التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

ولقد روى الشيخان وأبو داود والترمذي حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» (١) حيث يفيد هذا الحديث أن البواقي من تقسيم التركة حسب أحكام الآيات يعطي للأقرب فالأقرب إلى المتوفى من عصبته الذكور فقط الأخوة فأبناء الأخوة فالأعمام فأبناء الأعمام إلخ وأن الخال يأتي إذا لم يكن له عصبة ذكور. وهناك اصطلاح يستعمله علماء الفرائض ، وهو الحجب ويريدون به القول بأن وجود طبقة من القرابة يحجب طبقة أخرى يحق لها أن ترث لو لم تكن الأولى موجودة. وقد جعلوا الحجب نوعين حجب نقصان وحجب حرمان. فمن الأول أن الولد يحجب الزوج من نصف تركة زوجته إلى الربع والزوجة من ربع تركة زوجها إلى الثمن. ويحجب الأب من الثلثين والأم من الثلث إلى السدس لكل منهما. والأخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس إذا لم يكن للميت ولد وورثه أبواه. ومن الثاني سقوط حق الأخوة للأم وأولاد الأم بالأب والجد وبالولد وولد الابن وسقوط حق الأخوة للأم والأب بالأب والأم والابن وابن الابن ...

وبمناسبة الحجب ننبه على أننا لم نطلع على أثر نبوي عن مدى كلمة (إِخْوَةٌ) في جملة (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) في الآية الأولى. وفي هذه الجملة مسألتان ، الأولى مسألة عدد الأخوة الذين يحجبون الأم من الثلث إلى السدس. والثانية مسألة السدس الذي ينقص من نصيب الأم. ففي المسألة الأولى روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله والتابعين قولين : أحدهما أن العدد الحاجب هو ثلاثة على الأقل أخذا بمدى جمع (إخوة) وثانيهما اثنان أخذا بجواز استعمال صيغة الجمع للاثنين. والجمهور على ما يستفاد من أقوال المفسرين هو على القول الثاني ويكون الأخ الواحد أو الأخت الواحدة غير حاجب. ويرد على بالنا خاطر وهو أي كلمة (الإخوة) للجنس فإذا صحّ هذا فيكون وجود أخ أو أخت فقط حاجبا أيضا والله تعالى أعلم. وفي المسألة الثانية الجمهور على أن

__________________

(١) المصدر السابق نفسه ص ٢٣٣.

٤١

السدس الذي ينقص من الأم يعود إلى الأب لأنه أولي ذكر في العصبة دون الإخوة.

ونكتفي بما تقدم (١) وفيه سداد للفراغ والاقتضاب والإطلاق الملحوظ في الآيات دون تبسط في التفريعات والاصطلاحات والاستنباطات والتطبيقات لأنه خارج عن منهج التفسير.

هذا ، ومما يحسن لفت النظر إليه أن هذه الأحكام قد غيرت وعدلت ما كان جاريا قبل نزولها في أمر الميراث مما كان فيه تموج وجنف. فقد كان حق الآباء والأقربين حائرا أو غير ثابت حتى لقد اقتضت حكمة التنزيل التعجيل بالأمر بوجوب الوصية للوالدين والأقربين في آيات سورة البقرة [١٨٠ ـ ١٨٢] وكان كذلك حق الإناث في مختلف حالاتهن أمهات كنّ أو بنات أو بنات أو زوجات أو أخوات حائرا غير ثابت وعرضة للتهضم والإنكار. فثبتت الآيات حق الوالدين وحق المرأة في جميع حالاتها وحق الأقربين على أساس الأقرب فالأقرب عصبة بقطع النظر عن كونهم ذكورا وإناثا وصغارا وكبارا وضعفاء وأقوياء وليس فيها غبن ولا إجحاف في حق أحد.

ونريد أن نخصّ مسألة نصيب الأنثى في هذا المقام بكلمة لأن الأغيار غمزوا الشريعة الإسلامية بسبب جعلها نصيب الذكر ضعف نصيبها. مع أن الحكمة في ذلك ظاهرة بليغة وفيه كل الحق والإنصاف بل وربما كان فيه الإحسان الذي يفوق العدل. فالأنثى في غالب أحوالها مضمونة النفقة من ابنها أو أبيها أو زوجها بل أو أخيها. وحينما لا تكون كذلك فإنها لا تكون في الغالب مكلفة بغير نفسها. وذلك بعكس الذكر المكلف دائما بالإنفاق عليها وعلى أسرته مما هو مشاهد وممارس في مختلف الأدوار والبيئات دون استثناء. فإذا أضيف إلى هذا أن القرآن قد اهتمّ اهتماما عظيما بتثبيت حقها الذي كان ضائعا أو حائرا وحماها من الظلم والإجحاف ظهر أن في الغمز أو النقد قلبا للحقيقة وغضا لمزايا الشريعة الإسلامية

__________________

(١) في تفسير الخازن خاصة بسط واسع.

٤٢

على طول الخط. ومهما تطورت البشرية فلن يأتي طور فيما نعتقد تنعكس فيه الحالة ويكون الرجل عالة على المرأة أو تكون المرأة هي المنفقة على الأسرة دونه في الأعم الأغلب. وكل ما يحتمل أن يكون أن طوائف من النساء يعوّلن على كسبهن في معيشتهن فتقل رغبتهن في التقيد بقيد الزواج أو يطرأ على زوج مانع قاهر من صحة وظرف فتبذل الزوجة جهدها في الكسب للإنفاق على الأسرة أو للمشاركة في الإنفاق. وهذا لن يغير ما قررناه ويخفف من مسؤولية وأعباء نفقة الأسرة والمرأة عن ظهر الرجل. وواضح من هذا الشرح أن عدم تسوية المرأة بالرجل في الميراث ليس من شأنه أن يخل بما قرره الله ورسوله لها من أهلية تامة ومركز متساو مع الرجل في مختلف المجالات الأخرى.

كذلك نريد أن نلفت النظر إلى ما في الأمر باحترام وصية المرأة المورثة المتوفاة وتنفيذها وتسديد ديونها من دلالة على ما وطده القرآن من شخصية المرأة وحقوقها وأهليتها التصرفية المدنية والمالية على قدم المساواة مع الرجل. فهي ترث كما يرث ، وتوصي كما يوصي ، وتستدين كما يستدين ، وتمتلك كما يمتلك استقلالا عنه ؛ مما كان في الوقت الذي نزل فيه القرآن مفقودا كل الفقد في سائر أنحاء العالم المتحضر فضلا عن غيره ، وظل كذلك بمقياس واسع بعده إلى أمد قريب. بل ما يزال بعض الأمم المتحضرة لم تحققه!

ولقد عدّ جمهور العلماء والمفسرين أن الآيات قد نسخت أحكام آيات الوصية الواردة في سورة البقرة التي أشرنا إليها قبل قليل بالنسبة للذين جعلت لهم نصيبا مفروضا من تركة أمواتهم أي الوالدين والأقربين الأدنين وجاء الحديث النبوي «لا وصية لوارث» (١) مؤيدا لذلك وبقي حكم وجوب الوصية بالنسبة لمن ليس له نصيب محكما وهذا صواب. وقد نبهنا عليه في سياق شرح آيات البقرة المذكورة. والحديث المذكور وتوكيد وجوب تنفيذ وصية الميت في هذه الآيات دليل على بقاء وجوب الوصية لمن ليس له نصيب محكما. ولقد حددت السنة

__________________

(١) أوردنا نصّه في مناسبة سابقة وانظر التاج ج ٢ ص ٢٤٣.

٤٣

النطاق الذي يجب أن لا تتعداه الوصية. وقد شرحنا ذلك وأوردنا ما في صدده من أحاديث في سياق شرح آيات البقرة فلا نرى محلا للزيادة أو الإعادة.

وتكرار توكيد وجوب تنفيذ وصية المورث وتسديد ديونه وتقديم ذلك على حقوق الوارثين ذو مغزى خطير بما فيه من الاتساق مع مقتضيات الحق والإنصاف والبرّ والإحسان التي قررها القرآن في مختلف المناسبات. وهو في أصله طبيعي لأن الديون والوصايا حقوق ثابتة في التركة للغير. والوارث إنما يحق له ما يفضل من تركة الميت بعدها.

وتعبير (غَيْرَ مُضَارٍّ) مطلق. ومع أنه جاء في الآية الثانية فقط فإن إطلاقه قد يسوغ القول بأنه شامل لما جاء في هذه الآية وفي الآية الأولى معا.

وإطلاقه يسوغ القول كذلك أن ما انطوى فيه من النهي عن المضارة موجه للمورث حين يستدين وحين يوصي وللورثة حين يقتسمون التركة وينفذون الوصية ويسددون الدين. وإن مما يشمله الأمر أن لا يتعمد المورث الإضرار بورثته في المبالغة في المنح والاستغراق في الدين. وأن لا ينسى في الوقت نفسه الوصية لأولي القربى واليتامى والمساكين. وأن لا يتعنت الورثة في أداء ما على التركة من حقوق للغير أي ديون ووصايا. ولا في إعطاء كل ذي حقّ حقّه من الورثة حسب أحكام الآيات وسنة الرسول.

وتلقين هذا التعبير بهذا الشرح جليل متصل بمبادىء العدل والإنصاف والبرّ القرآنية ومستمر المدى كما هو واضح.

ولقد روى الطبري بطرقه عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حديثا جاء فيه «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الضرار في الوصية من الكبائر» وروى هذا الحديث من طرق أخرى غير منسوب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكأنه من أقوال ابن عباس وبصيغ أخرى منها «الضرار والحيف من الكبائر». وأورد ابن كثير حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى وحاف في وصيته فيختم له بشرّ عمله فيدخله النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل

٤٤

النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة ثم قال أبو هريرة اقرأوا إذا شئتم (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إلى قوله (عَذابٌ مُهِينٌ)». وهذه الأحاديث لم ترد في الصحاح. وهذا لا يمنع صحتها. وهناك حديث من باب الحديث الأخير رواه الترمذي وأبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة جاء فيه «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران في الوصية فتجب لهما النار» (١). وفي الأحاديث تلقين متساوق مع التلقين القرآني كما هو ظاهر. والآيات [١٣ و ١٤] من الآيات التي نحن في صددها قويتا الأسلوب في صدد توطيد الأحكام والأوامر التي احتوتها آيات المواريث. ففي التزامها طاعة لله وفي عصيانها عصيان لله وتعدّ على حدوده. وقد جعلت الآية [١٤] عقوبة الخلود في النار لمن يتجاوز أحكام الله ويحتال عليها مستحلا لذلك. وهذا إنذار رهيب هدف فيما هدف إليه جعل المسلمين يتقون الله ولا يقدمون على مخالفة أحكامه وتجاوزها. وبعض المسلمين يعمدون إلى اختصاص بعض الورثة بشيء من أموالهم المنقولة وغير المنقولة في حياتهم فيسلمونهم الأموال المنقولة ويسجلون عليهم الأموال غير المنقولة. والذي يتبادر لنا أن هذا احتيال على حدود الله وأحكامه ويدخل في نطاق المضارة المنهي عنها والإنذار الرباني الرهيب. وهناك حديث نبوي في هذا الصدد بالذات رواه الخمسة عن النعمان بن بشير قال «انطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله اشهد أني قد نحلت النعمان كذا وكذا من مالي. فقال له أكلّ بنيك قد نحلت مثل هذا قال لا. قال فأشهد على هذا غيري. ثم قال أيسرّك أن يكونوا في البرّ إليك سواء. قال بلى. قال فلا إذا. وفي رواية أنه قال اتّقوا الله واعدلوا في أولادكم» (٢). وهناك حديث نبوي عام ومبدئي رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله تعالى» (٣).

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٤١.

(٢) المصدر نفسه ص ٢٣٢ و ٢٣٣.

(٣) المصدر نفسه

٤٥

استطراد إلى الوقف

ويدخل في ما تقدم فيما يتبادر لنا ما يعمد إليه بعض أصحاب الأملاك من وقف أملاكهم في حياتهم بقصد حرمان بناتهم المتزوجات من الغير أو حرمان بعض فئات من الورثة الذين جعلت الآيات لهم نصيبا مفروضا في تركات أمواتهم ومعلوم أن الذين يفعلون ذلك من أصحاب الأملاك لتحقيق تلك المقاصد يجعلون مصير هذه الأملاك أو بعض ريعها إلى جهة من جهات البرّ مستندين في ذلك إلى ما أساغته السنة النبوية من الوقف الخيري حيث روى الخمسة في هذا حديثا عن ابن عمر قال «أصاب عمر أرضا بخيبر فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منه فماذا تأمرني به. قال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث ولا يوهب ويكون ثمرها للفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف. ولا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه» (١) وهذا العمل مما يصح أن يحتذي به أصحاب الأملاك ويشجعون عليه من دون ريب. ولكن استناد الذين يوقفون أملاكهم للمقاصد المذكورة سابقا ويغطونها بتخصيص شيء من ريعها أو بجعل مصيرها للخير غير مستقيم. وإنما هو أسلوب احتيالي على أحكام كتاب الله ورسوله. وقد عرف هذا النوع بالوقف الذري. وحتى لو كان توزيع ما يخصص من ريعه وفق الأنصبة الشرعية لما ساغ الاستناد فيه إلى ما فعله عمر بأمر رسول الله وتسويغه. ويظل يعتبر بدعة سيئة ، وحسنا فعلت بعض الحكومات الإسلامية حينما تنبهت له ومنعته وحلت الموجود منه لمخالفته لروح التشريع من جهة ولأضرار عديدة تحققت به من جهة أخرى.

وفي صدد الوقف الخيري البحت نرى أن ننبه على أمر ، وهو وقف امرئ لجميع أملاكه للخير إذا كان له ورثة شرعيون. ونادرا ما يكون أحد لا يكون له ورثة شرعيون مهما كانت درجة صلتهم به.

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٧٤.

٤٦

ويتبادر لنا أن ذلك لا يسوغ بوجود ورثة شرعيين مهما كانوا. وأنه يصح بل يجب ملاحظة الحديث النبوي الذي أوردناه في سياق آيات الوصية في سورة البقرة والذي يجعل الثلث هو الحد الأقصى للوصية في هذه الحالة. والله تعالى أعلم.

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)) [١٥ ـ ١٨].

(١) الفاحشة : هنا بمعنى الزنا على قول الجمهور وهو ما تلهمه الآية أيضا.

(٢) اللذان : الكلمة جمع مذكر في مقام اللذين على قول الجمهور.

احتوت الآيتان الأوليان تشريعا بحق الذين يأتون الفاحشة من النساء والرجال وهي الزنا على تأويل جمهور المفسرين :

(١) فإذا اقترفت النساء الفاحشة وشهد أربعة من المسلمين على ذلك حين استشهادهم فوجب حبسهن في البيوت إلى أن يمتن أو يأمر الله في شأنهن أمرا ويجعل لهن سبيلا وفكاكا بصورة ما.

(٢) أما الرجال الذين يقترفون الفاحشة فوجب أذيتهم. فإذا تابوا وأصلحوا تركوا وشأنهم. فإن الله تواب رحيم يقبل التوبة من التائبين ويشملهم برحمته.

أما الآيتان الأخريان فإنهما جاءتا استطراديتين في صدد التوبة لتقررا أن الله

٤٧

إنما يعد بقبول توبة الذين يقترفون الذنوب بسائق الجهل والطيش ثم يستشعرون حالا بخطائهم فيسارعون إلى التوبة قبل فوات الوقت. فهؤلاء هم الذين يتوب عليهم الله. أما الذين يظلون يرتكبون الآثام والموبقات بدون مبالاة إلى أن يحضرهم الموت ثم يستشعرون بالحسرة فيقولون تبنا أو الذين يموتون وهم كفار فلا توبة لهم ولهم عذاب أليم عند الله.

ولقد شرحنا الآية [١٦] على اعتبار أن (وَالَّذانِ) جمع مذكر على ما عليه الجمهور والمأثور من اللغة يسمح به. وقد ذكر النساء في الآية [١٥] فصار من السائغ أن تكون الكلمة قد قصدت الرجال للمقابلة. ويكون على هذا تثنية (فَآذُوهُما) و (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) هي للتساوق وحسب. على أن هناك من يقول إن الآية [١٥] هي بحق النساء الثيبات والمتزوجات وأن الآية [١٦] هي بحق الأبكار من الرجال والنساء على السواء. وهناك من يقول : إن الآية [١٦] تعني لواط الذكر بالذكر (١). ولقد أورد الذين قالوا هذه الأحاديث النبوية الواردة في عقوبة جريمة اللواط والتي منها حديث رواه أصحاب السنن عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من رأيتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (٢) ويلحظ أن الحديث عين عقوبة أشد من العقوبة التي عينتها الآية التي نحن في صددها والتي هي الخطوة التشريعية الأولى لمرتكبي الفاحشة. وهذا يجعلنا نرجح أن الحديث قد صدر في ظرف الخطوة التشريعية الثانية التي عينت عقوبة شديدة على الزنا على ما سوف نشرحه في سياق تفسير سورة النور بحيث يسوغ القول إن إيراد الحديث للتدليل على أن كلمة (اللذان) قد قصد بها لواط الذكر بالذكر في غير محله. ونحن نرجح أن هذه الكلمة في مقامها هي جمع مذكر على ما شرحناه قبل. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

(٢) المصدر نفسه.

٤٨

تعليق على الآية

(وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ)

والآيات الثلاث التالية لها

ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. ويلحظ شيء من التناسب الموضوعي بين هذه الآيات وما بعدها من الآيات المتصلة بمعاملة النساء والأنكحة المحرمة والمحللة وبين الآيات السابقة ، بحيث يرد في البال أنها استمرار في التشريعات المتصلة بهذا الموضوع. وأنها نزلت بعدها.

ولقد احتوى القرآن المكي تقبيحا وزجرا عن الزنا ووعيدا للزناة وعدّ ذلك من الفواحش الكبرى على ما جاء في آيات سورة الفرقان [٦٨ ـ ٦٩] والإسراء [٣٢]. وهو الأسلوب المتسق مع ظروف العهد المكي. فجاءت هذه الآيات بأسلوب تشريعي لأن ذلك صار ممكنا في العهد المدني. ومع ذلك فإن التشريع في الآيات هو خطوة أولى. وقد جاءت الخطوة الثانية في الآيات الأولى من سورة النور وفي بعض الأحاديث النبوية على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير هذه السورة.

ويلحظ أن عقوبة الزنا في الخطوة التشريعية الأولى اقتصرت بالنسبة للرجال الذين عبر عنهم بكلمة (وَالَّذانِ) على ما رجحناه على جملة (فَآذُوهُما) وبالنسبة للنساء على جملة (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) وقد قال المفسرون عزوا إلى ابن عباس وغيره إن (فَآذُوهُما) بمعنى التعيير والضرب والتوبيخ. وإن حكمة استبقاء النساء في البيوت هي عدم تعريضهن للفاحشة ثانية بالبروز للرجال (١). وهذا مما يتسق مع روح الآيات. مع التنبيه على أن أقوال المفسرين لا تفيد أن إمساك النساء في البيوت هو عقوبة. في حين أنه في الحقيقة عقوبة شديدة لأنه سجن أبدي حتى الموت أو يجعل الله لهن سبيلا. وكل من العقوبتين متناسبة على ما هو المتبادر مع طبيعة كل من الرجل

__________________

(١) انظر الخازن وابن كثير والطبري.

٤٩

والمرأة أو ظروفهما في ذلك الوقت من حيث إن الرجل مضطر إلى السعي والارتزاق فاكتفي في عقوبته بالضرب والتعزير ولم تكن المرأة في مثل هذا الاضطرار فعوقبت بالحبس حتى الموت أو يجعل الله لها سبيلا. ولقد روى المفسرون في سياق الآية حديثا عن عبادة بن الصامت قال «كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب وتغير لذلك وجهه. فأنزل الله عزوجل عليه ذات يوم فلما سرى عنه قال خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا : الثيب بالثيب والبكر بالبكر ، الثيب جلد مائة. ورجم بالحجارة والبكر جلد ثم نفي سنة» (١) ومن المحتمل أن يكون الحديث النبوي صدر على أثر نزول آيات سورة النور التي فيها تشريع جلد مائة للزاني والزانية.

وجمهور المفسرين والعلماء (٢) على أن الخطوة الثانية في سورة النور والأحاديث النبوية نسخت الآيات التي نحن في صددها. ويلحظ أولا أن في الخطوة الثانية تحديدا وتشديدا للعقوبة وهذا أحرى أن يسمى تعديلا لا نسخا. ويلحظ ثانيا أن استشهاد أربعة شهود ظل محكما في الخطوة الثانية. ولقد استند بعضهم إلى الآية الثانية فقال إن مرتكب الفاحشة إذا تاب تسقط عنه العقوبة. والعقوبة المعينة في الآية هي كما قلنا الخطوة الأولى ثم جاءت آيات سورة النور والأحاديث فنسختها وصارت هذه المحكمة لأنها تنصّ على وجوب اتباع الحدّ على الزاني والزانية بدون رأفة وبدون استدراك بحيث يكون ذلك القول غير سليم. وعدم سلامة القول يلمح أيضا من نصّ الآية الثانية حتى بقطع النظر عن أمر نسخها بآيات النور. فهي تأمر بأذية مرتكبي الفاحشة ثم الإعراض عنهما إذا تابا وأصلحا وهذا من نوع توبة من يرمي المحصنات ولم يأت بأربعة شهداء التي ذكرت في آيات سورة النور [٤ و ٥] (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ

__________________

(١) ابن كثير وقال المفسر قال الترمذي حديث حسن صحيح. وقد روي هذا الحديث بطرق عديدة وبشيء يسير من الخلاف على ما جاء في تفسير ابن كثير ... انظر أيضا تفسير الطبري والخازن والبغوي والطبرسي.

(٢) انظر الكتاب المذكورة أيضا.

٥٠

جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)) ومرتكب الفاحشة يكون قد أثم من ناحيتين من ناحية مخالفته لله وارتكابه ما حرّمه ومن ناحية عدوانه على عرض آخر. فعليه الحدّ لهذا وإذا تاب فيحظى بعفو الله عن ذلك. وهناك بعض الأحاديث في هذا الصدد سنوردها ونعلق عليها في سياق شرح آيات النور (١).

وجملة (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ ...) لا تفيد فيما يتبادر لنا معنى الشهادة العيانية لجريمة الزنا فقط بل تفيد معنى الشهادة العلمية الخبرية أيضا بل قد تفيد هذه الشهادة في الدرجة الأولى إذا أمعن فيها. فكأنما تقول والله أعلم (إذا علمتم أن امرأة ترتكب الفاحشة فاسألوا عن سيرتها فإن شهد أربعة من المسلمين بذلك فامسكوها في البيت ...) ومع أن الجمهور (٢) على أن الشهادة التي يثبت بها الزنا هي الشهادة العيانية أي رؤية العملية الجنسية الجريمة ومشاهدتها بدون استنتاج ولا تخمين ولا بناء على الروايات والشائعات والمعرفة الصادقة فإنّ نصّ العبارة القرآنية يجعلنا نشك في صواب ذلك ونصرّ على القول إن المقصود هو الشهادة العلمية. فالنص يأمر باستشهاد أربعة من المسلمين إطلاقا إذا ما عرف أن امرأة أتت فاحشة. وهذا إنما يكون بعد أن يعزى إليها ذلك ويعني بالتالي أنه شهادة علم وليس شهادة عيان. ولم نطلع على حديث نبوي صريح في ذلك. والحوادث التي روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام الحد فيها على الزناة كانت بناء على اعتراف أصحابها (٣). وقد عبّر الحديث الذي

__________________

(١) هناك حديث سنورده ونمحّصه في سياق تفسير آيات سورة النور الأولى رواه الخمسة عن ابن عباس أن عمر رضي الله عنه قال ما مفاده (إن حدّ الزنا يوقع على الزاني إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) حيث يفيد هذا أنه أضيف إلى إثبات الزنا بالشهادة التي عبر عنها بكلمة (البينة) وسيلتان أخريان هما الحبل بالنسبة للمرأة والاعتراف بالنسبة للرجل والمرأة.

(٢) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

(٣) انظر التاج ج ٣ ص ٢٢ و ٢٣ وسنورد أحاديث هذه الحوادث في تفسير سورة النور.

٥١

يرويه ابن عباس والذي أشرنا إليه آنفا عن هذه الشهادة بجملة «إذا قامت البينة». وهذا لا يفيد صراحة بأنها بينة عيانية. وقد يقال إن من الممكن أن يكون المقصود أنه حينما يعزى إلى امرأة عمل الفاحشة يطلب من المسلمين رصدها فإذا رآها أربعة منهم ترتكب الفاحشة عيانا شهدوا وإذا صحّ هذا الفرض برغم ما يبدو عليه من تكلف فإثبات الزنا يزداد صعوبة ويكون ذلك من حكمة إناطته بشهادة عيانية من أربعة من المسلمين حتى لا تهتك أعراض النساء بشهادات علمية وخبرية وقليلة والله تعالى أعلم. ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة النور حديثا عزاه إلى البخاري جاء فيه «إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة والي الكوفة بالزنا لما شهدوا بأنهم رأوه مستبطنا المرأة لأن الشاهد الرابع وهو زياد لم يشهد بشهادتهم» ويتبادر لنا أن الذين جعلوا الشهادة التي يثبت بها الزنا عيانية قد استندوا إلى هذا الحديث. والذي يتبادر لنا أن هذا الحديث إذا صح هو في صدد حادثة معينة وليس في صدد مبدأ تحديد كيفية الشهادة بإثبات الزنا. هذا مع قولنا إن من المستبعد أن يكون الشهود الأربعة المذكورون في الحديث قد رأوا العملية صدفة وأنهم لا بدّ من أن يكونوا قد علموا بها مسبقا فترصدوها حتى شاهدوها.

وننبه على أن جلد عمر للثلاثة المروي في الحديث مستند إلى آية في سورة النور وهي (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ...) [٤] وسنزيد الآية شرحا في مناسبتها.

ومهما يكن من أمر هذه النقطة فإن الحكمة في جعل عدد الشهود لإثبات جريمة الزنا بالشهادة أربعة ظاهرة بليغة. وبخاصة على ضوء ما يذهب إليه الجمهور من أنها يجب أن تكون عيانية. فهذه الجريمة من شأنها دائما أن تهزّ كيان الأسر وتثير الارتباك والهياج في المجتمع وتؤدي إلى عواقب وخيمة في ظروف كثيرة. والتشدد في إثبات وقوعها يحول دون كل ذلك. أما إذا شهد أربعة شهود عيان فمعنى ذلك أن المجرمين استهتروا استهتارا بشعا بمصلحة المجتمع وسلامة الأعراض بجريمتهم ويصبح إعلان الجريمة والتنكيل بمرتكبيها من مصلحة الجمهور.

٥٢

وكلمة (منكم) تفيد كما هو المتبادر وجوب كون الشهود الأربعة التي تثبت بشهادتهم جريمة الزنا من المسلمين. ولهذا فيما يتبادر مغزى بعيد المدى في الظرف الذي نزلت فيه الآية وفي كل ظرف معا. فالمفروض أن المؤمن المسلم يعرف خطورة إثم شهادة الزور وضرر إشاعة الفاحشة بين المسلمين ويعرف أن مصلحة المجتمع الإسلامي هي مصلحته. فلا يقدم على شهادة من هذا النوع في حق أخيه المسلم إلّا إذا كان على يقين منها بحيث يعتقد أنه مؤاخذ عند الله إذا كتمها في حين أن هذا لا يكون مؤكدا من غير المسلم في حق المسلم.

وكلمة (منكم) تحتمل أن تشتمل الرجال والنساء معا. غير أن الجمهور على حصر حق الشهادة في الحدود بخاصة في الرجال. ولم نطلع في صدد ذلك على حديث نبوي صحيح. وإنما رأينا الإمام رشيد رضا يذكر في سياق تفسير الآية أن الزهري ـ وهو من علماء الحديث من التابعين ـ قال : (مضت السنّة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود) ونحن في حيرة من هذا. فقد تذهب الجريمة بدون عقاب إذا توقف إثباتها على شهادة امرأة مسلمة. هذا إلى أن فرصة النساء لمشاهدة مثل هذه الجريمة أكثر سنوحا من الرجال كما هو المتبادر ، ولقد قلنا إننا لم نطلع على حديث نبوي صحيح. وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي يصح أن يورد لأن فيه تأييدا لتحفظنا. حيث رويا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ردّ شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه وردّ شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم وفي رواية لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية» (١) فهذا الحديث مطلق. ويفيد أن كل من يكون متصفا بالصفات المذكورة سائغ الشهادة مطلقا في الحدود وغير الحدود معا وسواء أكان رجلا أو امرأة. والله تعالى أعلم.

والجملة التي نحن في صددها قد جاءت في الآية التي فيها النساء. غير أنها

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٣٨ ومعنى ذي الغمر ذي العداوة والحقد. ومعنى القانع الخادم أو التابع.

٥٣

شاملة للرجال الذين يأتون الفاحشة أيضا المذكورين في الآية التالية لها على ما هو المتبادر من حيث إن العقوبة المترتبة عليهم لا توقع إلّا بعد ثبوت جريمتهم بالطرق التي تثبت جريمة النساء. باستثناء الحبل بطبيعة الحال. أي بالشهادة التي عبر عنها في حديث ابن عباس بالبينة أيضا أو الاعتراف.

وجملة (فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) تفيد كما هو المتبادر أمرا بالكف عن أذاهما إذا أظهرا الندم والتوبة والصلاح. وهذا شرط قبول توبة التائب على ما جاء في آيات عديدة وشرحناه شرحا وافيا في سياق تفسير سورة الفرقان. ولعل كلمة (وَأَصْلَحا) بخاصة تنطوي في مقامها على إيجاب تلافي نتائج الفاحشة مما قد يدخل فيه التعويض والزواج. والله أعلم.

وفي الآيتين [١٧ ـ ١٨] اللتين جاءتا استطراديتين في صدد التوبة زيادة مهمة جديرة بالتنويه حيث توجب على المذنبين الإسراع في التوبة والصدق فيها وتنبه على أن تأخير التوبة إلى ساعة الموت يجعلها غير مقبولة عند الله. وفي هذا ما فيه من التلقين البليغ. فالتوبة إنما فتح بابها للناس حتى يندموا ويرعووا ويصلحوا ما أفسدوا وهم في متسع من حياتهم ومتعة من صحتهم وعمرهم.

هذا ، وجملة (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً) وجملة (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) وجملة (فَآذُوهُما) وجملة (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) وإن تكن موجهة للمسلمين فالمتبادر أن محل توجيهها في الدرجة الأولى هو أولو الأمر والشأن والحكم والسلطان منهم. وقد ذكر ذلك المفسر الخازن فيما ذكره في صدد ذلك. وهو حق لأنهم هم الذين يؤهلهم مركزهم واحترام الناس لأوامرهم ونواهيهم لاستشهاد الشهود والحكم بحبس النساء في البيوت وضرب الرجال وتعزيرهم. وهذا يعني بالتبعية أن هذه الأمور منوطة في الدرجة الأولى بهم وأن من واجب المسلمين رفعها إليهم. وعدم التصرف فيها مباشرة لما يؤدي إليه ذلك من فوضى وأخطاء وأهواء.

هذا ولقد رأى المعتزلة في جملة (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) تأييدا لمذهبهم بأنه

٥٤

يجب على الله الأصلح لعباده (١). وهذا تعبير مناف للأدب نحو الله لا يليق استعماله على ما نبهنا عليه في مناسبة سابقة أيضا. والمتبادر أن الجملة أسلوبية يقصد بها بيان كون الله تعالى إنما يتوب على الذين يعملون السيئات بجهالة ثم يتوبون من قريب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)) [١٩ ـ ٢١].

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

(١) نهيا للمسلمين عن إمساك الزوجات مع الكراهية والبغض بقصد الكيد والإعنات وابتزاز أموالهن من مهور وغيرها.

(٢) وأمرا لهم بمعاشرتهن بالحسنى والمعروف وتحملهن حتى في حال الشعور بكرههن. فليس كل ما يكرهه المرء شرا حقا. وقد يجعل الله في المكروه خيرا كثيرا.

(٣) وتحذيرا لهم في حال اعتزامهم على تركهن للتزوج بغيرهن ألا يأخذوا شيئا مما أعطوهن مهما كان كثيرا. ففي ذلك إثم وظلم كبيران بعد ما كان بينهما ما كان من صلة الزوجية العظمى والميثاق والعهد الذي تم به التراضي.

(٤) واستثناء لحالة صدور فاحشة ثابتة منهن. فهذه حالة استثنائية خطيرة قد تسوغ للزوج الكره والفراق ومحاولة استرداد ما أعطاه كله أو بعضه.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في تفسير رشيد رضا.

٥٥

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً

وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ ...) إلخ

والآيتين التاليتين لها وما فيها من تلقينات

ولقد روى البخاري عن ابن عباس أنه قال «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحقّ بها من أهلها فنزلت الآية (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ)» (١).

وهناك روايات أخرى يرويها الطبري وغيره ذكر في بعضها أسماء وأحداث معينة وفي بعضها أن ابن الزوج وأقاربه كانوا يمسكون الزوجة إذا توفي زوجها حتى تفتدي نفسها برد المهر وفي بعضها أنهم كانوا يلقون عليها ثوبا كإعلان بأنهم سيمسكونها عندهم. وفي بعضها أن أهل ابن الزوج يفعلون ذلك إذا كان هذا الابن صغيرا حتى يكبر فيمسكها أو يتركها. وأن الآية الأولى نزلت في منع هذه العادات المجحفة.

ويلحظ أن الفقرة الأخيرة من الآية الأولى تنطوي على قرينة حاسمة على أن الخطاب فيها موجه للأزواج في صدد معاملتهم لزوجاتهم حيث يجعل ذلك رواية نزولها بسبب عادة إمساك ابن الزوج أو أقاربه لزوجة الأب لأنفسهم أو لأخذ الفدية منها غريبة. وقد يكون تعبير (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) من ما سوغ للمؤولين ولابن عباس ما قالوه كسبب لنزول الآية. ولقد رأينا الزمخشري يؤولها تأويلا وجيها متسقا مع ملاحظتنا وهو (لا يحلّ لكم أن تمسكوا زوجاتكم على كراهيتكم لهن حتى يمتن عندكم بقصد أن ترثوهن) وقد يكون من القرائن على أن الآية في صدد معاملة الأزواج لزوجاتهم ورود نهي عن نكاح زوجات الآباء في آية

__________________

(١) التاج فصل التفسير ج ٤ ص ٨١.

٥٦

مستقلة تأتي بعد الآيات التي نحن في صددها. ونرجح أن الروايات المساقة هي في صدد هذه الآية وأن سوقها في صدد الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها من قبيل الالتباس.

والذي يتبادر لنا أن الآيات نزلت في مناسبة شكوى رفعها بعض الزوجات إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق أزواجهن بسبب ما بدا من بعض المحاولات والمواقف التي تضمنتها الآية الأولى والله أعلم.

ومع أن الآيات تبدو فصلا مستقلا فإن موضوعها متصل بموضوع النساء وحمايتهن وحقوقهن مما احتوت الآيات السابقة توطيده حتى ليصح أن يقال إنها استمرار لها. ومن المحتمل كثيرا أن تكون نزلت بعدها إن لم تكن نزلت معها فوضعت بعدها للمناسبة الظرفية والموضوعية.

ولد سبقت وصايا ونواه وتحذيرات مماثلة في الآيات (٢٢٢ ـ ٢٤٧) من سورة البقرة مما يؤكد ما كان يلقاه الزوجات من أزواجهن من المكايدة والأذى وما كان يعمد إليه الأزواج من أساليب لابتزاز أموالهن فاقتضت الحكمة مواصلة توكيد النواهي والتحذيرات للقضاء على هذه التصرفات المكروهة المتناقضة مع الحق والعدل والواجب والعهد الزوجي.

وأسلوب الآيات هنا قوي رائع حقا. ينطوي على أبلغ التلقين وأروع العظة في حماية الزوجات وتعظيم شأن الصلة الزوجية ووجوب حسن معاشرتهن ومعاملتهن ، وحمل النفس على ما تكره في هذا السبيل ، والتعفف عن أموالهن ولو كانوا هم الذين أعطوها لهن لأنها صارت حقهن ، وعدم التسرع في التخلي عنهن وتطليقهن. فإذا أضيف إليها ما احتوته الآيات العديدة الأخرى المكية والمدنية من مثل ذلك وفي صدده وقد مرّ منها أمثلة كثيرة بدا الأمر فذّا بالنسبة لجميع الشرائع ، وصار من خصوصيات القرآن والشريعة الإسلامية ومرشحاتها للخلود والشمول.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الآيات حديثا مقتطعا من حديث خطبة حجة وداع رسول الله رواه مسلم وأبو داود جاء فيه «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن

٥٧

بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» (١) وفي مجمع الزوائد حديث رواه ابن ماجه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» مما فيه تلقين متسق مع التلقين القرآني في وجوب إحسان معاملة الزوجات والبرّ بهنّ ، وهناك حديث آخر مهم رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يفرك مؤمن مؤمنة وإن كره منها خلفا رضي منها بآخر» (٢). وجمهور المفسرين والمؤولين على أن جملة (يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) في الآية الأولى كناية عن الزنا. وإن للزوج في حالة ثبوت ذلك على زوجته حقا في استرداد مهرها وما قد يكون أعطاها إياه من مال أو بعضه بالأسلوب الذي لا يخالف شرعا ولا عرفا. وهذا متسق مع روح الآية كما هو المتبادر.

مسألة المغالاة في المهور

ولقد روى المفسرون في سياق الآية [٢٠] أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس في خلافته فقال «ما إكثاركم في صداق النساء وقد كان الصداق في عهد النبي وأصحابه أربعمائة درهم فما دون ذلك. ولو كان في الإكثار تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها ، فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم». ثم نزل ، فاعترضته امرأة من قريش فقالت يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم ، قال نعم ، فقالت أما سمعت ما أنزل الله؟ قال وأي ذلك؟ فقالت : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ، ثم رجع فركب المنبر فقال : أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب ـ وفي رواية ـ فمن طابت نفسه فليفعل» (٣). ورووا روايات أخرى من بابها جاء في إحداها أن عمر بن الخطاب قال : لا تغالوا في مهور النساء ، فقالت

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ١٤٣ و ٢٨٨.

(٢) المصدر نفسه. وكلمة يفرك بمعنى يبغض والراجح أن المقصود بمؤمن ومؤمنة زوج وزوجة مؤمنان.

(٣) النص منقول عن ابن كثير.

٥٨

امرأة ليس ذلك لك يا عمر إن الله يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) فقال عمر : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته (١). وجاء في إحداها أن عمر قال «لا تزيدوا في مهور النساء ، فقالت امرأة ما ذاك لك ، قال ولم؟ قالت إن الله قال (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) الآية فقال عمر امرأة أصابت ورجل أخطأ» (٢) وجاء في إحداها أن عمر قال لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين أوقية من الفضة فمن زاد جعلت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة ما ذاك لك : قال لم؟ قالت إن الله يقول (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) الآية فقال امرأة أصابت وأخطأ عمر (٣).

وهذه الروايات لم ترد في الصحاح وقد روى أصحاب السنن حديثا فيه نهي من عمر عن المغالاة في المهور فقط عن أبي العجفاء قال «خطبنا عمر فقال ألا لا تغالوا بصداق النساء فإنّها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ما أصدق امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية» (٤).

على أن عدم ورود قصة اعتراض إحدى النساء على عمر في هذا الحديث لا يمنع أن تكون روايته المروية بصيغ وطرق عديدة صحيحة. ولئن صحت فيكون فيه صورة رائعة عن العهد الراشدي. منها نباهة المرأة العربية وقدرتها على استنباط الأحكام من القرآن. وجرأتها على الدفاع عن حقوقها. وإقرار الرجال وفي

__________________

(١) النص منقول عن ابن كثير.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) من رشيد رضا.

(٤) التاج ج ٢ ص ٢٧٠ وقيمة الاثنتي عشرة أوقية (٤٨٠) درهما على ما جاء في شرح الحديث وهناك حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن أبي سلمة يؤيد ما جاء في الحديث المروي عن عمر جاء فيه (سألت عائشة كم كان صداق رسول الله قالت كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشّا. أتدري ما النش قال لا. قالت نصف أوقية فتلك خمسمائة درهم) انظر التاج ج ٢ ص ٢٦٩.

٥٩

مقدمتهم الخليفة بذلك ومنها تراجع الخليفة عن وصية وصاها حينما نبهته المرأة إلى احتمال مخالفة الوصية للتلقين القرآني.

والمتبادر أن إيعاز عمر كان اجتهادا منه فيه مصلحة للمسلمين. وهناك حديث رواه ابن حبان في صحيحه عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه «إن من خير النساء أيسرهن صداقا» (١) وحديث ثان رواه أحمد والحاكم والبيهقي جاء فيه «إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها» (٢) ومن المحتمل أن يكون عمر قد استأنس بهذه الأحاديث وأمثالها في إيعازه.

وفي سورة النور آية تنطوي على تلقين قوي بوجوب تيسير الزواج لكل فئة وبخاصة للفقراء مما لا يتيسر إلّا بعدم المغالاة في المهور وهي (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)).

وحتى على فرض صحة رواية احتجاج المرأة على عمر وتراجعه عن إيعازه فإنه ليس في الآية ما يصح الاستدلال به على أن المبلغ الكبير الذي عنته بلفظ القنطار هو المهر فقط حيث يمكن أن يكون مجموعة عطايا من الزوج. وعبارتها تهدف إلى حماية المرأة وعدم ابتزاز ما صار حقها الشرعي من مال أعطاه لها زوجها فيه المهر وغير المهر مهما كثر. ويظل تلقين آية سورة النور والأحاديث النبوية وإيعاز عمر واردا واجب الاحترام بل ومخولا للحكام الإشراف على مقادير المهور ومنع المغالاة فيها في كثير من الظروف التي لا يكون أكثر الناس فيها قادرين على دفع مهور عالية حيث يؤدي هذا إلى تعسير الزواج وتزايد الأيامى ـ أي العزاب ـ من رجال ونساء وعبيد وإماء ، وبعبارة أخرى إلى تعطيل أمر الله الوارد في آية سورة النور أما القادرون فالذي يتبادر لنا أنه ليس في التلقين المشار إليه ما يحول دون زيادة المهر بينهم عن المقدار المحدد في الروايات المروية. ولعل حكمة عدم

__________________

(١) انظر تفسير الآية في تفسير المنار.

(٢) المصدر نفسه.

٦٠