التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

ولقد قال المفسرون في تأويل جملة (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) إنها تعني من كفر بنعمة الله من المسلمين وانحرف عن طاعة الله ورسوله (١). وهو وجيه متسق مع روح الجملة. وفي الجملة على ضوء هذا التأويل حقيقة اجتماعية خالدة أخرى وهي أن ما يمكن أن يحلّ بالمسلمين من ذلّ وضعف واندحار وخذلان بعد أن يكونوا قد صاروا إلى ما صاروا إليه من ثروة وعزة وسؤدد وانتشار سلطان ودين ـ إنما يكون بسبب انحرافهم عن الطريقة المثلى التي تحققت بها المعجزة القرآنية. وهذا مما كان وظل يتحقق في المسلمين وبلادهم حينما كانوا ينحرفون عن دينهم ويقصرون في ما أوجبه الله عليهم من عمل الصالحات على مداها الواسع الذي شرحناه.

ومع ذلك فهناك حديث يحسن أن يساق في هذا المساق أورده ابن كثير وهو من مرويات مسلم والترمذي وأبي داود عن ثوبان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تزال طائفة من أمتي على الحقّ ظاهرين لا يضرهم من يخذلهم حتى يأتي أمر الله» (٢).

وينطوي في الحديث بشرى عظيمة حتى في حال عدم تحقق الشرط في جمع المسلمين حيث يبشر رسول الله بأن هذا الشرط سيكون متحققا ولو في فئة منهم وسيجعلهم أعزاء ظاهرين على الحق. وهو ما كان وما يزال يتحقق في مختلف البقاع والأزمان من لدن العهد النبوي كنتيجة لتحقق ذلك الشرط الرائع في فئة من المسلمين.

تأويل الشيعة لبعض الآيات السابقة والتعليق عليه

ولقد وقف مفسرو (٣) الشيعة عند جملة (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) فرووا عن أئمتهم : علي بن الحسين وأبي جعفر وأبي عبد الله أنها في

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير.

(٢) التاج ج ٥ ص ٣١٣.

(٣) انظر تفسير الطبرسي. وننبه على أن هذا المفسر أورد في الوقت نفسه تأويلات للآية متسقة مع تأويلات المفسرين السنيين ومع روح الآيات وفحواها.

٤٤١

الذين وقفوا من أهل بيت النبي وشيعتهم موقف المناوأة والعداء ثم رووا عن أئمتهم أن الآية الأولى تضمنت البشارة بظهور المهدي واستخلافه في الأرض ، ورووا في صدده حديثا جاء فيه «لو لم يبق في الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل ذلك اليوم حتى يلي رجل من عترتي ، اسمه اسمي ، يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا» (١).

والهوى الشيعي ظاهر في تأويل الآيات وصرفها عن روعة مفهومها الشامل للمسلمين باستخلافهم في الأرض وتمكّن دينهم إذا آمنوا وأخلصوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الرسول. وليس فيها أي شيء يبرر ذلك الصرف والتأويل.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩)) [٥٨ ـ ٥٩].

(١) وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة : حين تخلعون ثيابكم المعتادة للتخفف والتبذل وقت الظهر.

(٢) ثلاث عورات لكم : ثلاث أوقات هي لكم عورات. والعورة في أصلها الخلل والعيب في الشيء وفي المكان الذي يخشى دخول العدو منه. وهذا المعنى

__________________

(١) روى هذا الحديث بخلاف يسير أبو داود والترمذي (التاج ج ٥ ص ٣١١ ، ٣١٢) ونحن نقف منه موقف التحفظ ونرجح أن للهوى الشيعي أثرا ما فيه. ومع ذلك فإنه لا يساعد في أي حال على تأويل الآيات بما أولها به أئمة الشيعة أو مفسروهم.

٤٤٢

في جملة (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) في آية سورة الأحزاب [١٣] وأكثر ما تطلق على الشيء الذي لا ينبغي أن تقع عليه الأبصار من جسم الإنسان ، وهي هنا بهذا المعنى.

(٣) جملة (فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : هي هنا بمعنى كما استأذن الذين بلغوا الحلم قبلهم.

في الآيتين :

(١) أمر للمسلمين بأن لا يدخل عليهم الأولاد الذين هم دون سنّ الاحتلام ولا عبيدهم في ثلاثة أوقات إلّا بعد الاستئذان والإذن. وهي وقت ما قبل الفجر ، ووقت الظهر الذي يتخفف الناس فيه من ثيابهم ، وبعد صلاة العشاء ، وإباحة دخولهم عليهم بدون استئذان في غيرها.

(٢) وأمر آخر بعدم دخول الأولاد عليهم حينما يبلغون الحلم بدون استئذان في غير هذه الأوقات كما هو شأن سائر الرجال.

(٣) وتعقيب على هذا التأديب : فالله سبحانه حكيم عليم يأمر بما فيه الحكمة والصواب ، ويعلم مقتضيات الأمور ويبين آياته للناس متسقة مع ذلك.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ...) إلخ

والتي بعدها وما فيهما من آداب وأحكام

والآيتان فصل جديد لا صلة له بالآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكونا نزلتا بعدها فوضعتا في ترتيبهما.

وقد روى المفسرون أن الآية الأولى نزلت في مناسبة دخول غلام أرسله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عمر بن الخطاب وقت الظهيرة ، فرأى عمر في حالة كره رؤيته فيها رووا أنها نزلت في مناسبة دخول غلام لأسماء بنت مرثد عليها في وقت كرهته ،

٤٤٣

فأتت رسول الله ، فقال : إن خدمنا وغلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها (١).

والروايات محتملة الصحة. لأن التشريع والتأديب القرآني كان ينزل في كثير من الظروف جوابا على الأسئلة والاستفتاءات والمراجعات على ما مرّ في مناسبات كثيرة. وعلى كل حال فالآيتان فصل تشريعي واحد احتوى ما شكي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منه ، واحتوى تتمة له.

ولقد أباحت الآية [٣١] من هذه السورة للمرأة إبداء زينتها ومفاتنها للأطفال الذين لم يبلغوا سنّ الشهوة وللعبيد. فالظاهر أن هذه الإباحة استتبعت السماح باستمرار دخول هؤلاء على النساء في أي وقت وبدون استئذان ، فكانت المراجعة ، فنزلت الآيات للاستدراك. وجاءت عبارتها مطلقة ليشمل التأديب الذي احتوته الرجال والنساء معا. وهو تأديب رفيع في التزام واجب الحشمة والحياء حتى أمام الأطفال والخدم.

والمتبادر من روح الآيات وفحواها أن إناطة الدخول في الأوقات الثلاثة بالاستئذان بالنسبة للمماليك والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم شاملة لأطفال المستأذن عليهم ومماليكهم وأطفال ومماليك غيرهم أيضا. وإن كلمة (مِنْكُمْ) الواردة بعد جملة (لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) في الآية الأولى وبعد كلمة (الْأَطْفالُ) في الآية الثانية هما أسلوبيتان. لأنه لا يصح أن تؤخذ الكلمة على أن المقصود هم أطفال ومماليك المستأذن عليهم فقط. فإذا كان هؤلاء يطلب منهم الاستئذان قبل الدخول فيكون هذا بالنسبة للغرباء أولى.

وجملة (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) متساوقة مع الآية [٢٧] من السورة التي توجب الاستئناس والاستئذان على كل من يريد أن يدخل بيتا غير بيته والتي شرحناها قبل. وجملة (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) تعني الذين بلغوا الحلم قبلهم ، وهم الذين أوجبت الآية [٢٧] عليهم

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الزمخشري والبغوي والخازن.

٤٤٤

الاستئذان سواء أكانوا رجالا أم نساء ومحارم وغير محارم على ما شرحناه قبل أيضا.

وقد يتبادر لأول وهلة أن جملة (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) وجملة (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) تعنيان ذكور الأطفال. غير أن التمعن في الموضوع يظهر أنهما تشملان ذكور الأطفال وإناثهم. فتعبير بلوغ الحلم يصحّ أن يستعمل لكلا الجنسين وإيجاب الاستئذان على إناث الأطفال في العورات الثلاث أمر بديهي بل أولى. وإيجاب الاستئذان على البالغات منهن في غير العورات الثلاث إذا أردن الدخول لغير بيوتهن داخل في متناول الآية [٢٧] التي أوجبت الاستئذان والاستئناس والإذن على من يريد الدخول على بيت غير بيته.

والمتبادر أن جملة (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) تعني المماليك فقط وليس الخدم إطلاقا. والمرأة الحرة محرمة على مملوكها. ولذلك سمح لها في الآية [٣١] بإبداء زينتها أمامه على ما شرحناه قبل. ولقد سمح في هذه الآية أيضا للمرأة بإبداء زينتها أمام خدمها من الرجال إذا كانوا غير ذوي إربة فيكون شأنهم شأن المماليك أي يجب عليهم الاستئذان في العورات الثلاث. أما الخدم والتابعون ذوو الإربة فليس للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم في الأوقات العادية أيضا. ومن باب أولى في العورات الثلاث. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن مماليك الغير وخدمهم هم أجانب وغير محارم للمرأة التي ليسوا هم لها وإن شأنهم في كل موقف شأن الأجانب وغير المحارم ولو كان خدم الغير غير ذوي إربة. وإذا كنا خصصنا المرأة بالذكر فذلك بسبب حالتها الجنسية. والآيتان اللتان نحن في صددهما واللتان أوجبتا الاستئذان قبل الدخول على المماليك والأطفال في العورات الثلاث جاءتا بصيغة مطلقة بحيث يتناول حكمهما الرجال والنساء معا على ما ذكرناه قبل.

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ

٤٤٥

ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)) [٦٠].

(١) أن يضعن : أن يخلعن. وهنا بمعنى أن يطرحن الزائد من ثيابهن.

(٢) التبرج : هو البروز والظهور. والجملة في الآية بمعنى النهي عن تعمد إظهار الزينة والمفاتن.

تعليق على الآية

(وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً ...) إلخ

وما فيها من أحكام وآداب

في هذه الآية تجويز للنساء اللاتي قعدن في بيوتهن ولم يكن لهن رجاء في زواج أو لا يرغب في نكاحهن ، بطرح ثيابهن الزائدة وعدم التشدد في التستر ، على شرط أن لا يكون ذلك بقصد إبراز الزينة وأماكنها. وتقرير بأن احتشامهن في اللباس على كل حال هو خير لهن وأفضل. والله عليم بكل شيء ، سميع لكل ما يقال.

ولم نطلع على رواية خاصة لنزول الآية. والمتبادر أنها متصلة بالآيتين السابقتين. وبسبيل الاستدراك وبيان ما بقي غير واضح من الآداب التي أوجبتها الآية [٣١] ، فهذه الآية أمرت المرأة بتغطية أجزاء البدن التي ليس من العادة والطبيعة كشفها ، والتي تظهر من شقوق الثوب. وعدم إظهار الزينة وأماكنها لغير المحارم ، فجاءت هذه الآية تستدرك بشأن النساء اللاتي لا يخاف من فتنتهن استدراك إجازة وتيسير. مع التنبيه على وجوب الاحتشام وعدم التظاهر بالزينة على كل حال. والمقطع الأخير الذي انتهت به الآية يلهم أن هذا التنبيه لتفادي ما يمكن أن يجلبه التخفف من الثياب أكثر من المعقول على هؤلاء أيضا من النقد والتثريب.

٤٤٦

وجمهور المفسرين على أن هذا الفريق من النساء هن اللاتي تقدمن في السن وتجاوزن حدّ الشهوة الجنسية. ولقد روى البغوي عن ربيعة الرأي أحد قدماء علماء الحديث أنهن العجّز اللاتي إذا رآهن الرجال استقذروهن. وإن التي فيها بقية من جمال وهي محل شهوة فلا تدخل في مدى هذه الآية. وليس بين القولين تعارض كما هو ظاهر. والمعنى المشترك هو أن لا يكنّ محل شهوة سنّا وشكلا وبنية. وقد يصح أن يضاف إلى هؤلاء فريق المشوهات والدميمات أو المبتليات بعاهات وأمراض تجعلهن غير مرغوبات فيهن جنسيا ولو لم يكنّ متقدمات في السن. وعلى كل حال فالآية متسقة في روحها ونصها مع الآيات الأخرى ، ومع ما استهدفته من إيجاب الحشمة على المرأة وعدم التورط في أسباب الفتنة والتعرض لأذى الألسنة. وهي من جهة أخرى مؤيدة لما استلهمناه من الآية [٣١] من أنها ليست بسبيل إيجاب التنقب على المرأة وعدم بروزها وسفورها. فالنساء فريقان : فريق مثار فتنة فهو مأمور بستر مفاتنه وزينته التي ليس من العادة والطبيعة ظهورها ، وفريق ليس كذلك فهو غير مأمور بالتشدد ولكنه مدعو على كل حال إلى الاحتشام والاعتدال.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)) [٦١].

(١) أو ما ملكتم مفاتحه : ما يكون في تصرفكم وملككم. وجمهور

٤٤٧

المفسرين على أن ذلك يعني بيوت المماليك ومساكنهم. وقيل أيضا إنهم وكلاء أصحاب المزارع والضياع والبساتين في مزارعهم وضياعهم وبساتينهم.

(٢) جميعا : مجتمعين.

(٣) أشتاتا : متفرقين.

(٤) على أنفسكم : على بعضكم.

هذه الآية ترفع الحرج والاستشعار بالضيق عن الأعمى والأعرج والمريض. وعن المرء في أن يأكل من بيته أو بيت أبيه أو بيت أمه أو أخيه أو أخته أو عمّه أو عمته أو خاله أو خالته أو صديقه أو مملوكه أو بيوت من هم تحت تصرفه من خدم وعمال في بساتينه وضياعه ومعامله. وترفع الحرج عن الناس في أن يأكلوا كما يريدون متفرقين أو مجتمعين. وتحثهم على تبادل السلام والدعاء لبعضهم بالحياة الطيبة المباركة. وتنبه المخاطبين الذين هم المسلمون بأن الله يبين آياته لهم ، لعلهم يعقلون ما فيها من الحكمة والصواب.

تعليق على الآية

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ...) إلخ

وما فيها من أحكام وآداب

روى البغوي عن ابن عباس قال «كان الغني يدخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته فيدعوه إلى طعامه فيقول والله إني لأجنح أي أتحرج أن آكل معك وأنا غني وأنت فقير فنزلت الآية». كما روي عن ابن عباس أيضا أنها نزلت في الحارث بن عمر خرج غازيا مع رسول الله وخلف مالك بن زيد على أهله فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك. فنزلت الآية بالسماح. وروى المفسر نفسه عن قتادة ومجاهد أنها نزلت في بني ليث بن بكر وهم حي من كنانة كان الرجل منهم لا يأكل وحده حتى يجد ضيفا يأكل معه فربما قعد والطعام بين يديه من الصباح إلى الرواح. وربما كانت معه

٤٤٨

الإبل الحفل (أي المملوءة باللبن) فلا يشرب من ألبانها حتى يجد من يشاربه فإذا أيس ولم يجد أكل.

وإلى هذه الروايات روى المفسرون عن ابن عباس وغيره أقوالا في مدى الفترة الأولى من الآية بنوع خاص. منها أن الأصحاء كانوا يتعززون أو يتقززون من الأكل مع المرضى والعميان والعرج. ومنها أن هؤلاء كانوا يتحرجون من الأكل مع الأصحاء تفاديا من التعزز والتقزز. ومنها أن الأصحاء حينما كانوا يخرجون إلى الجهاد يتركون مفاتيح بيوتهم مع هؤلاء الذين يتخلفون عادة عن الجهاد ويبيحون لهم الأكل مما في البيوت ولكنهم كانوا يتحرجون من ذلك فأنزل الله الآية يرفع الحرج.

والروايات لا تتسق تماما مع مفهوم ومدى الآية كلها وإن كان بعض الأقوال تتسق مع بعض فقراتها.

والذي يتبادر لنا أن الآية متصلة بسابقاتها سياقا وموضوعا. وهي بسبيل تعليم آداب السلوك مثلها. ومن المحتمل أن يكون بعض المسلمين وقعوا في حرج ما بشؤون متصلة بما احتوته الآية فاستفتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع الآيات الثلاث السابقة التي قبلها لأنها من موضوعها كما أن من المحتمل أن تكون نزلت عقبها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي. أو تكون نزلت في ظرف آخر فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي.

ولقد انطوى في الآية مبدأ قرآني جليل وهو رفع الحرج عن المسلمين في هذه الأمور وأمثالها. وترك التصرف فيها إليهم وقعا لما تمليه الظروف وتطيب به النفوس بدون تقيد بأشكال وصور معينة مع التنبيه على حسن المعاشرة وتبادل السلام والتمنيات الطيبة لما في ذلك من توطيد المودّة والإلفة بينهم ، ومع التنبيه كذلك على الرفق بالضعفاء والفقراء وأصحاب العاهات والأعذار وتطييب نفوسهم وتطييب النفوس إزاءهم. وكل هذا متسق مع التشريع القرآني العام.

والخطاب في الآية مطلق. وليس فيه ما يفيد تخصيص الرجال به بحيث

٤٤٩

يسوغ القول إن ما احتوته من أدب وتأديب وتنبيه موجّه إلى الجنسين معا. واستتباعا لذلك يسوغ القول إنه ليس من حرج في أن يتشارك الرجال والنساء معا في الأكل من مائدة واحدة سواء أكانوا أقارب ومحارم وتابعين أم أصدقاء أباعد إذا ما لزمت المرأة الاحتشام في اللباس على النحو الذي شرحناه قبل.

وهناك أحاديث نبوية فيها توضيح وتساوق مع الآية. من ذلك حديث رواه أبو داود جاء فيه «قال جماعة يا رسول الله إنا نأكل ولا نشبع. قال فلعلّكم تفترقون. قالوا نعم قال فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه» (١). وحديث رواه ابن ماجه عن عمر بن الخطاب «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال كلوا جميعا ولا تفرقوا فإن البركة في الجماعة» (٢). حيث ينطوي في الحديثين تشجيع على التآلف والتجمع في مناسبات الطعام لما في ذلك من توثيق المودة والمحبة وأول ما ينصرف هذا التشجيع النبوي إلى تجمع الأسرة الواحدة على الطعام. وهناك أحاديث نبوية تفيد أن النساء كن يحضرن الطعام مع الرجال. منها حديث رواه مسلم وأبو داود والنسائي عن حذيفة قال «كنّا إذا حضرنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم طعاما لم نضع يدنا حتى يبدأ رسول الله وإنّا حضرنا معه مرة طعاما فجاءت جارية كأنها تدفع لتضع يدها في الطعام فأخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بيدها ، ثم جاء أعرابي كأنه يدفع فأخذ بيده. فقال إن الشيطان يستحلّ الطعام إلّا بذكر اسم الله عليه وإنه جاء بهذه الجارية ليستحلّ بها فأخذت بيدها فجاء بهذا الأعرابي ليستحلّ به فأخذت بيده والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يدها». وفي الحديث ما يفيد أن الإناث كن يحضرن الطعام مع الرجال. مع إفادته وجوب تسمية الله قبل الأكل. وقد أخذ النبي بيد الجارية والأعرابي لأنهما لم يسميا أي لم يذكرا اسم الله قبل الأكل.

وروى الشيخان عن أبي سعيد الساعدي «إنه دعا رسول الله في عرسه وكانت امرأته يؤمئذ خادمتهم وهي العروس فلما أكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سقته نقيع تمر كانت

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١١٨.

(٢) أورد هذا الحديث ابن كثير في تفسير الآية وهناك أحاديث أخرى من بابها أوردها آخرون في مجمع الزوائد.

٤٥٠

نقعته من الليل» ، والحديث يفيد أن العروس كانت شاهدة الوليمة وخادمتها. وحديث رواه مسلم والنسائي عن أنس جاء فيه «أن جارا فارسيا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صنع طعاما فدعاه ولم يدع أم المؤمنين عائشة معه فلم يلبّ ثم دعاه مرة ثانية فسأله أن يدعوها معه فدعاها فذهبا معا إلى بيت الجار وأكلا طعامهما معه».

وجملة (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) تنطوي على تأديب رفيع حيث توجب على الداخلين على غيرهم أن يبادروهم بالتحية والسلام سواء أكانوا أهلهم أم غرباء عنهم.

هذا وقد يكون ذكر بيوت الآباء والأمهات والأخوات والإخوان والأعمام والعمات والأخوال والخالات متصلا بما كان عليه الحال في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث كانوا يتفرقون في المساكن غير أنه لا يخلو من تلقين مستمر المدى بهذا أيضا حيث يكون الولد المتزوج في بيت ووالده في بيت وإن كانت أمه أرملة في بيت وإن كانت أخواته عوانس أو أرامل في بيت ... إلخ وحيث يكون في ذلك الراحة والهدوء والبعد عن أسباب الخلاف والقيل والقال التي كثيرا ما تؤدي إلى تصدّع بنيان الأسرة وتعكير صفوها. والله تعالى أعلم.

تعليق على مدى كلمة (صَدِيقِكُمْ) في الآية

فرّقت الآية فذكرت الصديق لحده ، وذوي الأرحام والمماليك لحده. والمتبادر أن هذا طبيعي فإن علاقة ذوي الأرحام ببعضهم وعلاقة مالكي المماليك بمماليكم أشد من علاقة صداقة فهي علاقة اقتصادية واجتماعية وإنسانية لا يمكن أن يستغنى عنها في حين أن كثيرا من الناس تكون علاقتهم ببعضهم عادية أو عابرة لا ترقى إلى درجة لاحمة.

والمتبادر أن كلمة (صَدِيقِكُمْ) تشمل جميع الناس بل ولا أرى مانعا من القول إنها تشمل غير المسلمين أيضا. فكلمة (صديق) هي مضادة أو ضد كلمة (عدو) وكلمة عدو تطلق في الإسلام على من يعتدي على الإسلام والمسلمين

٤٥١

بأسلوب ما. والمتبادر الواقع أن جمهورا عظيما من غير المسلمين ممن يعيشون في بلاد الإسلام أو بعيدا عنها لا يعتدون على الإسلام والمسلمين واقعيا ومنهم من يكون مسالما وموادا. وفي القرآن آيات تشير إلى ذلك وفيها توقع بانقلاب العداء بين المسلمين وغيرهم إلى مودة وفيها أمر للمسلمين بالبرّ والإقساط والتعايش مع المسلمين وغيرهم الكافّين يدهم ولسانهم عن المسلمين. انظر آية سورة النساء [٨٩] وآيتي سورة الممتحنة [٦ ـ ٧].

وفي صدد الصداقات بين المسلمين فيما بينهم نقول : إن القرآن وصف المسلمين بأنهم أخوة وهذا الوصف قد يكون معنويا ولكنه يفيد أن اللّحمة بين المسلمين من غير ذوي الأرحام قوية إلى درجة تصل إلى شيء من قوة الأرحام. والمسلمون يتشاركون في عقيدة الحلال والحرام في كل أنواع الطعام. ووصف الأخوة يجعل المسلمين أصدقاء بالتبعية ولا يفرض أن يكون عداء بينهم بالتبعية يقال إن كل مسلم يستطيع أن يعتبر أن كل مسلم صديقا له أيضا ويتناول الطعام في بيته مجتمعا أو منفردا وأما غير المسلم فقد قلنا إن احتمال الصداقات بين المسلمين وغير المسلمين واردة وقائمة ومحرض عليها. فيقال بالتبعية إن للأصدقاء من المسلمين وغير المسلمين يمكن أن يتناولوا طعاما في بيوت بعضهم أيضا.

وهنا محل للاستدراك فقد حرّم الله ورسوله على المسلمين محرّمات معينة في المأكولات والمشروبات وأباح لهم ما عداها. فيقال إنه لا حرج على المسلم أن يأكل في بيت غير المسلم إذا قدم له هذا مأكولات غير محرمة عليه في القرآن الكريم والأحاديث النبوية. وهناك مأكولات لا تحصى مباحة مثل الحبوبات على أصنافها والخضروات والفواكه ومنتجات الحيوان كاللبن والحليب والزبدة والسمن وحيوانات الأنهار والبحار فيستطيع المسلم أن يأكل ما يقدمه غير المسلم من ذلك وما يطبخه بدون لحم مشتبه في طريقة ذبحه التي حرمتها الآيات والأحاديث. وإذا قدم غير المسلم لحما مذبوحا بيد المسلمين فليس عليه مانع من أكله إذا تيقن من ذلك. وننبه على أن في سورة المائدة هذه الآية : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ

٤٥٢

الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [٥].

ويتبادر لنا والله أعلم أن هذه الآية ليست على سبيل الحصر بدليل أو قرينة سبحانه وتعالى حرّم النساء المشركات على المؤمنين بنص قرآني. ولم يحرم طعام المشركين على المسلمين بنصّ قرآني وإن كان لم يحلّه بحيث يمكن أن يقال إن غير المسلمين الكتابيين إذا قدموا لأصدقائهم المسلمين مأكولات مباحة وغير محرمة عليهم في القرآن والأحاديث ساغ لهم أن يأكلوها. أما طعام المسلمين للمشركين فلم نر أي تحريم لذلك. ولقد روى ابن هشام أن المسلمين أسروا أمير اليمامة ثمامة بن أثال وكان مشركا فنصب له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيمة في مسجده وكان يرسل إليه طعاما من بيوته. والله تعالى أعلم.

وكلمة أخيرة في صدد ما يقدمه الكتابيون من طعام للمسلمين ، فقد قال جمهور من المفسرين والفقهاء إن نصّ الآية مطلق وليس من ضرورة بتردد المسلم وتكلفه وسؤاله فالله تعالى أحلّ له طعامهم ويعنون بذلك اللحوم البريّة فليأكلوا على الإباحة وهذا سبيل. ومنهم من قال هذا مع زيادة إذا تيقن المسلم فيما يقدمه الكتابيون من طعام محرمات أساسيّة على المسلمين في القرآن والأحاديث فلا يأكله وهذا سبيل أيضا والله تعالى أعلم. انظر تفصيلات أخرى في تفسير الآيات [٤ ـ ٦] من سورة المائدة في الجزء التالي.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ

٤٥٣

وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)) [٦٢ ـ ٦٤].

(١) أمر جامع : أمر ذو خطورة يستدعي اجتماع الناس وشهودهم إياه.

(٢) يتسللون : يخرجون خفية ومسارقة. والسلة هي السرقة.

(٣) لواذا : متسترين ببعض حتى لا يروا وهم يخرجون ، ولاذ به ، بمعنى : استتر به ، أو لجأ إليه أو انتحى نحوه.

تعليق على الآية

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) إلخ

والآيتين التاليتين لها وما فيها من آداب وتلقين وصور

عبارة الآيات واضحة. وفيها تأديب للمؤمنين إزاء مجالس الرسول ودعائه. وتنويه بالذين يتصرفون في ذلك بما يليق بمركزه ومقامه ، فلا يتركون مجالسه إلّا لعذر وبعد الاستئذان منه وإذنه. فهم المؤمنون حقا بالله ورسوله. وتنديد بالذين يتصرفون في ذلك تصرفا غير لائق فيتسللون من مجالسه. وإنذار دنيوي وأخروي لهم.

روى البغوي أن الآية الأولى نزلت في ظروف حفر الخندق ووقعة الأحزاب حيث كان المنافقون ينسحبون تسللا وخفية من المعسكر. ولا ينفذون أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى الطبري أنها نزلت في المنافقين الذين كان يثقل عليهم حديث النبي يوم الجمعة فيلوذون ببعض أصحاب رسول ويخرجون من المسجد متسللين. بدون إذن من النبي ، في حين كان المخلصون يستأذنون بالإشارة إذا كان لهم حاجة في الخروج فيأذن لهم بالإشارة. غير أن أكثر المفسرين قالوا إن الآيات عامة في صدد مجالس النبي واجتماعاته واجتماعات يوم الجمعة معا. ويبدو لنا هذا القول أوجه لأن سورة الأحزاب قد احتوت ما اقتضت حكمة التنزيل ذكره من مشاهد وقعة الأحزاب والخندق ومواقف المنافقين. ولأن فحوى الآيات يلهم أنها أعمّ من اجتماعات يوم الجمعة وخطبتها.

٤٥٤

وقد روى المفسرون (١) عن ابن عباس ومجاهد أن جملة (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً) في صدد الأمر بمخاطبة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بألفاظ التوقير والتعظيم لا بالاسم والكنية فقط كما يخاطبون بعضهم. كما رووا أنها في صدد النهي عن عمل ما يستوجب دعاء النبي عليهم ودعاؤه موجب مستجاب. وروى بعضهم (٢) أن الجملة في صدد التنبيه على ما يجب عليهم من تلقي دعوة النبي بالاهتمام حين ما يدعوهم إلى اجتماع لأن دعوته ليست من قبل دعوة بعضهم لبعض.

وقد تكون رواية الزمخشري الأخيرة هي الأكثر اتساقا مع موضوع الآية الأولى ومع الفقرة التي جاءت بعد الجملة التي نحن في صددها. وبهذا فقط يظهر الانسجام بين أجزاء الآيات.

والذي يتبادر لنا أن بعض المسلمين أو مرضى القلوب تلكأوا عن تلبية دعوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى اجتماع عام دعا إليه وأن بعضهم تسللوا من مثل هذا الاجتماع فاقتضت الحكمة الإيحاء بالآيات بأسلوبها المطلق ليكون من تأديب عام للمؤمنين في صدد ذلك على النحو الذي شرحناه.

والآيات تبدو فصلا جديدا. ولكن ما احتوته من تأديب للمسلمين وتعليم لآداب السلوك في مجالس النبي قد يجعلها متصلة موضوعا بالفصول السابقة فإذا لم تكن قد نزلت بعدها مباشرة فيكون وضعها في ترتيبها بسبب التناسب الموضوعي. والإنذار المنطوي في جملة (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) قوي رهيب ، وقد جاء مطلقا هو الآخر ليكون مستمر المدى والشمول للذين يخالفون أوامر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونواهيه وسنته الثابتة في كل وقت. وفي الجملة تأييد زجري للآيات العديدة التي أكدت وجوب طاعة رسول الله والوقوف عند ما يأمر به وينهى عنه ، وقررت أن اتباعه من وسائل رضاء الله ومحبته على ما جاء في آيات

__________________

(١) انظر تفسير البغوي والطبري وابن كثير والخازن.

(٢) انظر تفسير الزمخشري.

٤٥٥

الأنفال [١ و ٢٠ و ٤٦] وآل عمران [٣١ و ٣٢] والنساء [٨٠] والحشر [٧] وقد علقنا على الموضوع ونبهنا على دواعيه المباشرة في العهد المدني. وقد أوردنا بعض الأحاديث في ذلك في سياق تفسير سورة الحشر أيضا فنكتفي بهذا التنبيه.

ولقد أورد ابن كثير في سياق الجملة التي نحن في صددها حديثا رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا فكلّما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحّمن فيها. قال فذلك مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار هلمّ عن النار فتغلبوني وتتقحمون فيها» (١).

والآيات مع خصوصيتها الزمنية والموضوعية تنطوي على تلقين تأديبي مستمر المدى بوجوب احترام المجالس العامة والاجتماعات العامة التي قد يعقدها أو يدعو إليها الرؤساء والأمراء وذوو الشأن في المسلمين وعدم الاستخفاف بها وعدم تركها بدون استئذان وبدون معذرة صحيحة بالإضافة إلى ما فيها من توكيد التزام سنّة رسول الله وعدم مخالفتها على ما ذكرناه قبل.

__________________

(١) روى الشيخان هذا الحديث عن أبي هريرة بهذه الصيغة «إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيها فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيها» انظر التاج ج ١ ص ٣٧.

٤٥٦

سورة المنافقون

في السورة حملة شديدة على المنافقين. وحكاية لأقوال ومواقف خطيرة صدرت منهم فيها كيد وعداء وتحريض على النبي والمهاجرين وردود تسفيه عليهم. وتثبيت وتطمين للنبي والمؤمنين. وفيها تحذير للمؤمنين عن الاستغراق في حبّ المال والولد عن ذكر الله وحثّ لهم على الإنفاق وهم في سعة من الوقت والعمر. وآيات السورة منسجمة مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة أو أن فصل المنافقين جميعه نزل دفعة واحدة ثم تبعه الفصل التحذيري الأخير.

ولقد روي أن الأقوال التي حكتها بعض آيات السورة صدرت من زعيم المنافقين أثناء غزوة المريسيع التي أثير فيها حديث الإفك ضد أم المؤمنين عائشة الذي تضمنت سورة النور الإشارة إليه حيث يبدو من ذلك صحة رواية ترتيب نزول السورة بعد سورة النور.

وفي سورة النور مقاطع عديدة فيها حملات تنديدية على المنافقين. وصور من مواقفهم على ما مرّ شرحه فيها. وفي هذه السورة حملة أخرى فيها مواقف أخرى. حيث يمكن أن يكون في هذا قرينة أخرى على صحة رواية نزول هذه السورة بعد سورة النور. على أن هناك ما يحسن التنبيه عليه أيضا. فالروايات تذكر أن وقعة المريسيع كانت قبل وقعة الأحزاب أو الخندق التي أشير إليها في سورة الأحزاب. مع أن الروايات تذكر أن سورة الأحزاب في الترتيب سابقة لسورتي النور والمنافقون. فإما أن يكون في روايات تواريخ الوقائع الجهادية النبوية شيء من الخطأ وإما أن تكون هذه السورة نزلت قبل سورة الأحزاب. ولقد أوردنا في مقدمة سورة النور احتمال أن تكون هذه السورة أيضا قد نزلت قبل سورة الأحزاب. وتظل قوة قرينة نزول سورة (المنافقون) بعد سورة النور على كل حال قائمة. والله تعالى أعلم.

٤٥٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨)) [١ الى ٨]

(١) جنة : سترا ووقاء.

(٢) كأنهم خشب مسندة : تعبير تنديدي يراد به وصفهم بفقد العقل والروح رغم ما هم عليه من الجسامة والوسامة اللتين تعجب الناظر فكأنهم أخشاب مسندة بالدعائم.

(٣) يصدون : هنا بمعنى يمتنعون ويرفضون.

(٤) حتى ينفضوا : حتى يتفرقوا.

تعليق على آية

(إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ)

والآيات السبع التي بعدها

وما فيها من صور وتلقين ، وما ورد في صددها من أخبار

عبارة الآيات واضحة ، وقد تضمنت :

٤٥٨

(١) حكاية لما كان المنافقون يؤكدونه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا جاءوا إليه من إيمانهم برسالته.

(٢) وتكذيبا لهم وتقريرا بأنهم إنما يتخذون أيمانهم سترا ووقاء من الفضيحة والنكال وذريعة إلى الصدّ عن سبيل الله. وبأنهم كفروا بعد إيمانهم فكان ذلك مظهرا لخبث سريرتهم وسوء نيتهم وانطباع قلوبهم على الكفر.

(٣) وصفا تنديديا لهم ، فهم رغم ما هم عليه من جسامة ووسامة تروقان للناظر إليهم وما يقولونه من أقوال تعجب السامع لها كالخشب المسندة فاقدون كل روح وعقل وقلب وإيمان.

(٤) حكاية لما كانوا يقابلون به الدعوة إلى المجيء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للاعتذار والاستغفار حيث يلوون رؤوسهم ويرفضون استكبارا.

(٥) حكاية لأقوال صدرت منهم حيث كانوا يحرضون على عدم الإنفاق على أصحاب رسول الله ومساعدتهم حتى ينفضوا من حوله. وحيث قالوا في سفرة من السفرات إنهم إن رجعوا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ وكانوا يعنون بالقول أنهم هم الأعزّ وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه هم الأذلّ.

(٦) وردودا تنديدية عليهم فيها تطمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحبه المخلصين : فسواء استغفر لهم النبي أم لم يستغفر ، فلن يغفر الله لهم ، لأنه لا يمكن أن يوفق الفاسقين أمثالهم ويرضى عنهم. وهم حينما يقولون : لا تنفقوا على من عند رسول الله غاب عنهم ولم يدركوا أن خزائن السموات والأرض هي لله. وهم حينما يقولون ليخرجن الأعز منها الأذل غاب عنهم ولم يعلموا أن العزة إنما هي لله ورسوله والمؤمنين.

(٧) ودعاء عليهم : قاتلهم الله ، فكيف وأنّى ينصرفون عن الحق الواضح الساطع.

(٨) هتافا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فهم العدوّ وعليه الحذر منهم.

٤٥٩

ولقد روى الشيخان والترمذي في سبب نزول الآيات حديثا عن زيد بن أرقم قال «كنت مع عمي فسمعت عبد الله بن أبيّ بن سلول ، يقول لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ، وقال لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذلّ ، فذكرت ذلك لعمي ، فذكره لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأرسل إلى عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، فحلفوا ما قالوا فصدقهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذبني فأصابني همّ لم يصبني مثله ، فجلست في بيتي فأنزل الله عزوجل (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ) إلى قوله (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) إلى قوله (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) فأرسل إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأها عليّ ، ثم قال : «إن الله قد صدقك يا زيد» (١). حيث يفيد هذا الحديث أن هذا الفصل نزل دفعة واحدة. وهو في الحق منسجم ومترابط. وعلى هذا فتكون الآيات الست الأولى بمثابة تمهيد للآيتين التاليتين لها اللتين فيهما حكاية أقوال المنافقين. وقد عرضنا الفصل كلّا واحدا بسبب هذا الانسجام.

ولقد أورد المفسرون ورواة الحديث وكتّاب السيرة القدماء في صدد نزول هذه الآيات وما فيها ، سياقا طويلا نرى من المفيد إيراده لما فيه من صور. فقد خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رأس حملة لغزو بني المصطلق الذين بلغه أنهم يتجمعون لغزو المدينة. وكان المنافقون مشتركين بالحملة بمقياس واسع. وقد التقى المسلمون بالأعداء عند ماء اسمه المريسيع وانتصروا عليهم وسبوا وغنموا منهم. وقبيل أن يرتحلوا ويعودوا ، تلاحى شخص تابع لعمر بن الخطاب وآخر تابع لبني عوف رهط ابن سلول على الماء فاقتتلا وصرخ تابع عمر : يا معشر المهاجرين ، وصرخ تابع بني عوف : يا معشر الأنصار ، وكاد الاشتباك يقع بين الحيين ثم تمكن النبي وكبار أصحابه من التهدئة. وأثار ذلك ابن سلول ، فقال في مجلس من قومه : لقد نافرونا وكاثرونا في بلادنا ـ يقصد المهاجرين ـ والله ما مثلنا ومثلهم إلّا كما قال القائل سمّن كلبك يأكلك. أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ يعني بالأعز نفسه وبالأذل رسول الله وصحبه. ثم أقبل على من حضره من قومه فقال :

__________________

(١) التاج ج ٤ فصل التفسير ص ٢٣٥.

٤٦٠