التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

فقلت أين تريد؟ قال بعثني رسول الله إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله» (١).

والمتبادر أن هذا الحكم خاص بالحالة سواء أكان الزاني محصنا أم غير محصن. وروى الشارح عن الترمذي أنه قال وأصحابنا على هذا الرأي.

ولم نقع على حديث فيه حكم المرأة المحرمة التي زنى بها محرمها برضائها فيصح أن يقاس أمرها على الزاني فيكون حدها القتل ، والله أعلم.

ومن ذلك زنا الرجل بأمة زوجته. وقد روى أصحاب السنن حديثا جاء فيه «وقع رجل على جارية امرأته فرفع إلى النّعمان بن بشير وهو أمير على الكوفة فقال لأقضينّ بقضاء رسول الله. إن كانت أحلّتها لك جلدتك مائة جلدة وإن لم تكن أحلّتها لك رجمتك بالحجارة. فوجدوه قد أحلّتها له فجلدوه مائة جلدة» (٢). ويفيد هذا أنه لا ينجي الرجل إذن زوجته له بإتيان جاريتها لأنها ليست ملك يمينه على كل حال ، أما لو وهبتها له وصارت ملكه فالأمر يختلف وتكون حلالا له كما هو المتبادر.

جريمة اللواط وإتيان النساء من أدبارهن

والآيات في صدد زنا الرجال بالنساء

وهناك جريمة فاحشة أخرى هي اللواط. وقد ألممنا بهذه الجريمة وأوردنا الأحاديث الواردة في شأنها والأقوال المروية عن أهل التأويل والفقه في صددها في سياق تفسير آيات سورة الأعراف [٨٠ و ٨١] التي وردت فيها لأول مرة فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار.

وشبيه بهذه الجريمة جريمة إتيان النساء من أدبارهن. وقد ألممنا بهذه الجريمة في سياق تفسير الآية [٢٢٣] من سورة البقرة وأوردنا هناك من أحاديث

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٦ و ٢٧.

(٢) المصدر نفسه.

٣٦١

فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار أيضا.

حالة الإكراه والغصب

روى أصحاب السنن عن علقمة بن وائل عن أبيه «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لامرأة أكرهت على الزنا فاذهبي فقد غفر الله لك» (١) وروى الترمذي حديثا جاء فيه «استكرهت امرأة على الزنا في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدرأ عنها الحد وأقامه على الذي أصابها ولم يذكر أنه جعل لها مهرا» (٢). وروى مالك «أن عبدا زنى بأمة بالإكراه في زمن عمر فأمر بجلد العبد دون الأمة لأنها مستكرهة» (٣).

وليس في الأحاديث توضيح للاستكراه ، ويتبادر لنا أنه لا يبرر سقوط الحدّ إلّا منع المدخول به عن المقاومة بصورة ما.

أما إذا هدّد بالقتل أو بما دون القتل فلا يبرّر ذلك موافقته والرضاء بما يفعل به ، لأن عقوبة ذلك هي القتل إذا كانت الجريمة لواطا أو إذا كانت المزني بها محصنة ولا يصحّ لامرىء أن يوافق ويرضى بأمر بالتهديد فقط إذا كانت عقوبة ما يطلب منه بالتهديد مثل عقوبة الفعل. وإذا كان الإكراه أكثر احتمالا بالنسبة للمفعول به ، فليس من المستحيل أن يكون حادث الإكراه على الفاعل أيضا. غير أن هذه الحالة تختلف عن الحالة السابقة. فالزاني واللائط هو المباشر للجريمة على كل حال وليس هنا محل لفرض التقييد (٤) ومنع المقاومة ، والخضوع للتهديد والإكراه لا يعفي والحالة هذه من العقوبة لأنه لا يصح أن يتفادى القتل أو ما دون القتل بجريمة عقوبتها مثل ذلك ، والله تعالى أعلم.

ومن قبيل الاستطراد نذكر أن هناك حديثين متناقضين في صدد إتيان البهيمة رواهما أبو داود والترمذي عن ابن عباس جاء في أحدهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٣٢.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) الموطأ ج ٢.

(٤) من القيد.

٣٦٢

أتى البهيمة فاقتلوه واقتلوها معه. قلت لابن عباس ما شأن البهيمة؟ قال ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها وقد عمل بها هذا العمل» (١). وجاء في ثانيهما عن ابن عباس «ليس على الذي يأتي البهيمة حدّ» (٢) ولقد علّق الشارح على الحديث الأول قائلا إنه مرفوع وموقوف ويكون ضعيفا ولم يأخذ به أحد من الأئمة الأربعة فلا تقتل البهيمة ولا الفاعل بل يعزّر بما يراه الحاكم. ويبدو هذا وجيها والله تعالى أعلم.

ويلحظ أنه ليس في الآية طريقة لإثبات الزنا. والحوادث التي روت الأحاديث أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقام الحد على أصحابها ثبتت بالاعتراف. والمتبادر أن الأمر ظل على ما ذكرته آية النساء [١٥] وهو شهادة أربعة شهود من المسلمين أو الحبل أو الاعتراف على ما ورد في الحديث الذي رواه الخمسة عن عمر بن الخطاب وأوردناه قبل قليل. وفي آيات تالية تأييد بخاصة لشهادة الشهود الأربعة بحيث يصح القول إن آية النور التي نحن في صددها عدلت حكم الزناة في آيتي سورة النساء [١٥ و ١٦] مع بقاء عدد الشهود محكما. ولقد ذكرنا في سياق تفسير آيتي النساء هاتين ما عنّ لنا من ملاحظات في صدد مدى الشهادات وحكمة تعليق ثبوت هذه الجريمة على أربع شهادات فلا حاجة إلى الإعادة.

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن ثبوت جرم اللواط منوط بما نيط به ثبوت جرم الزنا ما عدا الحبل الذي ليس واردا في هذا الحال.

والحدود المذكورة في الآية والأحاديث مطلقة بحيث تتناول الأحرار والمماليك. وقد احتوت آية النساء [٢٥] استثناء للأمة المتزوجة على ما فصلناه في سياق تفسير الآية المذكورة. أما المملوك الذكر فلم نطلع على أثر نبوي فيه وإطلاق الآية والأحاديث قد يفيد أن شأنه شأن الحر في مختلف الحالات. ويظهر من قول أورده القاسمي أن هناك من يقول إن المملوك يرجم إذا زنى بحرّة ويجلد

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٥ و ٢٦.

(٢) المصدر نفسه.

٣٦٣

إذا زنى بأمة. وقد عزا المفسر المذكور إلى السيوطي تفنيدا لهذا القول لأنه لا يتفق مع نص الآية. والتفنيد في محله. ولقد كانت حالة الإماء وتعرضهن للبغاء هي السبب الذي جعل حكمة التنزيل تخفف عنها الحد على ما شرحناه قبل. وهذا ليس واردا بالنسبة للمماليك الذكور.

ولقد وقف بعضهم عند جملة (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) فقالوا إن ذلك بسبيل تنفيذ الحد وأنه لا يعني القسوة في الجلد. وأن هذا يجب أن يكون غير مبرح. وقد روى ابن كثير ـ الذي هو من جملة من ذكر ذلك ـ أن ابن عمر ضرب جارية له زنت ضربا غير مبرح ، فقال له ابنه كيف تفعل ذلك والله يقول (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) فقال له يا بني إنّ الله لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجعل جلدها في رأسها. ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [٢٥] من سورة النساء حديثا رواه الخمسة جاء فيه «أن النبي أمر بجلد الأمة إذا زنت دون تثريب أي دون قسوة». بحيث يمكن القول إن ابن عمر أخذ بالسنّة النبوية. والحديث وإن كان في صدد الإماء فإن الأخذ به بالنسبة لكل من يقام عليه حدّ الجلد يكون شذوذا ، والله تعالى أعلم.

هذا ويلحظ أن الزانية قدّمت على الزاني في الآية الثانية في معرض عقوبة الجلد ، مع أن القرآن جرى على تقديم الرجل والذكر على المرأة والأنثى بصورة عامة (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ) [البقرة : ٧١] و (الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) [الفتح : ٦] و (لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) [آل عمران : ١٩٥] و (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...) إلخ [غافر : ٤٠]. وفي عقوبة السرقة (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] ويتبادر لنا في ذلك حكمة ، وهي أن الزنا المستحق للحد لا يمكن أن يتم إلا بموافقة المرأة ، إذا لم يكن بإكراه الرجل لها. فتكون والحالة هذه سبب الإثم فاستحقت أن تذكر قبل الرجل. وفي حالة الإكراه لا تكون مستحقة للعقوبة على ما مرّ بيانه ، والله تعالى أعلم.

٣٦٤

والآية وإن كانت بصيغة الجمع المخاطب وتبدو أنها موجهة إلى المسلمين فالمتبادر الذي تلهمه روحها أنها موجهة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فالزنا جريمة لا بد من ثبوتها أمام القضاء ولا بدّ من السلطان لإقامة الحد الشرعي. وكان هذا وذاك موطدين في شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والآية بعد احتوت تشريعا مستمرا. وهذا يعني أن الذي يقوم مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تمثيل القضاء والسلطان هو المكلف بتنفيذ هذا التشريع.

هذا ، ومن الجدير بالتنويه أن التشريع القرآني والنبوي معا قد سوّى بين الرجل والمرأة. وفي هذا ما فيه من عدل وحق من جهة ومن تقرير مساواة الرجل والمرأة في تبعة العمل الواحد والتكاليف المتشابهة من جهة ثانية. ومما لا ريب فيه أن التشديد على المرأة دون الرجل في جريمة الزنا واعتباراتها مما هو جار في الأوساط الإسلامية اليوم غير متمشّ مع قاعدة القرآن القائمة على الحق والعدل والمساواة.

واستثناء الأمة من حيث كون القرآن جعل حدها نصف حدّ الحرة على ما شرحناه في سياق تفسير آية النساء [٢٥] ليس من شأنه أن يخلّ بهذه المساواة. فالأحرار هم الأكثرية العظمى في المجتمع الإسلامي. وعليهم يقوم بنيان هذا المجتمع. وهذا الاستثناء هو بسبب اعتبارات وجيهة. ولم يشمل المماليك الذكور. ومع ذلك فإنه استثناء تخفيفي وليس تشديديّا.

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)) [٣].

(١) لا ينكح : لا يتزوج. وقد ورد هذا التعبير بهذا المعنى في آيات كثيرة مثل آية سورة البقرة [٢٢١] وآية سورة النساء [٢٢] وآية سورة الأحزاب [٤٩] بل ولم ترد في القرآن بغير معنى الزواج.

٣٦٥

تعليق على الآية

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها

إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣))

روى المفسرون (١) أن الآية نزلت في صدد الإجابة على استئذان بعض المسلمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التزوج بنسوة كن معروفات بالزنا من أهل الشرك وكنّ أصحاب رايات يكرين أنفسهن في مكة وفي المدينة. ومنهنّ من كنّ يتعهدن بالإنفاق على من يتزوجهنّ. وذكروا بعض الأسماء. منها امرأة اسمها أم مهزول ولم يذكروا اسم من أراد أن ينكحها. ومنها رجل اسمه مرثد كان له صديقة في الجاهلية اسمها عناق. وقصة مرثد وعناق رواها الترمذي عن مرثد نفسه قال «كانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق. وكانت صديقة لي فقابلتني بمكة ليلة فقالت : هلمّ ، فبت عندنا الليلة ، فقلت : يا عناق حرّم الله الزنا. فلما قدمت المدينة أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : يا رسول الله أنكح عناقا؟ فأمسك ولم يرد عليّ شيئا حتى نزلت (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)) فقال رسول الله يا مرثد لا تنكحها» (٢).

وقد روى الطبري الروايتين مع الأسماء وروى أن الآية نزلت إجابة على سؤال السائلين.

والمتبادر أن الآية من السياق السابق وبمثابة تعقيب على الآية التي قبلها. وبسبيل التشديد في كراهية جريمة الزنا ومقترفيها. وإن كان هذا لا يمنع أن يكون بعض المسلمين استأذنوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التزوج من بعض من عرفن بالبغاء في الجاهلية فمنعوا من ذلك بهذه الآية. وحديث الترمذي يفيد أن الآية لم تنزل جوابا على استئذان مرثد.

__________________

(١) انظر الطبري والطبرسي والبغوي وابن كثير والخازن.

(٢) التاج ج ٤ ص ١٦٤.

٣٦٦

ومع ما يبدو في الآية من صراحة بتحريم نكاح الزانية وإنكاح الزاني على المؤمنين فقد تعددت أقوال المفسرين ورواياتهم في مدى حكمها (١). فمن ذلك أن التحريم منصبّ على الزنا من قبيل تشنيعه ومن باب (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) [النور : ٢٦]. وبسبيل تقرير كون الزنا لا يمكن أن يقع إلّا بين زان وزانية إن كانا مسلمين أو بين زانية ومشرك أو زان ومشركة. ومنها قول معزو إلى عائشة وهو أن الرجل إذا زنى بامرأة ليس له أن يتزوجها لهذه الآية. ومنها قول لابن مسعود أنه كان يحرم نكاح الزانية ويقول إذا نكح الزاني الزانية أي تزوجها فهما زانيان أبدا. ومنها قول معزو إلى ابن عباس أنه كان يجيز التزوج بالزانية وتزويج الزاني. وقد أورد الزمخشري حديثا نبويا مؤيدا لهذا القول لم يرد في كتب الصحاح جاء فيه «أن النبيّ سئل عن ذلك فقال أوّله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال» ومنها قول معزو إلى سعيد بن المسيب مفاده أن الآية منسوخة بآية أخرى في سورة النور وهي (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) [٣٢] والبغايا من أيامى المسلمين. والنفس تطمئن بالقول الأول في صدد تأويل الآية ومفهومها العام. ووجاهة القول المعزو إلى ابن عباس ظاهرة ولا سيما إذا صحّ الحديث الذي يورده الزمخشري والذي لا يتناقض مع التقريرات القرآنية العامة. فقد يتوب الزاني والزانية المسلمان ويصلحان. فلا يصحّ أن يحول ما حدث منهما قبل التوبة دون زواجهما زواجا شرعيا كما هو المتبادر. والتوبة الصادقة التي تفتح باب عفو الله ورحمته للكافر والمنافق والمحارب لله ورسوله والمفسد في الأرض والقاتل العمد على ما شرحناه في تعليقنا على موضوع التوبة في سورة البروج ونبهنا عليه في المناسبات العديدة السابقة تفتح بدون ريب هذا الباب أمام الزاني والزانية بدورهما. وهناك أحداث وأحاديث مؤيدة لذلك. فقد روى الطبري عن الحسن «أن عمر بن الخطاب قال لقد هممت أن لا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة فقال له أبي بن كعب يا أمير المؤمنين الشرك أعظم من ذلك وقد

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والزمخشري والبغوي والخازن وابن كثير.

٣٦٧

يقبل الله التوبة من المشرك إذا تاب». وروى المفسّر نفسه عن ثابت بن عامر قال «إن رجلا من أهل اليمن أصابت ابنة أخيه فاحشة فأمرّت الشفرة على أوداجها فأدركت وعولج جرحها حتى برئت ثم إن عمّها انتقل بأهله حتى قدم المدينة فقرأت القرآن ونسكت حتى كانت من أنسك نسائهم فخطبت إلى عمها وكان يكره أن يدلسها ويكره أن يغشى على ابنة أخيه فأتى عمر فذكر ذلك له فقال له لو أغشيت عليها لعاقبتك وإذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه» وروى المفسّر أيضا عن طارق بن شهاب «أن رجلا أراد أن يزوج أخته فقالت إني أخشى أن أفضح أي فقد بغيت فأتى عمر فقال أليس قد تابت قال بلى قال فزوّجها». وفي الطبري أحداث وأحاديث أخرى من هذا الباب لم نر حاجة إلى إيرادها اكتفاء بما تقدم. وإذا كانت هذه الأحداث والأحاديث ذكرت حالات نساء زنين فتبن فشجع عمر على تزويجهن فإن ذلك ينطبق بطبيعة الحال على الرجال إذا زنوا ثم تابوا.

ومع ذلك كلّه فإننا نقول إن الآية على أخفّ التأويلات انطوت على كراهية شديدة للتزوج بالزانية وتزويج الزاني وتشنيع على ذلك. وأن هذا ينبغي أن يكون واردا ولا سيما إذا كان أمر الزاني أو الزانية مشهورا. وأنه يحسن أن يلاحظ ذلك ويؤخذ بالتلقين السامي القرآني ما أمكن لمنع تسهيل الغواية ولتأديب الغاوين معا إلّا إذا كان في الحادث إنقاذ لرجل أو امرأة وحصل التأكد من توبتهما. أما القول إن الآية منسوخة بآية (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) [النور : ٣٢] فلا نرى مناسبة له في هذا المقام وإن كان يصح أن يقال إن حكم هذه الآية يشمل كل أعزب وعزباء ومن جملتهم من كان اقترف جريمة الزنا ثم تاب وأصلح ، والله تعالى أعلم.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)) [٤ ـ ٥].

(١) يرمون : هنا بمعنى يتهمون بالزنا.

٣٦٨

(٢) المحصنات : من المفسرين من أوّلها بالمتزوجات ومنهم من أولها بالعفيفات.

احتوت الآيتان تشريعا بحقّ من يقذف المحصنات بالزنا. ولم يثبتوا قولهم بأربعة شهداء ؛ حيث أوجبت عليهم حدّا هو أن يجلدوا ثمانين جلدة ثم منعت قبول شهادتهم ووسمتهم بالفسق. مع استثناء الذين يندمون ويتوبون ويتلافون أمرهم بالإصلاح والصلاح فقد ينالون عفو الله الغفور الرحيم.

تعليق على الآية

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا

تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤)) والآية التالية لها

وقد روى الطبري أن الآيتين نزلتا في صدد ما كان من اتهام عائشة أمّ المؤمنين بما عرف في السيرة النبوية بحديث الإفك وما يأتي تفصيله بعد قليل.

وقد يكون هذا صحيحا. ومع ذلك فالمناسبة الموضوعية قائمة بين الآيتين وما سبقهما وما لحقهما. وهما في الوقت نفسه فصل تشريعي عام مستقل بذاته.

وظاهر النص هو إيجاب إقامة الحدّ على من يوجه تهمة الزنا إلى النساء ولم يثبتها بأربعة شهداء. غير أن الجمهور على أن هذا يشمل من يوجه هذه التهمة إلى الرجال ولم يثبتها كذلك حيث روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقام حدّ القذف على جماعة اتهموا رجلا بالزنا ولم يشهد أربعة على ذلك (١).

ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إنه لا فرق في جريمة القذف بين أن يكون

__________________

(١) انظر ابن كثير والطبرسي والقاسمي. وقال ابن كثير إن هذا هو إجماع العلماء. والحادث رواه الطبرسي والقاسمي وتفصيله أن جماعة اتهموا المغيرة بن شعبة بالزنا فشهد ثلاثة وهم شبل بن معبد وأبو بكرة ونافع أنهم رأوه متبطنا المرأة. وكان ممن تقدم للشهادة زياد فلم يشهد شهادة مثل شهادتهم. فاعتبر عمر الثلاثة قاذفين وأقام عليهم الحد.

٣٦٩

مرتكبها رجلا أو امرأة. فالقرآن لا يفرق بين الرجل والمرأة في هذه المسائل على ما نبهنا عليه في مختلف المناسبات (١).

وقد اختلفت الأقوال في حدّ القاذف إذا كان مملوكا ، فهناك من ذهب إلى أن الحد عليه هو نفس الحدّ على الحرّ. وهناك من ذهب إلى أن عليه نصف الحدّ (٢). ولم يورد القائلون أثرا نبويا أو راشديا ولم نطلع على ذلك. ونحن مع القول الأول. لأن أثر الجريمة لا يتغير بتغير صفة مقترفها وهذا غير متناقض مع آية سورة النساء [٢٥] ، التي تجعل حدّ الأمة المحصنة نصف حدّ الحرة. فهذه حالة أخرى كما هو المتبادر.

وبعض المفسرين قالوا : إن الحدّ إنما يجب على قاذف المحصن (أي المتزوج) وإن قاذف غير المحصن يعزر تعزيرا (٣). والظاهر أن القائلين أوّلوا كلمة (الْمُحْصَناتِ) في الآية بمعنى المتزوجات. وقد فسّر بعضهم الكلمة بالعفيفات (٤) فيكون الحدّ بذلك واجبا على القاذف سواء أكان المقذوف متزوجا أم أعزب. والكلمة تتحمل المعنيين. فيكون القولان وجيهين وإن كنا نرجح وجاهة القول الأول لأن القذف في المتزوجين أشد وقعا في حياة المقذوف الأسرية والاجتماعية كما هو المتبادر مع استثناء المرأة إذا كانت هي المقذوفة. ولا سيما إذا كانت بكرا.

ولقد قال بعضهم إن قذف المشهورة بالزنا لا يستوجب حدّا (٥). وقد يكون هذا متسقا مع قول من قال إن كلمة المحصنات بمعنى العفيفات فيكون القول وجيها. وقال بعضهم إن المقذوف إذا اعترف بالتهمة سقط الحدّ عن القاذف (٦).

__________________

(١) انظر أيضا تفسير الطبرسي.

(٢) الطبرسي والخازن.

(٣) البغوي والخازن.

(٤) الخازن وابن كثير.

(٥) القاسمي عزوا إلى السيوطي.

(٦) القاسمي عزوا إلى ابن تيمية.

٣٧٠

وهذا ظاهر الوجاهة أيضا.

والمستفاد من أقوال المفسرين (١) أن جرم القذف يتحقق سواء أبتوجيه التهمة قضائيا أي برفعها إلى ولي الأمر والحاكم أم بتوجيه الكلام في معرض الشتيمة في حضور المقذوف به أو في غيابه. أم في معرض الإخبار. وبكلمات صريحة أو بكلمات لا تفسر إلّا بتهمة الزنا وكل هذا وجيه ومتسق مع مضمون الآية وروحها.

والوقعة التي وقعت في عهد عمر والتي ذكرناها في ذيل الصفحة (٣٦٩) تدل على أنه إذا شهد واحد أو اثنان أو ثلاثة فقط ولم يشهد رابع عدّ الثلاثة قاذفين أيضا ووجب عليهم الحد. وهو ما عليه الجمهور. وهو حق وصواب. ويظهر من أقوال المفسرين أن الشاكي أو المتهم أو القاذف يصحّ أن يكون شاهدا من أربعة. وهذا وجيه أيضا. لأن القضية ليست خصومة بين مدّع ومدعى عليه.

وحكمة إيجاب الحد على القاذف ظاهرة كما أن حكمة إناطة التهمة بأربعة شهداء متصلة بحكمة تعليق ثبوت الزنا على أربع شهادات كما هو المتبادر. فأعراض الناس وكراماتهم من الأمور الجوهرية في الحياة الاجتماعية. ويترتب على القذف فيها نتائج خطيرة شخصية وأسرية واجتماعية. وفي إيجاب الحدّ على القاذف ردع عن التهجم على الأعراض والاستهانة بها. وفي إناطة ثبوت التهمة بأربعة شهداء وسيلة قوية لمنع الإرجاف وشيوع أخبار الفاحشة والسوء في الأوساط الاجتماعية. أما إذا استطاع القاذف أن يقيم البينة بأربع شهادات فتكون حالة المقذوف حالة استهتار بشع. ويكون موقف القاذف محقا ووسيلة للتنكيل بمن يرتكب الفاحشة بمثل هذا الاستهتار البشع.

وقد اختلفت الأقوال في مدى الاستثناء الذي احتوته الآية الثانية. فمنها أن التوبة لا تسقط الحدّ عن القاذف إن كانت قبل إيقاعه ولا تجعل شهادته مقبولة. وكل أمرها أنها تسقط عنه صفة الفسق. ومنها أنها تجعل شهادته مقبولة أيضا. وقال القائلون بهذا إن كلمة (أبدا) هي في حالة عدم التوبة وإصرار القاذف على ما

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير والزمخشري إلخ.

٣٧١

قال في حقّ المقذوف ، ومنها أن قبول شهادته بعد التوبة منوط بالاعتراف بأنه قال بهتانا. وهذه الأقوال معزوة إلى بعض علماء التابعين وأئمة المذاهب الفقهية (١). وهناك قول معزو إلى الشعبي ـ أحد علماء التابعين ـ وهو أن القاذف إذا تاب قبل الحدّ سقط عنه الحد أيضا (٢). وهناك قول معدل لهذا القول وهو أن سقوط الحد عن القاذف التائب قبل تنفيذه منوط بعفو المقذوف ، قياسا على سقوط القصاص بعفو أهل القتيل (٣). وهو ما نراه وجيها دون قول الشعبي المطلق. لأن القذف ليس ذنبا نحو الله فقط ، وإنما فيه حق المقذوف أيضا. ولم نطلع على أثر نبوي في هذه الصور.

والمتبادر الذي يلهمه نصّ الآية فيما نرى أن الرأي القائل إن التوبة تجعل شهادة القاذف مقبولة بالإضافة إلى رفعها صفة الفسق عنه هو الأوجه. ولا سيما إذا لوحظ أنه قد تكون حالة زنا صحيحة يعلمها شخص أو اثنان أو ثلاثة غير متهمين بعدالتهم وصدقهم وأنه قد يكون من المتعذر دائما الإتيان بأربعة شهود. وأن الرأي القائل بأن التوبة قبل إيقاع الحدّ إذا اقترنت بعفو المقذوف تسقط الحدّ قياسا على سقوط القصاص عن القاتل بعفو أهل القتيل وهو وجيه أيضا. لأن القذف ليس ذنبا نحو الله فقط وإنما فيه حقّ المقذوف أيضا.

ومن العلماء من جعل صحة توبة التائب منوطة بإعلانه ندمه ورجوعه عن القذف وكذبه فيما قال. ومنهم من لم يربطها بمثل هذا الإعلان مكتفيا بما يظهر من صلاحه واستقامته (٤). وكلا القولين وجيه وإن كنّا نميل إلى ترجيح القول الأول لأن ذلك أدعى إلى حفظ كرامة المقذوف من جهة ووسيلة إلى معرفة التوبة لإفساح المجال للقاذف بأن تقبل شهادته ولا يظل موسوما بسمة الفسق.

__________________

(١) انظر البغوي والخازن وابن كثير والطبري والطبرسي.

(٢) انظر القاسمي عزوا إلى ابن حجر والبغوي.

(٣) انظر البغوي.

(٤) البغوي والخازن والقاسمي.

٣٧٢

ويلحظ أن الآية لم تقيد الشهداء بصفة ما. حيث استنتج بعضهم من ذلك جواز قبول الشهادة من أي كان. غير أن بعضهم منع قبول شهادة المعروف بالفسق استئناسا بآية سورة الحجرات هذه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦)) وبعضهم جعل قيد الإسلام شرطا استئناسا بآية سورة النساء (١٥) (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) وهذا وذاك وجيهان كما هو ظاهر. والجمهور على أن شهادة الزنا والقذف محصورة بالرجال دون النساء على ما ذكرناه في سياق تفسير آية النساء المذكورة آنفا. ونكرر ما قلناه في سياق تفسير هذه الآية. وهو أن الآية لا تفيد هذا الحصر. وفرصة مشاهدة النساء لهذه الجريمة أكثر سنوحا منها بالنسبة للرجال. ولم نطلع على حديث نبوي وثيق بردّ شهادة النساء مطلقا في أي نوع من القضايا. وهناك حديث رواه الترمذي وأبو داود عيّن فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذين تردّ شهادتهم وهم «الخائن والخائنة وذو الغمر على أخيه وشهادة التابع لأهل البيت وجوازها لغيرهم». وفي رواية «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية» (١). ولم نر أحدا من المفسرين ذكر شيئا بشأن شهادة العبد. وليس في القرآن ما يمنع قبول شهادة العبد المسلم في كل ما تقبل به شهادة الحرّ المسلم. ولم نطلع على حديث صحيح يمنع ذلك. ولقد أشار ابن القيم إلى هذه المسألة وفنّد قول من يقول بعكس ذلك (٢).

ولم نر المفسرين ذكروا حالة ما إذا كان المقذوف عبدا أو أمة. وكل ما هناك أنهم قالوا في سياق تعريف (الْمُحْصَناتِ) أنهن الحرائر العفيفات. وقد أشار ابن القيم إلى هذه المسألة بما يفيد أنه ليس على قاذف العبد حدّ ، وعلل ذلك بأن الله لم يجعل العبد كالحرّ لا قدرا ولا شرعا ، وأن هذا لا يتناقض مع تسويته في الثواب

__________________

(١) انظر التاج ج ٣ ص ٥٦ ومعنى ذو الغمر ذو العداوة. والتابع هو الخادم.

(٢) إعلام الموقعين ج ٢ ص ٤٩.

٣٧٣

والعقاب في الآخرة ، لأنه لا يكون هناك إلا الإنسان وعمله (١). ونحن نتوقف في هذا بعض الشيء. فما دام الزاني والزانية من العبيد والإماء يوقع عليهما حدّ الزنا فلا يصحّ أن يعفى قاذفهما إذا لم يثبت التهمة عليهما من العقاب. وهذا متسق مع نص الآية وإطلاقها. وبخاصة مع التأويل الأكثر وجاهة لكلمة المحصنات. وهو العفيفات. والله تعالى أعلم.

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)) [٦ ـ ١٠].

(١) ويدرأ عنها العذاب : بمعنى : ويسقط عنها الحدّ.

في الآيات الثلاث الأولى تشريع لحالة تهمة زوج لزوجته بالزنا ولم يكن لديه شهود إلّا نفسه. فشهادته خمس مرات على الوارد في الآيتين الأولى والثانية تقوم مقام الشهود وتوجب حدّ الزنا على الزوجة. غير أن هذا الحد يسقط عنها إذا شهدت هي الأخرى بعده خمس شهادات على الوجه الوارد في الآيتين الثالثة والرابعة.

أما الآية الخامسة فإنها تنطوي على تلقين لما في هذا التشريع من حكمة سامية. وحل حكيم لموقف محرج وإشكال مزعج. فلو لا فضل الله على المسلمين ورحمته ولو لا أنه توّاب عليم حكيم بهم لكان في الموقف إزعاج وإحراج شديدان لهم.

__________________

(١) إعلام الموقعين ج ٢ ص ٣٦.

٣٧٤

تعليق على الآية

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ

أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦))

والآيات الأربع التي بعدها

ولقد رويت في نزول هذه الآيات روايات. منها ما رواه البخاري والترمذي عن ابن عباس «أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشريك بن سمحاء ، فقال النبي : البيّنة أو حدّ في ظهرك ، فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي يقول : البيّنة وإلّا حدّ في ظهرك ، فقال هلال : والذي بعثك بالحقّ إني لصادق ولينزلنّ الله ما يبرىء ظهري من الحدّ فنزل جبريل بالآيات. فأرسل النبي إليهما فشهد هلال والنبي يقول : إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت ، فلمّا كانت عند الخامسة وقّفوها وقالوا إنها موجبة فتلكأت ونكصت حتى ظننّا أنها ترجع ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلّج الساقين فهو لشريك بن سمحاء ، فجاءت به كذلك. فقال النبيّ : لو لا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن. زاد في رواية : ثم قضى بالولد للمرأة وفرّق بين المتلاعنين. ثم جرت السنّة في الميراث أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها» (١). وهناك رواية أخرى تذكر أن سعد بن عبادة زعيم الأنصار قال لرسول الله حينما نزلت الآية السابقة «يا رسول الله لو أتيت لكاعا قد تفخّذها رجل لم يكن لي أن أهيّجه ولا أحرّكه حتى آتي بأربعة شهداء فو الله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ الرجل من حاجته. فقال النبيّ يا معشر الأنصار أما تسمعون ما يقول سيّدكم. قالوا لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوّج فينا قطّ إلا عذراء ولا طلّق امرأة له فاجترأ رجل منّا أن يتزوجها. قال سعد بأبي أنت وأمي يا رسول الله والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حقّ ولكني عجبت ، فما لبثوا قليلا حتى جاء هلال

__________________

(١) التاج فصل التفسير ج ٤ ص ١٦٤ ـ ١٦٥.

٣٧٥

يروي قصته لرسول الله فنزل الوحي بالآيات». وهناك روايات أخرى فيها أسماء وأحداث أخرى. يرويها المفسرون كسبب لنزول الآيات. منها صيغة حديث يرويه الإمام أحمد عن عبد الله قال «كنا جلوسا عشية الجمعة في المسجد فقال رجل من الأنصار أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا إن قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه. وإن سكت سكت على غيظ. والله لئن أصبحت صحيحا لأسألنّ رسول الله فسأله وأعاد عليه ما قال ثم قال اللهم احكم فنزلت آية اللعان فكان ذلك الرجل أول ما ابتلي بها. ومنها رواية رواها الإمام أحمد كحديث مماثل للرواية السابقة مع ذكر اسم السائل وهو عويمر. ومنها كحديث رواه الحافظ البزار جاء فيه «إن رسول الله قال لأبي بكر لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به قال كنت والله فاعلا به شرا. قال فأنت يا عمر؟ قال كنت والله قاتله. كنت أقول لعن الله الأعجز فإنه خبيث فنزلت الآيات» (١).

والروايات تقضي أن تكون الآيات نزلت مستقلة عن سابقاتها في حين أنها تبدو معطوفة عليها وحلقة من سلسلة مشتركة في الموضوع. وليس ما يمنع أن تكون نزلت مستقلة وألحقت بالسياق للتناسب الموضوعي كما أنه ليس هناك ما يمنع أن تكون نزلت بعد سابقتها بناء على استفسار أو حادث كما روي فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي. غير أنا نميل إلى القول إن السلسلة نزلت دفعة واحدة بناء على استفسارات وحوادث وقعت قبلها ، لأننا نلمس في الآيات العشر وحدة وانسجاما في النظم مع التشارك في الموضوع.

وهذه الشهادات المتقابلة بين الزوجين تسمى في الاصطلاح الفقهي بالملاعنة أو اللعان. ويترتب عليها التفريق بين الزوجين على ما جاء في حديث البخاري والترمذي. وقد اختلف الفقهاء في صفة الفرقة. فذهب أبو حنيفة إلى أنها فرقة طلاق بائن وإن الزوج إذا كذب نفسه جاز له أن ينكحها ثانية ، وذهب الشافعي إلى أنها فرقة أبدية ، بل يستفاد من أقوال المفسرين أن هذا هو رأي أكثر

__________________

(١) انظر كتب تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن والطبرسي.

٣٧٦

العلماء (١). ومنهم الإمام مالك الذي زاد على ذلك فأوجب إقامة الحدّ على الزوج إذا كذب نفسه وإلحاق الولد له مع الفرقة الأبدية (٢).

ومع أن المتبادر لنا أن التفريق الأبدي هو الأوجه والمستفاد من حديث ملاعنة هلال فإن رأي أبي حنيفة لا يتناقض معه لأنه ليس فيه صراحة قطعية. ولا يخلو من جهة أخرى من وجاهة أيضا إذا تحقق شرطه وهو تكذيب الزوج لنفسه حيث يكون في ذلك ردّ لكرامة الزوجة وسمعتها. غير أن الرأي الأول هو الأوجه. ولا سيما إذا أخذ برأي الإمام مالك الوجيه فأقيم حدّ القذف على الزوج وألحق به الولد. فإن في ذلك ردّا أقوى لكرامة الزوجة. والله تعالى أعلم.

واللعان كما هو واضح إجراء قضائي. وقد جرى على يد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأمره وفي مشهد علني. وينبغي أن يكون كذلك على يد ولي الأمر من بعده أو من ينوب عنه بطبيعة الحال.

وواضح من فحوى الآيات أن اللعان إنما يكون في حالة تعذر إقامة البينة على الزوجة. وأنه ليس له محل في حالة إمكان ذلك حيث يقام عليها الحدّ.

والجمهور (٣) على أن الزوجة إذا لم تشهد الشهادات الخمس بكذب زوجها أقيم عليها الحد. وهذا متسق مع فحوى الآيات.

ولقد اختلفت الأقوال في صدد الزوج الذي يتهم زوجته ثم ينكل عن الشهادة. فهناك من قال : إنه يعتبر قاذفا ويستوجب حدّ القذف. وهناك من قال : إنه لا يحدّ وإنما يحبس حتى يلاعن (٤). والرأي الأول هو الأوجه فيما هو المتبادر. ومن الغريب أن هناك من قال (٥) هذا في صدد الزوجة التي تمتنع عن

__________________

(١) انظر الطبري والخازن والطبرسي والزمخشري.

(٢) الموطأ ج ٢ ص ٤٦.

(٣) انظر تفسير الخازن والبغوي.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

٣٧٧

الشهادة أيضا مع ما في الآيات من دلالة قطعية على أن نجاتها من العذاب أي الحدّ منوطة بشهاداتها الخمس.

وقد فرض الفقهاء حالة محتملة الوقوع. وهي أن تكون الزوجة المتهمة حاملا وأن تكون تهمة الزوج شاملة لنفي الحمل عنه. فقالوا إن عليه ـ والحالة هذه ـ أن يذكر في شهاداته نفيه للولد عنه ، وحينئذ تذكر الزوجة في شهاداتها إثبات الولد إليه. ويترتب على ذلك عدم نسبة الولد إلى الزوج ونسبته إلى أمه دون أن يعتبر ولد زنا لما هناك من شبهة. ويحق له أن يرثها وترثه. وهذا مستمد من حديث هلال ومن زيادة وردت في رواية الطبري للحديث مفادها أن ابنها يرثها وأن الولد يدعى لها ولا يرمى أي لا يقال له ولد زنا. وفي الموطأ قول للإمام مالك وهو أن ولد اللعان يرث إخوته لأمه أيضا (١). وهذا يتبع ذاك.

هذا وظاهر من الآيات أن التشريع الذي احتوته خاص بتوجيه التهمة من الزوج إلى زوجته. وهنا محل تساؤل عن الحكم في حالة تهمة الزوجة لزوجها بالزنا. ولم نطلع على حديث أو قول في ذلك. ومما لا ريب فيه أن هناك فرقا واضحا يترتب عليه نتائج مختلفة بين الحالتين ومن ذلك مسألة الأولاد الذين تلدهم المرأة حيث يكونون قد نسبوا زورا لغير أبيهم الحقيقي وورثوا إرثا لا يستحقونه عند الله. ولعل الحكمة في تخصيص التشريع هي بسبب هذا الفرق. والمتبادر أن تهمة الزوجة لزوجها تكون في حكم القذف العادي. فإذا أثبتت الزوجة الزنا على زوجها بشهود أربعة استوجب حدّ الزنا وهو الرجم وإذا لم تثبته استوجبت هي حدّ القذف.

وفي صدد شمول اللعان للعبيد والذميين روى البغوي اجتهادين : واحدا معزوا إلى سعيد بن المسيب والشافعي ومالك والثوري وقال إن أكثر أهل العلم أخذوا به وهو أن كل من صحّ يمينه صحّ لعانه حرّا كان أم عبدا ومسلما أم ذمّيا. وواحدا معزوا إلى الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي وهو أن اللعان لا يجري إلّا

__________________

(١) الموطأ ج ٢ ص ٤٧.

٣٧٨

بين مسلمين حرّين غير محدودين فإن كان الزوجان أو أحدهما رقيقا أو ذميا أو محدودا في قذف فلا لعان بينهما. وقد عقب البغوي على ذلك فقال إن ظاهر الآية حجة لمن قال يجري اللعان بينهما لأن الله لم يفصل بين الحرّ والعبد والمحدود وغيره. ويتسق هذا مع القول الأول. وهو ما نراه الأوجه الأسد ، والله تعالى أعلم.

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)) [١١ ـ ١٨].

(١) الإفك : الخبر الكاذب المفترى.

(٢) عصبة منكم : جماعة منكم.

(٣) تولّى كبره : بمعنى تزعّم حركة الخبر المفترى أو قاد حملته.

(٤) لو لا : الأولى والثانية والرابعة بمعنى (هلّا) وقد تكررت في القرآن بهذا المعنى. أما الثالثة فهي الشرطية المعتادة.

(٥) أفضتم فيه : أوسعتم مجال الحديث فيه بينكم.

(٦) تلقونه : بمعنى تتناقلونه أو يتلقاه بعضكم عن بعض.

٣٧٩

تعليق على الآية

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ

امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١))

والآيات التي بعدها إلى آخر الآية (١٨) وخبر حديث الإفك الذي رميت به

أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وما في ذلك من صور وتلقينات

هذه الآيات تتضمن الإشارة إلى حادث قذف كاذب اتفق المفسرون والرواة على أنه في شأن عائشة أم المؤمنين وعرف في تاريخ السيرة النبوية باسم حديث الإفك اقتباسا من الآية الأولى فيما هو المتبادر. وقد تضمنت تقرير ما يلي :

(١) إن الذين أثاروا الحديث هم جماعة من المسلمين.

(٢) وهم آثمون. كل بحسب ما كان منه من أثر فيه. والإثم الأكبر والعذاب الأعظم هو لمن تزعم الحركة وقاد الحملة.

(٣) وعلى الذين لهم صلة به أن لا يحزنوا ولا يظنوا حينما سمعوا خبره أنه شرّ في حقهم بل إنه خير لهم في النتيجة.

(٤) ولقد كان من الواجب على مثيريه أن يقيموا البيّنة على صحة ما قالوا فيأتوا بأربعة شهداء ولكنهم إذا لم يفعلوا ذلك فهم كاذبون عند الله.

(٥) ولقد كان الأولى بالمؤمنين حينما سمعوا الحديث أن يغلبوا حسن الظنّ بالمؤمنين والمؤمنات ويستنكروه ويقرروا أنه كذب واضح.

(٦) ولو لا أن الله قد رحمهم وشملهم بفضله في الدنيا والآخرة لنالهم عذاب عظيم فيهما عقوبة على ما كان منهم من الإفاضة في هذا الحديث والاشتغال به ، حيث أخذوا يتناقلونه ويتلقاه بعضهم عن بعض ويخوضون فيه بدون علم ويقين ولا ينتبهون إلى ما وقعوا فيه من الإثم وظنوه أمرا هيّنا مع أنه عظيم عند الله.

(٧) ولقد كان الأجدر بهم أن يدركوا حينما سمعوه أنه افتراء عظيم وأنه

٣٨٠