التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

يقفها اليهود والمنافقون ضد النبي والمخلصين والتي حكت مثلها آيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها.

ومع خصوصية الآيات فإنها تحتوي تلقينات وتأديبات اجتماعية عامة وعظات بليغة مستمرة المدى :

(١) بوجوب مراقبة الله والإيقان بأنه شاهد على كل شيء.

(٢) وبوجوب الحذر نتيجة لذلك من الكيد والأذى والتآمر بالسوء سرّا وجهرا.

(٣) وبوجوب اجتناب ما من شأنه إثارة القلق في المجتمع بالاجتماعات والمجالس السرية المريبة.

(٤) وبوجوب مراعاة عواطف الناس وشعورهم وبخاصة في أوقات أزماتهم.

(٥) وبحظر التآمر في المجالس والاجتماعات السرية على ما فيه بغي وإثم ومعصية ، وبتقبيحه.

(٦) وبوجوب تجنب الألفاظ المريبة في التحية والمعاشرة والآداب السلوكية مع الناس.

(٧) وبحق الحاكم وولي الأمر في النهي عن كل ذلك وزجر الذين يفعلونه.

(٨) وبتقرير كون الأمثل للمؤمنين ألا يتناجوا ولا يتحدثوا في مجالسهم إلّا بما فيه خير وبرّ ونفع وتقوى وأن ينزهوها عن كل ما فيه إثم وعدوان.

ولقد روى البغوي بطرقه في سياق هذه الآيات حديثا عن ابن عمر قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث إلّا بإذنه فإن ذلك يحزنه» (١) حيث ينطوي في الحديث تأديب سلوكي نبوي رفيع للمسلمين مستمر المدى.

__________________

(١) أورد هذا النص ابن كثير من رواية الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود كما أورده عن ابن عمر برواية مسلم.

الجزء الثامن من التفسير الحديث* ٣١

٤٨١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١)) [١١].

(١) تفسّحوا : بمعنى افسحوا ووسعوا لبعضكم.

(٢) انشزوا : انهضوا.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ...)

وما فيها من تأديب وتلقين وما ورد في ذلك وفي فضل العلماء من أحاديث

عبارة الآية واضحة. وفيها :

(١) أمر للمسلمين بالتوسيع والتفسح لبعضهم في المجالس حتى ولو اقتضى ذلك النهوض منها إذا طلب منهم.

(٢) وتنويه وتطييب بالذين يفعلون ذلك.

والآية فصل جديد. وقد روى المفسرون أن المسلمين كانوا يتحلقون حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتزاحمون على التقرب منه فكان يأتي آخرون فلا يجدون مكانا فيظلون وقوفا وكان النبي يرغب في تكريم بعض كبار أصحابه أو رجال بدر في مجالسه فيطلب من أحد الجالسين إعطاء مجلسه لغيره فيستثقل ويكره فأنزل الله الآية ليكون فيها تأديب وتطييب (١).

والرواية وجيهة ومتسقة مع روح الآية كما يبدو. ولعل بعض الناس كانوا إذ لا يجدون مكانا يجلسون لحدتهم فيكون ذلك وسيلة للتسارر والتناجي أو لعل المنافقين بخاصة كانوا يفعلون ذلك فتوخت الآية إفساح المجالس حتى لا يكون ضيقها عذرا لهؤلاء. وإذا صح هذا فتكون المناسبة قائمة بشكل ما بين الآية

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

٤٨٢

وسابقاتها ويكون وضعها بعدها بسبب ذلك إذا لم تكن نزلت بعدها مباشرة. وعلى كل حال فإن هناك تناسبا موضوعيّا بين الآية وسابقاتها من حيث احتواؤها تأديبا وتعليما للمسلمين. ويصح أن يكون ذلك سبب وضعها بعده أيضا. والله أعلم.

وإطلاق الخطاب في الآية يجعل التأديب والتنويه والتطييب الذي احتوته عام الشمول في المواقف والمناسبات المماثلة كما هو واضح.

ويمكن أن يلمح في الفقرة الثانية بالإضافة إلى معنى التطييب معنى الإشادة بطبقتي العلماء والورعين وإيجاب تقديمهما على غيرهما ، كما يمكن أن يلمح فيها تلقين روحي بليغ المدى بكون رفعة القدر إنما يجب أن تلتمس بالخلق الكريم والذوق السليم والأدب في المجالس وبالعقل والعلم وليس بالمظاهر والبروز في المجالس.

ولقد أورد المفسرون (١) أحاديث نبوية عديدة في سياق هذه الآية وما فيها من تأديب وتلقين. منها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما ورد في غيرها. وما ورد في غيرها لا يبعد عمّا ورد فيها. منها حديث عن ابن عمر قال «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ولكن تفسّحوا وتوسّعوا» (٢). وحديث عن عبد الله بن مسعود قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقيمنّ أحدكم أخاه يوم الجمعة ولكن ليقل افسحوا» (٣). وحديث عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه. ولكن افسحوا يفسح الله لكم» (٤). وحديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحلّ لرجل أن يفرّق بين اثنين إلّا بإذنهما» (٥). وقد روى الإمام أبو عبيد بن القاسم بن سلام عن

__________________

(١) الطبري والخازن وابن كثير والبغوي والزمخشري.

(٢) النص من ابن كثير.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

٤٨٣

ابن عمر «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن أن يخلف الرجل الرجل في مجلسه إذا قام وإذا رجع فهو أحق به» (١).

وليس من تناقض بين النهي عن أن يقيم الرجل من مجلسه والأمر بالنشوز إذا قيل للجالسين انشزوا. فهذا على الأغلب قد منح للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لإجلاس الناس في مراتبهم ويظل منوطا بمن يكون في مقامه بعده على ما هو المتبادر. أما حديث ابن عمر فالمتبادر منه هو النهي عن الجلوس في مجلس شخص قام لضرورة على أن يعود.

ولقد تطرق المفسرون إلى القيام للقادم احتراما وترتيب الناس في مجالسهم فرووا روايات عديدة أخرى ، منها ما يفيد ترخيص القيام حيث روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للأوس حينما استدعى زعيمهم سعد بن معاذ ليحكم في قضية بني قريظة «قوموا لسيّدكم» (٢) ومنها ما يفيد منع القيام حيث روي «أن معاوية خرج على ابن الزبير وابن عامر فقام ابن عامر وجلس ابن الزبير فقال معاوية لابن عامر : اجلس فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول من أحبّ أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار ، وفي رواية من سرّه بدلا من أحبّ» (٣). وقد روى أبو داود وابن ماجه حديثا عن أبي أمامة قال «خرج علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوكئا على عصا فقمنا إليه فقال لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظّم بعضها بعضا» (٤). وروى الترمذي عن أنس قال «لم يكن شخص أحبّ إليهم من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك» (٥) وجاء في السنن «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ولكن حيث يجلس يكون صدر المجلس فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم فالصدّيق عن يمينه وعمر عن يساره وبين يديه

__________________

(١) كتاب الأموال ص ٨٦.

(٢) أورده ابن كثير. وهذا النص مما رواه الشيخان وأبو داود عن أبي سعيد الخدري انظر التاج ج ٥ ص ٢٣١.

(٣) من ابن كثير. والنص مما رواه أبو داود والترمذي انظر التاج ج ٥ ص ٢٢٣ أيضا.

(٤) التاج ج ٥ ص ٢٣٢.

(٥) المصدر نفسه ص ٢٣٢.

٤٨٤

عثمان وعليّ لأنهما كانا يكتبان الوحي» (١). وقد روي حديث عن ابن مسعود «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» (٢). وقد روى الشيخان والترمذي والنسائي حديثا عن أبي واقد قال «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس حوله إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان فوقفا على رسول الله فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها وأما الآخر فجلس خلفهم وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فأواه الله وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه» (٣).

ولقد أراد بعضهم التوفيق بين الحديث الأول والحديثين الثاني والثالث من جواز القيام للقادم وعدمه ، فقالوا إن السنّة هي كراهية القيام وإن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقيام لسعد بن معاذ قد كان لحكمة اقتضاها الظرف الخاص. ولقد أورد المفسر القاسمي فتوى للإمام ابن تيمية فيها كثير من الوجاهة. فقد قرر الإمام ما تقدم من جهة وحسّن القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقيا له من جهة. وقال من جهة ثالثة : إذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك بخس في حقه أو قصد لخفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له لأن ذلك إصلاح لذات البين وإزالة للتباغض والشحناء. فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما.

ولقد تطرق المفسرون كذلك إلى فضل الذين أوتوا العلم بمناسبة ورود العبارة في الآية فرووا أحاديث متعددة منها حديث عن أبي الدرداء قال «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم. وإن السموات والأرض والحوت في الماء لتدعو له. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر

__________________

(١) من ابن كثير عن مسلم.

(٢) من ابن كثير.

(٣) من ابن كثير انظر أيضا التاج ج ١ ص ٥٣.

٤٨٥

على سائر الكواكب. وإن العلماء ورثة الأنبياء. لم يورثوا دينارا ولا درهما. وإنما ورثوا العلم. فمن أخذه أخذ بحظّ وافر» (١). ومنها حديث عن عبد الله بن عمرو جاء فيه «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرّ بمجلسين في مسجده ، أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إليه والآخر يتعلمون الفقه ويعلّمونه فقال كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه. أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إليه فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم. وأما هؤلاء فيتعلّمون الفقه ويعلّمون الجاهل فهؤلاء أفضل وإنما بعثت معلّما» (٢). ولقد روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «الكلمة الحكمة ضالّة المؤمن فحيث وجدها فهو أحقّ بها. وفي رواية من طلب العلم كان كفّارة لما مضى» (٣). وروي عن ابن أبي أمامة قال «ذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. ثم قال إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلّون على معلّم الناس الخير» (٤).

وفي كل ما تقدم عبر وحكم ومواعظ وتلقين للمسلمين في كل زمان ومكان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢)) [١٢].

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً)

عبارة الآية واضحة. وفيها أمر للمسلمين بأن يعطوا صدقة ما حينما يريدون

__________________

(١) النص من تفسير البغوي. وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي بخلاف يسير انظر التاج ج ١ ص ٥٤ ـ ٥٥.

(٢) من البغوي أيضا.

(٣) التاج ج ١ ص ٥٥ ـ ٥٦.

(٤) المصدر نفسه.

٤٨٦

أن يجتمعوا مع النبي اجتماعا خاصا ويتحدثوا معه في أمر ما. ففي ذلك خير وثواب لهم وتطهير لأنفسهم مع استثناء الفقراء الذين ليس معهم ما يعطونه. فإن الله غفور رحيم.

ولقد روى المفسرون (١) أن الناس سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأكثروا حتى شقّ عليه وثقل فأراد الله أن يخفف عنه فأمرهم بتقديم صدقة بين يدي أسئلتهم واستفتاءاتهم كما رووا أن الأغنياء كانوا يغلبون الفقراء على مجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنزل الله الآية ليكون فيها إفساح وتفريج للفقراء.

ولسنا نرى الروايات معقولة ولا مما يصح أن ينسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أننا لا نراها متسقة مع مضمون الآية. وليست واردة بعد في كتب الحديث المعتبرة.

ويتبادر لنا أن حكمة فرض هذه الصدقة بين يدي مناجاة أحد من المسلمين لرسول الله هو جعل مراجعات الناس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قضاياهم ومشاكلهم الخاصة وسيلة من وسائل أخذ بعض المال من ميسوريهم لإنفاقه على المحتاجين والمصالح العامة. أو بتعبير آخر وضع رسم قضاء وفتوى على نحو ما كان مألوفا ومعتادا عليه في القضاء العربي قبل الإسلام. وقد سمته الآية صدقة لأنه لم يكن لشخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي لم تحل له الصدقة (٢) ، وإنما أريد لمصلحة المسلمين العامة وفقرائهم. وقد كانت الزكاة تسمى صدقة أيضا وهي شريعة مفروضة. وتعبير (إِذا ناجَيْتُمُ) يفيد معنى الاجتماع الخاص من أجل عرض قضية أو مشكلة خاصة للاستفتاء أو التقاضي. ويجوز أن تكون حكمة التنزيل اقتضت ذلك حينما أخذت استفتاءات الناس الخاصة تكثر على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتكون تلك الوسيلة. ويجوز أن يكون ذلك انبثق في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولا فأيدته حكمة التنزيل قرآنا. وفي القرآن

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والخازن والزمخشري والطبرسي.

(٢) روى الشيخان عن أبي هريرة قال «أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال النبي كخ كخ ليطرحها ثم قال أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة ، ولمسلم أما علمت أنا لا تحل لنا الصدقة» التاج ج ٣ ص ٣٠.

٤٨٧

أمثلة لذلك على ما شرحناه في سياق آية البقرة التي فيها (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ...) [١٤٤] والله تعالى أعلم.

ولقد روى المفسرون حديثا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : «لما نزلت (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ ...) قال لي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ترى دينارا. قلت لا يطيقونه. قال فنصف دينار. قلت لا يطيقونه قال : فكم ، قلت حبة أو شعرة. قال إنك لزهيد» (١) وقد يكون في هذا الحديث الذي رواه الترمذي أيضا دعم لما تبادر لنا من حكمة التكليف. والله أعلم.

وإتماما للحديث نذكر أن في كتب الحديث الصحيحة أي كتب صحيحي البخاري ومسلم وسنن أبي داود وجامع الترمذي أحاديث عديدة تذكر قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الصدقة لا تحلّ له ولا لآله. ومصداقه ذلك في القرآن الكريم أيضا حيث لم يجعل لرسول الله نصيب في الصدقات كما جاء في آية سورة التوبة هذه : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [٦٠] بينما جعل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصيب خمس الغنائم كما جاء في آية سورة الأنفال هذه : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [٤١].

وجعل له نصيب في الفيء أيضا وهو ما عاد على المسلمين من الأعداء بدون حرب كما جاء في آية سورة الحشر هذه : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [٧] فتكون الصدقة التي أمر الله المسلمين بتقديمها بين يدي نجواه قد أريد بها مورد لبيت المال لإنفاقه على مصالح المسلمين وفقرائهم كما ذكرنا ، والله أعلم.

__________________

(١) انظر ابن كثير والبغوي وهذا الحديث ورد في التاج بدون حبة. انظر ج ٤ ص ٢٢٩ والشعرة وزن من أوزان الذهب.

٤٨٨

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣)) [١٣].

تعليق على الآية

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ)

ودلالتها على النسخ في القرآن وما فيها من

صور متصلة بالعهد النبوي في المدينة

عبارة الآية أيضا واضحة. وقد تضمنت :

(١) سؤالا إنكاريا منطويا على عتاب موجه للمسلمين على ما كان من إشفاقهم أو استثقالهم للصدقة التي فرضتها الآية السابقة لها على مناجاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم من عدم تنفيذهم الأمر.

(٢) وإيذانا بالتخفيف عنهم : فقد تاب الله عليهم وأعفاهم من ذلك. وعليهم إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله.

وقد روى المفسرون أن فرض الصدقة على المناجاة كان شديد الوقع والأثر على المسلمين فتكلموا في ذلك فأنزل الله الآية (١).

والرواية متسقة مع فحوى الآية وروحها. ومضمون الآية وأسلوبها يسند وجاهة حكمة التكليف التي ألمعنا إليها قبل فلو كان لتقليل مراجعة الناس للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لإفساح مجال المراجعة للفقراء لما كان وجه للعتاب والعدول لأن المقصود قد حصل.

وواضح أن الآية قد نسخت حكم الآية السابقة وهو ما عليه الجمهور (٢). ولقد روي عن مقاتل أن حكم الآية السابقة استمر عشر ليال ثم نسخ ، وروي عن

__________________

(١) انظر البغوي والخازن.

(٢) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.

٤٨٩

علي بن أبي طالب وقتادة والكلبي أن هذا الحكم لم يكن إلّا ساعة من نهار ثم نسخ (١). ومما روي أنه لم يعمل بالآية إلا علي بن أبي طالب نفسه حيث ناجى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصدق بدينار. وأن عليا قال إن آية المناجاة لم يعمل بها أحد قبلي ولا عمل بها أحد بعدي (٢). وهذا من أمثلة ما عليه الجمهور من وقوع نسخ في الأحكام القرآنية بأحكام قرآنية مع بقاء المنسوخ تلاوة على ما شرحناه في سياق آيات سورة النحل [١٠٠ ـ ١٠١] والبقرة [١٠٦]. على أن هناك من قال بعدم النسخ وإنما خفف في الآية التكليف عمن لا يريده وجعل على التخيير (٣). عبارة الآية تؤيد القول الأول كما هو المتبادر. والله أعلم.

ومن المحتمل أن تكون الآية قد نزلت عقب نزول الآية الثانية بدون فاصل قرآني فوضعت بعدها. وإلّا فيكون ترتيبها للمناسبة الموضوعية.

وفي الآية صورة لما كان يظهر من المسلمين من مواقف اللجاج والتلكؤ إزاء بعض التشريعات والتكليفات المالية والجهادية مما نبهنا عليه في سياق تشريع الأنفال ـ الغنائم الحربية ـ والفيء والجهاد في سور الأنفال والحشر والنساء. ونقول هنا ما قلناه في تلك المناسبات من أننا نرجح أن الذين استثقلوا التكليف الجديد وأشفقوا منه هم من المستجدين الذين كانوا يؤلفون أكثرية المسلمين وليسوا من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ، الذين سجل الله رضاءه عنهم ورضاءهم عنه في آية سورة التوبة [١٠٠] وسجلت آيات عديدة مكية ومدنية استغراقهم في دين الله وطاعته وطاعة رسوله ورويت أحاديث عديدة بفضلهم وإخلاصهم أوردناها في مناسبات سابقة وتواترت الأخبار بأنهم كانوا يبادرون إلى تلقي كل أمر رباني ونبوي بالإذعان والقبول. والتشريعات إنما تقوم على الأكثرية وهذه صورة اجتماعية عامة تظهر في مثل هذه المناسبات في كل وقت ومكان. وقد اقتضت الحكمة العدول عن التكليف بسبب ذلك.

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) انظر تفسير القاسمي.

٤٩٠

وفي المبادرة القرآنية أسوة حسنة لأولياء أمور المسلمين وحكامهم وزعمائهم فيما ليس فيه قرآن صريح أو معصية ومفسدة ، حيث ينبغي عليهم مسايرة ظروف ورغبات أكثرية المسلمين في العدول عما يكونون طلبوه أو أوجبوه من تكاليف وأعمال.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١)) [١٤ ـ ٢١]

تعليق على الآية

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ)

والآيات الست التي بعدها وما فيها من صور وتلقين

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تنديدا واستنكارا وحملة شديدة وإنذارا لفريق كانوا يتولون ويتحالفون مع قوم ليسوا منهم ولا من المسلمين. وكانوا إذا ما عوتبوا حلفوا الأيمان الكاذبة بسبيل نفي ما عرف عنهم. وقد قررت الآيات واقع أمرهم بكونهم كاذبين قد استحوذ عليهم الشيطان وغدوا من حزبه وصاروا من الخاسرين وانتهت بتقرير كون الله قد حكم على كل من يشاققه ويحادده الذل. وأن الغلبة ستكون لله ورسله حتما.

والآيات فصل جديد. وقد روي أنها نزلت في منافق اسمه عبد الله بن نبتل

٤٩١

كان يحضر مجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ينقل ما يجري فيها إلى اليهود ويشترك معهم في الغمز والسبّ والكيد. وقد جابهه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك فأخذ يحلف أنه لم يفعل (١).

والرواية متسقة إجمالا مع مضمون الآيات. غير أن الآيات تفيد أن الفريق المندد به أكثر من شخص واحد. وهذا لا ينفي احتمال صحة رواية مناسبة النزول ولكن يلهم أنه كان لهذا المنافق أمثال. فاقتضت حكمة التنزيل شمولهم جميعا بالحملة الشديدة التي احتوتها الآيات مع تطمين قوي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعد بالنصر والغلبة.

وهكذا تكون الآيات قد احتوت صورة من المواقف الخبيثة التي كان يقفها المنافقون في الكيد والأذى والتضامن والتآمر مع اليهود.

والراجح أن هذه الصورة غير الصورة التي احتوتها الآية الثامنة من هذه السورة وإن كان بينهما شيء من المماثلة.

ومن المحتمل أن تكون الآيات قد نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في ترتيبها.

والآيات قرينة أخرى على أنها نزلت قبل الفصل الذي احتوى خبر وقعتي الخندق وبني قريظة الوارد في سورة الأحزاب أو على أن فصل سورة الأحزاب المذكورة قد نزل بعدها. والله أعلم.

ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تلقينا أخلاقيا واجتماعيا مستمر المدى بتقبيح وتشنيع وحظر التناصر والتضامن مع أعداء الأمة والملة وعدم التساهل مع من يفعل ذلك والوقوف منهم موقف الشدة والصرامة.

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والاسم في تفسير البغوي.

٤٩٢

الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢)) [٢٢]

تعليق على الآية

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)

وما فيها من قوة تلقين وصورة واقعية وتطورية

عبارة الآية واضحة. وفيها تنزيه قوي لصادقي الإيمان : فإنه لا يمكن أن يقف قوم مؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا موقف الموالاة والموادة لمن يشاقّ الله ورسوله ويحاددهم ويناصبهم العداء. ولو جمعت بينهم أشد روابط القربى كالأبوة أو النبوة أو الأخوة أو العصبية الرحمية. وفيها تنويه قوي بهم وبشرى لهم فالله قد كافأهم على إخلاصهم فملأ قلوبهم بالإيمان وأيدهم بروح وقوة منه ورضي عنهم ورضوا عنه. ولسوف يدخلهم الجنات التي تجري تحتها الأنهار فتكون مثواهم الخالد. وإنهم حزب الله وإن حزب الله هم المفلحون.

ولقد ذكر المفسرون (١) أنها نزلت بسبيل التنويه بأبي بكر أو أبي عبيدة أو بمصعب بن عمير أو بعلي وحمزة رضي الله عنهم جميعا على اختلاف الروايات بسبب ما بدا منهم من موقف قوي شديد ضد آبائهم وذوي أرحامهم الكفار.

ونحن نتوقف في هذه الرواية التي لم ترد في كتب الحديث المعتبرة ونلحظ أن للآية اتصالا قويا بالآيات السابقة وأنها جاءت معقبة عليها بسبيل توكيد كون المخلصين في إيمانهم منزهين عن فعل ما يفعله المنافقون الذين حكت الآيات السابقة صورة من مواقفهم.

ومهما يكن من أمر فأسلوب الآية قوي أخّاذ نافذ إلى أعماق النفس. وأن

__________________

(١) انظر تفسير البغوي وابن كثير والخازن.

٤٩٣

روحها ومضمونها يلهمان أنها بالإضافة إلى ما هي بسبيل تقريره ـ من قبيل المقابلة والتساوق مع الآيات السابقة على ما رجحناه ـ تعني تلك الفئة الراسخة في إيمانها المخلصة في نصرتها لله ورسوله من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم وساروا على سيرتهم والذين لم يعد يؤثر في إيمانهم وإخلاصهم أي اعتبار من قربى ودم ومصلحة دنيوية ومادية لأنها فنيت في الله ودينه وتأييد رسوله. وإنها بالتالي احتوت صورة قوية ساطعة النور لهذه الفئة الكريمة الطاهرة التي التفت حول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وناصرته والتي قام الإسلام وتوطد على أكتافها بالدرجة الأولى بعد الله ورسوله. وهم الذين عنتهم آية التوبة هذه (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) [١٠٠] وآية التوبة هذه في اعتبار الصادقين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [١١٩] وحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا «الله الله في أصحابي ، الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضا بعدي فمن أحبّهم فبحبّي أحبّهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه» (١). وهذا الحديث «لا تسبّوا أحدا من أصحابي ، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» (٢). وهذا الحديث «ما من أحد من أصحابي يموت بأرض إلّا بعث قائدا ونورا لهم يوم القيامة» (٣).

ومع أن أسلوب الآية يلهم أن ما احتوته هو التشديد في النهي عن موادة من حادّ الله ورسوله مطلقا فإن من الممكن أن يلمح فيها شيء من التطور. فالآيات المكية رددت أكثر من مرة وجوب الاستمرار في احترام الوالدين ومعاشرتهما في الدنيا بالمعروف ولو كانا كافرين وعدم إطاعتهما في مسألة الشرك فقط (٤) وفي هذه

__________________

(١) روى الأول والثالث الترمذي وروى الثاني الأربعة انظر التاج ج ٣ ص ٢٧٢.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) آيات سورة لقمان [١٤ ، ١٥] والعنكبوت [٨].

٤٩٤

الآية نهي شديد عن موادة من حادّ الله ورسوله ولو كان والدا. وواضح أن هذا التطور يعلل بالموقف العدائي الحربي الذي انتهى إليه الأمر بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين والمهاجرين من جهة وكفار مكة من جهة أخرى وهو موقف لا يتحمل ملاينة ولا مهاودة ولا أي تساهل واتصال يضرّ بمصلحة الإسلام والمسلمين العامة. وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الآية يمكن أن تكون احتوت إيعازا للأنصار في صدد صلاتهم بأقاربهم من المنافقين الذين يصحّ عليهم وصف (مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ).

هذا ، وروح الآية ومضمونها يمدان المسلم في كل وقت بروح وعظة قويتين بوجوب الإخلاص لله ورسوله وبمنافاة موادة المسلم المؤمن للأعداء وموالاتهم منافاة تامة لأي اعتبار كان. وهي ميزان دقيق خالد لإيمان المؤمنين وإخلاصهم لمبادئهم وعقائدهم.

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا أخرجه ابن أبي حاتم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه «إنّ الله يحبّ الأخفياء ، والأتقياء ، والأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا وإذا حضروا لم يدعوا ، قلوبهم مصابيح الهدى ، يخرجون من كلّ فتنة سوداء مظلمة. فهؤلاء أولياء الله الذين قال الله (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)» ، وحديثا آخر أخرجه نعيم بن حماد جاء فيه «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو قائلا اللهمّ لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يدا ولا نعمة. فإني وجدت فيما أوحيته لي (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ)». حيث ينطوي في الحديثين صورة من التعليقات والتعقيبات النبوية على بعض الآيات وأهدافها ومضمونها وحيث ينطوي في ذلك في الوقت نفسه تلقين وحكمة وموعظة للمسلمين في كل زمان ومكان.

٤٩٥

سورة الحجرات

في السورة فصول تأديبية وتعليمية وأخلاقية واجتماعية وسياسية وسلوكية فيما يجب على المسلمين تجاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتجاه بعضهم. وفيها مشهد من مشاهد الأعراب في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتبجحهم بالإسلام. وميزان لصدق إيمان المؤمنين وإفساح المجال للأعراب لدخولهم حظيرة الإسلام والدولة الإسلامية.

والتساوق الموضوعي بين الفصول يسوّغ ترجيح نزولها دفعة واحدة أو متتابعة. أما المناسبات المروية لنزول آياتها فالراجح أنها حدثت قبل نزول السورة فكانت وسيلة لنزول آياتها.

وليس في السورة ما يساعد على القول بصحة ترتيبها وعدمه. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أنها نزلت بعد سورة المجادلة. ومعظم الترتيبات المروية مقاربة لذلك (١). فجارينا رواية المصحف الذي اعتمدناه. والله أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً

__________________

(١) انظر ترتيبات نزول السورة المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩.

٤٩٦

لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)) [١ ـ ٥]

(١) يغضون : هنا بمعنى يخفضون.

(٢) الحجرات : جمع حجرة وهي الغرفة ، والمقصود هنا مساكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي كانت في جانب مسجده.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١))

والآيات الأربع التالية لها وما فيها من صور وتلقين

في الآية الأولى : نهي للمسلمين عن أن يسبقوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأمر ما قولا أو عملا أو أن يبدوا رأيا في أمر قبله انتظارا لما يكون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قول وعمل ورأي والوقوف عنده. مع حثهم على تقوى الله تعالى السميع لكل ما يقال العليم بكل شيء الذي يجب مراقبته وعدم الخروج عن أمره ونهيه.

وفي الآية الثانية : نهي لهم عن رفع أصواتهم في حضوره حتى تعلو على صوته. وعن مخاطبته بالأساليب التي يخاطب بها بعضهم بعضا وعن الجهر أمامه بقول لا يليق مما قد يجهر به بعضهم أمام بعض. وتنبيه لهم على أن مثل التصرف من شأنه أن يحبط ويضيع ثمرات أعمالهم الحسنة عند الله من دون أن يشعروا على سبيل التحذير والعظة.

وفي الآية الثالثة : تنويه (على سبيل توكيد النهي في الآية الثانية والدعوة إلى التأسي) بالذين يخفضون أصواتهم في حضور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فهؤلاء قد طهر الله قلوبهم فجعلها تشعر بواجب تقوى الله والتأدب في حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولهم عند الله من أجل ذلك المغفرة وعظيم الأجر.

وفي الآيتين الرابعة والخامسة : تنديد بالذين ينادون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء حجراته حينما لا يجدونه في المسجد. فأكثرهم جاهلون لا يعقلون. ولو أنهم

٤٩٧

انتظروا وصبروا حتى يخرج إليهم حين يحين وقت خروجه لكان خيرا وأفضل. ومع ذلك فالله غفور رحيم يشمل أصحاب هذه الهفوة التي تصدر عن جهل وحسن نية بغفرانه ورحمته.

والآيات احتوت ثلاثة مواضيع متجانسة وتأديبية نحو شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما هو واضح. وقد روى المفسرون (١) لكل موضوع مناسبة خاصة. بل منهم من روى لبعضها أكثر من رواية ومناسبة. فرووا لمناسبة نزول الآية الأولى أو الموضوع الأول :

(١) أن وفدا من بني تميم قدم إلى المدينة فاقترح أبو بكر تأمير شخص منهم عليهم واقترح عمر تأمير شخص آخر فقال أبو بكر لعمر ما أردت إلّا خلافي ونفى عمر ذلك وتماريا حتى ارتفعت أصواتهما وكان ذلك في حضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقبل أن يسألهما رأيهما أو يبدي رأيه فكان ذلك سبب نزول الآية. وممن روى هذه الرواية البخاري عن عبد الله بن الزبير (٢).

(٢) وأنها نزلت بمناسبة صيام بعض المسلمين قبل أن يثبت هلال رمضان ويعلن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وجوب الصوم.

(٣) وأنها نزلت بمناسبة ذبح بعضهم يوم عيد الأضحى قبل أن يذبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ورووا لمناسبة الآية الثانية أو الموضوع الثاني أنها نزلت في مسلم اسمه ثابت بن قيس كان جهير الصوت فكان صوته يعلو على صوت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد روى الشيخان في فصل التفسير أنه لما نزلت الآية جلس في بيته منكسا رأسه فافتقده رسول الله فقال له رجل أنا أعلم علمه فذهب إليه فسأله ما شأنك؟ قال شرّ ، كان صوتي يرتفع فوق صوت رسول الله فحبط عملي وصرت من أهل النار ، فأتى الرجل النبي فأخبره فقال اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة (٣).

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري. ومنهم من روى بعض الروايات ومنهم من رواها جميعها أو معظمها.

(٢) التاج فصل التفسير ج ٤ ص ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٣) التاج ج ٤ ص ٢١٤. وفي التفسير رواية أخرى في نفس المآل وإنما تختلف في الصورة

٤٩٨

ورووا لمناسبة الآيتين الرابعة والخامسة :

(١) أن النبي بعث سرية إلى قوم فهرب رجالهم واستاقت السرية عيالهم سبيا. فلم يلبث رجالهم أن جاءوا إلى المدينة للتفاهم مع النبي وافتكاك السبي فدخلوا المسجد فلما رآهم عيالهم أجهشوا بالبكاء فأخذوا ينادون النبي من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته فنزلت. والرواية تروي أن النبي حكم في أمرهم رجلا مسلما من قومهم فاقترح أن يطلق النصف ويأخذ الفداء عن النصف فوافق النبي على ذلك.

(٢) وأنها نزلت في وفد تميم الذين قدموا إلى المدينة فلما لم يجدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المسجد أخذوا ينادونه من وراء حجراته بأصوات عالية حتى أيقظوه من قيلولته.

ومهما يكن من أمر فالمتبادر والمستلهم من مضمون الآيات وروحها أنها نزلت مستهدفة تأديب المسلمين وتعليمهم ما يجب عليهم من التكريم والتوقير لشخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاحتشام والأدب في حضرته في مناسبة حدوث ما روته الروايات من مناسبات أو ما كان من بابها. والذي نرجحه استئناسا من تجانس المواضيع وتساوق الآيات حتى لكأنها وحدة تامة أنها نزلت دفعة واحدة. وأنها نزلت بعد المناسبات جميعها التي نزلت في صددها ، استهدافا لذلك التأديب والتعليم. بل إننا نرجح أن هذه الآيات ومعظم ما بعدها من آيات السورة قد نزل دفعة واحدة أو متتابعة لأنها تحتوي ما تحتويه هذه الآيات من تأديب وتعليم ويتألف من مجموعها سلسلة تأديبية رائعة ومتساوقة.

والآيات الخمس التي نحن في صددها قد تدل : أولا : على ما كان عليه العرب إجمالا من عدم التقيد بمثل هذه الآداب مهما كان الفارق بينهم حيث كانوا يخاطبون الكبير والرئيس مخاطبة الندّ للندّ وبدون احتشام كبير. وثانيا : على أن

__________________

فلم نر ضرورة لإيرادها اكتفاء برواية الشيخين الوثقى.

٤٩٩

الفريق المخلص من المؤمنين قد امتلأت نفسه بعظمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحقه من التكريم فكان يراعي نحوه ما يجب عليه من الأدب قبل نزول الآيات.

هذا ، ومع تقرير كون واجب تكريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والاحتشام في حضوره ومخاطبته لا يدانيه واجب وكون الآيات خاصة بشخصه الكريم فإن هذا لا يمنع من أن يقال والله أعلم إن التأديب الرفيع الذي احتوته الآيات يصح أن يكون أدبا عاما وطابعا من طوابع الأدب الإسلامي.

كلمة عن حجرات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

من المتواتر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عقب حلوله في المدينة اشترى أرضا ومهدها وجعل لها سورا ذا أربعة أضلاع فيه أبواب وجعل القسم الأكبر منه مسجدا للصلاة والاجتماع بالمسلمين والقضاء بينهم وحلّ مشاكلهم وتعليمهم ووعظهم والتداول في شؤون الإسلام والدعوة واستقبال الوفود إلخ ، وجعل له سقفا من سعف النخل مقاما على أعمدة من جذوع الشجر. وأنشأ في أحد أضلاعه حجرة لسكناه ثم أخذ ينشىء إلى جانبها حجرات أخرى كلما زاد عدد زوجاته. وقد توفي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في إحداها الخاصة بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ودفن فيها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)) [٦ ـ ٨].

(١) عنتم : شقّ عليكم.

في الآيات :

(١) أمر للمسلمين بالتثبت فيما يأتيهم من الأخبار وبخاصة من طريق

٥٠٠