التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

لا يجوز أن يخوضوا فيه وأن يحولوا دون ذيوعه وتوسع الكلام عنه.

(٨) وإن الله لينهاهم عن العودة إلى مثله أبدا إذا كانوا مؤمنين حقا. وإنه ليبين لهم الآيات ليتذكروا. وإنه لهو العليم بكل شيء الحكيم الذي يأمر بما فيه الحق والخير والمصلحة.

وهذا الحادث من الحوادث المهمة في تاريخ السيرة النبوية كان موضوع بحث وتمحيص وقيل وقال. ورويت فيه روايات عديدة وطويلة. وفي فصل التفسير في صحيح البخاري ومسلم والترمذي حديث طويل مروي عن عائشة أم المؤمنين احتوى تفصيل المسألة تفصيلا وافيا رأينا إيراده لما فيه من صور وفوائد. قالت «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أراد أن يخرج أقرع بين زوجاته فأيّتهن خرج سهمها خرج بها معه فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت معه بعد ما نزل الحجاب. فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه. فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذن بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع أظفار (١) قد انقطع فالتمست عقدي وحبسني (٢) ابتغاؤه فأقبل الرهط الذين كانوا يرحّلون لي فاحتملوا هودجي فرحّلوه على بعيري وهم يحسبون أني فيه. وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يثقلهنّ اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفّة الهودج حين رفعوه وكنت جارية حديثة السنّ فبعثوا الجمل وساروا فوجدت عقدي بعد ما استمرّ الجيش فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فأممت منزلي الذي كنت به وظننت أنهم سيفقدونني فيرجعون إليّ. فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت وكان صفوان بن المعطل السلمي الذكواني من وراء الجيش فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني وكان يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه (٣) حين عرفني. فخمرت وجهي بجلبابي والله

__________________

(١) أظفار : مدينة في اليمن ، والجزع : حجر كريم.

(٢) حبسني : أخّرني.

(٣) قوله إنا لله وإنا إليه راجعون.

٣٨١

ما كلّمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطئ يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة. فهلك من هلك في شأني.

وكان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول. فقدمنا المدينة فاشتكيت (١) شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك. ويريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي. إنما يدخل عليّ فيسلّم ثم يقول كيف تيكم ثم ينصرف ولا أشعر بالشرّ. حتى خرجت بعد ما نقهت فخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو متبرزنا وكنّا لا نخرج إلّا ليلا إلى ليل. وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا. وأمرنا أمر العرب في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا وأم مسطح بن أثاثة وهي بنت أبي رهم بن عبد مناف وأمها خالة أبي بكر الصديق فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي وقد فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح فقلت لها بئس ما قلت أتسبّين رجلا شهد بدرا قالت أي هنتاه (يا هذه) أو لم تسمعي ما قال؟ قلت وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي ودخل عليّ رسول الله ثم قال كيف تيكم. قلت أتأذن لي أن آتي أبوي ـ قالت وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ـ فأذن لي رسول الله. فجئت أبوي فقلت لأمي يا أمتاه ما يتحدث الناس. قالت يا بنية هوّني عليك فو الله لقلّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها لها ضرائر إلّا كثّرن عليها ، فقلت سبحان الله ولقد تحدّث الناس بهذا. قالت فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم حتى أصبحت أبكي. فدعا رسول الله علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله (طلاقها). فأما أسامة فأشار عليه بالذي يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودّ فقال يا رسول الله أهلك وما نعلم إلّا

__________________

(١) مرضت.

٣٨٢

خيرا. وأما علي فقال يا رسول الله لم يضيّق الله عليك. والنساء سواها كثير. وإن تسأل الجارية تصدقك : قالت فدعا رسول الله بريرة فقال أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك. قالت لا والذي بعثك بالحقّ إن رأيت منها أمرا أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السنّ تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله فقام رسول الله فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول فقال وهو على المنبر يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي ، فو الله ما علمت على أهلي إلّا خيرا ، ولقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلّا خيرا وما كان يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن معاذ فقال يا رسول الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك فقام سعد بن عبادة (زعيم الخزرج) وكان قبل ذلك رجلا صالحا ولكن احتملته الحمية فقال لسعد كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، فقام أسيد بن حضير (من زعماء الأوس) فقال لسعد بن عبادة كذبت لعمر الله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيان الأوس والخزرج حتى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله على المنبر فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت. قالت فبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوما وهما يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت عليّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي قالت فبينا نحن كذلك دخل علينا رسول الله فسلّم ثم جلس ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل قبلها ، وقد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني فتشهّد ثم قال : أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرّئك الله وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب عليه. فلما قضى رسول الله مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة فقلت لأبي أجب رسول الله فيما قال. قال والله ما أدري ما أقول ، فقلت لأمي أجيبي رسول الله قالت ما أدري ما أقول لرسول الله. فقلت وأنا جارية حديثة السنّ لا أقرأ كثيرا من القرآن : إني والله لقد علمت. لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقرّ في أنفسكم وصدقتم به. فلئن قلت لكم إني بريئة والله

٣٨٣

يعلم أني بريئة لا تصدقونني بذلك ولئن اعترفت لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقني. والله ما أجد لكم مثلا إلا قول أبي يوسف قال (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) [يوسف : ١٨]. ثم تحولت فاضطجعت على فراشي. وأنا أعلم أني بريئة ولكن والله ما كنت أظنّ أن الله منزل في شأني وحيا يتلى. ولشأني في نفسي أحقر من أن يتكلّم الله فيّ بأمر يتلى. ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله في النوم رؤيا يبرئني الله بها. قالت فو الله ما رام رسول الله ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء (١) حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان (٢) من العرق في يوم شات من ثقل القول الذي ينزل عليه فلما سرّي عن رسول الله وهو يضحك فكان أول كلمة تكلّم بها : يا عائشة أمّا الله عزوجل فقد برّأك فقالت أمي قومي إليه (٣). فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله عزوجل. فأنزل الله (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) العشر الآيات كلها. فلما أنزل الله تعالى هذا في براءتي قال أبو بكر الصديق : والله لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد ما قال في عائشة. وكان ينفق عليه لقرابته منه وفقره فأنزل الله تعالى (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)) قال أبو بكر بلى والله إني أحبّ أن يغفر الله لي فرجّع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه. وقال والله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة وكان رسول الله يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال يا زينب ماذا علمت أو رأيت قالت يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ما علمت إلا خيرا. قالت وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي فعصمها الله بالورع وطفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك» (٤). وقد روى الترمذي تتمة للقصة عن عائشة قالت «لما نزل عذري قام

__________________

(١) من الشدة والجهد.

(٢) الدرّ.

(٣) في رواية الطبري أول كلمة تكلم بها رسول الله أبشري يا عائشة إن الله قد برأك.

(٤) التاج ج ٤ ص ١٦٦ ـ ١٧١ ولقد أورد الحديث المفسرون بفروق قليلة غير جوهرية. انظر

٣٨٤

رسول الله على المنبر فذكر ذلك وتلا القرآن فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدّهم» (١).

والحديث كما هو واضح قد صدر من عائشة بعد مدة طويلة من الحادث. غير أن هذا ليس من شأنه أن يضعف من صحة جميع ما جاء فيه. وفي الروايات بعض تفصيلات لم ترد فيه ، منها أن الغزوة التي وقع الحادث أثناءها هي غزوة بني المصطلق أو المريسيع (٢) وأن الذين خاضوا في الحديث أكثر من غيرهم وأوقع النبي عليهم الحدّ حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. وهناك رواية تذكر أن الذي تولّى كبره هو حسان بينما هناك رواية تذكر أنه عبد الله بن أبي بن سلول (٣). ومن العجيب أن الروايات لم تذكر أن النبي أقام الحدّ على عبد الله بن أبي بن سلول. وحديث عائشة الذي رواه الترمذي يذكر أن الذين أقيم عليهم الحد رجلان وامرأة. فالظاهر أن عبد الله بن أبي بن سلول لعب دوره بمهارة وأن الذين تورّطوا في الحديث هم الثلاثة المذكورون. ولقد روى المفسرون أن ابن سلول كان يجمع الكلام ويستوشيه حتى دخل في أذهان الناس فتكلموا به وجوزه آخرون منهم وأن هذا المسلك كان مما درأ عنه الحد لأنه لم يصدر منه قذف صريح (٤).

ولقد روي (٥) أنه وقعت ملاحاة ومشادة بين بعض المهاجرين والأنصار من الخزرج من أقارب ابن سلول في أثناء غزوة المريسيع وجعلت هذا يظهر ما في صدره من حنق وغيظ ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرين ويهدد ويتوعد وكان لذلك أثر

__________________

تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

(١) التاج ج ٤ ص ١٧١.

(٢) طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٠٤ ـ ١٠٦ وبنو المصطلق قبيلة عربية. والمريسيع اسم ماء. والوقعة سميت بكلا الاسمين ولا تناقض في ذلك.

(٣) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن والطبرسي وابن كثير والزمخشري والقاسمي.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٠٤ ـ ١٠٧ والتاج ج ٤ ص ٢٣٥ ـ ٢٣٧.

٣٨٥

مرير في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمهاجرين على ما سوف نشرحه في سورة (المنافقون) بعد هذه السورة. ومما يخطر في البال أن يكون ابن أبي بن سلول قد أراد في ما أثاره من حديث الإفك شفاء نفسه من النبي بهذه الإثارة.

ومع أن الآيات ليست بسبيل حكاية القصة كما هو واضح. وشأنها شأن ما ورد في القرآن من قصص وإشارات إلى حوادث السيرة أي أنها استهدفت التنديد والإنذار والعتاب والتذكير والعظة والتبرئة والتسلية على ما جاء في الشرح فإنها احتوت بعض الدلالات المتسقة مع المروي إجمالا كما أن فيها دلالة على ما كان للحادث وظروفه من آثار مؤذية ومزعجة. هذا مع توقفنا فيما روي من موقف النبي من عائشة وجفائه وما يوهمه هذا من احتمال شكه فيها. فإن الآيات لا تساعد على التسليم به نصا وروحا. وفي نفسنا كذلك شيء مما ورد عن موقف علي بن أبي طالب. فهو يطلب من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسأل الجارية وهي تصدقه مما يدل على أنه كان يعلم منها ما يريب في حين أنه لم يكن شيء من ذلك. ولا نود أن نصدق أن عليا رضي الله عنه يبيح لنفسه أن يشك في عائشة رضي الله عنها ويحرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على طلاقها بدون برهان وليس هناك برهان. ولقد أثير هذا حين نشبت الفتنة بين المسلمين بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وكان من صفحاتها الوقعة المعروفة بحرب الجمل التي كان في طرفها الأول علي بن أبي طالب وفي طرفها الثاني عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم أجمعين حيث قيل فيما قيل على هامشها إن عائشة ظلت ناقمة على عليّ بسبب موقفه المذكور. ومعظم ما جاء في الروايات حول هذه الفتنة مشوب بالهوى الحزبي (١).

وأسلوب الآيات قوي في التنديد والإنذار والعتاب والتطمين والتسلية. ومن شأنه أن يثير الرهبة والخجل والندم في الذين تورطوا في حديث الإفك بأي شكل أو سكتوا عنه من جهة. وأن يبعث القناعة التامة في نزاهة أم المؤمنين ويهدىء

__________________

(١) اقرأ تمحيصا لأخبار هذه الوقعة في الجزء السابع من كتابنا تاريخ الجنس العربي الفصل الرابع.

٣٨٦

روعها ويطيب نفسها من جهة. وأن يعظم إثم الذين قادوا حملة الإفك أو خاضوا فيه أكثر من غيرهم من جهة.

ويتبادر لنا أن التنديد بالساكتين عن شيوع الخبر والمتورطين فيه من غير الذين قادوا الحملة أو خاضوا في الحديث أكثر من غيرهم وبخاصة ما جاء في الآيتين [١٥ و ١٦] ينطوي على قصد بيان ما في الحادث من إفك بديهي. وكونه مما لا يصح في العقل أن تقترف زوجة النبي إثما فاحشا وهي بنت أول بيت في الإسلام بعد بيت النبي وفي مرتبة سامية من الكرامة عند الله والنبي والمسلمين وزوجة النبي الذي كانت تعتقد أن وحي الله متصل به أولا ، وأن يجرأ مسلم على التعرض لزوجة النبي وهي أمه المعنوية بنص القرآن ، وفيه ذرة من الإيمان بالله ورسوله ثانيا. ومن العجيب الذي يبعث الاشمئزاز أن تحتوي الآيات كل هذه القوة والإحاطة في التنزيه والتنديد والتنبيه إلى ما لا يعقل ولا ينبغي ولا يصح ، ثم يظل أعداء الإسلام يخوضون في هذه القصة خوضا ليس له من قصد غير التجريح والتشنيع.

ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية فقد احتوت تلقينات أخلاقية واجتماعية بليغة مستمرة المدى : في تقبيح التعرض لأعراض الناس وخاصة بالكذب والافتراء والخوض فيها بدون علم وبينة. وفي عدم جواز سكوت الجمهور على مثل هذا التصرف أو الانسياق في تياره بدون تروّ وتدبر. وفي وجوب الوقوف في مثل هذه الحوادث موقفا حاسما قويا فلا يسمح بذيوع الإفك والبهتان ومسّ أعراض الناس ، وفي تطمين الأبرياء حتى لا ينزعجوا بمثل هذه الحوادث التي كثيرا ما تثيرها الأغراض والنوايا الخبيثة وحبّ الكيد والغفلة ـ وهذه كلها تجمعت في إثارة حديث الإفك كما يفهم من تفاصيل الروايات وقرائن الآيات ـ وحتى يقابلوها برباطة جأش وطمأنينة قلب فيكون ذلك عاملا على قتل الإفك وإحباط الكيد.

٣٨٧

(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)) [١٩ ـ ٢٠].

(١) الفاحشة : هنا بمعنى الأمور القبيحة أو أخبار السوء.

الآيتان متصلتان بالآيات السابقة سياقا وموضوعا ومعقبتان عليها كما هو المتبادر. وقد احتوت أولاهما تنديدا بالذين يحبون أن تنتشر أخبار السوء وأفعال القبح والفواحش في أوساط المؤمنين وإنذارا لهم. وإيعازا بوجوب تأديبهم في الدنيا بالإضافة إلى ما سوف يكون لهم من عذاب أليم في الآخرة. وإيذانا بأن الله يعلم كل شيء ومقتضيات الأمور ، دون السامعين المخاطبين وهم المسلمون. واحتوت ثانيتهما تذكيرا بما شملهم الله به من فضله ورحمته بحيث كانت العواقب تسوء لو لا هما. ولكن الله الرؤوف الرحيم قد تداركهم. فانقضى الحادث على خير وسلام. كأنما تؤكد عليهم مرة أخرى بوجوب الحذر من التورّط في مثله مرة أخرى.

وفي الحديث الذي رواه الترمذي عن عائشة وأوردناه قبل خبر إقامة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على رجلين وامرأة حد القذف حيث يتبادر أن ذلك تنفيذ للإيعاز الذي احتوته الآية الأولى.

وأسلوب الآيتين تقريري عام ينطوي فيه تلقين قوي عام الشمول والاستمرار بوجوب الوقوف من مثل تلك الفئة التي تحب أن تشيع الفاحشة في أوساط المسلمين موقف الشدة والتأديب والتنكيل في كل ظرف ومكان. وفي هذا ما فيه من الحقّ والحكمة.

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا عن ثوبان أخرجه الإمام أحمد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم فإنه من طلب عورة

٣٨٨

أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته» (١). حيث ينطوي فيه تلقين نبوي متساوق مع التلقين القرآني وفيه تأديب وتحذير قويان لكل مسلم بل لكل إنسان.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١)). [٢١]

(١) ما زكى : ما طهرت سريرته وصفت نيته.

والآية متصلة أيضا بسابقاتها سياقا وموضوعا اتصال تعقيب وعظة وتنبيه على ما هو المتبادر. والخطاب فيها موجه للمؤمنين يحذرون فيه من اتباع خطوات الشيطان ووساوسه وهو إنما يأمر بالفحشاء والمنكر. ويذكرون فيه مرة أخرى بفضل الله ورحمته بهم اللذين لو لا هما لما اهتدى وزكى أحد منهم أبدا وهو السميع لكل شيء ، العليم بكل شيء ، الذي يزكي من يشاء ممن علم صلاحهم وطيب سرائرهم وأهليتهم لتزكيته وفضله ورحمته. كأنما يهتف بهم بوجوب التمسك بأوامر الله والتزام حدوده والبعد عن المزالق والفتن والفحشاء والمنكر حتى يضمنوا لأنفسهم دوام فضله ورحمته.

ومع اتصال الآية بموضوع حديث الإفك فإن أسلوبها هي الأخرى تقريري عام. وما احتوته من نهي وتنبيه وتذكير وهتاف موجه للمسلمين في كل ظرف ومكان كما هو واضح.

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية بعض الأحاديث منها عن أبي مجلز «أن رجلا قال لابن مسعود إني حرّمت أن آكل طعاما وسمّاه فقال له هذا من نزغات

__________________

(١) روى صيغة مقاربة لهذه الصيغة أبو داود أيضا وهذه هي (لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله) انظر التاج ج ٥ ص ٢٨.

٣٨٩

الشيطان. كفّر عن يمينك وكل» ومنها «أن رجلا نذر ذبح ولده فقال له الشعبي هذا من نزغات الشيطان» ومنها عن أبي رافع قال «غضبت أمي على امرأتي فقالت هي يوم يهودية ويوم نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك. فأتيت عبد الله بن عمر فقال إنما هذه من نزغات الشيطان» وكذلك قالت زينب بنت أم سلمة وهي يومئذ أفقه امرأة في المدينة «وأتيت عاصم بن عمر فقال مثل ذلك» وينطوي في هذه الأخبار صور لفهم أصحاب رسول الله وتابعيهم للآية وتطبيقاتها. ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن هذه الصور ليست كل ما يمكن أن يكون من نزغات الشيطان. وإن كل انحراف ديني أو خلقي أو اجتماعي أو سلوكي وكل إثم وفحش وبغي يصبح ويمكن أن يكون من ذلك.

(وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)) [٢٢].

(١) ولا يأتل : ولا يحلف ، من الإيلاء.

تنهى الآية الذين وسع الله عليهم الرزق والفضل عن الحلف بعدم الإنفاق على المحتاجين من ذوي قرباهم والمساكين والمهاجرين في سبيل الله. وتأمرهم بالعفو والصفح. وتسألهم سؤال حثّ وتحريض عما إذا لم يحبوا أن يغفر الله لهم. وتنبههم إلى صفتي الله الغفور الرحيم. كأنما تهيب بهم إلى التخلّق بهما.

والمفسرون متفقون (١) على أن الآية في صدد يمين حلفها أبو بكر الصديق بأن لا ينفق على قريبه مسطح الذي كان من العصبة التي جاءت بالإفك ولا ينفعه بشيء وقد ورد هذا في حديث عائشة الذي ذكرت فيه أنه كان سبب نزول الآية.

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

٣٩٠

وهكذا تكون الآية متصلة بموضوع السياق السابق. ومن المحتمل أن تكون نزلت لحدتها فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي. ومن المحتمل أن تكون نزلت مع السلسلة التي نزلت كما يبدو واضحا من مضمونها وروحها بعد انتهاء قضية حديث الإفك على سبيل الإنذار والتنديد والتنويه والتبرئة والتهدئة. وهو ما نرجحه. والله أعلم.

ولقد ذكرنا قبل أن المفسرين رووا أن مسطحا كان من جملة الذين أقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليهم حدّ القذف. وروح الآية تفيد أنه ندم وتاب فتاب الله عليه. واقتضت حكمة التنزيل بعد ذلك معالجة أمر قسم أبي بكر بالامتناع عن النفقة عليه فجاءت الآية بأسلوبها الرائع مما جرى عليه النظم القرآني في معالجة مثل هذه الحوادث وتهذيب نفوس أصحاب رسول الله في ظروفها وبثّ التسامح بينهم.

وقد روى المفسرون (١) أن أبا بكر رضي الله عنه قال حينما نزلت الآية إني والله لأحبّ أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح بنفقته التي كان ينفق عليه حيث ينطوي في هذا صورة لأخلاق أصحاب رسول الله وإذعانهم لأوامر الله وتوجهاتهم وكبت غيظهم بسبيل ذلك.

وفي الآية وبخاصة في أسلوبها المطلق الذي جاءت به تلقين جليل عام الشمول والاستمرار بوجوب تغليب عاطفة الرأفة والجنوح إلى العفو والصفح وكظم الغيظ وعدم منع المعونة عن المحتاج إليها إذا ما بدا منه بعض الهفوات والتصرفات الشاذة. فالله لا يمنع رحمته ويقفل باب غفرانه عن أحد ، وفي هذه لعباده الأسوة الحسنة.

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.

٣٩١

اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)) [٢٣ ـ ٢٥]

(١) الغافلات : اللاتي لم يخطر الإثم في بالهن. أو سليمات النية والسريرة لسن داهيات ولا ماكرات.

(٢) : دينهم : هنا بمعنى جزائهم.

إن الله هو الحق المبين : إنه ذو الحق المبين. أو ذو العدل المبين. أو الذي يتجسم في أعماله الحق المبين.

وهذه الآيات كسابقاتها معقبة على حادث الإفك ومتصلة بالسياق كما هو ظاهر. وقد احتوت إنذارا قاصما بلعنة الله في الدنيا والآخرة ، وعذابه العظيم لمن يقذف المؤمنات العفيفات اللاتي تنزهن عن الفواحش والآثام ولم تخطر ببالهن وهنّ سليمات النية والسريرة. ولسوف تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم يوم القيامة بما كان منهم بسبيل ذلك فيوفيهم الله جزاءهم العادل وهو الذي يتجسم العدل في كل ما يأمر ويقضي ويريد.

وأسلوب الآيات يلهم أنها بسبيل الزجر والردع عن التعرض لأعراض النساء والتشديد فيه تعقيبا على ما كان من حادث قذف أم المؤمنين. وفيها توكيد ضمني بنزاهتها وبراءتها. وهي في ذات الوقت جاءت عامة التوجيه ليكون تلقينها الإنذاري والتأديبي مستمر المدى.

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)) [٢٦].

وهذه الآية أيضا كالآيات السابقة متصلة بحادث الإفك اتصال تعقيب وبسبيل توكيد براءة أم المؤمنين والتسرية عنها مما نالها من أذى كما هو المتبادر. فلا يمكن أن تكون إلّا بريئة طيبة لأنها زوجة النبي البريء الطيب ولا يمكن أن تكون زوجة النبي البريء الطيب إلّا بريئة طيبة.

٣٩٢

وقد جاءت الآية بأسلوب مطلق ليكون تلقينها التهذيبي والأخلاقي شاملا مستمر المدى كذلك.

وهذه الآية هي آخر سلسلة الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل إنزالها في مناسبة حديث الإفك. ولما كانت الصلة وثيقة بين آيات هذه السلسلة فإننا نرجح أن هذه الآية والآيات الثلاث التي سبقتها قد نزلت هي الأخرى مع السلسلة مثل الآية [٢٢] بعد انتهاء قضية هذا الحديث إما دفعة واحدة وإما متتابعة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)) [٢٧ ـ ٢٩].

(١) حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها : أوّل بعضهم الجملة بمعنى حتى تعرفوا أن أهلها موجودون وتسلموا عليهم قبل الدخول ليأذنوا لكم بالدخول إذا شاؤوا. وروى الطبري مع ذلك أن ابن عباس وسعيد بن جبير والأعمش كانوا يقرأون كلمة (تَسْتَأْنِسُوا) بلفظ (تستأذنوا) ويقولون إنها غلط من الكاتب.

(٢) فيها متاع لكم : لكم في دخولها فائدة ومصلحة وحاجة.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا

وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧)) والآيتين التاليتين لها ومدى

ما فيها من آداب سلوكية للرجال والنساء وما ورد في صدد ذلك

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تشريعا في آداب الدخول على بيوت الغير في النطاق التالي :

٣٩٣

أولا : لا يصح للمؤمنين الذين وجّه إليهم الخطاب في الآيات أن يدخلوا بيوتا غير بيوتهم إلّا بعد الاستئذان والاستئناس بأن أهلها فيها ، وبعد أن يأذنوا بدخولهم عليهم. وعليهم أن يحيوهم بالسلام قبل كل شيء. وإذا قيل لهم ارجعوا فليرجعوا ، فهذا هو الأطهر لهم المبعد عنهم قالة السوء.

وثانيا : لا يصح لهم أن يدخلوا كذلك بيوتا غير بيوتهم إذا لم يجدوا فيها أحدا من أصحابها إلا بإذن منهم باستثناء البيوت غير المسكونة إذا كان لهم في ذلك مصلحة وحاجة.

وقد نبهت مقاطع الآيات الثلاث الأخيرة إلى أن ما في ذلك من تذكير وتعليم. وإلى كون الله تعالى يعلم كل ما يفعلونه وكل ما يبدونه أو يكتمونه على سبيل التدعيم لما احتوته الآيات من تشريع ، والتشديد على وجوب اتباعه وعدم مخالفته.

وقد روى الطبري عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحبّ أن يراني أحد لا والد ولا ولد ، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال ، فنزلت الآية الأولى. وروى الزمخشري أن أبا بكر قال : يا رسول الله إنه قد أنزل عليك آية بالاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلّا بإذن؟ فنزلت الآية الثانية. وقال الخازن : لما نزلت آية الاستئذان قالوا : كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها ساكن يريدون المنازل المبنية للسابلة ليأووا إليها ويؤووا أمتعتهم ، فأنزل الله الآية الثالثة.

والرواية الأولى محتملة جدّا دون الروايتين الثانيتين فيما يتبادران لنا. لأن منازل السابلة في طريق مكة والمدينة والشام قد أنشئت في الدولة الإسلامية وكان العرب يحملون خيامهم من الشعر أو الجلد فيأوون إليها حينما ينزلون منزلا في رحلاتهم الطويلة. وهذا لا يمنع أن يكون بعضهم استفتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما نزلت الآية الأولى عن أمر البيوت غير المسكونة فرفع الله في الآية الثالثة الحرج عن

٣٩٤

الناس. وعلى كل حال فالذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث فصل تشريعي يتمم بعضه بعضا.

ونلمح صلة ما بين هذه الآيات وبين موضوع السلسلة السابقة عند إنعام النظر. فالدخول إلى بيوت الناس بدون إذن مما يفسح المجال للقيل والقال وإشاعة أخبار السوء ، وهذا مما حذرت منه الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد تلك السلسلة فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي ، أما إذا لم تكن نزلت بعدها مباشرة فيكون ترتيبها للتناسب الموضوعي الملموح.

ويظهر من فحوى الآيات وروحها أن الناس كانوا يدخلون بيوت بعضهم بدون استعلام واستئذان. وهذا مستفاد أيضا من آية سورة الأحزاب [٥٣] التي جاء فيها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ ...) ومن الأحاديث والروايات العديدة التي أوردها المفسرون. منها ما أورده الطبري وأوردناه قبل عن عدي بن ثابت كسبب لنزول الآية الأولى ، ومنها حديث أورده الخازن جاء فيه «قال كند بن حنبل دخلت على النبيّ ولم أسلّم ولم أستأذن ، فقال لي : ارجع فقل : السلام عليكم أأدخل؟». فاحتوت الآيات كما هو ظاهر تأديبا رفيعا في هذا الشأن توخى فيه تنظيم السلوك الشخصي بين المسلمين تنظيما يجنبهم دواعي الريبة وأخبار السوء وما يكون فيه للغير من أذى وتثقيل.

والخطاب في الآية عام للمسلمين. وليس فيه قرينة تخصص أنه خطاب للرجال دون النساء. وحكمه يتناولهم في كل ظرف ومكان بطبيعة الحال. والروعة فيما احتوته أنه آداب من طبيعتها الخلود والاتساق مع الخلق الفاضل والذوق السليم في كل وقت ومكان.

والمتبادر أن الاستئناس والاستئذان والسلام هو بسبيل تنبيه أهل البيت حتى يتهيأوا لقبول الزائر إذا لم يكن عندهم مانع ويأذنوا له. وأن فحوى الآيات وروحها

٣٩٥

يلهمان أن هذا التنبيه والتأديب عام للنساء والرجال على السواء وأنه ليس من جناح من دخول النساء على الرجال والرجال على النساء بعد صدور الإذن. والحديث الذي رواه الطبري مما يؤيد ذلك وقد روى مجاهد أن ابن عمر جاء من حاجة وقد آذاه الرمضاء فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال : السلام عليكم أأدخل؟ قالت ادخل بسلام ، فأعاد فأعادت ، وهو يراوح بين قدميه ، قال قولي : ادخل. قالت : ادخل فدخل» (١) ، مما فيه تأييد لذلك. والآيات التالية لهذه الآيات ثم آيات أخرى في آخر هذه السورة مما يؤيده أيضا. وكل ما يجب استلهاما من الآيات التزام العفة وطهارة النية وستر المرأة زينتها ومفاتن جسدها أمام غير محارمها.

ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة فيها تتمة للأدب القرآني منها حديث رواه الخمسة عن جابر قال «أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب فقال : من ذا فقلت : أنا ، فقال أنا أنا ـ كأنه كرهها ـ» (٢). وروى أبو داود عن عبد الله بن بشر قال «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر» (٣). وروى الأربعة عن سهل بن سعد «أن رجلا اطلع من جحر في باب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومع النبي مدرى يرجل به رأسه فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك. إنما جعل الله الإذن من أجل البصر» (٤). وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حلّ لهم أن يفقأوا عينه» (٥) وروى مسلم وأحمد عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت

__________________

(١) تفسير الطبري.

(٢) التاج ج ٥ ص ٢١٨ ـ ٢١٩. وكراهية الجواب أنا أنا تعني وجوب ذكر الاسم حتى يعرفه صاحب البيت.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه ، والمدرى بمثابة المشط.

(٥) التاج ج ٥ ص ٢١٨ ـ ٢١٩.

٣٩٦

عينه ما كان عليك من جناح» (١). وروى الترمذي عن أبي ذرّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من كشف سترا فأدخل بصره في البيت قبل أن يؤذن له فرأى عورة أهله فقد أتى حدّا لا يحلّ له أن يأتيه ، لو أنه حين أدخل بصره استقبله رجل ففقأ عينه ما غيّرت عليه وإن مرّ الرجل على باب لا ستر له غير مغلق فنظر فلا خطيئة عليه إنما الخطيئة على أهل البيت» (٢). وقد روى مالك في موطئه حديثا عن عطاء بن يسار «أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أأستأذن على أمّي؟ قال : نعم. فقال الرجل إني معها في البيت ، فقال له أتحبّ أن تراها عريانة؟ قال : لا. قال فاستأذن عليها» (٣).

والالتزام ما احتوته الأحاديث من أدب رفيع واجب بدون ريب. وقد يتحمل الحديث الآخر استدراكا وتوضيحا. فهو أولا حديث مرفوع. وثانيا إن الاستئذان واجب على المرء بالنسبة لغير بيته. إلا أن تكون الأم في بيت خاص أو تكون في مخدعها فيكون من المحتمل أن تكون متبذلة أو عريانة فيكون إيجاب الاستئذان عليها من ابنها في محلّه.

ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في صدد عدم دخول الرجال على النساء وعدم الخلوة بهن نوردها ونعلق عليها بما يلي :

١ ـ روى الشيخان عن عقبة بن عامر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إيّاكم والدخول على النساء فقال رجل يا رسول الله أرأيت الحمو. قال الحمو الموت» (٤). ويتبادر لنا على ضوء الآية التي نحن في صددها أن النهي هو في صدد الدخول بدون استئذان وإذن. ولو كان الرجل قريبا للزوج أو الزوجة حيث يمكن أن يرى هذا بخاصة لنفسه في الدخول بدون استئذان وإذن. وأنه إذا وقع الاستئذان والإذن فلا يبقى

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٢) المصدر نفسه ص ٢٢٠.

(٣) تفسير الخازن.

(٤) التاج ج ٢ ص ٣٠٠ والمقصود أن الحمو هو غير المحرم من أقارب الزوج.

٣٩٧

مانع وبذلك يمكن التوفيق بين الحديث وبين الآية. وفي الحديث الذي رواه مجاهد عن ابن عمر وأوردناه قبل تأييد ما لذلك. وابن عمر من كبار أصحاب رسول الله وعلمائهم فلا يمكن أن يدخل على امرأة ما لم يكن يعرف أنه جائز إذا ما استأذن وأذنت له.

٢ ـ روى الترمذي عن جابر «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يخلون رجل بامرأة إلّا كان ثالثهم الشيطان» (١) والحديث يحذر من خلوة رجل بامرأة على انفراد. وهذا أدب رفيع يجب الالتزام به ويمنع الغواية والإغراء عن الاثنين كما يمنع منهما سوء القالة.

والمتبادر أن التحذير ليس واردا إذا كان الاجتماع علنا أمام الناس وليس في خلوة أو كان المجتمعون مع بعضهم نساء ورجالا عديدين إذا ما تقيدوا بأدب العفة والطهارة وكان النساء ساترات لزينتهن ومفاتنهن. ويقال هذا أيضا بالنسبة لدخول عديد الرجال والنساء على بعضهم بعد الاستئذان والإذن.

٣ ـ روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يخلونّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم» (٢). والحديث في مدى سابقه مع زيادة وهي إجازة خلوة رجل بامرأة إذا كان معها محرم. وما قلناه في سياق الحديث السابق يورد هنا بتمامه.

٤ ـ روى الترمذي عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم» (٣). والمغيبات هنّ اللاتي يكون أزواجهن في غيبة طويلة على ما هو المتبادر ، وهدف الحديث درء الفتنة والوقوع في الإثم. وهذا أدب رفيع يجب الالتزام به. ومع ذلك فالمتبادر أنه ليس في الحديث ما يمنع الدخول إطلاقا وفق القيود والتلقينات المشروحة سابقا.

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٣٠١.

(٢) المصدر نفسه ص ٣٠٠.

(٣) المصدر نفسه ص ٢٨٧.

٣٩٨

ولقد روى الطبري حديثا ذا مغزى مهم جاء فيه «إن عبد الرحمن بن عوف قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما نهى عن خلوة الرجال بالنساء إلا مع محرم وعن دخول الرجال في غيبة أزواجهن يا رسول الله إنا نغيب ويكون أضياف فقال له ليس أولئك عنيت ليس أولئك عنيت» حيث يستفاد من هذا أن النهي يستهدف المتهمين ودرء الفتنة والريب كما قلنا قبل.

٥ ـ روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلّا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه» (١) والشاهد في الحديث الفقرة الأخيرة. وهذا حق فالبيت مشترك والحياة الزوجية شركة. والوفاق والتفاهم واجبان فيها. ومخالفة هذا الأدب يثير الريب والشقاق. ومع ذلك فليس في الحديث ما يمنع استقبال الزوجة للرجال وفق التقريرات المشروحة إذا ما حصلت على إذن زوجها. وقد علل الشراح الشطر الأول من الحديث بأن الصوم المنهي عنه صوم تطوعي والرجل قد يحتاج إلى زوجته في النهار فيجب أن يكون صومها هذا بإذنه. وليس هذا واردا بالنسبة لصوم رمضان.

٦ ـ روى الترمذي حديثا عن الأحوص جاء فيه «إن من حقّكم على نسائكم ألا يوطئن فراشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون» (٢). والحظر هو إذن الزوجة لمن يكرهه زوجها وإجلاسه على فرشه. وليس مطلقا كما هو واضح. وهذا مثل سابقه أدب رفيع يجب الالتزام به وهو مرتب على الشراكة الزوجية المتوافقة. وما قلناه في صدد السابق يقال هنا أيضا.

ونعلق تعليقا إجماليا فنقول إنه ليس في الآيات والأحاديث ما يمنع دخول النساء والرجال على بعضهم واجتماعهم ببعضهم في نطاق التلقينات والرسوم والآداب المشروحة. وهناك أحاديث كثيرة وردت في الكتب الخمسة وغيرها تفيد أن الرجال والنساء كانوا يدخلون على بعضهم ويجتمعون ببعضهم في مجالس النبي

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٨٧.

(٢) المصدر نفسه ص ٢٨٦.

٣٩٩

وفي المساجد وفي البيوت وفي الولائم وفي الحرب والجهاد. وأن النساء كن يأتين النبي وخلفاءه من بعده فيعرضن أمورهن أمام الرجال. واجتماع الرجال والنساء واختلاطهم يقع على أوسع نطاق في موسم الحج وفي مختلف مناسك هذا الركن الإسلامي من طواف وسعي ووقوف وإفاضة ورمي جمار والنساء في كل ذلك كتفا بكتف مع الرجال وهنّ سافرات الوجوه والأيدي. وهذه الحالة الأخيرة خاصة هي حالة إحرامهن حيث روى أصحاب السنن وأحمد عن ابن عمر قال «سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وماس الورس والزعفران من الثياب» (١).

ولقد روى الخمسة عن سهل بن سعد «أن امرأة باءت إلى رسول الله فقالت يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصعد النظر إليها وصوبه ثم طأطأ رأسه فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئا جلست فقام رجل من أصحابه فقال يا رسول الله إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال هل عندك من شيء قال لا والله يا رسول الله قال اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئا فذهب فرجع فقال لا والله يا رسول الله ولا خاتما من حديد ، ولكن هذا إزاري فلها نصفه. قال رسول الله ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها شيء وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء. فجلس الرجل حتى طال مجلسه ثم قام فرآه رسول الله موليا فأمر به ، فلما جاء قال ماذا معك من القرآن قال معي سورة كذا وسورة كذا عددها قال أتقرؤهن عن ظهر قلبك قال نعم قال فاذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن» (٢).

(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠)) [٣٠]

(١) يغضّوا : يخفضوا أو يصرفوا أبصارهم أو لا يطيلوا النظر.

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٧١ و ٢٧٢ ونكتفي بهذا الحديث. ليرجع من شاء إلى كتب الحديث فيجد عشرات الأحاديث التي تسند ما قلناه.

(٢) المصدر نفسه.

٤٠٠