة يقينا مصدريتهما من الله الممارستين أي اليهودية والنصرانية من سوء تأويل وانحراف وانقسام واختلاف وتهاتر. وإلى تحرير الإنسانية من الخضوع لأية قوة خفية وظاهرة غير الله. وفتح آفاق الحياة للمؤمنين بهذا الدين على مصراعيها في نطاق أسمى المبادئ وأكرم الأخلاق وأفضل المناهج والخطط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفردية والإنسانية وأشدها مرونة للنهوض إلى ذرى الكمال في كل مجال من مجالات الحياة وتوجيهها نحو أحسن السبل وأشرفها وأنزهها وأعدلها وأتمّها صفاء وسناء شاملة للناس جميعهم

٥٦٤

على اختلاف أجناسهم وألوانهم وفئاتهم ليكونوا تحت راية أخوة متساوين في الحقوق والواجبات على اختلاف مفاهيمها. وليقوم في ظله عالم واحد ونظام واحد ودين واحد ولغة واحدة وبكلمة واحدة مجتمع إنساني واحد. يتولى الأمر فيه الصالحون خلقا ودينا والأكفاء الحريصون على المصلحة العامة. لا طاعة فيه لسلطان بمعصية وضرر ولا سند لحاكم فيه إلا كتاب الله وسنة رسوله ومصلحة العباد والبلاد المتسقة معهما. ولا مكان فيه لظالم جبار وطاغية مسيطر. والشورى فيه صفة أساسية لأهله وواجب ملزم لحكامه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ أي الأمر بكل ما فيه خير وصلاح ونفع والنهي عن كل ما فيه شرّ وفساد وضرر وبغي وظلم ـ والدعوة إلى الخير والسلام والتوادّ والتراحم والتواصي بالصبر والحق والمرحمة من واجبات كل فئة منه حاكمة أو محكومة. وصفة أساسية وخصائص ذاتية لأهله ، نتيجة لإسلامهم ، لا يسمح فيه باستقطاب الثروة في جانب والفقر في جانب ، وللدولة حقّ التوجيه. ويؤخذ فيه من الغني للفقير بالإضافة إلى ما أوجب على الدولة من مساعدة الفقير العاجز. ويمنع فيه القوي من ظلم الضعيف. ويساعد فيه القادر العاجز. ويتواصون جميعا بالصبر والمرحمة والتعاطف والتعاون. ويستمتعون جميعا بكل طيب حلال من طيبات الحلال وزينتها بدون تفريط وإفراط ولا إسراف ولا تقتير ، وتمنع فيه الفوضى والعدوان والمنكرات والموبقات والخلاعة والمسكرات والإثم والبغي والظلم. في ظل سلام شامل يعرف الناس عبره أنهم إنما وجدوا ليتعارفوا ويتفاهموا ويتعايشوا ويتعاونوا على البرّ والتقوى دون الإثم والعدوان أكرمهم عند الله أتقاهم ، ويتسابقوا في الخيرات. وفي ظل شرائع وتعاليم وخطوط ومبادئ قابلة للانطباق في كل زمان ومكان. ومستجيبة لمختلف مطالب البشر المادية والروحية. ومخاطبة للعقل والقلب معا. وموفقة في ذلك كله بين سعادة الدنيا والآخرة بأسلوب لا تعقيد فيه ولا التواء ولا أصار ولا أغلال ولا تكاليف شاقة محرجة ونافذة إلى أعماق النفس. مع الأمر بالدعوة إلى سبل الله أي إلى هذا الدين بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن وعدم الإكراه والإجبار في الدين. وسعة الصدر لمن أراد

٥٦٥

الاحتفاظ بدينه وعقيدته إذا وادّ المسلمين وسالمهم ولم يتآمر عليهم وعلى دينهم. ومع الأمر بمعاملة هؤلاء بالقسط والبرّ وحسن التعامل والتعايش وبعدم القتال إلا للدفاع ودفع العدوان والمقابلة بالمثل وتأمين حرية الدعوة وإرغام الظالمين. وقد وصف معتنقو هذا الدين في القرآن بصفة الوسط التي تعني الخيرية والاعتدال في كل شيء وعدم الإفراط والتفريط وعدم الغلوّ والتقصير وعدم التزمت والاستهتار وعدم الاقتصار على ناحية والتقصير في ناحية مما فيه خير دين ودنيا. والتمسك بكل ما هو الأفضل والأصلح والأنفع والأحسن من كلّ أمر وصفة وخلق وعمل وموقف. وقد اختصّ هذا الدين الأنثى بعناية خاصة فجعلها صنوا للذكر وقسيما له في الإنسانية والحقوق والواجبات والتكاليف والحياة العامة وبنيان الدولة والمجتمع سواء بسواء. كما أسبغ على الحياة الزوجية رعاية عظيمة كفل فيها حقّ المرأة من مختلف النواحي مما لم يكن له مثيل في سابق الإسلام وما لم يلحق به إلى الآن.

وكل ما تقدم من مقتضيات كتاب الله الكريم وسنن رسوله الشريفة. وليس من شأن حالة المسلمين الحاضرة أن يطمس سناء (الهدى والحق) اللذين أرسل الله رسوله بهما والمتمثلين في كتاب الله وسنن رسوله. ويظل كل ذلك أقوى أسباب الجذب والاستقطاب لمختلف أنواع وفئات البشر في كل زمان ومكان. ويصدق وعد الله تعالى بإظهار الدين الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الدين كله.

ولقد أورد المفسرون في سياق آيات سورة التوبة المماثلة لنص آيات الصف التي نحن في صددها وفي سياق آية سورة النور [٥٥] التي وعد الله فيها الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض وتمكين دينهم وتبديل خوفهم أمنا بعض الأحاديث النبوية التي تذكر توقعات أو تنبؤات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما سوف يكون لدين الله من انتشار وانتصار. منها حديث رواه الإمام أحمد أورده ابن كثير عن تميم الداري قال «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار. ولا يترك الله من مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين. يعزّ عزيزا ويذلّ ذليلا. عزّا يعز الله به الإسلام. وذلا يذلّ به الكفر. وكان تميم يقول قد عرفت ذلك

٥٦٦

من أهل بيتي لقد أصاب من أسلم الخير والشرف والعز. وأصاب من كان كافرا منهم الذلّ والصغار والجزية». ومنها حديث وصفه ابن كثير بأنه صحيح ثابت جاء فيه «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها». ومنها حديث عن عدي بن حاتم روى صيغة من صيغه البخاري جاء فيها «قال له رسول الله حين وفد عليه. أتعرف الحيرة قال لم أعرفها ولكن سمعت بها ، قال فوالذي نفسي بيده ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة وتطوف بالبيت في غير جوار أحد. ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز. قال قلت كنوز كسرى بن هرمز. قال نعم كنوز كسرى بن هرمز. وليبذلنّ الله المال حتى لا يقبله أحد. قال عدي بن حاتم فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد. وقد كنت في من افتتح كنوز كسرى بن هرمز. والذي نفسي بيده لتكوننّ الثالثة». ومنها حديث رواه مسلم عن عقبة قال «سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله ، وتغزون فارس فيفتحها الله ، ثم تغزون الروم فيفتحها الله».

والإيمان بتحقيق وعد الله وإظهار الإسلام على الدين كله وتمكينه واجب على كلّ مسلم. لأن الله لن يخلف ما وعده للمؤمنين الصالحين. وفيما أمر الله ورسوله ورسماه في الكتاب الكريم والسنة الشريفة عظيم بواعث الثقة والاعتزاز وحوافز العزيمة والإقدام والاندفاع في المسلمين الصادقين للعمل على تحقيق وعد الله ونشر دينه. وهذا واجب لازم عليهم ويأثم المقصرون فيه.

ومن الجدير بالذكر أن الإسلام ظل ينشر ويتسع بعد زوال السلطان العربي الذي استمر في القرون الثلاثة الأولى. لما فيه من قوة عناصر الجذب والاستجابة والاستقطاب حتى كان عدد المنضوين إليه بعد زوال ذلك السلطان أكثر من المنضوين إليه في عهده. ويكاد يكون الدين الوحيد الذي لا يتركه معتنقوه ، والذي يزداد معتنقوه من الخارج مجددا وليس فقط بالنمو الذاتي ومن كل نحلة وفئة وجنس وفي كل مكان ولو تيسّر له دعوة قوية التنظيم والتمويل ودعاة مرشدون صالحون كثير والعدد لازداد اتساع انتشاره وانجذاب الناس له.

٥٦٧

وفي سياق الآية [٥٥] من سورة النور التي سبق تفسيرها شرح لمدى جملة (الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الموعودين بالاستخلاف والتمكين وما كان من مراحل ذلك منذ حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم واستمراره بعده فنكتفي هنا بما تقدم.

والآية الثانية من الآيات التي نحن في صددها أي الآية [٦] قد حكت أقوال عيسى عليه‌السلام لبني إسرائيل التي منها أنه مبشّر برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد. وهذا الاسم مرادف في المعنى والاشتقاق لاسم محمد الوارد في القرآن والذي كان يتسمى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منذ طفولته على ما هو متواتر يقيني. وأحمد صيغة تفضيل من الحمد.

ولقد أورد ابن كثير في سياق ذلك حديثا رواه البخاري أيضا عن جبير بن مطعم قال «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنّ لي أسماء أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب». وحديثا آخر رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري جاء فيه «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال أنا محمد ، وأنا أحمد ، والمقفّي ، والحاشر ونبي الرحمة ونبي التوبة».

وفي سورة الإسراء هذه الآيات (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨)) حيث أريد القول والله أعلم أنهم رأوا في بعثة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحقيقا لوعد الله الذي بشر به عيسى فما كان منهم إلا أن آمنوا وخشعوا.

ولقد جاء في آية سورة الأعراف [١٥٧] أن اليهود والنصارى كانوا يجدون النبي مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. وأن منهم من آمن برسالته واتبعوه نتيجة لذلك. وقد حكت آيات أخرى أوردناها في سياق تفسير الآية المذكورة (١) إيمان

__________________

(١) اقرأ آيات آل عمران [١١٣ ـ ١١٥ و ١٩٩] والنساء [١٦٢] والمائدة [٨٢ ـ ٨٤] والأنعام [١١٤] والرعد [٣٦] والإسراء [١٠٧ ـ ١٠٨] والقصص [٥٢ ـ ٥٣] والأحقاف [١٠].

٥٦٨

جماعات من اليهود والنصارى وتصديقهم أن ما نزل على محمد هو الحق وإعلانهم أنه متطابق لما عرفوا من الحق. حيث يكون في كل هذا وثائق لا تدخص على صدق ما أخبر به القرآن من ورود صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أسفار الكتابيين ومن جملتها بشارة عيسى عليه‌السلام به مهما كابر المكابرون وتعنت المتعنتون. هذا مع التنبيه على أن ما جاء في القرآن ليس في حاجة عند المسلم إلى توثيق خارجي. وعلى أنه لم يأت فيه في مناسبة موقف جدلي أو تقرير مسألة جدلية وإنما جاء بسبيل تقرير واقع معروف. ويصح أن نكرر هنا من قبيل المساجلة ما قلناه في سياق آية الأعراف من أن الآية التي نحن في صددها قد نزلت في وسط فيه يهود ونصارى وفيه مسلمون من اليهود والنصارى وفيه أعداء للنبي من العرب واليهود والنصارى يتربصون به ويعدّون عليه أنفاسه ليجادلوه ويكذّبوه. فلا يمكن أن تكون نزلت جزافا ولا بدّ من أن تكون الحقيقة التي تضمنتها معروفة غير منكورة في هذا الوسط. ولقد ذكرت البشارة والاسم بصراحة في إنجيل برنابا (١). وإذا كان النصارى ينكرون هذا الإنجيل ففي الأسفار المتداولة المعترف بها كثير من الإشارات والدلالات والتعبيرات التي يمكن صرفها إلى تأييد ذلك مما أورد السيد رشيد رضا عليه الشواهد الكثيرة بأسلوب فيه من قوة الحجة ما فيه المقنع لغير المكابرين المتعنتين على ما نبهنا عليه في سياق تفسير آية الأعراف لأن السيد أورد ما أورده في سياق تفسيرها.

وفي الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا عبارات فيها تصديق لآية الصف بخاصة التي تحكي عن عيسى تبشيره برسول من بعده اسمه أحمد حيث جاء فيه (إن في انطلاقي خيرا لكم ، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم المعزّي ولكن إذا مضيت أرسلته إليكم. ومتى جاء يبكّت الناس على الخطيئة وعلى البرّ وعلى الدينونة. وإن عندي كثيرا أقوله لكم ولكنكم لا تطيقون حمله الآن. ولكن متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من عنده بل يتكلم

__________________

(١) ترجم هذا الإنجيل عن الطليانية من قبل الدكتور خليل سعادة وطبع في مطبعة محمد علي صبيح وأولاده في القاهرة عام ١٣٢٦ ه‍.

٥٦٩

بكل ما يسمع ويخبركم بما يأتي) وكلمة (المعزّي) جاءت في الطبعة البروتستانتية (البار قليط) والباحثون المسلمون يقولون إنها كلمة تعني الحمد. والمبشرون يقولون إن البار قليط المبشر بمجيئه هو روح القدس. مع أن روح القدس عندهم صفة من صفات الله غير منفكة عن ذات الله وعبارة الإنجيل تفيد بقوة أنه شخص يأتي بعد عيسى ويبكت الناس ويهديهم إلى البرّ (١).

ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات التي نحن في صددها بضعة أحاديث تفيد أن بشارة عيسى عليه‌السلام بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما كان متداولا على الألسنة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبيئته منها حديث عن كعب الأحبار رواه ابن أبي حاتم جاء فيه «أن الله يقول لعيسى عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو عبدي المتوكل المختار ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة. ولكن يعفو ويغفر ، مولده بمكة وهجرته بطابة وملكه بالشام. وأمته الحمادون. يحمدون الله على كل حال. وفي كل منزلة لهم دوي كدوي النحل في جو السماء بالسحر يعرضون أطرافهم. ويأتزرون على أنصافهم في القتال مثل صفهم في الصلاة. رعاة الشمس يصلون حيث أدركتهم ولو على ظهر دابة» (٢) ومنها حديث عن عبد الله بن مسعود أخرجه الإمام أحمد جاء فيه فيما جاء «أن عمرو بن العاص قال للنجاشي حينما جاء إليه موفدا من قريش للوشاية بالمهاجرين الأولين واسترجاعهم إنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم فقال لهم ما تقولون قال نقول كما قال الله عزوجل هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسّها بشر ولم يفرضها ولد فرفع عودا من الأرض ثم قال يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذا ثم قال لهم مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الإنجيل وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم. انزلوا حيث شئتم. والله لو لا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه

__________________

(١) انظر كتاب دليل الحيارى للإمام ابن قيم الجوزية.

(٢) تفسير ابن كثير.

٥٧٠

وأوضئه» (١). ومنها حديث عن كعب الأحبار جاء فيه «إن الحواريين قالوا لعيسى يا روح الله هل بعدنا أمة قال نعم يأتي بعدكم أمة حكماء علماء أبرار أتقياء كأنهم في الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل» (٢).

أما ما جاء في الآية من حكاية قول عيسى عليه‌السلام عن رسالته من قبل الله تعالى ففي الأناجيل المتداولة كثير من العبارات ما يؤيد ذلك. وقد أوردنا بعض النصوص في مناسبات سابقة وبخاصة في سياق تفسير سورة الزخرف.

ونكتفي هنا بإيراد نبذة جاءت في الإصحاح السابع من إنجيل يوحنا (إن تعليمي ليس هو لي بل للذي أرسلني. إن شاء أحد أن يصنع مشيئته يعرف التعليم هل هو من الله أم أنا أتكلم من عندي. إن من يتكلم من عنده إنما يطلب مجد نفسه. فأما الذي يطلب مجد الذي أرسله فهو صادق ولا جور عنده) (٣).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣)) [١٠ ـ ١٣].

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠))

والآيات الثلاث بعدها وما فيها من تلقين وردّ على زعم المستشرقين

بأن الغنائم كانت هدف الجهاد

عبارة الآيات واضحة. ولم يورد المفسرون رواية ما في صددها. والمتبادر

__________________

(١) تفسير ابن كثير.

(٢) الخازن والزمخشري.

(٣) العبارة منقولة من الطبعة الكاثوليكية.

٥٧١

أنها متصلة بمطلع السورة. وفيها عود على بدء في الحث على الجهاد. وهذا يؤيد ما قلناه إن الآيات التي جاءت بعد ذلك المطلع قد جاءت على سبيل التعقيب والاستطراد والتدعيم ويسوّغ ترجيح نزول هذه الآيات وما قبلها معا.

وأسلوب الحثّ والترغيب الذي جاءت عليه قوي. وقد احتوت بشارتين للمؤمنين الذين وجّه إليهم الخطاب : أولاهما أخروية وهي رضاء الله تعالى ومغفرته وجناته. وقد قدمت بالذكر لأنها خير وأبقى. وثانيتهما دنيوية مما يحبونه وهي النصر في الجهاد الذي يدعون إليه والفتح السهل القريب الذي سوف ييسّره الله لهم.

وننبه إلى أن سورة الفتح التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول قد احتوت تنويها بفتح الله المبين الذي تمثل في صلح الحديبية. واحتوت كذلك إشارة إلى فتح قريب ومغانم كثيرة يسرها الله للمسلمين. وهذا ما كان نتيجة لوقعة خيبر التي وقعت بعد صلح الحديبية مباشرة تقريبا. وهكذا تكون البشارة الدنيوية التي احتوتها الآيات لم تلبث أن تحققت فكان ذلك في معجزات القرآن الباهرة.

وقد يكون هذا التوافق بين السورتين دليلا أو قرينة على صحة ترتيب نزول هذه السورة بين يدي نزول سورة الفتح.

ولقد كان ما احتوته هذه الآيات من بشارة دنيوية وما احتوته آيات أخرى من إشارة إلى الغنائم التي تدخل في يد المسلمين نتيجة للحركات الجهادية التي يقومون بها وسيلة لغمز الأغيار وقولهم إن القرآن كان يثير في نفوس المسلمين مطامع الغنائم والفتح ليحملهم على القتال حتى لقد قال بعضهم إن بعض الوقائع الحربية مثل وقعة خيبر لم تكن إلّا وسيلة إلى ملء أيدي المسلمين بالمغانم ومكافأة لهم على الإسلام.

وننبه أولا : على أن حثّ المسلمين على القتال لم يقتصر في أي موضع قرآني على الإغراء بنتائجه الدنيوية ، بل كان الترغيب في ذلك يأتي على الهامش كما يظهر من هذه الآيات وآيات كثيرة أخرى منها ما مرّ ومنها ما سوف يأتي. بل

٥٧٢

إن أكثر الآيات التي حثّت المسلمين على الجهاد قد اقتصرت على الترغيب برضاء الله وجزائه الأخروي وعلى بيان ما في الجهاد من واجب عظيم وضرورة مبرمة لإعلاء كلمة الله ومقابلة العدوان وضمان حرية الدعوة إلى دين الله وحرية المسلمين وأمنهم. ومن دليل على صحة إيمان المؤمنين. بل وكان الخطر والقتل والأذى والجهد هو الأكثر توقعا وورودا والذي نبّه إليه القرآن في آيات كثيرة (١).

وثانيا : على أننا لسنا نرى شذوذا أو محلا للغمز في القرآن حتى فيما يحتويه من بشرى الفتح والغنائم والترغيب فيهما لأن ذلك متسق كل الاتساق مع طبيعة الحياة. وهذا هو أسلوب القرآن عامة في معالجة الأمور كما نبهنا على ذلك في مناسبات عديدة سابقة ونوهنا بما في هذا من حكمة سامية ترشح الشريعة الإسلامية للخلود.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤)) [١٤].

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) إلخ

وما فيها من تلقين

وهذه الآية متصلة بالموضوع نفسه بأسلوب آخر فيه تمثيل وتذكير وحثّ ودعوة إلى التأسي :

(١) فالمؤمنون مدعوون إلى أن يكونوا أنصار الله.

__________________

(١) اقرأ الآيات التالية : البقرة [١٩٥ و ٢١٦ و ٢١٨] وآل عمران [١٥١ ـ ١٧٥] والنساء [٧٤ ـ ٧٩ و ٨٣ و ٩٤ ـ ١٠٠ و ١٠٤] والأنفال [٨ و ٣٨ ـ ٣٩ و ٦٧ ـ ٦٨] والتوبة [٢٤ و ٣٨ ـ ٥٣ و ٨١ ـ ٩٩ و ١١١ و ١١٩ ـ ١٢٢] والأحزاب [٩ ـ ٢٠].

٥٧٣

(٢) وعليهم أن يتأسوا بالحواريين الذين استجابوا إلى دعوة عيسى ابن مريم عليه‌السلام حينما هتف من أنصاري إلى الله فأعلنوا أنهم أنصار الله.

(٣) وكان نتيجة لذلك أن آمنت طائفة من بني إسرائيل بعيسى ورسالته وكفرت طائفة فأيّد الله المؤمنين على أعدائهم الكافرين فظهروا عليهم وانتصروا.

والفقرة الأخيرة من الآية تنطوي على بشارة ضمنية أخرى للمسلمين إذا ما استجابوا إلى دعوة الجهاد يكون الله مؤيدهم على الذين كفروا ومظهرهم عليهم.

والفقرة تنطوي كذلك على بيان أسباب ما سجله التاريخ قبل نزولها وإلى حين نزولها من حقيقة وهي انتصار الذين آمنوا بعيسى عليه‌السلام على الذين كفروا به من بني إسرائيل.

والآية وثيقة الصلة بما قبلها ، والمرجح أنها نزلت معها ومع ما قبلها معا.

والحواريون يذكرون هنا للمرة الثانية. وقد ذكروا في المرة الأولى في الآية [٥٢] من سورة آل عمران التي ذكر فيها ما ذكر في هذه الآية من أنهم قالوا نحن أنصار الله حينما هتف عيسى عليه‌السلام من أنصاري إلى الله. ثم ذكروا للمرة الثالثة في أواخر سورة المائدة بأسلوب آخر حيث جاء في آية أنهم آمنوا نتيجة لوحي الله لهم بذلك ثم طلبوا من عيسى استنزال مائدة من السماء كوسيلة إلى ازدياد إيمانهم بصدق عيسى ورسالته ، فدعا عيسى ربه فاستجاب له وأنزل المائدة على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسيرها. وقد شرحنا ماذا تعني الكلمة في سياق آية آل عمران المذكورة وأوردنا أسماء الحواريين فنكتفي بهذه الإشارة دون الإعادة. وواضح أن العبارة القرآنية لا تفيد أن الحواريين هم فقط الذين آمنوا برسالة عيسى عليه‌السلام عليه‌السلام من بني إسرائيل في حياته. بل تفيد أن جماعة أخرى قد آمنوا أيضا وهو ما كان حقا.

وجملة (فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ) قد تفيد أن الانتصار الذي تمّ للمؤمنين برسالة عيسى عليه‌السلام على الكافرين بها قد وقع بعد وقت ما. وهو ما كان حقا أيضا.

٥٧٤

سورة الفتح

في السورة إشارة إلى أحداث ومشاهد سفرة الحديبية وصلحها وما يسّره الله للمسلمين من فتح خيبر وغنائمها على ما أجمع عليه المفسرون وكتاب السيرة القدماء. وفيها تثبيت وتطمين ربانيان بمناسبة تلك الأحداث والمشاهد. وإشارة إلى مواقف بعض الأعراب المسلمين منها. وإشارة إلى وجود مؤمنين يكتمون إيمانهم في مكة. وإيذان جديد بوعد الله بإظهار الإسلام على الدين كله. وتنويه بأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما كانوا عليه من ورع وتقوى.

وآيات السورة منسجمة في الموضوع والظرف. وهذا يسوّغ القول بوحدة نزولها ونزول فصولها متتابعة.

والمصحف الذي اعتمدنا عليه يروي أن هذه السورة نزلت في طريق عودة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية إلى المدينة. وقد أورد المفسرون بعض أحاديث مؤيدة لذلك. منها حديث أخرجه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال «كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يردّ عليّ ، فقلت في نفسي : ثكلتك أمّك يا ابن الخطاب ألححت على رسول الله ثلاث مرّات فلم يردّ عليك. فركبت راحلتي فحركت بعيري وتقدمت مخافة أن يكون نزل فيّ شيء فإذا أنا بمناد يا عمر فرجعت وأنا أظنّ أنه نزل فيّ شيء فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نزل عليّ البارحة سورة هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)» (١) ومنها حديث أخرجه الإمام أحمد أيضا عن

__________________

(١) من ابن كثير. وقد روى هذا النص البغوي من طريق غير الطريق الذي رواه منه الإمام أحمد والذي أورده ابن كثير أيضا.

٥٧٥

مجمع بن حارثة الأنصاري جاء فيه «شهدنا الحديبية فلما انصرفنا عنها إذا الناس ينفرون الأباعر فقال الناس بعضهم لبعض ما للناس؟ قالوا أوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخرجنا مع الناس نوجف فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على راحلته عند كراع الغميم فاجتمع الناس عليه فقرأ عليهم (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١)) فقال رجل من أصحاب رسول الله : أي رسول الله أو فتح هو؟ قال إي والذي نفس محمد بيده إنه لفتح» (١). ومنها حديث أخرجه ابن جرير عن عبد الله بن مسعود جاء فيه «لما أقبلنا من الحديبية عرسنا فنمنا فلم نستيقظ إلّا والشمس قد طلعت. فاستيقظنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نائم قال فقلنا أيقظوه فاستيقظ فقال افعلوا ما كنتم تفعلون. وكذلك يفعل من نام أو نسي. وفقدنا ناقة رسول الله فطلبناها فوجدناها قد تعلق خطامها بشجرة فأتيته بها فركبها فبينا نحن نسير إذ أتاه الوحي وكان إذا أتاه الوحي اشتدّ عليه فلما سرى عنه أخبرنا أنه أنزل عليه (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١))» (٢). وفي فصل التفسير من صحيحي مسلم والبخاري حديث عن سهل بن حنيف جاء فيه «لقد رأيتنا يوم الحديبية في الصلح الذي كان بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمشركين ولو نرى قتالا لقاتلنا فجاء عمر فقال ألسنا على الحقّ وهم على الباطل. أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار. قال : بلى. قال : ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا. فقال : يا ابن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعني الله أبدا. فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال : ألسنا على الحقّ وهم على الباطل. قال : يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيّعه أبدا ، فنزلت سورة الفتح» (٣).

وهكذا تتضافر الروايات والأحاديث (٤) على أنها نزلت دفعة واحدة في طريق

__________________

(١) من ابن كثير.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) التاج ج ٤ فصل التفسير ص ٢١٢ ـ ٢١٣ وهناك أحاديث أخرى من هذا الباب فاكتفينا بما أوردنا : انظر أيضا كتب تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي والخازن.

(٤) انظر ابن هشام ج ٣ ص ٣٥٥ و ٣٧٨ وابن سعد ج ٣ ص ١٣٩ و ١٥٢.

٥٧٦

عودة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين إلى المدينة وهو ما يلهمه انسجام آياتها وترابطها ووحدة سياقها وموضوعها. والله أعلم.

ولقد روى البخاري ومسلم عن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس. ثم قرأ (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) وفي رواية «نزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا جميعا» (١).

ومن المحتمل أن يكون ما في السورة من إقرار لما فعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبشارات عظمى لما سوف ينتج عنه من فتح ونصر وغفران الذنوب المتقدمة والمتأخرة وإظهار دين الله على الدين كلّه مما جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشعر بهذا الشعور بنزول السورة وينوه فيها هذا التنويه العظيم. والله أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣)) [١ ـ ٣]

تعليق على الآية

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)

والآيتين التاليتين لها ، وعلى مدى جملة (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما

تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وخلاصة عما ورد في الروايات

من ظروف ومشاهد سفرة الحديبية وصلحها

الخطاب في الآيات موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم باتفاق المفسرين وبقرينة الآيات نفسها. ويستلهم منها أنها مطلع تمهيدي لما احتوته السورة. وقد تضمن هذا المطلع :

(١) تنويها بعظم الفتح الذي يسّره الله عزوجل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٠٩.

الجزء الثامن من التفسير الحديث* ٣٧

٥٧٧

(٢) وبشرى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ما يسّره الله له من الفتح هو وسيلة إلى غفران الله ذنوبه السابقة واللاحقة وإتمام نعمته عليه وتوفيقه إلى أقوم الطرق ، ونصره في النهاية نصرا عزيزا لا مثيل له. ومع أن هناك من ذهب إلى أن الفتح المذكور هو فتح مكة (١) فإن الأكثر على أنه صلح الحديبية (٢) وقد جاء هذا على لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالذات إن صحّ الحديث المروي عن مجمع بن حارثة الذي أوردناه قبل. وهو مؤيد بالأحاديث التي ذكرت أن نزول الآيات إنما كان في أثناء سفرة الحديبية. وبينها وبين فتح مكة عامان. ولقد روى الزمخشري عن موسى بن عقبة حديثا آخر مؤيدا لذلك أخرجه البيهقي جاء فيه «أقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحابه ما هذا بفتح. لقد صدّونا عن البيت. وصدّ هدينا فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : بئس الكلام هذا. بل هو أعظم الفتوح وقد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح. ويسألوكم القضية. ويرغبوا إليكم في الأمان. وقد رأوا منكم ما كرهوا».

وصيغة الآيات وروحها ومضمونها يدل على أنها نزلت على سبيل تطمين نفوس المسلمين وإيذانهم بأن ما كان قد كان فتحا مبينا ومقدمة لنصر قوي عظيم ينالونه تحت راية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وملخص الروايات الواردة في قصة سفرة الحديبية وصلحها هو ما يلي (٣) : رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منامه أنه زار الكعبة فاعتزم زيارتها. واستنفر إلى ذلك المسلمين وخرج في نحو ألف وأربعمائة أو ألف وخمسمائة أو ألف وثلاثمائة وساق معه الهدي (الأنعام التي ستذبح قرابين أثناء الزيارة) وكان ذلك في أواخر العام الهجري السادس وفي شهر ذي القعدة من الأشهر الحرم ـ وقد يدل هذا على أنه أراد الحج أيضا لأن الزيارة كانت في موسم الحج ـ فلما وصل إلى مكان اسمه ذو الحليفة

__________________

(١) روى هذا البغوي عن أبي جعفر الرازي عن قتادة عن أنس.

(٢) انظر الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والنسفي إلخ.

(٣) انظر ابن هشام ج ٣ ص ٣٥٣ ـ ٣٧١ وابن سعد ج ٣ ص ١٣٩ ـ ١٥١ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٢٧٠ ـ ٢٨٤ وتفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري والبغوي.

٥٧٨

أحرم وأمر المسلمين بالإحرام وأشعر الهدي (جرحه ليسيل دمه وهذا علامة على أنه هدي لله) ووضع في أعناقه القلائد. (وهي علامة ثانية على ذلك). وكانت أخبار مسيره قد وصلت إلى قريش. فهاجوا وثارت نفوسهم. وتعاهدوا على منعه وأخذوا يستعدون للحرب حتى لقد أرسلوا كتيبة فرسانهم بقيادة خالد بن الوليد بسبيل ذلك. وجاء زعيم خزاعة إلى النبي وكان له نصوحا فقال له إن قريشا جمعوا لك جموعا وجمعوا الأحابيش. وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت. فاستشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أصحابه فأشاروا عليه بالمضي إلى قصده الذي ألهمه الله به فإذا صدتهم قريش قاتلوهم إلى أن يحكم الله بينهم. ثم تقدم وتقدموا حتى إذا وصلوا إلى الحديبية وهي قرية أو بئر على نحو مرحلة من مكة بركت ناقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فألهم بوجوب التوقف في المكان فتوقف وقال : «والذي نفسي بيده لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة فيها تعظيم حرمات الله وفيها صلة رحم إلّا أعطيتهم إياها». وقد أرسل النبي رئيس خزاعة إلى قريش يخبرهم أنه إنما جاء معتمرا ولم يجىء مقاتلا ويدعوهم إلى المهادنة والسماح له بالزيارة والتخلية بينه وبين العرب فإن هلك كفوا مؤونته وإن أظهره الله كانوا بالخيار إن أرادوا دخلوا فيما دخل فيه الناس. وينذرهم إذا أمعنوا في العناد والبغي أنه سوف يقاتلهم حتى تنفرد سالفته (أي حتى يطيح رأسه عن عنقه) ولينفذن الله أمره. فذهب الرجل وأبلغ الرسالة. وكان عروة بن مسعود الزعيم الثقفي حاضرا فنصحهم بقبول ما اقترحه وطلب منهم أن يأذنوا له ليأتي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويكلمه فأذنوا فجاء فكلمه فقال له ما قال للزعيم الخزاعي. فقال له : أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب فعل ذلك قبلك؟ وإن تكن الأخرى فو الله إني لأرى وجوها وأرى أوشابا من الناس خلقاء أن يفروا ويدعوك ، فصرخ به أبو بكر : امصص بظر اللات أنحن نفرّ عنه وندعه. فعاد عروة فقال لقريش أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي. والله ما رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا إذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له.

٥٧٩

وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فظلوا في ترددهم وترادت رسل أخرى بين قريش والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ثم أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جانبه عثمان بن عفان رضي الله عنه ليخبر الناس برغبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن القتال ورغبته في الزيارة وحسب. والظاهر أنه اختاره لقوة عصبيته في مكة حيث يمتّ إلى بني أمية. وقد أبطأ في العودة. وشاع أن قريشا حبسوه أو قتلوه. فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسلمين إلى البيعة على الثبات والاستماتة إذا أصرت قريش على البغي. وتمّت البيعة تحت شجرة استظل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بظلها فسميت بيعة الشجرة. ولم يلبث عثمان أن رجع وإن تمّ رأي قريش على إرسال سهيل بن عمرو أحد زعمائهم لمفاوضة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على عقد هدنة مزودا بشروط أملتها عليهم الأنفة والحمية الجاهلية. منها تأجيل الزيارة إلى العام القابل. وعدم حملهم في يوم الزيارة إلّا سيوفهم في أغمادها. وإعادة من يأتي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم مسلما برغم أهله. وعدم إعادة من يفرّ من المدينة إلى مكة مرتدا. وقد قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشروط بعد مفاوضات عديدة حتى كادت في وقت أن تنقطع ويشتبك الفريقان في القتال. بل وحدث شيء من ذلك حيث حاول بعض خيالة قريش وشجعانهم أن يأخذوا النبي والمسلمين أو فريقا منهم على غرة فأرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كمن في طريقهم وتمكن من أسر فريق منهم ثم أطلق سراحهم إيذانا برغبته عن الشرّ. وانتهت المفاوضات إلى اتفاق على أن تكون مدة الهدنة عشر سنوات وكتب في ذلك عقد ختمه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخاتمه ووقّعه سهيل عن قريش. وحينئذ أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذبح الهدي وحلق الشعر والتحلل من الإحرام ثم آذن بالعودة. وقد روي فيما روي أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو ـ المفاوض ـ وقد كان أسلم فحبسه أبوه وقيده ـ استطاع أن يفرّ ويجيء إلى النبي والمسلمين يرسف في أغلاله حينما درى أنهم في الحديبية. وكان التراضي على الشروط قد تمّ فاحترم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما تمّ وردّ أبا جندل إلى أبيه. وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أأردّ إلى المشركين يفتنونني في ديني ، فزاد ذلك الناس إلى ما بهم. وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين

٥٨٠