التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

ولقد تكرر التقرير المنطوي في الآيات بأساليب عديدة في مواضع كثيرة من القرآن المكي والمدني ما مرّ منه أمثلة عديدة حيث يكون هذا من المبادئ القرآنية المحكمة.

ومع خصوصية الآيات ومناسبتها الموضوعية فإنها لا تخلو كما يتبادر لنا من تلقين تقريري لشخصية المرأة واستقلالها السلوكي وأهليتها لتحمل نتائج هذا السلوك. وهذا كله متسق مع ما قرره القرآن ونبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.

وكفر وخيانة امرأة نوح وإيمان امرأة فرعون يذكران للمرة الأولى والوحيدة في هذه الآيات. والأمران لم يردا في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم والتي احتوت قصص نوح وفرعون وموسى بإسهاب. ولكن هذا لا يمنع من أن يكون شيء من ذلك ورد في أسفار وقراطيس كانت متداولة ولم تصل إلينا على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة. ولقد روى المفسرون (١) عن بعض التابعين أن امرأة نوح كانت تشي لجبابرة قومها بالذين كانوا يؤمنون برسالة زوجها. وأن امرأة فرعون التي سميت في كتب التفسير بآسية بنت مزاحم آمنت نتيجة لإيمان امرأة خازن فرعون التي أصرّت على إيمانها بالله رغم قتل فرعون لأولادها أمامها وتعذيبها حتى زهقت روحها حيث أثّرت أقوالها فيها وأنها فرحت حينما علمت بتغلب موسى على سحرة فرعون وأعلنت إيمانها بربّ هارون وموسى. وأن فرعون عذّبها ثم أمر بإلقاء صخرة عظيمة عليها فزهقت روحها هي الأخرى حيث يدلّ هذا على أن ما ورد في الآيات كان متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وإذا كان من الراجح أن هذا التداول كان في أوساط الكتابيين فإن ورود الآيات بالأسلوب الذي وردت به قرينة على أن سامعي القرآن من العرب لم يكونوا يجهلون ذلك أيضا فاقتضت حكمة التنزيل أن يكون وسيلة للعظة والتذكير والتمثيل شأن كل الأمثال التاريخية التي وردت في القرآن.

أما امرأة لوط ففي قصة لوط الواردة في سور الصافات والعنكبوت والنمل

__________________

(١) انظر تفسير ابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.

٥٤١

والشعراء والحجر وهود والأعراف إشارات إلى أن الله كتب عليها ما كتب على قوم لوط من هلاك. وفي سفر التكوين المتداول اليوم شيء بهذا المعنى أيضا حيث جاء في الإصحاح (١٩) أنها التفتت وراءها فصارت قضيب ملح.

ومن المؤسف أن مفسري الشيعة لم يمنعهم عقل ودين من صرف الآية الأولى إلى عائشة وحفصة رضي الله عنهما زوجتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقول إنهما كانتا كافرتين منافقتين وأنهما خالدتان في النار. والعياذ بالله من قول الزور والهوى.

ولقد ذكرت السيدة مريم في سور عديدة مكية ومدنية مثل سور مريم والأنبياء والمؤمنون وآل عمران والمائدة وذكر ما كان من قنوتها لله وإحصانها فرجها وتكريم الله لها ونفخه فيها من روحه وجعلها وابنها آية للعالمين. وقد علقنا على ذلك في سياق تفسير المذكورة بما يغني عن التكرار.

استطراد إلى رواية إخوة وأخوات المسيح من أمه

غير أننا رأينا هنا أن نستطرد إلى ما يروى عن وجود إخوة وأخوات للمسيح من أمه. لأن بعض المسلمين سألونا مؤخرا عنها. ففي الإصحاح (٦) من إنجيل مرقس هذه العبارة (أليس هذا هو النجار ابن مريم وأخا يعقوب ويوسى ويهوذا ...! وليست إخوانه هاهنا عندنا) وفي الإصحاح (٨) من إنجيل لوقا هذه العبارة (وأقبلت أمه وأخوته فلم يقدروا على الوصول إليه لأجل الجمع. فأخبر وقيل له إن أمك وإخوتك واقفون خارجا يريدون أن يروك) ولقد جاء في الإصحاح الأول من إنجيل متى هذه العبارات (لما خطبت مريم أمه ليوسف وجدت من قبل أن يجمعا حبلى من روح القدس. وإذ كان يوسف رجلها صديقا ولم يرد أن يشهرها همّ بتخليتها سرّا. وفيما هو متفكر في ذلك إذا بملاك الرب تراءى له في الحلم قائلا يا يوسف ابن داود لا تخف أن تأخذ امرأتك مريم فإن المولود إنما هو من روح القدس. وستلد ابنا فتسميه يسوع. لأنه هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم. فلما نهض يوسف من النوم صنع ما أمره ملاك الربّ. فأخذ امرأته. ولم

٥٤٢

يعرفها حتى ولدت ابنها البكر وسماه يسوع). وقد تعني الجملة الأخيرة أنه لم يعاشرها حتى ولدت ثم عاشرها بعد ولادتها المسيح. وقد يؤيد هذا روايات انجيلي مرقس ولوقا التي ذكرت أنه كان للمسيح أخوة جاؤوا إليه مع أمه. والكلام في القرآن إنما دار على حبل مريم بعيسى من روح الله وكلمة التعبير عن المعجزة الربانية في ذلك. وما ذكره القرآن من إحصان مريم لفرجها إنما كان قبل حبلها بعيسى. ولا يتعرض القرآن لمريم بعد ولادتها عيسى إلا بالقول إنها كانت صديقة كما جاء في آية سورة المائدة [١١٥] والتنديد باليهود بسبب رميهم إياها بالبهتان العظيم في آية سورة النساء [١٨٠] الذي يفيد أنهم قصدوا القول إن عيسى كان ولد زنا. ولسنا نرى ما يمكن أن تفيده عبارات الأناجيل من معاشرة يوسف لمريم بعد ولادتها لعيسى وإنجابهما أولادا غير ممكن كما أنه ليس فيه ما يتعارض مع القرآن. وكل ما على المسلم الاعتقاد به هو ما قرره القرآن من أن مريم أحصنت فرجها فنفخ الله فيها وولدت عيسى وكفى. ولا يضيره أن يصدق ما جاء في الأناجيل. وله أن لا يصدقه أيضا. وليس في القرآن ولا في الحديث ما يثبت ذلك أو ينفيه. والله تعالى أعلم.

٥٤٣

سورة التغابن

في السورة تقرير تسبيحي وتنزيهي من كل ما في السموات والأرض لله. وإشارة إلى خضوع كل شيء له. ومظاهر عظمته وقدرته في الكون والخلق وشمول علمه. وتذكير بالكافرين السابقين ونكال الله فيهم. وحكاية لإنكار الكفار للبعث وتوكيده وإنذار به. وتوطيد لواجب الطاعة لله ورسوله والإنفاق في سبيل الله. وتحذير من أن يكون الأولاد والأزواج والأموال من المانعين لذلك.

والسورة من السور التي يختلف الرواة في مكيتها ومدنيتها. غير أن معظم روايات ترتيب نزول السور تسلكها في سلك السور المدنية. ومنها المصحف الذي اعتمدنا عليه. وفحوى آيات السورة يؤيد مدنيتها ويؤيد كونها نزلت دفعة واحدة أو متتابعة. ومن الفحوى الذي يدل على مدنيتها الأمر بطاعة الله ورسوله والتحذير من الزوجات والأولاد فهذا أسلوب مدني والله أعلم.

وبعض الروايات التي تذكر أنها مكية تذكر أن الآيات [١٤ ـ ١٦] مدنية (١). وآيات السورة منسجمة مع هذه الآيات بحيث يسوغ القول إنها سياق واحد نزلت في ظرف واحد.

وليس في السورة علامة مميزة تساعد على القول بصحة ترتيب نزولها بعد سورة التحريم وعدمه. وقد جعلناها بعد سورة التحريم أخذا برواية المصحف الذي اعتمدنا عليه وبعض روايات التراتيب الأخرى (٢) والله أعلم.

__________________

(١) انظر البغوي والطبرسي والزمخشري وابن كثير والخازن.

(٢) انظر كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩ وتفسير الزمخشري.

٥٤٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦)) [١ ـ ٦].

عبارة الآيات واضحة. والآيات الأربع الأولى منها احتوت تقريرا لعظمة ملك الله وقدرته ومطلق تصرفه في الكون وإتقان خلق الإنسان وتصويره على أحسن الصور وإحاطة علمه بكل شيء وخضوع كل شيء له واستحقاقه وحده للحمد والتقديس. وقد انطوى في الآية الثانية على ما يتبادر من روحها تقرير لواقع المخاطبين حيث كان منهم الكافر وكان المؤمن وتقرير كون الله تعالى بصير بما يفعله كل منهم.

أما الآيتان الأخيرتان فقد احتوتا تذكيرا بالكافرين من الأمم السابقة بأسلوب التساؤل الإنكاري التقريري عن ما جاء المخاطبين من أنبائهم حيث استنكروا أن يرسل الله بشرا رسلا ليهدوهم فكفروا نتيجة لذلك فذاقوا نكال الله في الدنيا فضلا عما أعده لهم من عذاب الآخرة الأليم مع تقرير كون الله مستغنيا عنهم وهو الغني عن خلقه الحميد لمن يشكره ويؤمن به.

وواضح أن الآيات هي بسبيل دعوة السامعين إلى الله والاهتداء بالهدى الذي جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد جاء هذا بصراحة أكثر في الآيات التالية. وأسلوبها عام هادىء موجّه إلى القلب والعقل معا.

وليس هناك روايات تروي سبب نزولها والمتبادر أنها تمهيد أو مقدمة لما جاء بعدها والله أعلم.

٥٤٥

وفي حكاية قول الكفار السابقين حينما كانت تأتيهم رسلهم (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) تنديد بالكافرين برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين كان يصدر منهم مثل هذا القول على ما حكته آيات عديدة في سور سابقة. منها آية سورة الإسراء هذه (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) (٩٤) فكأنما أريد أن يقال لهم : إنكم إذا قلتم هذا فقد قاله أمثالكم من قبل وكان من أسباب كفرهم واستحقاقهم لنكال الله وعذابه. وإن الله لمستغن عنكم كما استغنى عمن قبلكم وهو الغني الحميد.

وفي جملة (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) تذكير للإنسان بما ميزه الله على غيره من خلقه بالمميزات المتنوعة. وبما يوجبه ذلك عليه من الاعتراف بفضله والاستجابة إلى دعوته. وقد انطوى هذا في آيات عديدة في سور سبق تفسرها.

تأويل الكلاميين لجملة

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) وتعليق عليه

ولقد وقف المفسرون عند هذه الجملة وأوردوا مذاهب الكلاميين فيها من حيث الجبر والاختيار. حيث يرى أصحاب المذهب الأول فيها دليلا على مذهبهم بتقدير الله عزوجل الكفر والإيمان على الناس. وقد أوردوا حديثا نبويا للتدليل على ذلك روي عن أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «وكل الله بالرحم ملكا. فيقول أي ربّ نطفة ، أي ربّ علقة ، أي ربّ مضغة ، فإذا أراد الله أن يقضي خلقها قال يا ربّ أذكر أم أنثى. أشقي أم سعيد ، فما الرزق ، فما الأجل فيكتب كذلك في بطن أمه» (١) وحيث ينكر أصحاب المذهب الثاني ذلك ويقولون إن معنى الآية هو أن الله خلق الناس فمنهم من اختار الكفر ومنهم من اختار الإيمان وذكروا آية سورة الكهف (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [٢٩].

__________________

(١) الحديث من تفسير البغوي.

٥٤٦

ونقول تعليقا على ذلك إن الحديث ليس من الصحاح وإننا شرحنا مسألة القدر والجبر والاختيار في سورة القمر شرحا يغني عن التكرار ورجحنا الثاني على ضوء الآيات القرآنية المحكمة. وإن المتبادر لنا أن الجملة لا تتحمل هذا الخلاف الكلامي وإن روح الآيات وهي تندد بالكافرين وتنسب إليهم أعمالهم وتذكرهم بأمثالهم الذين استحقوا نكال الله تؤيد بقوة القول الثاني. وإن الجملة هي بسبيل تقرير واقع المخاطبين والسامعين حين نزولها حيث كان منهم من كفر بالرسالة النبوية ومنهم مؤمن. وقد رأينا الطبري يؤول الجملة في معنى (يقول الله تعالى أيها الناس منكم كافر بخالقه وأنه خلقه. ومنكم مؤمن بخالقه وأنه خلقه) ولا يخلو هذا من وجاهة وإن كنا نرى ما ذكرناه هو الأكثر تساوقا مع الجملة وروح الآيات معا. والله تعالى أعلم.

(زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠)) [٧ الى ١٠].

(١) يوم الجمع : كناية عن يوم القيامة حيث يجمع فيه الناس جمعا.

(٢) التغابن : من الغبن. وهو بيع شيء بأغلى من قيمته بالتغرير. والقصد من الكلمة هو أن يوم القيامة هو اليوم الذي يظهر فيه غبن الضالين الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة ، فما ربحت تجارتهم. ومع ما في الكلمة من هذه الدلالات لغويا فإن المفسرين رووا عن ابن عباس أن جملة (يَوْمُ التَّغابُنِ) من أسماء يوم القيامة. والظاهر أنه اعتبرها لذلك لدلالتها المذكورة.

عبارة الآيات اللغوية واضحة كتلك وفيها :

٥٤٧

(١) حكاية لزعم الكفار باستحالة بعثهم بعد الموت.

(٢) وأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتوكيد ذلك لهم وسهولته على الله تعالى.

(٣) وتعقيب على التوكيد بالدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله والاهتداء بالنور الذي أنزله الله عليه.

(٤) واستطراد إنذاري بذكر يوم القيامة وما سوف يظهر للكافرين فيه من مقدار الغبن العظيم الذي وقعوا فيه في الدنيا بإصرارهم على الكفر وعدم استجابتهم إلى دعوة الحق والهدى.

(٥) وبيان لمصير الناس في ذلك اليوم حيث يتجاوز الله عن سيئات الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويكون لهم الخلود في نعيم الجنات وحيث يكون للذين كفروا وكذبوا بآيات الله الخلود في النار وبئست هي مصيرهم.

ولم نطلع على رواية خاصة بنزول الآيات وقد تلهم هي والتي قبلها معا أنها نزلت على أثر موقف من مواقف الجدل بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعض الكفار في بشرية النبي والبعث الأخروي وماهية الدعوة والرسالة مما كان يتكرر بين النبي والكفار وخاصة في العهد المكي.

ولعل الذين قالوا إن السورة مكية رأوا التجانس بين هذه الآيات وما كان يقع في العهد المكي من مثل ذلك وما ورد في القرآن المكي من حكايته والرد عليه. وليس هذا مبررا كافيا لذلك القول لأن معظم العرب ظلوا كفارا إلى الفتح المكي وقد روت الروايات العديدة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يلتقي بالمسالمين منهم أو يستقبل وفودا من زعمائهم فكان بطبيعة الحال يدعوهم وينشب بينه وبينهم جدال مماثل لما كان ينشب بينه وبين أمثالهم في العهد المكي.

وتعبير (يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ) بالنسبة للمؤمنين وفي سياق المصير الأخروي قد تكرر أكثر من مرة وعلقنا عليه في سياق تفسير آيات سورة النجم [٣١ و ٣٢] وسورة النساء [٣١] ونبهنا على ما فيه من تسامح رباني ومعالجة روحية حكيمة فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.

٥٤٨

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣)) [١١ ـ ١٣].

تعليق على الآية

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ)

والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقين وما ورد في صددها من أحاديث

في الآيات :

(١) تقرير بأن ما يصاب به أحد من مصيبة فإنه بإذن الله العليم بكل شيء.

(٢) وتعقيب على ذلك بأن من يؤمن بالله تعالى ويفوض الأمر إليه يرزقه الله هداية القلب والطمأنينة والسكينة فيتقبل الأمر الواقع الذي لا يد له فيه بالرضاء والصبر.

(٣) وأمر موجه للمسلمين بوجوب طاعة الله ورسوله في كل حال ودون أن يمنعهم أي شيء من هذا الواجب جاعلين اتكالهم على الله الذي لا إله إلّا هو والذي يجب على المؤمنين أن يجعلوا اتكالهم عليه دائما.

(٤) وإيذان لمن لم يستمع لهذا التلقين والعظة ويتولى عن واجب الطاعة لله ورسوله بأنه ليس على الرسول إلّا التبليغ. والأمر والإرشاد والبيان. وقد انطوى في الإيذان معنى الإنذار كما هو المتبادر أيضا.

ولم نطلع على رواية خاصة بنزول هذه الآيات. والمتبادر أنها فصل مستقل لا علاقة له بالآيات السابقة. ومضمونها وروحها يلهمان أنها بسبيل الإشارة إلى حادث ما أو موقف ما أو بسبيل تهوين مصيبة أصيب بها بعض المسلمين في أثناء قيامه بتنفيذ أمر أمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به أو بسبيل تهوين مصيبة خاف أحد المسلمين أن تلحق به أثناء تنفيذ أمر أمره به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم بسبيل تثبيت وتوطيد الطاعة لله ولرسوله. ولعل الآيات التالية متصلة بها ومنطوية على شيء من إيضاح المناسبة أو

٥٤٩

الموقف الذي نزلت فيه على ما سوف يأتي شرحه بعد.

وورود الآيات بهذا الأسلوب يدل على أن الحادث أو الموقف قد جعل للتهوين والتثبيت والعظة لعامة المؤمنين أيضا بالإضافة إلى صاحب العلاقة ، ولقد انطوت على علاج نفساني قوي يستمد منه المؤمن قوة وصبرا وسكينة وطمأنينة وإسلاما لله واتكالا عليه في الأزمات والملمات الطارئة أو المتوقعة التي لا تخلو حياة الناس منها في كل وقت ومكان. نرى الأولى بل الأوجب أن يوقف عند ذلك في موضوع قدر الله تعالى وكون ما يصيب الناس من مصائب هي مقدرة تقديرا محتوما عليهم. لأن هذا ليس من مقاصد الآيات في مقامها على ضوء الشرح المستلهم من ذلك والله تعالى أعلم.

ولقد تكرر مثل هذه المعالجات النفسية في ظروف مماثلة مرّت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها وأوردنا في صددها بعض الأحاديث النبوية وبخاصة في سياق الآية [١٥٥] من سورة البقرة فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثين نبويين فيهما من التلقين والعلاج ما هو متسق من محتويات الآيات وتدعيم لما نبهنا عليه. واحدا منهما وصفه بأنه متفق عليه جاء فيه «عجبا للمؤمن لا يقضي الله قضاء إلّا كان خيرا له. إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له. وليس ذلك لأحد إلّا للمؤمن» وواحدا رواه الإمام أحمد جاء «إن رجلا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله أيّ العمل أفضل؟ قال إيمان بالله وتصديق به وجهاد في سبيله. قال أريد أهون من هذا يا رسول الله قال : لا تتهم الله في شيء قضى لك به».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً

٥٥٠

حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)) [١٤ ـ ١٨].

وفي هذه الآيات :

(١) تنبيه للمؤمنين بأن من أزواجهم وأولادهم من يكون عدوّا لهم يجب الحذر منه.

(٢) ووصية لهم على كل حال بالعفو والصفح والغفران تأسيا بالله الغفور الرحيم.

(٣) وتنبيه لهم كذلك بأن أموالهم وأولادهم هي بوجه عام امتحان لهم في الاختيار بين واجبهم نحو الله والمصلحة العامة وبين أموالهم وأولادهم. وبأن ما عند الله من الأجر العظيم هو أعظم وأجدى وبأن من مصلحتهم أن يختاروا ما فيه رضاء الله حتى ينالوا ما عنده.

(٤) وتعقيب على ذلك فيه حثّ لهم على تقوى الله في اتباع أوامره واجتناب نواهيه جهد استطاعتهم ، وعلى الطاعة لله ورسوله وبذل المال في سبيل الله ووجوه البرّ ففي هذا خاصة خير ونفع لهم. وأن المفلح هو الذي ينجو من شحّ النفس والبخل. وأنهم إذا أنفقوا فكأنهم يقرضون الله قرضا حسنا سوف يردّه عليهم مضاعفا مع غفران ما يلمون به من ذنوب وهو الشكور لفاعلي الخير الذي يعامل عباده بالحلم والعطف والتسامح. العليم بالحاضر والمستقبل المغيب القوي القادر الحكيم الذي يأمر بما فيه الحكمة والصواب.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ)

والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات أو بالأحرى الآيتين

٥٥١

الأوليين (١) منها واحدة معزوة إلى ابن عباس ومجاهد ، جاء فيها أنها نزلت في قوم أرادوا الهجرة فثبطهم نساؤهم وأولادهم عنها. وقد روى الترمذي هذا في حديث عن ابن عباس فيه زيادة حيث جاء في الحديث «هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبيّ فأبى أزواجهم وأولادهم ذلك ومنعوهم فلما أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ورأوا الناس قد فقهوا في الدين همّوا أن يعاقبوهم فأنزل الله الآية» (٢) وثانية معزوة إلى عطاء بن يسار من كبار علماء التابعين جاء فيها «أنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي. كان ذا أهل وولد وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه وقالوا إلى من تدعنا فيرقّ لهم ويقيم» (٣) وثالثة معزوة إلى عكرمة من علماء التابعين جاء فيها «كان الرجل يريد أن يأتي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقول له أهله إلى أين تذهب وتدعنا. فإذا أسلم وفقه قال لأرجعن إلى الذين ينهون عن هذا الأمر فلأفعلن ولأفعلن. فأنزل الله (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤))» (٤).

وعلى كل حال فروح الآيتين الأوليين ومضمونهما يلهمان أنهما نزلتا في مناسبة مماثلة. ويتبادر لنا أن الآيات متصلة بالآيات السابقة لها وأن الآيات السابقة جاءت تمهيدا أو مقدمة لها وفي كلتا المجموعتين أمر بالسمع والطاعة لله ورسوله. وهذا التشارك بنوع خاص قرينة قوية على الاتصال بين المجموعتين.

ويلحظ أن الخطاب في الآيات موجه إلى جميع المؤمنين حيث يتبادر من هذا أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك ليكون الحادث وسيلة لتوجيه الكلام إلى المسلمين جميعهم ويكون لهم فيه عظة وتنبيه وتحذير على النحو الذي شرحنا به الآيات. وهذا ما جرى عليه التنزيل القرآني مما مرّ منه أمثلة كثيرة.

__________________

(١) تفسير الطبرسي والبغوي وابن كثير.

(٢) التاج ج ٤ ص ٢٣٨.

(٣) تفسير البغوي.

(٤) تفسير الطبري.

٥٥٢

والآيات بهذا التعميم والإطلاق مستمرة التلقين والمدى من جميع النواحي بالنسبة لجميع المسلمين في كل ظرف ومكان في المناسبات والمواقف المماثلة.

وواضح من الشرح والمناسبات المروية أن جملة (عَدُوًّا لَكُمْ) قد جاءت للتشبيه وتشديد التحذير من التأثر وشدة الشغف بالأزواج والأولاد إلى المدى الذي يشغل المسلم عن واجبه نحو الله ودينه وخلقه أو يجعله يرتكب إثما ومعصية. فلا يصح أخذها على غير هذا المدى.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا رواه الحافظ البزار عن أبي سعيد قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الولد ثمرة القلوب. وإنهم مجبنة مبخلة محزنة» حيث ينطوي في الحديث تقرير لواقع الأمر والتطابق مع الآيات من حيث كون الأولاد قرة عين ولكنهم يكونون أحيانا من أسباب جبن الآباء وبخلهم ودواعي الحزن لهم. وقد أورد المفسر حديثا آخر رواه الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس عدوّك الذي إن قتلته كان فوزا لك وإن قتلك دخلت الجنة. ولكن الذي لعلّه عدوّ لك ولدك الذي خرج من صلبك ثم أعدى عدوّ لك مالك» والحديث مما تضمنت الآيات تقريره وهدفت إلى التحذير منه كما هو المتبادر.

ولقد قال بعض المفسرين : إن في الآية (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) تخفيفا عن المسلمين ونسخا لآية آل عمران هذه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [١٠٢]. ورووا عن سعيد بن جبير ومقاتل والسدي أن المسلمين لما نزلت آية آل عمران اشتدوا في العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرّحت جباههم ـ يعني من كثرة الصلاة ـ فأنزل الله هذه الآية تخفيفا عنهم (١). وقال بعضهم إنها غير ناسخة وإن حكم الآيتين محكم في الحالات المختلفة ولا تنافي بينها (٢). ونحن نرى هذا هو الأوجه إن شاء الله. لأن تقوى الله حقّ تقاته لا تتضمن تحميلا للمسلم ما ليس له به

__________________

(١) انظر البغوي والخازن وابن كثير والرواية وردت في ابن كثير.

(٢) انظر الطبرسي.

٥٥٣

طاقة فيما نرى ولا سيما أن في الآيات المكية والمدنية التي نزلت قبل نزول آية آل عمران تقريرا ربانيا بأن الله لا يكلّف نفسا إلّا وسعها. وإنما تعني الإخلاص التام لله ومراقبته مراقبة تامة. ولقد نزلت آية آل عمران في موقف خطير وفي سياق تضمن تحذيرا للمسلمين إزاء ذلك الموقف على ما شرحناه في سياق تفسيرها فلا محلّ لربط هذه الآية بتلك.

على أنه يتبادر لنا أن الأوجه المتسق مع روح الآيات وهدفها ومقامها هو صرف الجملة إلى قصد الحثّ على الاجتهاد في تقوى الله جهد الطاقة وعدم التهاون في ذلك. وهذا لا يتنافى مع القول الذي رجحناه سابقا والله أعلم.

وتعبير (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦)) يتكرر هنا للمرة الثانية حيث ينطوي في ذلك توكيد على سوء خلق الشحّ وعظم فلاح من يكون بريئا منه وحثّ على نبذه وقد أوردنا ما روي من الأحاديث النبوية في ذلك في المناسبة الأولى التي ورد فيها هذا التعبير وهو آية سورة الحشر [٩].

٥٥٤

سورة الصّف

في السورة كسابقتها تقرير بتسبيح كل ما في السموات والأرض لله. وتنديد ببعض المسلمين الذين يقولون ما لا يفعلون. ودعوة للصدق والتضامن في القتال في سبيل الله وإيذان بحب الله لمن يفعلون ذلك. وتذكير تحذيري بما كان من بني إسرائيل إزاء موسى عليه‌السلام من إزعاج وأذى. وحكاية لقول عيسى عليه‌السلام لقومه بماهية رسالته وبشارته بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعده. وإيذان بأن الله قد أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليكون الدين الظاهر على جميع الأديان وبأن سيتم نوره ويحبط جهد الذين يريدون إطفاءه. وبشارة دنيوية وأخروية للمجاهدين في سبيل الله وحثّ على الجهاد. ودعوة للتأسي بالحواريين في نصر دين الله.

وآيات السورة مترابطة ووحدة تامة وفيما جاء في صدد موسى وعيسى عليهما‌السلام تدعيم موقف النبي من الدعوة إلى الجهاد مما يحمل على الترجيح بنزولها دفعة واحدة أو متتابعة مع التنبيه إلى أن هناك حديثا يذكر أنها نزلت دفعة واحدة في مناسبة معينة على ما سوف يرد بعد (١).

وقد قال الزمخشري إن السورة مكية. وروى بعضهم هذا عن عطاء أيضا (٢). وهذا عجيب ، وفيه مثال للاهتمام بالرواية أكثر من النصّ. فحثّ المؤمنين على الجهاد والقتال في السورة والتنديد بالمقصرين فيه يجعلان احتمال مكيتها مستحيلا. لأن القتال إنما فرض وحرّض عليه بعد الهجرة. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يأذن

__________________

(١) ابن كثير.

(٢) الطبرسي والبغوي.

٥٥٥

للمسلمين في مكة حتى ولا بمقابلة المشركين بأذى على أذاهم وقد هدّأهم القرآن وطلب منهم التسامح في آية سورة الجاثية هذه (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [١٤] على ما شرحناه في سياقها. وإلى هذا المعنى أشارت آية سورة النساء هذه (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧)).

وفي السورة آيات قد تكون قرينة على كونها نزلت قبيل صلح الحديبية ووقعة خيبر.

وهاتان الوقعتان قد أشير إليهما في سورة الفتح التي يأتي ترتيبها بعد هذه السورة ، حيث يكون في ذلك قرينة على صحة ترتيبها. والله أعلم.

ولقد ذكر المفسر الطبرسي أن السورة تسمى بسورة الحواريين وبسورة عيسى عليه‌السلام ولم يذكر لذلك سندا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤)) [١ ـ ٤].

عبارة الآيات واضحة. والآية الأولى مطلع تمهيدي لما بعدها. والآيتان الثانية والثالثة احتوتا عتبا وتنديدا موجها إلى المسلمين الذين لا ينفذون بالفعل ما يقولونه ويعدون به باللسان. وتنبيها إلى ما في هذا من موجبات مقت الله الكبير وغضبه. أما الآية الرابعة فقد احتوت حثّا على القتال في سبيل الله بعزم وتراصّ وتضامن وإيذانا بأن الله يحبّ الذين يفعلون ذلك.

٥٥٦

وقد تلهم هذه الآية أن التنديد السابق هو للذين يعدون بالقتال ولا يقاتلون. وهذا ما روته الروايات كسبب من أسباب النزول على ما سوف نذكره بعد هذا.

تعليق على الآيات الأربع الأولى من السورة

وما فيها من صور وتلقين

ولقد روى المفسرون (١) روايات عديدة في سبب نزول الآيات وفي من عنته. منها أنها في المنافقين بسبب إخلافهم ما وعدوا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الاشتراك في القتال والتضامن مع سائر المسلمين فيه. ومنها أنها نزلت في جماعة كانوا يتبجحون بأنهم قاتلوا وجاهدوا كذبا. ومنها أنها نزلت في شخص ادعى كذبا بأنه قتل شخصا كافرا في حين أن الذي قتله شخص آخر. ومنها أنها نزلت في جماعة من المسلمين لم يشهدوا وقعة بدر فلما سمعوا ما أعدّ الله لشاهديها من أجر وما كان من ثناء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم وعدوا بالقتال مثلهم حتى يحرزوا درجتهم في أول حرب ثم انهزموا في واقعة أحد. ومنها ما روي في حديث عن عبد الله بن سلام الصحابي بطرق عديدة مع اختلاف في الصيغة. وقد جاء في بعض هذه الصيغ التي أخرجها ابن أبي حاتم أن عبد الله بن سلام قال : «إن أناسا من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا لو أرسلنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسأله عن أحبّ الأعمال إلى الله عزوجل فلم يذهب إليه أحد منا وهبنا أن نسأله عن ذلك فدعا رسول الله أولئك النفر رجلا رجلا حتى جمعهم ونزلت فيهم سورة الصف فقرأها علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلّها (٢). وهناك رواية عن مقاتل أوردها ابن كثير جاء فيها «قال المؤمنون لو نعلم

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير.

(٢) هذا النصّ من ابن كثير وقد أورد هذا المفسّر نصا آخر أخرجه الإمام أحمد بطريق آخر مقارب لهذا النص. وقد روى الترمذي نصا آخر ليس فيه إشارة تفيد أن السورة جميعها نزلت في هذه المناسبة كما ليس فيه ما ينفي ذلك حيث جاء فيه عن عبد الله بن سلام «قعدنا نفرا من أصحاب رسول الله فتذاكرنا فقلنا لو نعلم أي الأعمال أحبّ إلى الله لعملناه فأنزل (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢)). التاج فصل التفسير ج ٤ ص ٢٣٣.

٥٥٧

أحبّ الأعمال إلى الله لعملنا به فدلّهم الله على أحبّ الأعمال إليه فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) فبيّن لهم فابتلوا بيوم أحد بذلك فولّوا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدبرين فأنزل الله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢)).

والرواية الأخيرة عجيبة لأنها تجعل نزول الآية الثالثة مقدما على نزول الآية الثانية.

والتنديد الشديد في الآيات يدل كما هو ظاهر على أنها في صدد جماعة كانوا يعدون بالجهاد ثم يخلفون. وهذا متسق مع بعض الروايات. ولقد حكت آيات عديدة في سور آل عمران والأحزاب والنساء والنور مثل ذلك عن المنافقين. وفي سورة الأحزاب آية صريحة في ذلك (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥)) أن المقصود في الآيات منهم. وفي سورة النور آية صريحة أخرى (* وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣)).

وشدة التنديد تدل على أن موقف المندد بهم كان مثيرا للمقت والسخط إما بتكرره وإما في ظروفه. وهذا لا يكون على الأرجح إلّا من المنافقين. ولعل الآيات تنطوي على تقرير كون هذا الموقف مما آلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآذاه. وقد يكون في الآيات التالية التي تذكر بمواقف قوم موسى المؤذية من نبيهم رغم اعترافهم بنبوته وتندد بهم وتصفهم بالفسق والانحراف ، قرينة على ذلك. والله أعلم.

وأسلوب الآيات عام. وتلقينها مستمر المدى لجميع المسلمين في كل ظرف ومكان. وقوة الآيات تهزّ النفس هزا شديدا سواء بإيذانها بمحبة الله للذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص أم بشدّة مقت الله للذين يقولون ما لا يفعلون ، وفي القرآن آيات كثيرة جدا في الأمرين أي في التنديد بالمتثاقلين عن الجهاد المثبطين عنه المخلفين بوعودهم به والتنويه بالذين يقاتلون بصدق وإخلاص. وقد جاء كثير منها في سور سبق تفسيرها. ومنها ما جاء في سور نزلت بعد هذه السورة حيث يدل كل ذلك على ما أعاره القرآن الكريم من عناية عظمى لهذا الركن العظيم

٥٥٨

الذي كتب على المسلمين لما فيه من حياطة أمرهم وقوام وجودهم وكرامتهم وأمنهم وسلامتهم وعزة الإسلام وقوته.

وقد تكون جملة (يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤)) قد عنت أسلوبا من أساليب القتال في ذلك الزمن. ولكن المتبادر أن فيها تلقينا واسع المدى وشاملا بحيث يتناول مقاتلة العدو وبكل أسلوب يضمن النصر عليه وبكل وسيلة من وحدة القوى المادية والمعنوية وأساليب الحرب المتنوعة ومن التعاون التام بين المسلمين في كل ذلك ومن بذل كل ما يمكن من الاستعداد والأموال ومن إظهار كل ما يجب من عزيمة وتصميم دون ترك أي ثغرة في ذلك. وفي القرآن آيات فيها هذا التوجه بصراحة. ومنها ما جاء في سور سبق تفسيرها مثل آيات البقرة [١٩٥] والنساء [٧٥ و ٧٦ و ١٠٤] والأنفال [٦٠] ومحمد [٣٨].

ولقد قال غير واحد من المفسرين (١) إن الآيتين الثانية والثالثة عامتا الشمول لكل إخلاف بوعد أو نكول عن عهد ونذر أو قول يكذبه الفعل. وقد يكون في هذا وجاهة بسبب الأسلوب المطلق الذي جاءت عليه الآيتان. مع التنبيه على أن الآية الثالثة التي هي منسجمة معها تلهم أن الآيات تهدف بالدرجة الأولى إلى التنديد بالذين يخلفون وعودهم بالقتال في سبيل الله والصدق فيه. وقد قال ابن كثير إن الجمهور قد حملوا الآية على أنها نزلت حين تمنوا فرض الجهاد عليهم فلما فرض نكل عنه بعضهم. مما فيه تدعيم لما نبهنا عليه. ومع ذلك فإن القول بالنسبة للآيتين بخاصة يظل يحتفظ بوجاهته البديهية من حيث استحقاق الذين يكذبون في أقوالهم ولا ينفذون عهودهم ووعودهم ويخلفون فيها للتنديد الرباني المنطوي في الآيتين. فالقرآن قد حظر وشجب الكذب والنكث والإخلاف ولعن الكاذبين وندد بالناكثين والمخلفين. في آيات كثيرة مكية ومدنية في سور عديدة سبق تفسيرها. والأحاديث النبوية المتساوقة مع ذلك كثيرة أوردنا كثيرا منها في مناسبات سابقة. وهناك حديثان مهمان رواهما الأربعة البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود يحسن أن

__________________

(١) انظر تفسيرها في الطبري والبغوي وابن كثير والزمخشري والطبرسي والقاسمي.

٥٥٩

نعيد إيرادهما. واحد رواه أبو هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان» وواحد رواه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا. ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها. إذا حدث كذب. وإذ عاهد غدر. وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر» حيث يفيدان أن الأخلاق التي نددت بها الآيتان وقررت استحقاق صاحبها لمقت الله الشديد هي صفات المنافقين دون المؤمنين الصادقين المخلصين.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩)) [٥ ـ ٩].

تعليق على الآية

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ)

والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من تلقين وما في بشارة عيسى بنبوة النبي

ومن وعد الله بإظهار دين الإسلام على الدين كله

لم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستطراد. ففي الآيات السابقة تنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون. وإيذان لما في ذلك من موجبات غضب الله ومقته الشديدين. فجاءت هذه الآيات :

٥٦٠