التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧)) [٦ ـ ٧]

(١) من وجدكم : بمعنى حسب قدرتكم وإمكانكم.

(٢) ائتمروا : تشاوروا واتفقوا.

(٣) تعاسرتم : اختلفتم أو عسر عليكم الاتفاق.

(٤) قدر عليه رزقه : كان رزقه ضيقا ، أو حالته المالية ضعيفة.

تعليق على الآية

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ...) إلخ

والآية التالية لها وما فيهما من أحكام

تضمنت الآيتان :

(١) أمرا يوجب على الأزواج إسكان مطلقاتهم في زمن العدة حيث يسكنون وحسب الإمكان الذي يكون لهم.

(٢) ونهيا عن مضارّتهن قولا وفعلا بقصد التضييق عليهن.

(٣) وأمرا بالإنفاق عليهن إن كنّ حاملات إلى أن يضعن حملهن وبإعطائهن أجر الرضاعة إذا أرضعن المولود بمقدار يقدر بالتشاور والتراضي وحسب ما هو معروف أنه الحق ، فإن تعسر الاتفاق عليه فترضعه غيرها.

(٤) وتنبيها على أن تكون النفقة متناسبة مع حالة الزوج المالية سعة وضيقا. فذو السعة ينفق عن سعة. والذي حالته ضيقة ينفق بقدر ما يقدر عليه. فإن الله لا يكلّف إلّا بمقدار ما ييسره له. وهو القادر على أن يأتي باليسر بعد العسر.

ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيتين. والمتبادر أنها استمرار للسياق. وتتمة لما جاء في الآيات السابقة من أحكام وحدود. وهي صريحة بأنه ليس على الأم المطلقة أن ترضع مولودها إلّا بأجر ولها على زوجها

٣٤١

حق السكن مدة عدتها إن كانت غير حامل وحق السكن والنفقة إلى أن تضع حملها إن كانت حاملا بالمقدار الذي تتسع له حالة زوجها المالية وإمكانياته. وما جاء في صدد إرضاع المولود واحتمال عدم الاتفاق عليه بين الوالد والوالدة يدل ـ كما هو المتبادر ـ على أن الزوج قد أضاع فرصة المراجعة أثناء الحمل وأصبحت زوجته طالقة منه. إما طلاقا بائنا أو طلاقا باتا إن كانت التطليقة هي الثالثة.

ومسألة إلزام الزوج بنفقة المطلقة رجعيا مدة العدة إذا لم تكن حاملا من المسائل المختلف فيها باستثناء حق السكن الذي نصّت عليه الآيات. فقد أوجبها بعض الفقهاء قائلين إن الله وقد أمر بعدم إخراجهن من بيوتهن وأوجب لهن السكنى قد أوجب لهن النفقة بالتبعية. ولم يوجبها بعضهم لأن النص القرآني لم يذكر هذا الحق صراحة إلّا للمطلقة الحامل. ولم نطلع على أثر نبوي. ولعل هذا هو سبب الخلاف.

وقد أسهب البغوي وابن كثير والخازن في هذه المسألة. ومما أوردوه من تدعيمات القائلين بالرأي الأول أن الآية إنما اختصت الحامل بالذكر لأن هناك احتمالا لطول مدة الحمل أكثر من مدة العدة. ونحن نرى القول الأول هو الأوجه. فمن حكمة إبقاء المطلقة الرجعية في بيت الزوجية وهو ما انطوى في الآية الأولى والآية السادسة من السورة معا تيسير مراجعة زوجها لها أثناء العدة فصار من الحق والعدل أن تكون نفقتها عليه أسوة بسكنها وتبعا له طول مدة العدة. وليس في الآيات ما يمنع ذلك ونستطرد إلى مسألة أخرى وهي حق السكن والنفقة للمطلقة بائنا أو باتّا طول مدة العدة. وقد روى الطبري أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود كانا يوجبان ذلك.

ولقد روى مسلم وأبو داود عن فاطمة بنت قيس قالت «طلّقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي رسول الله سكنى ولا نفقة» (١) غير أنه روي مع هذا الحديث حديث آخر مهم رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي إسحاق قال «كنت

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٣٣٢.

٣٤٢

جالسا مع الأسود بن يزيد في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي فحدّث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس فأخذ الأسود كفّا من حصى وحصبه به وقال ويلك تحدث بمثل هذا. قال عمر لا نترك كتاب الله وسنّة نبينا لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت. لها السكنى والنفقة. قال الله عزوجل (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ)» وفي هذا حق وصواب. فالآية لا تذكر صفة الطلاق إن كان رجعيا أو بائنا أو باتا. والمطلقة البائنة أو المبتوتة تكون ممنوعة من الزواج ومحرومة من النفقة مدة عدتها. ومطلقها هو سبب ذلك فمن الحق والعدل أن يتحمل نفقتها تبعا لما ذكر القرآن من واجبه بتحمل سكنها. وهذه المدة قصيرة. فهي حيضة واحدة أو شهر واحد وهي عدة لاستبراء الرحم على ما ذكرناه وأوردنا في صدده وما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد يكون هذا الحق واردا بالنسبة لمن يكون أمرها بيدها وطلقت نفسها كما هو المتبادر.

وقد يكون حديث أبي إسحاق مؤيدا لقول من قال إن للمطلقة الرجعية حق النفقة بالإضافة إلى السكن. بل هو كذلك من باب أولى. وللحديث مغزى فقهي عظيم. وهو أن أصحاب رسول الله كانوا يتوقفون فيما يرويه البعض من أحاديث معزوة إلى النبي إذا ما رأوها متعارضة مع نصّ قرآني أو سنّة نبوية أخرى. ويوردون احتمال الغلط أو النسيان فيما ينقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والظاهر أن هذا الحديث وأمثاله هو الذي جعل أئمة الحديث يضعون قاعدة لصحة الأحاديث النبوية وهي عدم تعارضها مع النصوص القرآنية. والحديث الذي توقف عمر فيه من مرويات مسلم وأبي داود. وهذه نقطة مهمة في بابها والله تعالى أعلم.

هذا ، وتوجيه الخطاب في أول السورة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ينطوي على تقرير لكونه هو ومن يتولى أمر المؤمنين من بعده ذا حقّ الإشراف على تنفيذ ما احتوته الآيات من حدود ورسوم. وهو ما انطوى في آيات البقرة والنساء العائدة إلى الشؤون الأسروية واستلهمنا منه صلاحية وحق القضاء الإسلامي في الإشراف على هذه الشؤون ومراقبتها وتنظيمها ومن ذلك الطلاق.

٣٤٣

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢)) [٨ ـ ١٢].

(١) عتت : تمردت.

عبارة الآيات واضحة. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الفصل السابق. ومن المحتمل أن تكون نزلت معه أو نزلت عقبه. وقافيتها قد تدل على قوة الانسجام بينها وبين ما قبلها أيضا. وقد استهدفت التوكيد والتشديد في وجوب تقوى الله والتزام الحدود التي بلغها رسوله للمؤمنين في مسائل الطلاق والعدة والرضاع والرفق بالمرأة ورعاية حقوقها والحرص على الرابطة الزوجية حيث قررت أن الله إنما أرسل رسوله إليهم ليخرجهم بما يتلوه عليهم من الآيات المنزلة عليه من الظلمات إلى النور ومن الفوضى إلى النظام ، وأهابت بهم إلى تقوى الله. ووعدت من يلتزم أوامره نعيم الجنات وكريم الأجر والرزق ، وأوعدت من يتمرد عليها بالعذاب الشديد الذي حلّ بكثير من القرى والأمم التي تمردت على الله وأوامره.

والآيات قوية الأسلوب موجهة إلى العقول والقلوب معا. ومن شأنها أن تنفذ إلى نفس المؤمن نفوذا قويا. وفيها دلالة مؤيدة للدلالات السابقة الكثيرة على ما أعاره القرآن لموضوع المرأة والحياة الزوجية من عناية كبرى. وتلقين بأن يكون القرآن أسوة المؤمن ونبراسه في هذا الموضوع الخطير.

٣٤٤

تعليق على الآية

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ)

وجملة (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) تأتي لأول مرة وللمرة الوحيدة في القرآن. وقد ذكرت الأرض في الآيات التي ورد ذكرها فيها في غير هذه الآية في صيغة المفرد. وقد استنبط أهل التأويل من ذلك أن الأرض سبع كالسموات. وساقوا في تأييد ذلك أحاديث نبوية وصحابية وتابعته على ما جاء في كتب التفسير (١). ومن هذه الأحاديث ما ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ومنها ما لم يرد. من ذلك حديث رواه الترمذي عن أبي هريرة قال «بينما نبيّ الله جالس وأصحابه إذ أتى عليهم سحاب فقال نبي الله هل تدرون ما هذا. قالوا الله ورسوله أعلم. قال هذا العنان. هذا روايا الأرض. يسوقه الله تعالى إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه. ثم قال هل تدرون ما فوقكم. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإنها سقف محفوظ وموج مكفوف. قال هل تدرون كم بينكم وبينها. قالوا الله ورسوله أعلم. قال بينكم وبينها مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإن فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدد سبع سموات ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض. ثم قال هل تدرون ما فوق ذلك. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء بعد ما بين السماءين. ثم قال هل تدرون ما الذي تحتكم قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإنها الأرض ثم قال هل تدرون ما الذي تحت ذلك. قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإن تحتها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم رجلا بحبل إلى الأرض السفلى لهبط على الله ثم قرأ (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢) وحديث أورده ابن كثير عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما السموات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في

__________________

(١) انظر تفسير الآية وتفسير آية سورة الحديد [٣] في كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن وغيرهم.

(٢) التاج ج ٤ كتاب التفسير ص ٢٢٦ و ٢٢٧.

٣٤٥

الكرسي إلّا كحلقة ملقاة في أرض فلاة».

وهناك حديث رواه الشيخان فيه عبارة سبع أرضين هذا نصّه «من أخذ من الأرض شيئا بغير حق خسف به يوم القيامة إلى سبع أرضين وفي رواية من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوّقه يوم القيامة من سبع أرضين» (١) على أن هناك على ما ذكره المفسرون من قال إن الآية لا تفيد ذلك. وإنه ليس في القرآن أي دليل على أن الأرض سبع. وخرّج العبارة القرآنية تخريجين أحدهما أن يكون تقديرها (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) وثانيهما أن تكون (مِنَ) زائدة ويكون تقدير العبارة «الله الذي خلق سبع سموات والأرض خلقها مثلهن» (٢) والظاهر أن أصحاب هذا التأويل لم يثبت عندهم ما ورد من الأحاديث التي تذكر سبع أرضين.

وعلى كل حال فالملحوظ أن العبارة القرآنية جاءت عابرة وبسبيل بيان عظمة قدرة الله ومطلق تصرفه أي ليست بسبيل تقرير كون الأرض سبعا بل ولا تقرير كون السموات سبعا بصورة مباشرة مقصودة. وإذا صح حديثا أبي هريرة وابن مسعود فإنهما بسبيل التنويه بعظمة ملكوت الله تعالى ووجوده وإحاطته. وحديث ابن عمر هو من باب الإنذار والوعيد من جهة ومن مشاهد يوم القيامة وعلى سبيل التمثيل والترهيب من جهة أخرى كما هو المتبادر. وأن الأولى أن يقف المؤمن في صدد السموات والأرض ومشاهد الكون والمغيبات المتنوعة الأخرى التي أخبر بها القرآن أو جاءت فيه عرضا أو قصدا عند ما وقف عنده القرآن ، والثابت من الحديث النبوي دون تزيد ولا تخمين مع استشفاف الحكمة من ذلك التي منها على ما هو المتبادر بيان عظمة ملكوت الله وقدرته وإحاطته بكل شيء ، ومع ملاحظة كون هذه الآيات وأمثالها من المتشابهات التي يجب أن يترك تأويلها ما لم يعه عقل الإنسان إلى الله وأنها ليست من المحكمات التي يكون فهم كنهها من الضرورات الدينية على ما نبهنا عليه في مناسبات كثيرة سابقة والله تعالى أعلم.

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ١٨. وعلّق الشارح على هذا الحديث بقوله : السند غريب.

(٢) انظر تفسير القاسمي محاسن التأويل.

٣٤٦

سورة البينة

في السورة تقرير لحالة أهل الكتاب والمشركين قبل البعثة وإشارة إلى ما كانوا ينتظرونه من رسول وكتاب من الله. ونعي على أهل الكتاب لأنهم قد جاءهم ذلك ثم تنازعوا واختلفوا وبيان لدعوة الله وتقرير بأنها لا تتحمل مكابرة ولا اختلافا. وتنديد بالكفار وإنذار لهم وتنويه وبشرى للمؤمنين.

وأسلوبها وانسجامها وتوازنها مما يسوغ القول إنها نزلت دفعة واحدة. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أنها مدنية نزلت بعد سورة الطلاق. وقد ذكر هذا في معظم روايات ترتيب النزول أيضا (١). وقد روى بعض المفسرين أنها مكية أو أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها (٢). وفي مضامينها ما يرجح مدنيتها ، حيث احتوت نعيا على أهل الكتاب لأنهم كفروا بالرسالة المحمدية. وجل الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب ووقفوا من هذه الرسالة موقف المناوأة هم اليهود الذين كانوا في المدينة وكان ذلك منهم في العهد المدني. وهناك آيات مدنية عديدة تلهم أن فئات من النصارى ناظروا النبي ولم يؤمنوا. وإن منهم من كان يصدّ عن سبيل الله. وقد مرّ بعضها في سور البقرة وآل عمران والنساء وبعضها في سورتي المائدة والتوبة.

وقد روى المفسرون للسورة أسماء أخرى وهي (لم يكن) و (البرية) و (القيّمة) (٣).

__________________

(١) انظر كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩.

(٢) انظر تفسير الزمخشري والخازن والطبرسي.

(٣) انظر تفسير البغوي والزمخشري والقاسمي.

٣٤٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)) [١ ـ ٥].

(١) قيمة والقيّمة : المستقيمة على الطريق القويم.

تضمنت الآيات :

(١) تقريرا لحال أهل الكتاب والمشركين قبل بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث كان كل منهم متمسكا بما هو عليه لا ينفك عنه حتى تأتيهم بيّنة جديدة من الله في صورة رسول يتلو عليهم كتابا طاهرا مقدسا فيه شرح للطريق القويم الذي يجب عليهم أن يسيروا فيه.

(٢) نعيا عليهم لأنهم إنما تفرقوا وشذّوا بعد أن جاءتهم البينة التي هي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن الذي أنزله الله عليه في حين أن ما جاءهم لم يكن ليتحمل خلافا ولا شذوذا لأنه إنما أمرهم بعبادة الله وحده مخلصين وبإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وهذا هو الدين المستقيم والطريق القويم.

ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. وكل ما قاله المفسرون في صددها أنها في صدد موقف أهل الكتاب والمشركين من رسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا ما هو واضح في الآيات.

ويلحظ أن النعي الأقوى فيها موجه إلى أهل الكتاب. وننبه إلى أن القرآن المكي خلا من وصف أهل الكتاب بالكفر أولا واحتوى آيات عديدة فيها تقرير كونهم يعرفون صدق القرآن ورسالة الرسول كما يعرفون أبناءهم. واعترافهم بأن القرآن منزل من الله وكونهم فرحوا به وبالرسالة المحمدية واعتبروهما مصداقا لوعد الله الذي في كتبهم برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفاته وأعلنوا إيمانهم وانضواءهم للإسلام

٣٤٨

وخشعوا وسجدوا وبكوا دون مبالاة بما كان من تثريب المشركين لهم على ما ورد في آيات من سور الأنعام والأعراف والإسراء والقصص والعنكبوت والأحقاف وشرحناه في سياق تفسيرها بحيث يقال إنه لم يبق كتابي في مكة إلا انضوى للإسلام وكان فيهم أولو علم وثقافة فكان ذلك شاهدا عيانا داحضا لكل موقف كتابي مناوىء للقرآن والرسالة المحمدية بعد العهد المكي إلى آخر الزمان وردا ساحقا صاعقا لأنه كان في وقت قلة الإسلام وضعفه. وكان هذا من مؤيدات مدنية السورة على ما ذكرناه في تعريفها.

ولقد اختلف الأمر في العهد المدني والقرآن المدني. حيث كان من اليهود في يثرب والحجاز ومن النصارى في مشارق الشام وما بعدها كتل كبيرة لها مصالح أعمتها عن رؤية الحق والنور اللذين رآهما أهل الكتاب في العهد المكي فوقف معظمهم مواقف المناوأة مما مرّ شرحه في سور البقرة وآل عمران والأنفال وكان لرجال دينهم أثر كبير في ذلك عبرت عنه آية سورة التوبة (* يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [٣٤]. فكانت حملات القرآن المدني شديدة قاصمة فاضحة ضدهم ومن جملتها آيات هذه السورة.

ويتبادر لنا أن الآيات نزلت بمناسبة مشهد جدلي قام بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين فريق منهم أو تعقيبا عليه. ولعل بعض المشركين كانوا طرفا في المشهد. أو لعلّ ذكرهم جاء استطراديا ليكون الكلام جامعا للكافرين بالرسالة المحمدية ولا سيما إن المشركين العرب كانوا يقولون بأنه لو جاء نذير أو لو نزل لهم كتاب بلغتهم لكانوا أهدى من أهل الكتاب على ما حكته عنهم آية سورة فاطر [٤٢] وآية الأنعام [١٥٧] فاقتضت حكمة التنزيل شمولهم بالنعي لأنهم شذوا وكفروا بما كانوا يتمنون مجيئه من عند الله من نذير وكتاب.

ولا يمنع ما نقول أن يكون بعض النصارى الذين جحدوا رسالة النبي في العهد المدني ممن شهد المشهد وأن تكون عنتهم فيما عنته أيضا والله تعالى أعلم.

٣٤٩

وهكذا تكون الآيات احتوت تقريرا واضحا للدعوة النبوية. وحجة جدلية دامغة على الذين يطلبون البرهان من النبي على صحة دعوته. فدعوته هي إلى عبادة الله وحده والإخلاص له والصلاة إليه ومساعدة المحتاجين بالزكاة. ولا يطلب البرهان على صحة هذه الدعوة ويكفر بها إلا سيء النية خبيث الطوية.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)) [٦ ـ ٨].

الآيات معقبة على الآيات السابقة كما هو المتبادر. وقد تضمنت تنديدا لاذعا بالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وتنويها وبشرى عظيمة للذين آمنوا ووصفا لهم بأنهم خير خلق الله مقابل وصف الأولين بأنهم شرّ خلق الله. وتنبيها بأن ما احتوته الآيات هو لتذكير الذين يخافون الله ويحسبون حسابه. ووصف الأولين مستمد من موقفهم الجحودي الذي كشفوا به عن سوء نيتهم وخبث طويتهم لأنهم جحدوا بما جاءهم وكانوا يتمنونه.

وفي الآية الأولى دليل آخر جديد على أن الذين يكفرون برسالة النبي محمد من أهل الكتاب لا ينجيهم يوم القيامة لكونهم مؤمنين بكتبهم ورسالات أنبيائهم حتى ولو لم يكونوا منحرفين ومحرفين وهو ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. وهناك حديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي من هذه الأمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلّا كان من أصحاب النار» (١) مما فيه مصداق لهذا من وجهة النظر الإسلامية.

__________________

(١) التاج ج ١ ص ٣٠.

٣٥٠

تعليق على روايات الشيعة في صدد الآية

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ).

ورغم أن نصّ الآيات صريح بأن الآية [٧] قد جاءت مقابلة للآية [٦] لتكون شاملة لجميع الذين آمنوا وعملوا الصالحات مقابل الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين فإن مفسري الشيعة لم يمنعوا أنفسهم من رواية روايتين في صدد الآية السابقة متسقتين مع هواهم لم يردا في كتاب من كتب الأحاديث الصحيحة. ونعتقد أنهما منحولتان أولاهما عن ابن عباس جاء فيها «أن جملة (هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) نزلت في علي بن أبي طالب وأهل بيته». وثانيتهما عن يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب علي بن أبي طالب مرفوعة جاء فيها : «سمعت عليا يقول قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا مسنده إلى صدري فقال يا علي ألم تسمع قول الله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) هم شيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا اجتمعت الأمم للحساب يدعون غرّا محجلين» (١). ومما يبرز الهوى الحزبي قويا تعبير «شيعتك» إذ لم يكن لعلي في زمن النبي ما يصحّ أن يدعى شيعته!.

__________________

(١) انظر تفسير الآيات للطبرسي.

٣٥١

سورة النّور

في السورة فصول عديدة في التشريع والتأديب : حيث تتضمن تشريعات بشأن جريمة الزنا والقذف. وإشارة إلى حادث الإفك الذي قذفت به أم المؤمنين عائشة وآثاره ومواعظ وتنديدات وتنبيهات في سياقه. ودعوة إلى التعفف وتجنب أسباب الفتنة. وتعليمات في آداب الدخول على البيوت. واحتشام النساء في اللباس والتزين وتوقي أسباب الإغراء. وحثّا على تزويج العزاب من الرجال والنساء والمماليك. وتقريرات لعظمة الله وآثاره ونوره وهداه. وتنويها بالمخلصين المهتدين وتنديدا بالكافرين وما يرتكسون فيه من الظلمات التي تحبط أعمالهم. وتنديدا بمواقف مرضى القلوب في التحاكم إلى النبي والدعوة إلى الجهاد والاستخفاف بمجالسه ودعوته وإنذارا لهم. وتوطيدا لسلطان النبي السياسي والقضائي. ووعدا بنصر الله وتمكينه في الأرض لمن آمن وأخلص وأحسن العمل. وتعليمات في آداب الأكل وتيسيرا للناس فيها.

وفصول السورة على تعددها مترابطة ترابطا موضوعيا أو زمنيا. وهذا يسوغ القول إنها نزلت في ظروف متقاربة ورتبت على الوجه الذي جاءت عليه في السورة بسبب ذلك. هذا مع احتمال أن يكون بعض فصولها نزلت قبل بعض فصول في سور متقدمة عليها في الترتيب ، حيث روي أن وقعة المريسيع مع بني المصطلق التي كان حديث الإفك في مناسبتها وقعت قبل وقعة الخندق مع أن وقعة الخندق أو الأحزاب ذكرت في سورة الأحزاب (١) وحيث يمكن أن يقال إذا صحت تواريخ

__________________

(١) انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٠٤ و ١٠٨ وما بعدهما.

٣٥٢

الوقائع أن فصول السورة قد رتبت متأخرة نوعا ما. والله أعلم.

وترتيب السورة في المصحف الذي اعتمدناه يأتي بعد سورة الحشر. ولما كنا رجحنا نزول سورة الحشر قبل سورة الأحزاب وقدمناها عليها فقد صار ترتيبها بعد سورة البيّنة مباشرة على أننا نقول مع ذلك كله إنه ليس هناك قرينة قوية تسمح بترجيح كون أي فصل من فصول السيرة نزل بعد وقعة الخندق أو الأحزاب. وإن هذا قد يسيغ احتمال أن تكون فصول السيرة كلها نزلت قبل سورة الأحزاب وفي ظروف وقعة المريسيع وبني المصطلق وبعدها أيضا. والله تعالى أعلم.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)). [١ ـ ٢]

(١) فرضناها : فرضنا أحكامها أو أوجبناها.

مطلع السورة فريد ، وقد احتوت الآية الأولى تنويها بالسورة وما فيها من أحكام فرضها الله استهدافا لتذكير المخاطبين الذين هم المسلمون على ما هو المتبادر وتبصيرهم. أما الآية الثانية فقد احتوت تشريعا في حدّ الزنا فأوجبت جلد الزانية والزاني مائة جلدة في مشهد علني يشهده فريق من المؤمنين. وشددت في عدم التهاون في إقامة هذا الحد وفي طريقة تنفيذه وعدم الرأفة بالمجرمين. وجعلت ذلك دليلا على إيمان المؤمنين بالله واليوم الآخر بسبيل توكيده.

تعليق على حد الزنا الوارد في الآية الثانية

وما ورد في ذلك مع تمحيص موضوع الرجم

لم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيات. ولقد ورد في الآيتين

٣٥٣

[١٥ / ١٦] من سورة النساء خطوة أولى في صدد الزناة على ما مرّ شرحه. والمتبادر أن حكمة التنزيل التي اقتضت أن تكون الخطوة الأولى ما ورد في تلك السورة رأت الوقت قد حان للخطوة الثانية التي احتوتها الآية الثانية. ولعل أحداثا وقعت فكان ذلك المناسبة. ولقد كان النساء اللاتي يأتين الفاحشة يحبسن في بيوتهن وقتا للخطوة الأولى إلى أن يتوفاهنّ الموت أو يجعل الله لهنّ سبيلا بناء على ما جاء في آيتي سورة النساء. ومن المحتمل أنه صار شيء من الحرج في صدد ذلك. وقد روى حديث نبوي سنورد نصه بعد قليل جاء فيه «خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلا ...» مما قد يكون فيه تفسير أو تأييد لما نقول.

وجمهور المفسرين (١) وأئمة الفقه مجمعون على أن الحد المذكور في الآية الثانية على العزاب غير المتزوجين مع زيادة مختلف عليها وهي «نفي سنة» حيث يأخذ بها بعضهم دون بعض. وأن الحد الشرعي على المحصنين المتزوجين هو الرجم حتى الموت مع زيادة مختلف عليها كذلك وهي مائة جلدة قبل الرجم. ويستندون في ذلك إلى أحاديث عديدة. ومن جملتها أحاديث مروية عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تفيد أن الرجم حكم قرآني نسخ تلاوة وبقي حكما.

من ذلك حديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو الذي أشرنا إليه قبل قليل قال «خذوا عنّي. قد جعل الله لهنّ سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة. والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» (٢). وحديث ثان رواه الخمسة عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس والثيّب الزاني والمفارق لدينه التارك للجماعة» (٣). وحديث ثالث رواه البخاري والنسائي عن زيد بن خالد قال «سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمر في من زنى ولم

__________________

(١) انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والنيسابوري والنسفي.

(٢) التاج ج ٣ ص ١٧ و ٢٢.

(٣) المصدر نفسه.

٣٥٤

يحصن جلد مائة وتغريب عام» (١). وحديث رابع رواه الخمسة جاء فيه «إن ما عزا الأسلمي جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال إنه قد زنى فأعرض عنه ثم جاء من شقّه الآخر فقال إنه زنى فأعرض عنه ثم جاء من شقّه الآخر فقال إنه قد زنى فأمر به في الرابعة فأخرج إلى الحرّة فرجم بالحجارة. فلمّا وجد مسّ الحجارة فرّ يشتدّ فلقيه رجل معه لحي جمل فضربه به وضربه الناس حتى مات فذكروا ذلك للنبي فقال : هلّا تركتموه وفي رواية قال له : أبك جنون؟ قال : لا. وفي أخرى لعلّك قبّلت أو غمزت أو نظرت قال : لا. قال : أأحصنت؟ قال : نعم فأمر برجمه. وفي رواية فاختلفت فيه الصحابة فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم» (٢).

وحديث خامس رواه الخمسة جاء فيه «أن رجلا أعرابيا أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي بكتاب الله فقال الخصم وهو أفقه منه نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي ، فأذن له فقال إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة وسألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجل الرجم ، فقال رسول الله لأقضينّ بينكما بكتاب الله الوليدة والغنم ردّ ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ، فغدا عليها فاعترفت فرجمها» (٣). ومن الأحاديث المروية عن عمر حديث رواه الخمسة عن ابن عباس قال «قال عمر وهو على منبر رسول الله : إنّ الله قد بعث محمدا بالحقّ وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل آية الرجم قرأناها وو عيناها وعقلناها ورجم رسول الله ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلّوا بترك فريضة أنزلها الله ، وإن الرجم في كتاب الله حقّ على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البيّنة أو

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ١٧ و ٢٢.

(٢) المصدر نفسه ص ٢٣.

(٣) المصدر نفسه ص ٢٢.

٣٥٥

كان الحبل أو الاعتراف» (١). وحديث ثان رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال «خطب عمر بن الخطاب فذكر الرجم فقال إنا لا نجد من الرجم بدا ، فإنه حدّ من حدود الله ، ألا وإنّ رسول الله قد رجم ورجمنا بعده ولو لا أن يقول قائلون إن عمر زاد في كتاب الله ما ليس فيه لكتبت في ناحية من المصحف» (٢). وحديث ثالث رواه الإمام أحمد عن عمر أنه قال «إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم» (٣). وحديث رابع رواه الحافظ أبو يعلى عن ابن عمر قال نبئت عن كثير بن الصلت قال كنا عند مروان وفينا زيد فقال زيد بن ثابت كنا نقرأ «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» قال مروان ألا كتبتها في المصحف. قال ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب فقال أنا أشفيكم من ذلك قال قلنا كيف؟ قال جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر كذا وكذا وذكر الرجم فقال يا رسول الله اكتب لي آية الرجم قال لا أستطيع الآن أو نحو ذلك» (٤). وقد روى الإمام أحمد في صدد نص آية الرجم حديثا آخر عن أبي ذر قال «قال لي أبي بن كعب كأين تقرأ سورة الأحزاب أو كأين تعدها؟ قال قلت ثلاثا وسبعين آية. فقال قط قد رأيتها وإنها لتعادل سورة البقرة ولقد قرأنا فيه «الشيخ والشيخة. إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم» (٥). وقد روى السيوطي في الإتقان عن الليث بن سعد في سياق رواياته عن تدوين القرآن في خلافة أبي بكر أن زيد بن ثابت كان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل وأن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده وأن أبا خزيمة بن ثابت جاء بآخر سورة براءة ولم يكن معه شاهد فقبلها منه وقال إن رسول الله جعل شهادته بشهادة رجلين (٦).

__________________

(١) التاج ج ٣ ص ٢٣.

(٢) عن ابن كثير في تفسير الآيات.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) عن ابن كثير في مطلع تفسير سورة الأحزاب وقد روى ذلك المفسر النسفي واسم القائل أبو ذر والراجح أن هذا هو الصحيح وأن ما جاء في ابن كثير تصحيف. انظر أيضا الإتقان للسيوطي ج ٢ ص ٢٦.

(٦) الإتقان ج ١ ص ٦٢.

٣٥٦

والذي نلحظ في صدد كون الرجم حكما قرآنيا نسخ تلاوة وبقي حكما وما ورد في ذلك :

أولا : إن نسخ حكم قرآني تلاوة مع بقائه حكما لا يمكن أن يفهم له حكمة وبخاصة في حد تشريعي خطير مثل حدّ الرجم.

ثانيا : إن النص المروي للآية مختلف فيه من جهة والرجم فيه خاص بالشيخ والشيخة ودون توضيح كونهما محصنين أو غير محصنين من جهة أخرى في حين أن أحاديث عمر تفيد أن الرجم عام على المحصن وأن الأحاديث المروية عن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجم بعض الزناة المحصنين لا تخصص الشيوخ فقط بل وليس فيها شيوخ.

ثالثا : إن عمر أعدل من أن ترفض شهادته في صدد تدوين آية. وأقوى من أن يسكت عن ذلك. إذا كان متأكدا من قرآنيتها ومن كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم توفي ولم تنسخ تلاوة وحكما. وهو الذي اقترح كتابة المصحف من جديد على أبي بكر وكان المشرف على ذلك على ما روته الروايات (١).

وكل هذا يجعلنا نتوقف عن الأخذ بأن الرجم تشريع قرآني قائم الحكم بهذه الصفة كما قد تفيد الأحاديث المروية عن عمر رضي الله عنه إلّا أن يقال إن قرآنا نزل بالرجم ثم نسخ ثم بدا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يشرعه للجميع على المحصنين فلا يقتصر على الشيخ والشيخة ولا يبقى مطلقا بحيث يكون للمحصنين وغير المحصنين. ويكون والحكمة هذه تشريعا نبويا. ويكون ما روي عن عمر هو باعتبار ما كان أصلا وثبته النبي بعد نسخ قرآنيته لأن هذا لم يكن واضحا وعاما لا باعتبار الحال الراهن الذي هو تشريع نبوي. وقد يصح الاستئناس بحديث الحافظ أبي يعلى الذي فيه خبر عدم استجابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لطلب كتابة آية الرجم في مجلس فيه عمر نفسه وهو راويه حيث يكون في ذلك قرينة على أن آية الرجم بصيغتها المروية قد نسخت في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

(١) انظر الإتقان للسيوطي ج ١ ص ٦٠ ـ ٦٣.

٣٥٧

ومع ذلك فهناك ما يمكن أن يقال أيضا : فإن آية النساء [٢٥] ذكرت أن حدّ الأمة إذا زنت بعد إحصانها هو نصف حدّ المحصنة. وعبر عن الحدّ في هذه الآية (بالعذاب) ولما لم يرد في القرآن حدّ قابل للتنصيف إلّا ما ذكر في آية النور فالمعقول أن تكون آية النساء قد نزلت بعد هذه الآية وعطفت عليها. والجمهور على أن حدّ الأمة المحصنة هو خمسون جلدة. وهذا ثابت في أحاديث أوردناها في سياق تفسير الآية المذكورة. وهذا يقتضي أن يكون (الجلد مائة) هو المحكم القرآني للزانية المحصنة الحرة. وما يجدر بالذكر أن الذين أجمعوا على صحة حكم الرجم وجدوا إشكالا في هذا الأمر فقالوا إن حد الأمة المحصنة هو نصف الحد الوارد في آية النور وهو خمسون جلدة وعلّلوا ذلك بأن حدّ الرجم لا يتنصف. والتعليل وإن كان معقولا فإن النقطة التي تلفت النظر في الأمر هي أن حد الأمة مستند في أصله إلى تشريع قرآني قائم في آيتي النساء والنور. ومن ناحية ثانية فإن المتبادر المعقول أن يكون حديث عبادة بن الصامت قد صدر قبل نزول آية النور بإلهام رباني للإجابة على سؤال أو رفع الحرج وإنهائه عن إمساك النساء في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا لأنه لا تفهم حكمة صدوره في نفس الوقت الذي نزلت فيه الآية لأنها احتوت الحكم الموعود. ولا تفهم حكمة الزيادة على ما احتوته. ولا تفهم حكمة صدوره بعبارته المروية بعد نزولها لأن ما أريد التنبيه إليه قد نزل قرآنا. فإذا صحّ ما نقول تكون الآية قد نسخت من التشريع النبوي السابق عليها ما زاد على ما احتوته من تشريع عام للزناة إطلاقا بدون تفريق بين محصنين وأبكار وهو جلد مائة جلدة. دون تغريب سنة لغير المحصن والرجم للمحصن. وهذا ما قد يحمل على الظن بأن الأحاديث الأخرى التي تعين الرجم للزناة المحصنين والتي ذكرت بعض وقائع رجمهم هي الأخرى قد صدرت قبل آية النور. وفي حديث رجم ـ ماعز ـ نقطة هامة وهي قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمن أخبره بما كان من فراره وملاحقته وضربه حتى مات : «هلا تركتموه» حيث يفيد هذا أنه كان يودّ لو اكتفي بما وقع عليه من رجم وتركه حينما فرّ دون أن يموت.

٣٥٨

غير أن ما روته الروايات العديدة من أن خلفاء النبي رجموا الزناة المحصنين ، ومن ذلك حديث عمر الذي رواه الخمسة والذي جاء فيه «رجم رسول الله ورجمنا بعده» ثم ما أجمع عليه أئمة الفقه بناء على ذلك من أن عقوبة الزناة المحصنين هي الرجم يجعلنا نقول إن خلفاء رسول الله لا يمكن أن يكونوا فعلوا ذلك لو لم يكونوا على يقين بأن النبي قد سنّ سنة الرجم وأمر بتنفيذها بعد نزول سورة النور ومات دون أن ينسخها وهي بعد لا تتناقض مع النص القرآني الذي جاء مطلقا ، شأن سائر التشريعات النبوية في صدد ما سكت عنه القرآن أو ذكره مطلقا. والله أعلم.

هذا ، وبين المذاهب خلاف في جمع الجلد والتغريب لغير المحصنين والجلد والرجم للمحصن حيث يقول بعضهم بالجمع ولا يقول بذلك بعضهم. وفي حديث ما عز لم يرد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بجلده وإنما أمر برجمه وهذا أيضا وارد في حديث رجم المرأة. وقد استند الشافعي ومالك وأبو حنيفة إلى ذلك في حق المحصن فقالوا بالرجم دون الجلد (١). وشذّ عنهم الحنبلي لأن الجلد حكم قرآني والرجم سنّة نبوية والجمع بينهما واجب وقد ثبت عنده أن علي بن أبي طالب جلد زانيا محصنا ثم رجمه وقال : جلدت بأمر القرآن ورجمت بالسّنة النبوية (٢).

أما النفي سنة للعزاب بعد الجلد فقد أخذ به الشافعي والحنبلي دون أبي حنيفة الذي اعتبره على سبيل التعزير والتأديب من غير وجوب. وذهب المالكي إلى أن النفي للرجال دون النساء (٣).

وعلى كل حال فليس فيما ورد من النفي للعزاب بعد الجلد والجلد ثم الرجم للمحصنين في الأحاديث النبوية مناقضة للحكم القرآني من حيث المبدأ لأنه كما

__________________

(١) انظر تفسير الآية في ابن كثير.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) تفسير الزمخشري للآية وتفسير ابن كثير للآيات [١٥ ـ ١٦] من سورة النساء.

٣٥٩

قلنا من قبل من باب التشريع النبوي في ما سكت عنه القرآن أو تركه مطلقا. مع ترجيحنا لما ذهب إليه أبو حنيفة والشافعي ومالك استنادا إلى حديث ما عز من عدم جمع الجلد مع الرجم للمحصن.

والحديث الذي رواه الخمسة الذي ذكر فيه حادث ابن الأعرابي هو في حالة المرأة المتزوجة إذا زنى فيها أعزب. ولم نقع على أثر يذكر حادثا لامرأة بكر إذا زنى فيها متزوج. والمتبادر أن هذه الحالة تقاس على الحالة السابقة فتجلد المرأة ويرجم الرجل.

وهناك حالات أخرى لم نقع على أثر فيها. وهي حالة المرأة الأرملة والمطلقة التي لم يكن لها زوج في وقت الزنا وحالة الرجل الأرمل والمطلق الذي لم يكن له زوجة في وقت الزنا. حيث يرد سؤال عما إذا كانا يعدان محصنين أم لا. ولما كان المتبادر من حكمة التشريع النبوي في تشديد عقوبة الزنا على المحصنين أي المتزوجين هي كونهم غير مضطرين إلى السفاح حيث تكون حاجتهم الجنسية مقضية بالزواج فقد يصح أن يقال إنهما يعدان غير محصنين ، والله تعالى أعلم.

وفي نهاية هذا البحث يحسن أن ننبّه على أمر ، وهو أن الرجم للمحصن هو ما عليه معظم المذاهب. وأن هناك من لا يأخذ به ويتمسك بالنص القرآني فقط وهو الجلد مائة للزناة عامة. لا فرق بين محصن وأعزب. ولا تغريب بعد الجلد. وقد ذكر السيوطي هذا عن الخوارج (١).

وهناك أحاديث تذكر حالات أخرى رأينا أن نلم بها لأنها متناسبة مع البحث. من ذلك حالة الرجل الذي يقع على امرأة محرّمة عليه كأخته أو ابنته أو كنته. فقد روى الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا وقع على ذات محرم فاقتلوه» (٢) وروى أصحاب السنن حديثا عن البراء قال «لقيت عمّي ومعه راية

__________________

(١) ذكر هذا القاسمي في تفسيره محاسن التأويل.

(٢) التاج ج ٣ ص ٢٦ و ٢٧.

٣٦٠