التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

هذا ما فعلتم بأنفسكم. أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم. أما والله لو أمسكتم عن جعال وذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم ولنحوا إلى غير بلادكم فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضوا من حول محمد. وكان في المجلس فتى اسمه زيد بن أرقم من الأنصار فقال له : أنت ـ والله ـ الذليل القليل المبغض في قومك ومحمد في عز من الرحمن عزوجل ومودة من المسلمين ، فقال له : اسكت فإنما كنت ألعب. فمشى زيد إلى رسول الله فأخبره الخبر ـ وعنده عمر بن الخطاب ـ فقال له : دعني أضرب عنقه يا رسول الله ، فقال له : كيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمدا يقتل أصحابه. ثم آذن بالرحيل في ساعة لم يكن رسول الله يرتحل فيها ، فارتحل الناس وأرسل رسول الله إلى ابن سلول فلما جاءه قال له : أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني فقال له : والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك وإن زيدا لكاذب. فقال من حضر من أصحابه : يا رسول الله عسى أن يكون الغلام وهم في حديثه ، فعذر النبي ابن سلول وفشت الملامة في الأنصار لزيد وكذبوه. وكان له عمّ فقال له : ما أردت إلّا أن كذبك رسول الله والناس كلهم يقولون إن عبد الله شيخنا وكبيرنا ولا يصدق عليه كلام غلام مفتون. فاستحيا الفتى وصار يبتعد عن رسول الله. وجاء أسيد بن حضير أحد زعماء الأوس إلى النبي فقال له : رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها ، فقال له : أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال وما قال؟ قال زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل ، فقال أسيد : فأنت والله يا رسول الله تخرجه إن شئت. هو الذليل وأنت العزيز. ثم قال يا رسول الله أرفق به فو الله لقد جاء الله بك وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه وإنه ليرى أنك استلبته ملكا. وبلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله فقال : يا رسول الله بلغني أنك تريد قتل أبي لما بلغك عنه فإن كنت فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه. فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرّ بوالديه مني وإنّي أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتله يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل نرفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا. وعاد النبي إلى المدينة وجلس زيد بن أرقم

٤٦١

في بيته لما به من الهمّ والحياء ، فأنزل الله سورة المنافقون في تصديق زيد وتكذيب عبد الله بن أبي. فلما نزلت أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأذن زيد ، وقال له : إن الله قد صدقك وأوفى بأذنك. وجاء قوم إلى عبد الله فقالوا له : قد نزل فيك آي شديد ، فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال : أمرتموني أن أؤمن فآمنت ، وأمرتموني أن أعطي زكاة مالي فأعطيت فما بقي إلّا أن أسجد لمحمد. فأنزل الله (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ). ولما بلغوا المدينة منع عبد الله بن عبد الله بن أبي أباه من دخولها ، وقال له والله لن تدخلها إلّا بإذن رسول الله ، ولتعلمن اليوم من الأعزّ من الأذلّ فجاء إلى رسول الله شاكيا ابنه فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن عبد الله : أن خلّ عنه حتى يدخل (١).

ولسنا نرى في هذا السياق مهما كان طويلا ما لا يتسق إجمالا مع الواقع ومع روح الآيات. وقد روته المصادر القديمة. ومنها ما رواه رواة عدول ، فسجل بعضه البخاري ومسلم والترمذي في مساندهم. وكل ما يمكن أن يلحظ فيه ما جاء من أن آية (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) قد نزلت بناء على رفض ابن سلول حينما نزلت الآيات الأخرى أن يذهب إلى رسول الله يستغفر له. والمعقول أن يكون بعض الناس اقترحوا عليه قبل نزول الآيات أن يذهب إلى النبي معتذرا مستغفرا فأبى ، فحكت الآيات هذا الموقف فيما حكته واحتوت

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن والزمخشري والتاج ج ٤ ص ٢٣٥ ـ ٢٣٦. رواية البخاري ومسلم والترمذي وطبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٠٤ ـ ١٠٧ وابن هشام ج ٣ ص ٣٣٤ ـ ٣٣٧ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٢٦٠ ـ ٢٦٤ ومعظم النص منقول عن تاريخ الطبري وتفسير البغوي. وهذا نصّ الحديث الذي رواه الشيخان والترمذي عن جابر قال «كنّا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال الأنصاري يا للأنصار. وقال المهاجر يا للمهاجرين فسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك فقال ما بال دعوى الجاهلية. قالوا يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار. فقال دعوها فإنها فتنة فسمع بذلك ابن أبي فقال فعلوها. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ. فبلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقام عمر فقال يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».

٤٦٢

بالإضافة إلى ذلك استطرادا إلى تقرير واقع المنافقين جميعهم والتنديد بهم وإنذارهم والتحذير منهم وتطمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه على النحو الذي شرحناه ، وبالأسلوب القوي الرائع الذي جاءت به.

ولقد كانت الأقوال الصادرة من زعيم المنافقين خطيرة جدا ، بل لعلها أشد ما صدر عن المنافقين خطورة وقحة وكيدا وصراحة على ملأ من الناس. ولذلك كانت الحملة عليهم متناسبة في شدتها مع هذه الخطورة ، واقتضت حكمة التنزيل أن تفرد من أجل ذلك سورة خاصة.

ومن الممكن أن يلمح في الآيات أن المنافقين كانوا معتدّين بأنفسهم وشاعرين بقوتهم نوعا ما برغم ما حكته عنهم من توكيد للنبي بإيمانهم برسالته. وهو ما كانوا يفعلونه في مختلف المناسبات والمواقف على ما مرت منه أمثلة عديدة وبخاصة في سورة النور السابقة لهذه السورة. ومثل هذا ملموح في الفصول التي احتوتها سور النور والنساء والأحزاب.

ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فإن جملة (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) التي جاءت مطلقة تظلّ مستمرة التلقين بما يوجده الإيمان في نفس المؤمن من القوة وتظل كذلك مستمرة فيض يستمد منه المسلمون شعور العزة ويحفزهم إلى إباء كل ضيم وهوان واعتبارهما متنافيين مع ما قرره لهم القرآن من عزة وكرامة واستعلاء.

هذا ، ولقد احتوت الآية [٣] تعليلا صريحا لطبع قلوب المنافقين وهو كونهم كفروا بعد إيمانهم نتيجة لسوء نيتهم وخبث طويتهم. وهذا متسق مع ما جاء في المناسبات المماثلة بالنسبة للكفار والمتكبرين مثل (وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) [النساء : ١٥٥] و (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ ...) [الأعراف : ١٠٠] و (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر : ٣٥] بحيث يزول بذلك ما قد يتبادر من وهم بسبب ما جاء في بعض الآيات من إطلاق مثل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [البقرة : ٦ ـ ٧].

٤٦٣

أما جملة (لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) فإن من الأولى أن يلحظ تقرير كون ذلك إذا ماتوا وهم على كفرهم ونفاقهم. لأن هناك آيات تذكر أن الله يقبل توبتهم إذا تابوا مثل آيات سورة النساء هذه (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦)). وقد جاءت هاتان الآيتان عقب سلسلة فيها حملة شديدة على المنافقين ، وفيها جملة من الجملة المذكورة هنا كما ترى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨)) والذي نرجحه أن كثيرا من المنافقين أخلصوا في إيمانهم بدليل أنهم كانوا عددا غير قليل وأقوياء في أوائل العهد المدني فأصبحوا عددا قليلا خائفين حذرين على ما ذكرته آيات في سورة التوبة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١)) [٩ ـ ١١].

(١) لو لا : هنا بمعنا هلّا

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ

ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩)) والآية التالية لها وما فيهما من تلقين

عبارة الآيات واضحة. وفيها :

(١) تحذير للمؤمنين من إلهاء أموالهم وأولادهم لهم عن ذكر الله ، لأن من يكن هذا شأنه فإنه من الخاسرين.

٤٦٤

(٢) وحثّ لهم على الإنفاق في سبيله وهم في سعة من الوقت والعمر. وقبل أن يداهمهم الموت فيندموا ويتمنوا على الله أن يؤخر أجلهم حتى يتصدقوا ويكونوا من الصالحين.

(٣) وتنبيه لهم بأن الندم والتمني لن يجدياهم شيئا لأن الله لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها ، وإنه لخبير بنواياهم وأعمالهم.

ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. ومع أن عبارتها مطلقة. وتبدو أنها فصل جديد. فإننا نرجح أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب والتفات ، لتلقين المؤمنين المخلصين ما هو الأمثل لهم ، والأحرى بهم في مناسبة ذكر مواقف المنافقين البغيضة ، وزجرهم وتقريعهم ولا سيما أن دعوة المنافقين إلى عدم الإنفاق على من عند رسول الله التي حكتها تلك الآيات هي دعوة إلى أقاربهم وذوي رحمهم وعشيرتهم من الأنصار. ومعظمهم كانوا مخلصين في إيمانهم بالله ورسوله.

والآيات في حدّ ذاتها جملة تامة. وأسلوبها قوي نافذ إلى القلوب والعقول. وهي مطلقة التوجيه فيكون ما فيها من أمر ونهي وتحذير شاملا لكل المسلمين في كل مكان ليكون ذلك خطتهم المثلى التي يسيرون عليها.

وأسلوب الآيات وفحواها يجعلاننا نقول هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة وبخاصة في سياق الآية [٣٧] من السورة السابقة التي فيها تنويه بالذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. وهو أن ما فيها من تحذير ونهي منصبان على الاستغراق في حبّ الأموال والأولاد استغراقا يؤدي إلى التقصير في واجب ذكر الله والإنفاق في سبيله. وليس على الاشتغال بالتجارة وكسب المال والاستمتاع بطيبات الحياة الدنيا والأولاد. فهذا مما أباحه القرآن للمسلمين في مواضع كثيرة صراحة وضمنا على ما نبهنا عليه في نطاق الاعتدال والقصد وعدم التقصير في الواجبات.

ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآيات رواية عن ابن عباس تفيد أن هذه

٤٦٥

الآيات هي في صدد الحج والزكاة وإيجاب فعلهما على المؤمنين في فسحة من العمر والوقت (١).

ولقد روى هذا الترمذي بهذه الصيغة «من كان له مال يبلغه حجّ بيت ربّه أو تجب عليه فيه الزكاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت. فقال رجل : يا ابن عباس اتق الله إنما يسأل الرجعة الكفار. قال سأتلو عليك بذلك قرآنا ، ثم تلا الآيات. فسأله الرجل فما يوجب الزكاة؟ قال : إذا بلغ المال مائتي درهم فصاعدا. فسأله فما يوجب الحج؟ قال الزاد والبعير» (٢).

وليس في هذه الصيغة ما يفيد أن الآيات في صدد أداء فريضتي الحج والزكاة كما هو ظاهر. وإنما أورد ابن عباس الآيات جوابا على سؤال في صدد تمني المسلمين المقصرين في واجبات الزكاة والحج الرجعة (٣).

وعلى هذا فإن ما ذكرناه في صدد صلة الآيات بسابقاتها واحتوائها خطة شاملة لكل المسلمين يظل في محلّه إن شاء الله.

__________________

(١) انظر كتب تفسير الطبري والخازن والبغوي وابن كثير والقاسمي.

(٢) انظر التاج ج ٤ ص ٢٣٧ فصل التفسير.

(٣) ننبه على أن ابن كثير أورد حديث ابن عباس هذا ثم قال «ورواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع. وأبو جناب الذي هو من رواة الحديث ضعيف». وابن كثير من أئمة الحديث.

٤٦٦

سورة المجادلة

في السورة تسفيه لعادة الظهار وتشريع فيها. وحكاية لشكوى وجدال امرأة مسلمة في سياق ذلك. وتنديد بفريق كان يتآمر بالسرّ بما فيه إثم وعدوان ، ونهي للمسلمين عن مثل هذا الخلق ، وتعليم لهم بما هو الأمثل بهم. وتعليم للمسلمين كذلك آداب المجالس. وتلقينهم الاهتمام بالأخلاق والعلم وأهلهما. ومشهد فيه حثّ للمسلمين على تقديم صدقات عند اجتماعهم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اجتماعا خاصا ، وحكاية لاستثقالهم ذلك وعتاب لهم ونسخ للتكليف بسبب ذلك. وحملة شديدة على المنافقين لموادتهم لمن غضب الله عليهم الذين تتفق الروايات والأقوال على أنهم اليهود. وتنزيه للمخلصين عن مثل هذا الموقف.

وبعض عبارات الحملة على المنافقين مشابهة لما ورد فيهم في السورة السابقة ، مما قد يكون قرينة على صحة ترتيب السورة بعد تلك.

ولقد احتوت السورة فصولا متنوعة : منها ما لا يلمح بينه وبين سابقه ولا حقه صلة موضوعية أو ظرفية. ومنها ما يمكن أن يلمح فيه مثل هذه الصلة.

وقد تكون هذه الفصول نزلت متعاقبة فوضع بعضها بعد بعض. وإلا فتكون السورة قد جمعت في وقت متأخر نوعا ما بعد أن تمّ نزول ما اقتضت الحكمة نزوله وجمعه في سورة واحدة من فصولها.

وجمهور المفسرين على أن الذين حكت بعض آيات السورة موالاة المنافقين لهم هم من اليهود. وفحوى الآيات قد يؤيد ذلك. وكذلك فإن هناك رواية يرويها معظم المفسرين تفيد أن اليهود كانوا من الفريق المتآمر بالسرّ بما فيه إثم وعدوان.

٤٦٧

ولما كان من بقي من اليهود في المدينة وهم بنو قريظة قد نكل بهم عقب وقعة الخندق على ما حكته بعض آيات سورة الأحزاب فيكون ذلك قرينة على أن بعض آيات السورة قد نزل قبل سورة الأحزاب أو على الأقل قبل فصلها الذي يشير إلى التنكيل بيهود بني قريظة.

وهناك مسألة مشتركة أخرى بين هذه السورة وسورة الأحزاب وهي عادة الظهار الجاهلية. فقد احتوى مطلع سورة الأحزاب تنديدا بهذه العادة ولكنه مترافق مع التنديد بعادة التبني الجاهلية. ثم احتوى تشريعا في إلغاء التبني دون الظهار. في حين أن التنديد بالظهار في هذه السورة رافقه تشريع. بحيث يحتمل أن يكون تنديد سورة الأحزاب هو السابق كخطوة أولى ثم جاء التشريع في هذه السورة كخطوة ثانية وبحيث قد يصح أن يكون في هذا قرينة على سبق فصل سورة الأحزاب على فصل الظهار في هذه السورة : والله أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤)) [١ ـ ٤]

في الآيات :

(١) إشارة إلى حادث شكوى امرأة إلى الله ورسوله من زوجها ومجادلتها في حالتها وإيذان بأن الله قد سمع قولها وسمع المحاورة التي دارت بينها وبين النبي.

(٢) والتفات تعنيفي إلى الذين يظاهرون من زوجاتهم. ووضع للأمر في

٤٦٨

نصابه الحق : فهن لسن بأمهاتهم وليست أمهاتهم إلّا اللائي ولدنهم. وإن تشبيه الزوجة بالأم وتحريم وطئها بهذا التشبيه ـ وهذا هو مفهوم الظهار (١) ـ هو منكر وزور يجب التوبة عنه. وحينئذ يعفو الله عن التائبين ويغفر لهم وهو العفو الغفور.

(٣) وتعقيب تشريعي في حالة الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا ، فيجب عليهم أن يعتقوا رقبة كفارة ، توبة قبل أن يتماس الزوجان جنسيا وحينئذ يحل لهم ذلك. فإذا لم يجدوا رقبة يعتقونها أو لم يستطيعوا شراء عبد وعتقه فعليهم أن يصوموا بدلا من ذلك شهرين متتابعين. فإذا لم يستطيعوا فعليهم أن يطعموا ستين مكسينا وقد انتهت الآيات بالتنبيه إلى وجوب الوقوف عند أوامر الله وحدوده وبإنذار الجاحدين بعذاب الله الأليم توخيا للتشديد في تسفيه هذا التقليد كما هو المتبادر.

تعليق على الآية

(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ

وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١))

والآيات الثلاث التالية لها وما ورد فيها من أحاديث وتعلق بها من أحكام

وما فيها من تلقين ودلالة على قوة شخصية المرأة العربية

لقد روى المفسرون (٢) سبب نزول هذه الآيات في خبر طويل ، رأينا من المفيد إيراده لما فيه من فوائد وطرائف وتلقين وأحكام ، حيث روي عن ابن عباس أن امرأة أنصارية اسمها خولة رآها زوجها أوس بن الصامت ساجدة في صلاتها ، فلما انصرفت أرادها فأبت عليه فغضب عليها فقال لها أنت عليّ كظهر أمي ثم ندم على ما قال ولكنه قال لها ما أظنك إلّا حرمت عليّ فقالت لا تقل ذلك. وأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاسأله. فقال إني أستحي منه فقالت دعني أسأله. فقال سليه فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت إن زوجي تزوجني وأنا شابة غانية ذات مال وأهل. حتى إذا أكل

__________________

(١) كان الزوج يقول لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي ، وبذلك يصبح وطؤها محرما عليه.

(٢) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير.

٤٦٩

مالي وأفنى شبابي وتفرق أهلي وكبر سني ظاهر مني. وقد ندم. فهل من شيء يجمعني وإياه فتنعشني به؟ فقال لها ما أراك إلّا حرمت عليه فقالت يا رسول الله والله الذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا. وإنه أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ فقال ما أراك إلّا حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء فجعلت تراجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإذ قال لها حرمت عليه هتفت قائلة إني أشكو إلى الله فاقتي وحاجتي وشدة حالي اللهمّ فأنزل على لسان نبيك. وكان هذا أول ظهار في الإسلام فقامت عائشة تغسل شقّ رأس رسول الله فقالت المرأة : انظر في أمري جعلني الله فداك يا نبي الله فقالت عائشة اقصري حديثك ومجادلتك أما ترين وجه رسول الله وكان إذا نزل عليه الوحي أخذه مثل السبات فلما قضي الوحي قال ادعي زوجك فتلا عليه الآيات قالت عائشة تبارك الله الذي وسع سمعه الأصوات كلها إن المحاورة لتحاور رسول الله وأنا في ناحية البيت أسمع بعض كلامها ويخفى عليّ بعضه. إذ أنزل الله الآيات. فلما تلاها على الرجل قال له هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ قال إذا يذهب مالي كله والرقبة غالية وإني قليل المال. قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين فقال والله يا رسول الله إني إذا لم آكل ثلاث مرات كلّ بصري وخشيت أن تعشى عيني قال فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال لا والله إلّا أن تعينني على ذلك يا رسول الله فقال إني معينك بخمسة عشر صاعا وأنا داع لك بالبركة فأعانه رسول الله ودعا له بالبركة.

وقد روى الخبر أصحاب السنن باختصار ليس فيه ما قد يلمح في هذا النصّ الطويل من تناقض حيث رووا عن خولة بنت مالك بن ثعلبة «قالت ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشكو إليه فجادلني فيه وقال اتقي الله فإنه ابن عمك فما برحت حتى نزل القرآن (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ...) إلخ فقال يعتق رقبة قالت : لا يجد. قال يصوم شهرين متتابعين قالت يا رسول الله : إنه شيخ كبير. قال فليطعم ستين مسكينا. قالت ما عنده شيء يتصدق به. قالت فأتي ساعتئذ بعرق من تمر قلت يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر. قال : قد أحسنت اذهبي فأطعمي عنه بها ستين مسكينا وارجعي إلى

٤٧٠

ابن عمك» (١).

ولقد جاء في أوائل سورة الأحزاب آية احتوت تسفيها لعادة الظهار. وقد ذكرنا في سياق تفسيرها مدلول هذه العادة وأسبابها وأثرها في الجاهلية فلا نرى حاجة إلى التكرار. والمتبادر أن آية الأحزاب نزلت قبل هذه الآيات ، فكانت خطوة أولى في تسفيه هذه العادة ثم جاءت هذه الآيات لتكون حاسمة في تشريع إبطالها.

ولقد تعددت الأقوال في تخريج جملة (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) صرفيّا وفقهيّا ونحويّا حتى اعتبرها بعضهم من مشكلات القرآن. ومن هذه الأقوال أنها بمعنى العودة إلى الوطء أو بمعنى الندم والعودة عما قالوا أو فيما قالوا أو بمعنى العودة إلى عادة الجاهلية فيعتبرون الظهار طلاقا أو بمعنى العودة إلى لفظ الظهار ثانية. أو بمعنى العودة إلى تحليل ما حرّموه ونقض ما أبرموه (٢).

ويبدو على ضوء الروايات الواردة أن أوجه الأقوال وأكثرها اتساقا مع فحوى الآيات كون الجملة بمعنى الندم والرغبة في العودة عما قالوا وتحليل ما حرموا ونقض ما أبرموا حيث جعل الله لهم فرصة لذلك بالكفارة قبل التماسّ.

وجملة (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) تكون في مقامها بمعنى إن الله تعالى حينئذ يعفو عمن ظاهر من امرأته فارتكب منكرا من القول وزورا.

نقول هذا ونحن غير مطمئنين تماما إلى كون معنى (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) هو (ثم يعودون عما قالوا) لأن في السورة آية تأتي بعد قليل فيها تعبير مماثل ولا يمكن أن يؤول بهذا التأويل ، فضلا عن كون هذا التأويل غير مستقيم لغويّا. وهي (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ) [المجادلة : ٨].

وقد كان الأوجه أن تؤول تأويلا يتسق مع ذلك فيكون معنى الجملة (ثم

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٨٨ فصل التفسير ، وأصحاب السنن هم : أبو داود والترمذي والنسائي. وفي تفسير ابن كثير صيغ أخرى لرواية هذا الحادث مختلفة في التفصيل متفقة في النتائج فاكتفينا بما أوردناه.

(٢) انظر تفسير الطبري والطبرسي والبغوي وابن كثير والخازن والزمخشري.

٤٧١

يعودون إلى المظاهرة مرة أخرى) وتكون جملة (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) في صدد عفو الله عن الذين صدر منهم المظاهرة قبل نزول الآيات لو لم ترد الروايات التي روى جوهرها أصحاب السنن بالأسلوب الذي وردت به. والله أعلم.

والمستفاد من أقوال المفسرين أنه لا يترتب كفارة على من لا يريد أن يعود إلى معاشرة زوجته جنسيا. وقد يكون هذا متسقا مع فحوى الآية. غير أن المتبادر أن الزوج في مثل هذه الحالة يظل موضع سخط الله المنطوي في الآيات لأنه قال منكرا من القول وزورا ولم يرجع عنه ليستحق عفو الله وغفرانه.

ولقد قال الزمخشري إن المظاهر إذا امتنع عن الكفارة فلا مرأته أن تراجع القاضي وعلى القاضي أن يجبره على الكفارة وأن يحبسه حتى يكفر. لأن في امتناعه ضررا بحق زوجته. ولا يخلو هذا من وجاهة. لأن فيه حماية للمرأة التي استهدفها القرآن والسنة في مختلف المناسبات على ما مرّ التنبيه عليه. لو لا أن تكون مسألة حبس المظاهر حتى يكفر تتحمل التوقف. فقد لا يكون في استطاعته التكفير وقد يظل مصرا على عدم التكفير ولا يعقل أن يظل محبوسا إلى آخر العمر.

ولم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه فرض حالة إصرار الزوج المظاهر على الامتناع عن الكفارة. ولم نطلع في ذلك على أثر نبوي أو راشدي. ولما كان من أهداف الظهار في الجاهلية تعليق الزوجة حتى لا تكون زوجة ولا مطلقة كالإيلاء على ما شرحناه في سياق آيات سورة البقرة [٢٢٦ ـ ٢٢٧] وآية سورة الأحزاب [٤] فالذي يتبادر لنا أن هذه الحالة تقاس على حالة الإيلاء. وآيات الإيلاء في البقرة جعلت لهذه الحالة مدة أربعة أشهر فإما أن يراجع الزوج زوجته وإما أن تعد طالقة منه طلقة بائنة على ما شرحناه أيضا في سياق شرحها. فيصح والحالة هذه أن يقال إن على المظاهر إما أن يكفر ويعود إلى معاشرة زوجته وإما أن تطلق منه طلقة بائنة. ولما لم يكن للكفارة مدة فإن للحاكم أن يعين مدة لها فإذا لم يكفر المظاهر خلالها ويعود إلى زوجته طلق الزوجة منه طلقة بائنة حماية لها من بقائها معلقة لا زوجة ولا مطلقة. وقد يصح أن تجعل المدة القصوى للإيلاء

٤٧٢

مدة قصوى للظهار بحيث يطلق القاضي عليه إذا لم يكفر المظاهر خلالها أو تطلق منه طلقة بائنة تلقائيا. والله أعلم.

وفي كتب التفسير تعليقات وتفريعات أخرى حول هذه المسألة كثير منها معزوّ إلى ابن عباس ولبعض التابعين وإلى الأئمة أبي حنيفة والشافعي والحنبلي والمالكي وأبي يوسف. وبينها خلاف. نوجز أهمها مما يتصل بفحوى الآيات فيما يلي مع التعليق عليها بما يعنّ لنا (١) :

١ ـ من الأئمة من قال إن الظهار يتحقق والكفارة تصبح واجبة إذا قال الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي أو كبطن أمي أو كفخذ أمي ، أي دون أن يقتصر على الظهر.

وقد لا يخلو هذا من وجاهة من حيث القياس والهدف. مع التنبيه على أن الظهار الجاهلي الذي هو المقصود كان يستعمل فيه الظهر. ومنه جاءت التسمية.

٢ ـ من الأئمة من قال إن الظهار يتحقق والكفارة تصبح واجبة إذا قال الرجل لامرأته أنت عليّ كظهر أختي أو بنتي أو عمتي أو خالتي ، أي ما هو محرم عليه نكاحه من النساء. ومنهم من قال إن الظهار لا يتحقق إلّا بتشبيه الزوجة بالأم أخذا بنصّ الآية. وهذا القول هو الأوجه المتسق مع النصّ. وإن كان القول الأول قد يكون صحيحا من حيث القياس والهدف أيضا.

٣ ـ ومنهم من قال إن الظهار لا يجعل الوطء فقط محرما قبل الكفارة بل يجعل كل نوع من الاستمتاع ببدن المرأة أيضا حراما. ومنهم من قال لا يحرم إلّا الوطء فقط. وكلا القولين وجيه ، وإن كنا نرجح الثاني لأن الآية إنما نهت عن التماس قبل الكفارة. والتماس هو الوطء على ما يستفاد من آيات في سورتي البقرة والأحزاب عبر بها عن الوطء بالمسّ (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) [البقرة : ٢٣٦] و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) [الأحزاب : ٤٩].

__________________

(١) انظر الخازن بخاصة لأنه استوعب أكثر المسائل.

٤٧٣

ولقد روى المفسرون حادثة بصيغ عديدة جاء في إحداها «أن سلمة بن صخر البياضي قال : كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان فبينما هي تحدثني ذات ليلة إذ تكشف لي منها شيء فلم ألبث أن نزوت عليها فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت لهم : امشوا معي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : لا والله فانطلقت إلى رسول الله فأخبرته فقال : أنت بذاك يا سلمة قلت : أنا بذاك يا رسول الله مرتين وأنا صابر لأمر الله فاحكم بما أمرك الله به ، قال : حرّر رقبة قلت : والذي بعثك بالحق نبيا ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي ، قال : فصم شهرين متتابعين ، قال : وهل أصبت بالذي أصبت إلّا من الصيام ، قال : فاطعم وسقا من تمر ستين مسكينا ، قلت : والذي بعثك بالحق نبيا لقد بتنا وحشين لا نملك لنا طعاما. قال : فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق (أي الموظف) فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينا وسقا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي ووجدت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السعة وحسن الرأي وقد أمر لي بصدقتكم» (١) وقد روى هذا النص أبو داود والترمذي أيضا (٢) وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي حديثا آخر من هذا الباب عن ابن عباس جاء فيه (أن رجلا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله إني قد ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر فقال : وما حملك على ذلك يرحمك الله؟ قال؟ رأيت خلخالها في ضوء القمر قال : فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به» (٣). والحديثان من الأحاديث المعتبرة حيث يمكن أن يقال في هذه الحالة إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى من الحكمة أن يهون على الرجل في أمر جرى وانقضى ولا سيما أن التشريع القرآني جاء لإلغاء تقليد الظهار الجاهلي وما يترتب عليه من تحريم وطء الزوجة. وإن الكفارة قد شرعت

__________________

(١) النص منقول عن الخازن وقد أورده البغوي بخلاف يسير.

(٢) التاج ج ٢ ص ٣٢٣.

(٣) المصدر نفسه ص ٣٢٢ وأورد هذا الحديث بخلاف يسير ابن كثير والزمخشري أيضا. وفي نصّ الزمخشري ورد اسم سلمة بن صخر حيث قد يفيد هذا أن الحادث واحد.

٤٧٤

كعقوبة على من يظاهر امرأته ويحرم على نفسه وطئها تبعا لذلك.

ومع ذلك فالواضح من نصّ الحديثين وروحهما أنهما لا يبيحان الوطء قبل الكفارة ، حيث تظل القاعدة الحكمية وهي حرمة الوطء قبل الكفارة محكمة. والله أعلم.

وفي ما جرى من حوار بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلمة الوارد في الحديث الأول ومساعدة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم له على الكفارة من بيت المال ما يفيد إيجاب تنفيذ أمر الله بالكفارة بأية وسيلة كانت وعدم جواز تركها واستحلال وطء الزوجة بدونها. وإيجاب مساعدة بيت المال لغير القادرين على الصوم على الكفارة المالية ولو بإطعام ستين مسكينا. والله أعلم.

٤ ـ من الأئمة من أجاز عتق رقبة كافرة أو ذمية لأن العبارة القرآنية مطلقة. ومنهم من لم يجز ذلك قياسا على كفارة قتل الخطأ المشابهة بعض الشيء لكفارة الظهار باستثناء إطعام ستين مسكينا والتي قيدت الرقبة في الآية التي وردت فيها بقيد مؤمنة (فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ ...) [النساء : ٩٢] والقول الثاني هو الأوجه فيما نرى إلا في حالة عدم وجود رقبة مؤمنة.

٥ ـ اتفق الأئمة على أن كفارة الظهار تتكرر كلما تكرر صدوره إلّا إذا كان التكرار في مجلس واحد. وهذا وجيه وصواب. وقد يكون من الصواب أيضا أن التكرار لو لم يكن في مجلس واحد وكان قبل الكفارة كفت كفارة واحدة والله أعلم.

٦ ـ أكثر الأئمة على أن ترتيب أنواع الكفارة واجب المراعاة فالأوجب هو تحرير رقبة أولا فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا. وهذا حق متسق مع نص الآيات وروحها.

غير أن هناك من أجاز الإخلال بالترتيب لمعذرة. فأجاز الصيام دون عتق الرقبة لمن عنده رقبة إذا كان لا يستغني عنها أو لمن عنده ما يشتري به رقبة إذا كان لا يستغني عن ثمنها لنفقة عياله. وأجاز الانتقال من الصيام إلى إطعام الطعام لمن اشتد به الشبق ولم يستطع الصبر إلى الانتهاء من صيام الشهرين. ولسنا نرى في

٤٧٥

هذا بأسا أيضا عملا بالمبادىء القرآنية التي أباحت المحظور للمضطر. ولم تكلف نفس إلّا وسعها على ما مرّ شرحه في مناسبات عديدة سابقة.

٧ ـ وهناك من أجاز لمن لم يقدر على عتق الرقبة وصيام شهرين متتابعين وأراد إطعام المساكين الستين أن يطأ زوجته قبل الإطعام أيضا استنباطا من تأخير هذا عن العملين الأولين في ترتيب النصّ القرآني. ونرى في هذا بعدا عن روح الآيات لأن جملة إطعام الطعام تابعة للكلام الأول ومعطوفة عليه وتتمة له.

٨ ـ وهناك من أساغ وطء زوجته في ليالي صيامه الشهرين لأنه باشر القيام بواجب الكفارة. ونقول هنا ما قلناه في صدد القول الأول.

٩ ـ والمستفاد من أقوال المفسرين المعزوة إلى أئمة الفقه أو الواجب هو إطعام ستين مسكينا طعام يوم كامل من الطعام الذي يقتات به أهل البلد. وهو صواب. ومنهم من أجاز إطعام مسكين واحد ستين يوما ومنهم من أوجب مراعاة النصّ القرآني وهو الأوجه فيما نرى.

هذا ، وفي الآيات أمور جديرة بالتنبيه والتعليق :

فأولا : إنها توخت رفع الحيف والظلم عن المرأة وكانت مظهرا آخر من مظاهر عناية القرآن بها.

وثانيا : إن في الكفارة المفروضة وسيلة إلى تحرير العبيد والبرّ بالمساكين. وهذا وذاك مما حثّ عليهما القرآن في مواضع عديدة.

وثالثا : إن الآية الأولى بخاصة احتوت صورة قوية لشخصية المرأة العربية المسلمة في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مجادلتها عن حقها ومحاولة دفع الضيم عنها وفي ما انتهى الموقف إليه من سماع الله لقولها وإنزاله قرآنا بإنصافها وحمايتها. وفي هذا سند يسند حق المرأة المسلمة في الدفاع عن نفسها ، واحترام هذا الحق وما يترتب عليه من التسليم لها به من قبل أولياء الأمر والأفراد والأزواج. وفيه أسوة حسنة دائمة للمرأة المسلمة تتأسى به في كل ظرف ومكان في الجرأة والدفاع عن حقها أمام أولياء الأمر والأفراد والأزواج. وفيه دليل على أن المرأة العربية

٤٧٦

المسلمة كانت في حالة عقلية وشخصية تجعلها تقف مثل هذا الموقف. وفي القرآن والآثار أدلة كثيرة مؤيدة. وقد مرّت أمثلة منها في المناسبات السابقة.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦)) [٥ ـ ٦].

(١) يحادّون : يشاقّون ويعادون.

(٢) كبتوا : ذلوا وخزوا وأهلكوا.

عبارة الآيتين واضحة. وفيهما تقرير إنذاري وتنديدي بالذين يشاقون الله ورسوله : فهؤلاء مصيرهم إلى الذل والخزي والهلاك كما كان مصير أمثالهم من قبلهم. والله إنما ينزل آياته واضحات ليتعظ الناس بها والكافرون هم الذين لا يتعظون بها. فلهم عند الله العذاب الأليم. ولسوف يبعثهم جميعا إليه وينبئهم بأعمالهم فيرونها محصاة عليهم في حين قد يكونون هم أنفسهم نسوها وذهلوا عنها. لأن الله لا يخفى عليه شيء. وهو شهيد ومطلع على كل شيء.

ولم نطلع على رواية في صدد نزول الآيتين. وهناك احتمالان : الأول أن تكونا معقبتين على السياق السابق الذي انتهى بتقرير كون ما جاء فيه هو حدود الله وبإنذار الكافرين بعذاب أليم. والثاني أن تكونا بداية ومقدمة للسياق الآتي الذي احتوى تنديدا بفريق من المتظاهرين بالإسلام كانوا يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول.

وكلا الاحتمالين وارد بنفس القوة. فإذا صح الاحتمال الأول تكون الصلة قائمة بين الآيتين وما سبقها. وفي حالة صحة الاحتمال الثاني فمن المحتمل أن تكون الآيات نزلت عقب الآيات السابقة فوضعت بعدها في السورة. وإلّا فتكون وضعت بعدها لما يجمع بينها وبين سابقها من إنذار الكافرين. والله أعلم.

٤٧٧

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠)) [٧ ـ ١٠].

(١) نجوى : اجتماع سرّي أو مساررة حديث.

(٢) يتناجون : يتسارّون أو يتحدثون في مجالسهم السرّية.

(٣) لو لا : هنا بمعنى هلّا للتحدي.

تعليق على الآية

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ)

والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من صور خبيثة

عن اليهود والمنافقين وما فيها من تحذير وتلقين

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

(١) تقريرا وتوكيدا بعلم الله تعالى لكل ما يعمله الناس بالسرّ والعلن مهما بالغوا بالتخفي والمساررة وكونهم تحت رقابته الدائمة الشاملة.

(٢) وتنديدا بفريق من الناس نهوا عن الاجتماعات السرّية فلم ينتهوا وظلوا يعقدون هذه الاجتماعات ويتحدثون فيها بما فيه الإثم والعدوان ومعصية الرسول. ثم بلغ من تحديهم وسوء أدبهم أنهم كانوا إذا جاءوا إلى الرسول حيّوه بغير تحية الله وقالوا في أنفسهم هلّا عذبنا الله على ما نقول ونفعل.

٤٧٨

(٣) وتحذيرا للمؤمنين المخلصين من مثل ذلك وحثّا على عمل ما هو الأمثل بهم وهو التناجي بما فيه البرّ والتقوى إذا اجتمعوا في مجالس خاصة وتقوى الله الذي سوف يحشرون إليه.

(٤) وتنبيها تطمينيا لهم : فإذا تسارر فريق من الناس بما فيه إثم وكيد فالشيطان هو الذي يوسوس لهم بذلك ليحزنهم. غير أنهم لن يضروهم بشيء إلّا بإذن الله وعليهم أن يتكلوا عليه فهو وحده الذي يتوكّل عليه المؤمنون.

والآيات فصل جديد كما هو المتبادر إلّا احتمال كون الآيتين السابقتين مقدمة له. والمتبادر أن الآية الأولى منها في مثابة تمهيد أو مقدمة للآيات الثلاث التالية لها.

وقد روى المفسرون (١) أن الآية الثانية نزلت في جماعة من المنافقين واليهود كانوا يعقدون مجالس خاصة يتحدثون فيها بما فيه كيد وتآمر على النبي والمؤمنين وكانوا يفعلون هذا في ظروف الأعمال الجهادية والأزمات ، وإذا مرّ بهم فريق من المؤمنين المخلصين غمزوا نحوهم فكان ذلك يثير الهمّ والقلق فيهم فشكوا إلى رسول الله. كما رووا أنها عنت أيضا اليهود الذين كانوا يستعملون جملة (السام عليكم) بدلا من السلام عليكم إذا دخلوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وهناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة أم المؤمنين قالت «دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا السام عليكم ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة فقال رسول الله مهلا يا عائشة فإن الله يحبّ الرفق في الأمر كلّه فقلت يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟ قال فقد قلت وعليكم» وفي رواية لمسلم «فسمعت عائشة فسبّتهم فقال رسول الله مه يا عائشة فإن الله لا يحبّ الفحش ولا التفحّش فأنزل الله عزوجل (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ)» (٢).

وهكذا تكون الروايات والحديث قد قسمت الآية الثانية إلى قسمين وجعلت

__________________

(١) انظر البغوي والخازن والطبرسي وابن كثير.

(٢) التاج ج ٥ ص ٢٢٧.

٤٧٩

لنزول كل قسم مناسبة خاصة ، هذا في حين أن قوة الانسجام ظاهرة بين الآيات الأربع بحيث تسوغ ترجيح نزولها دفعة واحدة.

وهذا لا ينقض صحة الحديث والرواية حيث يصح القول إن ما روي جميعه قد وقع قبل نزول الآيات مع شيء آخر هو ما تفيده الآية الثانية من نهي الفريق المعني فيها عن التناجي الآثم فلم يرتدع فاقتضت حكمة التنزيل إنزال الآيات الأربع منبهة منددة منذرة مرشدة ومطمئنة.

ولقد روى الترمذي في فصل التفسير حديثا عن أنس قال «أتى يهوديّ على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه فقال السام عليكم فردّ عليه القوم فقال نبي الله هل تدرون ما قال هذا؟ قالوا الله ورسوله أعلم. سلّم يا نبي الله. قال لا ولكنه قال كذا وكذا ردوه عليّ فردوه فقال قلت السام عليكم. قال نعم. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ذلك إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا عليك ما قلت قال (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ)» (١).

ومع أن الرواية والأحاديث تذكر أن اليهود هم الذين كانوا يحيون النبي بما لم يحيّه به الله فإن الجملة القرآنية شاملة للذين حكت تناجيهم بالإثم والعدوان وروت الرواية أنهم كانوا فريقا خليطا من المنافقين واليهود فإما أن تكون الآية احتوت الإشارة إلى هذا في مناسبة التنديد بتناجي هذا الفريق الخليط الآثم. أو أن المنافقين أيضا صاروا يقلدون اليهود في تحيتهم الخبيثة.

وإذا صحّ أن المنافقين كانوا فريقا من المتناجين مع اليهود فيكون هذا قرينة على أن هذا الفصل قد نزل قبل الفصل الذي احتوى خبر وقعتي الخندق والتنكيل ببني قريظة الواردة في سورة الأحزاب أو على أن فصل سورة الأحزاب المذكور نزل بعده على ما نبهنا عليه في مقدمة السورة.

وعلى كل حال ففي الآية الثانية بخاصة صورة للمواقف الخبيثة التي كان

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٢٨ ـ ٢٢٩.

٤٨٠