التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

في الآية أمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالإيعاز للمؤمنين من الرجال بغض أبصارهم وحفظ فروجهم لأن ذلك أدعى إلى الطهارة والصيانة. وتنبيه إلى أن الله خبير بما يفعلونه وهو مراقبهم وذلك بسبيل توطيد الأمر وتنفيذه.

تعليق على الآية

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)

ولم نطلع على مناسبة خاصة لهذه الآية. ومع أنها فصل جديد أو بداية فصل جديد فإن الصلة الموضوعية ملموحة بينها وبين الفصل السابق. فإذا لم تكن نزلت بعده فيكون ترتيبها في مكانها بسبب هذه الصلة كما هو المتبادر.

ومما قاله المفسرون في صدد ما احتوته الآية من الأمر بغض الأبصار وحفظ الفروج أنه عدم التعمد في النظر إلى النساء وصرف البصر عنهن إذا وقع عليهن بدون عمد. والتعفف عن الزنا وعدم التبذل في الثياب بحيث تظهر من ذلك العورات. وعدم النظر إلى العورات في الوقت نفسه. وقد أوردوا أحاديث عديدة في ذلك منها حديث عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رواه الترمذي قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعليّ ، يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإنّ لك الأولى وليس لك الآخرة» (١). ومنها حديث رواه البغوي عن جرير بن عبد الله قال «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النظرة الفجأة فقال اصرف بعدها بصرك». ومنها حديث عن أبي سعيد الخدري قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في ثوب واحد» (٢).

__________________

(١) ابن كثير.

(٢) البغوي. وبديهي أن النهي يكون أولى وأشدّ عن نظر الرجل إلى عورة المرأة وعن نظر المرأة إلى عورة الرجل وعن إفضاء الرجل بثوب إلى المرأة وإفضاء المرأة بثوب إلى الرجل وعورة الرجل هي ما دون السرة وفوق الركبة كما جاء في حديث نبوي رواه أبو داود والبيهقي. وعورة المرأة جميع جسدها عدا وجهها ويديها. انظر تفسير الآية والآيات التالية في ابن كثير والخازن وانظر التاج ج ١ ص ١٣٩.

٤٠١

والذي يتبادر لنا أن جمع الأمر بغض الأبصار وحفظ الفروج في جملة واحدة قرينة قرآنية على أن القصد من الأمر بالغضّ هو عدم النظر إلى المرأة الأجنبية نظرة جنسية شهوانية. وأن الأحاديث هي في صدد ذلك من حيث الجوهر. ويلفت النظر إلى الحديث الذي ينهى عن إتباع النظرة بالنظرة فالنظرة الأولى تكون صدفة ومعفوا عنها ، فإذا أتبعت بأخرى صارت نظرة مريبة آثمة. وفي الآية التالية التي تأتي بعد هذه الآية تسويغ لإسفار المرأة عن وجهها أمام الأجانب. هذا سواغ تبادل الكلام والنظر. وهذا ما كان جاريا من لدن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الآن. وورد ذلك في أحاديث وروايات كثيرة وهو المعقول التعامل بدون انقطاع ، وهو سائغ ما دام ليس شهوانيا آثما والله تعالى أعلم. وعلى كل حال فالآية هي بسبيل حثّ المؤمنين على التمسك بأهداب العفة وتوقي أسباب الفتنة والفاحشة وعلى عدم التبذل في كشف ما لا يأتلف مع الحياء من أجسادهم وعوراتهم. وكل هذا أدب رفيع متسق مع الذوق السليم والخلق الكريم في كل ظرف ومكان.

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)) [٣١].

(١) زينتهن : المتبادر أنها الحليّ : ويجوز أن يكون من مقاصد الكلمة.

٤٠٢

(مفاتن المرأة) أي نحورهن وظهورهن وصدورهن وسيقانهن وأذرعهن إلخ وهذا يتبادر أكثر من جملة (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) إلخ.

(٢) خمرهن : جمع خمار وهو غطاء كان النساء يتشحن أو يتقنعن به.

(٣) جيوبهن : جمع جيب. وهو شق الثوب الذي يظهر منه عادة بعض أجزاء البدن كالصدر والظهر.

(٤) نسائهن : النساء عامة في قول والنساء المسلمات خاصة في قول آخر.

(٥) غير أولي الإربة من الرجال : غير القادرين على المباشرة الجنسية.

(٦) الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء : بمعنى الأطفال الذين لم يبلغوا سنّ الشهوة والرغبة الجنسية.

(٧) ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن : المتبادر أن المقصد هو الخلخال الذي يوضع في الرّجل للزينة حيث يرن صوته إذا ضربت المرأة برجلها.

تعليق على الآية

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ ...) إلخ

ومدى ما فيها من آداب وبحث في سفور

المرأة ونشاطها في مختلف الميادين

عبارة الآية واضحة. وهي والآية السابقة لها تؤلفان فصلا واحدا كما هو المتبادر. وقد أمرت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يوعز إلى النساء أيضا بما أوعز به إلى الرجال من غضّ الأبصار وحفظ الفروج مضافا إلى ذلك ما هو متصل بطبيعتهن الجنسية من عدم إبداء ما يمكن إخفاؤه من الزينة. وستر شقوق ثيابهن التي تظهر منها مفاتن أجسادهن بأوشحتهن أو خمرهن. ومن إخفاء ما يجب إخفاؤه من زينتهن ومفاتنهن عن غير المذكور في الآية. ومن عدم تحريك أرجلهن بقصد إظهار ما هو خاف من زينتهن وحليهن فيها. وانتهت الآية بالهتاف بالمؤمنين جميعا بالتوبة إلى الله وطاعته لضمان الفوز والفلاح لأنفسهم.

٤٠٣

وواضح أن هدف الآية هو تنبيه النساء المسلمات إلى وجوب الغضّ من أبصارهن نحو الرجال بسبيل تجنب الإغراء والتورط في الإثم. وإلى الاحتشام في اللباس وعدم التبذل في كشف ما لا يأتلف مع واجب الحياء وفيه إغراء للرجال وتوريط أمام غير المحارم.

وهكذا تكون الآية قد احتوت تقرير كون المرأة في الخطاب القرآني التشريعي الاجتماعي والتأديبي أيضا طرفا مسؤولا مثل الرجل كما هو شأنها في الخطاب التشريعي المالي والسياسي والتعبدي والقضائي والشخصي. وما قلناه في سياق الآية السابقة من سواغ تبادل النظر والكلام وكون القصد من جميع الأمر بالغض وحفظ الفروج هو النهي عن النظرة الأثيمة الشهوانية قال هنا أيضا فلا حاجة إلى التكرار.

وجملة (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) تعني كما هو المتبادر ما جرت العادة على ظهوره مثل الوجه والكفين على ما قاله بعض المفسرين ومثل الخاتم والخضاب والكحل والثياب وظهر الكفين بالإضافة إلى الوجه والكفين على ما قاله بعض آخر عزوا إلى بعض أصحاب رسول الله والتابعين.

وليس بين هذا وبين ما جاء في سورة الأحزاب من تناقض سواء منه ما كان في حقّ نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة بما في ذلك تعبير (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) أم ما كان في حقّ جميع نساء المسلمين من الأمر بإدناء الجلابيب على ما شرحناه في سياق السورة المذكورة.

ولعلّ في أمر الرجال في الآية السابقة بالغض من أبصارهم دلالة قوية على ما كان جاريا سائغا وعلى ما في الآية من مفهوم وتسويغ ببروز المرأة سافرة الوجه واليدين أمام الناس زائرة ومزورة وساعية في أسباب الرزق والعمل والتصرفات المباحة لها والواجبات المطلوبة منها. والعلماء متفقون على أن وجه المرأة ويديها ليست عورة استدلالا من هذه الآية. وليس هناك أي أثر نبوي بستر المرأة لوجهها ويديها في الصلاة أو غيرها. وهناك نهي نبوي عن ذلك في إحرامها على ما جاء في حديث ابن عمر الذي أوردناه قبل.

٤٠٤

وهناك بعض أحاديث مؤيدة لذلك منها حديث رواه الطبري عن عائشة جاء فيه «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا عركت المرأة لم يحلّ لها أن تظهر إلّا وجهها وإلّا ما دون هذا وقبض على ذراع نفسه فترك بين قبضته وبين الكفّ مثل قبضة أخرى» ومنها حديث آخر رواه الطبري كذلك جاء فيه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أباح للمرأة أن تبدي من ذراعها إلى قدر النصف» بالإضافة إلى وجهها وكفيها.

والمحارم المذكورون في الآية الذين أذن للمرأة إبداء زينتها أمامهم قد ذكروا في آية سورة الأحزاب [٥٥] بزيادة آباء الأزواج وأبنائهم والتابعين غير أولي الإربة من الرجال. ولم يذكر الأعمام والأخوال هنا أيضا. ومهما تكن الحكمة خافية في عدم ذكرهم هنا أيضا فإن نصّ آية سورة النساء [٢٤] صريحة بأنهم من محارم المرأة المحرمة عليهم على ما ذكرناه أيضا في سياق آية الأحزاب المذكورة.

ووصف الرجال غير ذوي الإربة بالتابعين هو على ما يبدو لإخراج غير التابعين من النطاق حيث يتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ذلك حتى لا تتبذل المرأة أمام غير محرم لا صلة لها به ولو كان غير ذي إربة.

ولقد روى الطبري وغيره عن بعض أهل التأويل أن المقصود بهؤلاء الناس رجال كانوا يتبعون الناس للأكل ولا يكون لهم أرب في النساء فيأمنّ جانبهم ولا يتهربنّ منهم كما رووا عن بعض المؤولين سواغ دخول الحمقى والمغفلين والعنّينين إطلاقا ، في نطاق الإباحة التي تضمنتها العبارة القرآنية. ونرى هذا وذاك مخالفين لتحديد الآية وهو (التابعون) الذي نعتقد أنهم الخدم وأن ما عداهم محظور عليهم الدخول على النساء في حالة تبذلهن ولو كانوا غير أولي قدرة جنسية. وهذا ينطبق على المغفلين والحمقى والعنّينين. ولقد أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنع دخول المخنثين على النساء كما جاء في حديث رواه الشيخان عن أم سلمة قالت «إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها وفي البيت مخنّث فقال المخنّث لأخي أم سلمة إن فتح الله لكم الطائف غدا أدلك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان. فقال

٤٠٥

النبي لا يدخل عليكم» (١).

ولقد قلنا إن هناك من يؤول (نِسائِهِنَ) بعموم النساء ومن يؤولها بالنساء المسلمات. وهذا التعبير جاء في آية سورة الأحزاب المذكورة أيضا وقد رجحنا أنها تعني عموم النساء والله تعالى أعلم. أما إباحة ظهور المرأة بزينتها أمام ملك يمينها من الرجال فهي بسبب كونها محرمة عليهم فيعدون من محارمها. وفي هذه السورة استدراك في شأن الأطفال وملك اليمين في أوقات التبذل في المخادع سنشرح مداه في مناسبته.

وفي صدد الأمر بضرب الخمر على الجيوب نقول إن المتبادر أن الخمار مما كانت المرأة تستعمله في التقنع وتغطية الرأس والعنق فأمرت الآية بضربه على شقوق ثوبها لإخفاء مفاتن جسدها. وإن الأمر على كل حال بسبيل فرض إخفاء هذه المفاتن وليس بسبيل فرض زي خاص. فإذا أخفيت هذه المفاتن بزي آخر حصل المقصود. وهناك حديث يرويه أبو داود والترمذي عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يقبل الله صلاة حائض إلّا بخمار» (٢) وقد يفيد هذا أن خمار الرأس واجب ديني في الصلاة وليس كذلك في غيرها ، والله أعلم.

وبمناسبة هذه الآية نقول إنه كما أنه ليس في القرآن ولا في الأحاديث ما يمنع النساء والرجال من الدخول على بعضهم في نطاق التلقينات والرسوم المشروحة سابقا فإنه ليس فيهما ما يمنع المرأة من أن تكون سافرة الوجه واليدين أمام الرجال غير المحارم إذا ما كانت ساترة لمفاتنها وغير مبدية لزينتها ومن أن تخرج من بيتها كذلك لقضاء حاجاتها وممارسة شؤونها على اختلاف أنواعها مما يدخل فيه تلقي العلم وغشيان المدارس والمساجد وشهود الاجتماعات العامة والاتجار والتكسب والعمل والمشاركة في الأعمال والواجبات الرسمية وغير

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٣٠١ ونرجح أن النبي قصد بالنهي دخول المخنث على النساء في حالة تبذلهن. وإنه لا حرج في غير هذه الحالة إذا ما كان وفق التلقينات القرآنية والنبوية المشروحة سابقا.

(٢) التاج ج ١ ص ١٤٠.

٤٠٦

الرسمية والاستمتاع بنعم الطبيعة وهو ما قرره لها القرآن حين قرر لها الأهلية السياسية والشخصية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والمشاركة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والتكافل والتضامن وخاطبها بكل ما خاطب به الرجل من تفكر وتعقل وتدبّر في كتاب الله وآياته وكونه وكلفها بكل ما كلف به الرجل من واجبات وتكاليف إيمانية وتعبدية واقتصادية وسياسية وعقلية واجتماعية وشخصية ورتب لها وعليها كل ما رتب للرجل وعليه من النتائج الدنيوية والأخروية على قدم المساواة مما مرت مؤيداته وشرحه في مناسبات كثيرة سابقة ومما يأتي أيضا في مناسبات آتية.

وكل هذا في نطاق مدى هذه الآية وروحها وما احتوته من فكرة وهدف وتلقين من احتشام وبعد عن مواقف الريبة ودواعي الإغراء والفتنة والإثم والأمور والأعمال والمظاهر والأماكن غير المباحة في الشرع والأخلاق الكريمة مما هو محظور على الرجل والمرأة على السواء.

ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الترمذي عن ميمونة بنت سعد قالت «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرافلة في الزينة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها». وفي الحديث تأييد ما لإباحة بروز المرأة في غير أهلها في نطاق الاحتشام وكون المحظور عليها هو إبداء زينتها ومفاتنها على غير محارمها. وأورد حديثا آخر رواه أبو داود والترمذي جاء فيه «كلّ عين زانية ، والمرأة إذا استعطرت فمرّت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية» وهذا الحديث كسابقه لا يمنع المرأة من الخروج. والترائي للناس وإنما الذي يمنعه هو دواعي الفتنة والإغراء.

ويسوق بعضهم آية سورة الأحزاب (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) [٣٣]. وهذه الآية من آيات موجهة لنساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة بدون أي لبس ولا تعميم. ومع ذلك فهناك أحاديث عديدة تفيد أن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كن يخرجن لحاجاتهن بإذن النبي ويخرجن في صحبته للغزوات والحج وينشطن في ميدان المعركة ويشهدن المساجد والمجالس. وظل أمرهن على ذلك بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٤٠٧

حيث يمكن القول إن الأمر في الآية هو في صدد عدم الإكثار في الخروج والتبرّج لضرورة وغير ضرورة. ويصح أن يكون في هذا للمسلمات أسوة وتلقين ولا يتعارض مع ما قررناه آنفا.

ونستطرد إلى ما يقال ويثار حول اشتراك المرأة في الانتخابات والمجالس النيابية وما يدخل في بابها فنقول إن هذا مما يتسق مع ما ذكرناه من أهليتها وحقوقها السياسية والاجتماعية واستقلال شخصيتها وشركتها مع الرجل في الإنسانية وواجباتها وأمانتها التي قررها لها القرآن. وهي نصف المجتمع وكل ما يتقرر في هذه المجالس يتناولها كما يتناول الرجل على السواء. فمن حقها أن يكون لها فيه رأي مثله. والقول إن هذا يشغلها عن طبيعتها الجنسية والاجتماعية قول فارغ لا يقف أمام الوقائع والحقائق. فالانتخابات تقع عادة في فترات متباعدة وتشغل من أوقات الناس أياما قليلة والمرشحون للمجالس أفراد قليلون فليس في كل هذا ما يصرف جمهور النساء بل ولا جمهور الرجال عن أعمالهم المعتادة.

ويحتج البعض بأن المرأة في الصدر الإسلامي لم تشترك في شؤون الدولة والحياة الاجتماعية بمقياس واسع. ومردّ هذا إلى طبيعة الحياة السياسية والاجتماعية في ذلك الزمن وليس من شأنه أن يعطل الأحكام والتلقينات والمباحات القرآنية كما هو ظاهر. وحكمة الله التي شاءت أن تمنح المرأة ما منحتها من أهلية وحقوق وشخصية لا يمكن أن تكون فعلت ذلك عبثا وليبقى معطلا. ومع ذلك ففي ثنايا التاريخ الإسلامي أحداث ومشاهد كثيرة علمية وسياسية واجتماعية كان للمرأة فيها بروز حسب ما كان ممكنا ومتسقا مع العصر.

ويحتج بعضهم بآية سورة النساء (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) [٣٤] وقد علقنا على هذه الآية بما يزيل الوهم الذي يتبادر منها ويجعل الاحتجاج في غير محله. ويحتج البعض بجهل المرأة وغفلتها. وهذا كذلك كلام فارغ فالسواد الأعظم من الرجال في البلاد الإسلامية جاهلون غافلون. ولم يقل أحد إنهم يجب أن يحرموا من حقوقهم السياسية والاجتماعية بسبب ذلك ، وهو إلى هذا في سبيل

٤٠٨

الزوال لأن المرأة كالرجل سائرة في طلب العلم والمعرفة في كل الميادين. ويورد البعض الحديث الذي يذكر فيه «إن المرأة ناقصة عقل ودين». وقد أوردناه في مناسبات سابقة وعلقنا عليه بما يزيل الوهم من كونه عاما لجميع النساء. ويورد البعض الحديث الذي يندد بالقوم الذين يولون أمرهم امرأة. وليس هذا المقام هو محل إيراد هذا الحديث عند إنعام النظر والفكر. ويورد بعضهم الحديث الذي لعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه المتشبهين بالرجال من النساء والمتشبهين بالنساء من الرجال ، ولسنا نرى في هذا نقصا لما نقرره لأننا لسنا قائلين بأن تضيع المرأة أنوثتها وطبيعتها وتتشبه في أطوارها وحركاتها وأزيائها بالرجال تشبها يذهب بتلك المعالم والطبيعة أو يعطلها. وما نراه يصح للمرأة المسلمة عمله إنّما يصح ويكون له معناه في حالة احتفاظ المرأة بهذه المعالم والطبيعة وفي سبيل ذلك.

ونريد أن نستدرك أمرا ، وهو أن ما قلناه في صدد حق المرأة المسلمة أن تباشر وتمارس وتشهد كل عمل واجتماع مشروع ليس فيه ريبة شخصيا كان أم اجتماعيا أم سياسيا أم تكسبيا وأنه ليس هناك نصّ من كتاب وسنّة يمنع ذلك ما دام في نطاق التلقينات والحدود والرسوم القرآنية والنبوية ، إنما نقوله لنقرر هذا الأمر من حيث المبدأ. وإننا لا نعني أن لا يكون لطبيعة المرأة الأسرية والاجتماعية ولا لطبيعة المجتمع الإسلامي من اعتبار. فنحن نعتقد أن مكان المرأة وعملها الطبيعيين والرئيسيين هما البيت والزوجية والأمومة ومشاغلها. وهذا مما يقرره كتاب الله وسنة رسوله صراحة وضمنا وهما مكان وعمل خطيران ومهمتان حيويتان في الحياة الإنسانية من مختلف الاعتبارات وليس فيهما أي حطّ لقيمة المرأة وشأنها أو تعطيل لقواها ومواهبها. والمرأة فيهما تقوم بما يماثل قيمة ومدى ما يقوم به الرجل من أعمال. وكل ما هناك من فرق هو اختلاف في النوع متأتّ عن اختلاف في الطبيعة الجنسية. ولقد اعتبرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربة البيت والمسئولة عنه وراعية في الحديث الصحيح المشهور الذي رواه الخمسة عن ابن عمر «ألا كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيته» حيث جاء فيه «والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم». وهذا ما تشعر به المرأة ظاهرا وخفيا وتسلّم به وتسعى في سبيله ،

٤٠٩

ولو سئلت النساء عما يفضلنه لكان جواب سوادهن الأعظم الزواج والأمومة والبيت. ويستوي في ذلك كلهن على اختلاف الظروف والحالات والأدوار والأطوار. لأنه الأمر الطبيعي الذي أعدهن الله تعالى له. وعلى هذا كله فكل عمل يمكن أن يخل إخلالا جوهريا بذلك يخرج عن صفة (المشروع) ولو كان في حد ذاته مشروعا. وكل عمل مشروع يصح أن تمارسه المرأة في نطاق الاحتشام يجب أن يكون متسقا مع ذلك.

فالمرأة التي تسمح لها مشاغل البيت والزوجية والأمومة ، أو المرأة التي لم يتيسر لها أن تشتغل بهذه المشاغل هي التي يصح أن تمارس ذلك العمل المشروع الذي لا تمنع الشريعة الإسلامية ممارسته.

وهناك أمران آخران. الأول : هو ملاحظة كون الرجل في الشريعة الإسلامية هو المكلف بالإنفاق على المرأة. وهو المرشح الأول والطبيعي نتيجة لذلك للأعمال التكسبية التي يجني منها ما يحتاج إليه من النفقة المكلف بها. فإذا اندفعت المرأة نحو الأعمال التكسبية من وظائف ومهن اندفاعا واسعا فيه احتمال لمزاحمة الرجل وتضييق مجال وفرص تكسبه ، مكانا أو مقدارا أو قيمة ، أصبح ذلك غير مشروع لأنه يعطل أو يعسّر واجب الرجل الذي أناطت الشريعة الإسلامية به الإنفاق في حين أنه لا يكون في الأعم الأغلب بديلا عنه ، فضلا عن أنه لا يصح أن يكون بديلا عنه لأن ذلك يكون قلبا للأوضاع الطبيعية والجنسية والشرعية. فالحق عندنا والحالة هذه هو أن يكون اضطلاع المرأة بالأعمال التكسبية في النطاق الذي لا يضار به الرجل من جهة ، ومنوطا بالدرجة الأولى بالحاجة والضرورة من جهة أخرى.

أما الأمر الثاني : فهو مراعاة وجوب انطباق الأعمال التكسبية التي تضطلع بها المرأة في النطاق المذكور على طبيعتها الجنسية وأن لا تكون مما يرهقها ويذهب بأنوثتها سواء أكان ذلك مما تؤهلها له ثقافتها ودراستها أم بنيتها وخبرتها ومرانها. فالطبابة والصيدلة والتعليم والمحاسبة والكتابة مثلا أكثر انطباقا على المرأة الجامعية من هندسة الطرق والميكانيكيات المتنوعة. والغزل والزخرف والخياطة والتطريز

٤١٠

والرسم والتجارة والعمل الديواني والهاتف مثلا أكثر انطباقا على غير الجامعية من الحدادة والنجارة والنحاتة والطباعة إلخ. والله أعلم.

وقبل أن ننتهي من هذا البحث نريد أن نستدرك أمرا مستلهما من حديث أوردناه في تفسير سورة الروم رواه أصحاب السنن جاء فيه جواب على سؤال أي النساء خير فقال النبي «الذي تسرّه إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره» ولقد علقنا على هذا الحديث سابقا بما فيه الكفاية. ولكن نقول هنا إنه يحسن على ضوئه أن يكون نشاط المرأة المتزوجة خارج البيت سياسيا كان أم اجتماعيا أم تكسبيا مقترنا برضاء الزوج. لأن عدم رضاه قد يؤدي إلى النزاع والشقاق. وعلى الزوج العاقل الذي لا بد من أن يدرك من نصوص كتاب الله وأحاديث النبي أن المرأة مؤهلة لذلك النشاط وأنه غير مخالف للكتاب والسنة وإن فيه مصلحة وفائدة عامة وخاصة أن يرضى عنه ويباركه ولا يضع العراقيل في طريقه إذا لم يكن حقا شاغلا للزوجة عن واجباتها الزوجية الأساسية. أما إذا لم يفعل رغم ذلك ورأت الزوجة أن معارضة زوجها ضارة بها فلها إذا أحبت أن تدافع عن نفسها وحقها إذا كانت ترى أن نشاطها مشروعا لا بد منه لمصلحتها ومصلحة زوجيتها ومجتمعها اقتداء بالمرأة التي فعلت ذلك وأقرها الله ورسوله عليه على ما جاء في أول سورة المجادلة (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ ...) [١] وأن ترفع الأمر إلى الحاكم ليحل الخلاف ويقر الأمر في نصابه الحق في نطاق ومدى آية سورة النساء (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما ...) [٣٥] التي شرحناها سابقا. والله أعلم.

وكلمة أخرى نقولها في صدد واجب الزوجة بطاعة زوجها أن يكون ذلك في معروف وفي غير معصية ومنكر وفيه خير ومصلحة. وهذا مستلهم من آية سورة الممتحنة التي أمر النبي فيها بقبول بيعة النساء بعدم عصيانه في معروف (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ

٤١١

فَبايِعْهُنَّ ...) [١٢] ومن حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحبّ أو كره ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (١). فإذا أمر زوج زوجته بأمر فيه منكر وليس فيه خير ومصلحة فلا طاعة له عليها وإن أصرّ فلها أن تدافع عن نفسها وترفع أمرها إلى الحاكم ليضع الأمر في نصابه الحق.

هذا ، وواضح من كل ما تقدم في سياق الآيات التي نحن في صددها والتي قبلها أن الآداب والتلقينات والحدود القرآنية والنبوية ترسم لحياة المرأة وعلاقتها بالمجتمع نطاقا تدور فيه من غير إفراط ولا تفريط. وتكفل لها جميع حاجاتها وتسمح لها بكل ما يأتلف مع الحق والمنطق والأدب والخلق الكريم والذوق السليم والعفة والطهارة من حرية وتعليم ومن تصرف وكسب واستمتاع بريء ومشاركة في الواجبات العامة الرسمية وغير الرسمية والاجتماعية وغير الاجتماعية. وكل ما تشدد عليه هو عدم تبذلها وتهتكها. وإذا كان لها أن تختلط في الناس والمجتمع في هذا النطاق فإن الاختلاط المريب الذي فيه تورط في الفتنة وإغراء بها وتشجيع على الإثم والخفة في الظهور بدون ضرورة وغشيان الأماكن العامة غير البريئة من مراقص وملاه ومقاه وملاعب وأندية ومسابح وتعاطي المحرمات والمغريات فيها هو حرام وخارج عن ذلك النطاق من دون ريب. هذا بالإضافة إلى وجوب التزامها نطاق وظيفتها الطبيعية الرئيسية وهي البيت والزوجية والأمومة في الدرجة الأولى وعدم استغراقها خارج ذلك استغراقا يعطلها عن هذه الوظيفة.

وليس من ريب في أن التعاليم القرآنية والنبوية تهيء لأولي الأمر في الدولة وسيلة عقيدية لتنظيم الأمر وجعله في دائرة الحق والآداب من جهة والحيلولة دون ما يتنافى مع ذلك من جهة وضمانة تمتع المرأة بحريتها وحقوقها وتعليمها ومشاركتها في مختلف الشؤون السياسية والاجتماعية في النطاق المرسوم من جهة ومواجهة وضد التيارات الغربية الجارفة الهدامة التي تهدد المجتمع الإسلامي من جهة ، والله أعلم.

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٤٠.

٤١٢

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)) [٣٢].

(١) الأيامى : غير المتزوجين وتشمل الكلمة الذكور والإناث والأبكار والثيبات.

(٢) الصالحين : المتبادر أنها هنا بمعنى الصالحين للزواج ، القادرين على القيام بحقوقه.

(٣) عبادكم : الرجال من الرقيق.

في الآية حثّ للمسلمين على تزويج الذين لا أزواج ولا زوجات لهم من الرجال والنساء. وعلى تزويج الصالحين للزواج من رقيقهم رجالا كانوا أم نساء. وفيها وصية ضمنية بأن لا يكون الفقر مانعا من ذلك. فإذا كانوا فقراء فإن الله قادر على إغنائهم من فضله. وهو ذو الفضل الواسع العليم بمقتضيات الأمور.

تعليق على الآية

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ

مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)) وما فيها من أحكام وتلقين

والآية تحتوي موضوعا مستقلا عن الفصل السابق كما يبدو. غير أن التناسب الموضوعي غير مفقود. ولم نطلع على رواية في نزول الآية. وقد أورد المفسرون في سياقها حديثا نبويا عن ابن مسعود قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغضّ للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (١). وهذا الحديث يجعل بين هذه الآية والفصل السابق صلة تعقيبية على اعتبار أن المتزوجين أبعد عن الافتتان وأقدر على العفة واجتناب مزالق الفاحشة وهذا مما استهدفه الفصل السابق كما لا يخفى. ولفظ الحديث

__________________

(١) البغوي والخازن وابن كثير. والباءة هنا : بمعنى الزواج أو النكاح ، وكلمة (وجاء) بمعنى وقاء. والحديث رواه الخمسة (انظر التاج ج ٢ ص ٢٥٣ ـ ٢٥٤).

٤١٣

متصل بما جاء في الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون الآية قد نزلت مع الفصل السابق أو عقبه فوضعت في ترتيبها ، وإلّا فيكون ذلك بسبب التناسب الموضوعي.

وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن الأمر على سبيل الندب والحثّ والاستحباب (١). كما ذهب بعضهم إلى أنه على الوجوب على كل قادر (٢). وأسلوب الآية ينطوي على تلقين قوي بوجوب الزواج بصورة عامة حتى ليشمل الرقيق وحتى لينهى عن أن يكون الفقر أو ضيق الرزق عثرة في سبيله أمام الراغبين في الزواج والصالحين له من النساء والرجال بما فيهم العبيد والإماء. ولا سيما أن أكثر حالات الفقر ليست انعدام القدرة بالمرة ، وإنما هي ضيق رزق مع القدرة على المهر والنفقة في نطاق الاعتدال أو الكفاف والكسب وهذا منطو في مضمون الآية ويؤيده أن الآية التالية ذكرت عدم الاستطاعة بالمرة. وفي كل هذا حكم اجتماعية وأخلاقية وإنسانية رائعة.

والمتبادر أن الأمر موجه بنوع خاص إلى أولياء الفتيات ومالكي الرقيق لأنهم هم الذين قد يكون المنع من جانبهم. ولعل مما ينطوي فيها إيجاب الاعتدال في المهور وعدم الشطط أمام حالة ضيق الرزق التي هي حالة الجمهور الأعظم من الناس. ولا تخلو في الوقت نفسه من حثّ جمهور المسلمين على المساعدة على تحقيق ما أمرت به الآية. وبخاصة الفقرة الأخيرة المشجعة التي جاءت في آخرها. وهذا وذاك من جملة تلك الحكم البليغة السامية.

ولقد أورد البغوي في سياق هذه الآية حديثا نبويا مشهورا على ألسنة المسلمين جاء فيه «تناكحوا تكثروا فإني مباه بكم الأمم». وحديثا آخر ورد في حديث طويل رواه الشيخان والنسائي جاء فيه «جاء ثلاثة رهط إلى بيوت النبي يسألون عن عبادته فلما أخبروا كأنهم تقالّوا فقالوا وأين نحن من رسول الله فقد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر فقال أحدهم أما أنا فإني أصلّي الليل أبدا. وقال

__________________

(١) البغوي.

(٢) ابن كثير.

٤١٤

آخر أما أنا فأصوم الدهر ولا أفطر. وقال الآخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له. ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» (١). وأورد ابن كثير حديثا رواه الترمذي والنسائي والحاكم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه «ثلاثة حقّ على الله عونهم المكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف والمجاهد في سبيل الله» (٢) وفي الأحاديث تساوق مع التلقين القرآني في الحثّ على الزواج وعلى المساعدة فيه كما هو المتبادر.

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣)) [٣٣].

(١) نكاحا : هنا بمعنى قدرة مادية على الزواج.

(٢) الكتاب : بمعنى المكاتبة. وهي اصطلاح يراد به افتداء العبد نفسه بمال يتعهد بأدائه لسيده ، فإذا أداه أصبح حرا. ولعلها تنطوي على معنى التعاقد بين السيد وعبده.

(٣) خيرا : هنا بمعنى الصلاح والقابلية وحسن الخلق والقصد والصدق والوفاء .. إلخ.

هذه الآية احتوت ثلاثة أمور :

الأول : تنبيه للذين لا يقدرون ماديا على التزوج إلى واجب التزام العفة حتى

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٥٤. وتقالّوا تعني أنهم رأوا ما يفعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قليلا ...

(٢) المصدر نفسه. والمكاتب هو الرقيق الذي يتفق مع مالكه على شراء نفسه بنفسه. وهذا مما سيأتي الكلام عنه في آية تأتي بعد هذه الآية.

٤١٥

يغنيهم الله من فضله وتجنب الإثم ومزالقه.

الثاني : أمر لمالكي الرقيق بمكاتبة رقيقهم إذا طلبوا ذلك ، وكانوا صالحين له مع حثّ المالكين وغيرهم على التصدق عليهم من مال الله الذي آتاهم.

الثالث : نهي عن إكراه الفتيات على البغاء إذا أردن التحصن ابتغاء المال وعرض الدنيا مع الإنذار للمكرهين والوعد بالمغفرة للمكرهات.

تعليق على الآية

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) إلخ

وما فيها من أحكام وتلقين

روى المفسرون أن الأمر الثاني في الآية نزل في حقّ عبد لحويطب بن عبد العزى طلب من سيده المكاتبة. فأباها فشكا أمره إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أمر الله بذلك أمره النبي بمكاتبة فكاتبه على مائة دينار. وأن الأمر الثالث نزل في حقّ عبد الله بن أبي بن سلول الذي كان يجبر أمتين له على التكسب من البغاء وإعطائه ما تكسبان فشكتا أمرهما إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فمنع بالأمر القرآني. وهذه الرواية رويت بطرق عديدة وفي حديث رواه مسلم عن جابر قال «كان لعبد الله بن أبي بن سلول جاريتان إحداهما تسمّى مسيكة وأخرى تسمّى أميمة فكان يكرههما على الزنا فشكتا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) الآية ..» (١) ولم يرو المفسرون رواية عن نزول الفقرة الأولى. والروايات قد تقتضي أن تكون الآية نزلت مجزأة وفي أوقات متباعدة فيما يبدو غريبا.

ونلاحظ :

(١) أن الفقرة الأولى من الآية متصلة اتصالا تاما بموضوع الآية السابقة.

(٢) أن الموضوع الثالث يحتمل معنى آخر غير معنى التكسب بالبغاء. وهو

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ١٧١ و ١٧٢ وانظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي.

٤١٦

النهي عن عدم تزويج الفتيات أو الامتناع عن تزويجهن لأسباب مادية إذا ما أظهرن رغبة في الزواج توكيدا لاتباع فحوى الآية السابقة وتفاديا من التورّط في الإثم. وقد عبّر عن الرغبة في الزواج بجملة (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) وقد جاء في هذا المعنى في آيات عديدة من ذلك آية سورة النساء [٢٤] التي فيها تحريم (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) بمعنى المتزوجات وآية سورة النساء [٢٥] التي فيها جملة (فَإِذا أُحْصِنَ) بمعنى إذا تزوجن بل نحن نرى أن هذا المعنى هو الذي يستقيم أكثر من معنى الإجبار على البغاء لأخذ أجرته.

(٣) أنه ليس من المستبعد أن تكون المكاتبة التي يحثّ عليها الأمر الثاني متصلة بتزوج العبيد الذي حثت عليه الآية السابقة. لأن من المعقول أن يرى العبد حرصا من الزواج مع العبودية أو مانعا بسببها فيطلب التحرر قبل الإقدام عليه.

فإذا صحّت هذه الملاحظات فتكون الآية كلها متصلة بالآية السابقة سياقا وموضوعا وتكون فقراتها الثلاث وحدة متوافقة. وهذا لا يمنع من أن يكون واحد من العبيد أبى سيده عليه المكاتبة فشكا أمره إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن بعض الفتيات راجعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبب امتناع ذويهن أو مالكيهن من تزويجهن وإكراههن على البغاء نتيجة لذلك فاقتضت حكمة التنزيل التنبيه على ما يجب في الأمرين في سياق التعقيب على الآية السابقة ليكون الحكم عامّا. والله تعالى أعلم.

ويبدو أن حثّ غير القادرين على الزواج على التعفف متصل بما يبرره الأعزب لنفسه وبما تبرره له الطبيعة وبسبيل التنبيه على ما في الزنا من إثم عظيم على كل حال. وواضح أنه ليس من تناقض بين الفقرة الأولى من الآية وبين ما في الآية السابقة من الحثّ على الزواج وعدم جعل الفقر عثرة في سبيله. فمما لا ريب فيه أنه قد يكون حالات من الفقر والعسر تحول دون الزواج. والمتبادر أن حكمة التنزيل قد لحظت هذه الحالات فأمرت في الفقرة الأولى بالتزام العفة فيها. ولقد لحظت حكمة التنزيل في آية سورة النساء [٢٥] حالة عجز الحرّ عن التزوج بالحرة لأسباب مادية ، فأذنت له بالتزوج من أمة لأن ذلك أقل كلفة حيث يبدو أن الحالة

٤١٧

الملحوظة هنا هي خاصة بمن لا يستطيع ماديا التزوج مطلقا من حرة أو أمة على السواء.

والجملة الأخيرة من الآية متسقة مع التلقينات القرآنية والنبوية في شأن عفو الله وغفرانه لمن يكره على اقتراف إثم ما على ما شرحناه في مناسبات سابقة.

ولعلّها في مقامها تنطوي على تلقين بعدم التزمت في التزوج من المكرهات على البغاء أو المعتدى على أعراضهن من الفتيات إذا ما تبن وأظهرن الصلاح وأردن التحصن والتعفف.

مدى حثّ القرآن على مكاتبة المماليك

وكونها وسيلة من وسائل تحريرهم وما ورد في ذلك

والمكاتبة وسيلة من وسائل تحرير الرقيق. وصيغة الآية قد تلهم أنها كانت جارية قبل نزولها أيضا كما هو شأن عتق الرقاب فأكدها القرآن لأنها مما يتسق مع ما حثّ عليه في مختلف المواضيع والمناسبات. وما تضمنته الآية من الحثّ على التصدق على المكاتبين ينطوي على توكيد وجوب تسهيل تحريرهم وعتقهم كما هو المتبادر. وفي الحديث الذي رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة وأوردناه قبل تدعيم حيث جاء فيه أن المكاتب الذي يريد الأداء من الذين حقّ على الله عونهم.

وفي كتب التفسير (١) أحاديث وأقوال في أحكام المكاتبة صارت مستندات لمذاهب فقهية بالإضافة إلى محتوى الجملة.

فأولا : هناك خلاف فيما إذا كان الأمر بالمكاتبة هو على سبيل الإيجاب أم الاستحباب. وقد استند الذين قالوا بالإيجاب إلى ظاهر الآية التي تأمر بالمكاتبة إذا ما طلبها المملوك وإلى حديث رواه قتادة عن أنس بن مالك مفاده أن مملوكه سيرين طلب المكاتبة فتلكأ فشكاه إلى عمر بن الخطاب فأمره بمكاتبته وفي رواية

__________________

(١) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي في صدد جميع ما جاء في هذه النبذة.

٤١٨

علاه بالدرة على تلكؤه. وقد يكون هذا الرأي هو الأوجه المتسق مع روح التلقين القرآني العام بتحرير الرقاب إطلاقا. وإن كان يرد أن جملة (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) في الجملة تجعل الأمر منوطا بتقدير المالك وتضعف قوة الإيجاب. على أن ما روي في سبب نزولها ومداخلة النبي بعد نزولها وما روي من مداخلة عمر قد يسوغ القول إن ولي الأمر يمكن أن يكون مرجعا في هذا التقدير ونافذ الأمر في القضية. والله أعلم.

ولقد أورد ابن كثير في سياق جملة (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) حديثا مرسلا رواه أبو داود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيه تفسير لها ونصه «إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلابا على الناس». وروى الطبري أقوالا لعلماء تابعين تفيد أنها تعني القوة على الأداء وقوة الاحتراف والاكتساب أو الصدق والوفاء والأمانة والصلاح. وكل هذا أيضا مما تتحمله الجملة.

وثانيا : هناك توسيع وتضييق في هوية المخاطب بجملة (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) حيث قيل إنهم مالكو العبيد كما قيل إنهم الميسورون عامة. والقول الثاني هو الأوجه على ما هو المتبادر لأن به مساعدة على تحقيق أمر الله أكثر. والأمر على كل حال في الجملة قوي اللهجة في صدد مساعدة المكاتب على أداء بدل كتابته. ومن الجدير بالذكر أن تحرير الرقاب من جملة المصارف التي عيّنها القرآن للزكاة على ما سوف نشرحه في سياق الآية [٦٠] من سورة التوبة.

وثالثا : لقد استنبط المؤولون والفقهاء من الجملة القرآنية (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) أن المملوك بمجرد أن يكاتب أي يتفق مع مالكه على شراء نفسه يصبح صاحب حق في كسبه وأهلا للزكاة من مالكه وغيره والتصرف فيهما نتيجة لذلك. والجمهور على أن مولى المكاتب بعد الاتفاق يفقد حق العودة عن مكاتبته والتصرف في مملوكه وأولاده تصرفه الأول من هبة وبيع واستغلال إلّا إذا نكث ولم يف بما تعهد من أداء الأقساط حيث ينفسخ الاتفاق ويعود حق المالك على المملوك وأولاده كما كان. وتظل صفة المملوكية نتيجة لذلك قائمة إلى أن

٤١٩

يتم أداء بدل المكاتبة. وحينما يتم يتحرر المملوك هو وأولاده.

ولقد روى أصحاب السنن حديثا نبويا جاء فيه «أيما عبد كاتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد» (١). وليس من تناقض بين هذا وبين ما تقدم كما هو ظاهر. ولقد روى أصحاب السنن حديثا نبويا آخر عن أم سلمة قالت «قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان لإحداكنّ مكاتب عنده ما يؤديه فلتحتجب منه» (٢). حيث ينطوي في هذا أن المكاتبة تخرج المملوك من صفة العبودية المطلقة بمجرد الاتفاق عليها فلا تعود مالكة المكاتب محرمة عليه ويكون عليها أن لا تبدي زينتها ومفاتنها أمامه لأن آية النور [٣١] أباحت لها ذلك أمام مملوكها.

ورابعا : هناك اختلاف في المكاتب المتوفى قبل أداء جميع ما عليه. وكان له مال. فقد قال بعضهم إن المكاتبة تنفسخ ويكون ما تركه من مال وأولاد ملكا لسيده. وقال بعضهم إنها لا تنفسخ وإنه ليس للمالك إلا استيفاء ما بقي له من ماله ويكون أولاده أحرارا ويرثون ما فضل من مال أبيهم. والحق والوجاهة والاتساق مع هدف التشريع القرآني في جانب القول الثاني كما هو المتبادر ولقد أصبح المكاتب أهلا لكسبه وللزكاة والتصرف فيهما على ما شرحناه في الفقرة الثالثة.

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)) [٣٤].

عبارة الآية واضحة. ولم نطلع على رواية ما في مناسبتها. ويتبادر لنا أنها معقبة على الآيات السابقة جميعها أو القريبة منها. وبسبيل تنبيه المسلمين إلى ما يجب عليهم من التزام أحكام الله وتعاليمه وأوامره ونواهيه المبينة في الآيات السابقة. فالله قد أنزل إليهم آيات واضحات ، فيها بيان ما يجب عليهم من الأحكام وواجبات السلوك ، كما أنزل إليهم أخبارا من الأمم السابقة وما حل في الذين

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٤٩.

(٢) المصدر نفسه.

٤٢٠